السؤال:
لماذا نجد اضطرابا كثيرا في مسائل الإجماع عند الأصوليين ؟
الجواب:
كثير من الأصوليين اضطربوا في مباحث الإجماع، وسبب اضطرابهم - والله أعلم - أنهم دائما يحاولون الفصل بين القطعي والظني في بحوثهم، فالأمور عندهم ليس فيها وسط، فإما قطعي وإما ظني، وما ليس بقطعي فهو ظني، وما ليس بظني فهو قطعي.
ولذلك كان في كثير من النتائج التي توصلوا إليها اضطراب واضح جعل بعضهم يلجأ إلى انتحال أقوال أشد فسادا ليخرج من هذا الاضطراب، فبعضهم - كالرازي والآمدي - جعلا الإجماع ظنيا مطلقا حتى لو ثبت ثبوتا قطعيا، وذلك لأن أدلة حجية الإجماع نفسها عندهم لا تفيد القطع، ولهذا نص الجويني وغيره على أن منكر الإجماع لا يكفر، مع أنه عنده قطعي، وإنما بنى ذلك على أن حجية الإجماع نفسها لا يكفر منكرها، فكيف يكفر منكر فرعها؟!
وبعضهم أبطل جميع الأدلة التي تدل على حجية الإجماع، أو على الأقل شكك في دلالتها، وبناء عليه انتحل القول بعدم حجية الإجماع أصلا، مثل ابن الفركاح الشافعي والطوفي الحنبلي والشوكاني وغيرهم.
وبعضهم أبطل الإجماع بناء على أنه لا يمكن وقوعه بعد عصر الصحابة لتفرق أهل العلم في الأمصار، وحتى إن وقع فلا يمكن العلم به، مثل ابن حزم وغيره، ولكن كلامه لا يخلو من اضطراب أيضا وخلط بين الإجماع وبين المعلوم من الدين بالضرورة.
ومن أسباب الخطأ في هذا الباب أيضا الخلط بين الإجماع وبين المعلوم من الدين بالضرورة، فإن التباين واضح جدا بينهما، ولا يمكن ادعاء الإجماع أصلا على المعلوم من الدين بالضرورة، وكذلك فثبوت المعلوم من الدين بالضرورة لم يعرف بالإجماع، وإنما عرف بالأدلة القطعية اليقينية، بحيث إن وجد المخالف فيه صار قوله ساقطا مردودا، فالعبرة هنا بالأدلة القطعية وليس بالإجماع؛ لأنه لو كانت العبرة بالإجماع لقدح فيه وجود المخالف، ولكن المخالف في المعلوم من الدين بالضرورة يقدح في أهلية هذا المخالف نفسها فلا يكون مخالفا في الحقيقة، وهذا في الواقع تحصيل حاصل، وليس من باب الإجماع في شيء.
ومن أسباب الخطأ أيضا في هذا الباب الخلط بين حجية (سبيل المؤمنين) وحجية (إجماع المؤمنين)، فإن التوعد المذكور في الشرع إنما هو الخروج عن (سبيل المؤمنين)، وليس عن (إجماع المؤمنين)، وليس في الشرع ما يدل على أن المعتبر في الإجماع إنما هم المجتهدون فقط دون غيرهم، ولا فيه بيان منصوص لشروط المجتهد، ولا فيه أن مخالفة الواحد تقدح في الإجماع.
وابن حزم أخطأ خطأ بينا عندما ذهب إلى حجية إجماع الصحابة دون غيرهم؛ بناء على أنهم في عصرهم كانوا هم جميع المؤمنين، ومن بعدهم لا يتحقق فيه هذا الشرط، وهذا في الحقيقة زلل واضح جدا؛ لأن إجماع الصحابة إنما يكون بعد عصر النبي ، وليسوا هم جميع المؤمنين اتفاقا في هذا الوقت.
ومن أسباب الخطأ في هذا الباب أيضا أن من يناقشون حجية الإجماع يعتمدون فقط على الأدلة التي ذكرها الأصوليون على حجيته، ومن المعلوم أن أول من احتج للإجماع هو الشافعي رحمه الله، ومن المعلوم قطعا أن الأئمة من قبل الشافعي والشافعي نفسه قبل احتجاجه هذا كانوا يستدلون بالإجماع، ولم يُسأل واحد منهم عن دليل حجية الإجماع، ولم يطعن أحد في احتجاج بعضهم بالإجماع، ولم يفكر أحد منهم أن يستدل لحجية الإجماع أصلا، لأن هذا شبيه بالتواتر المعنوي في الشريعة، أو بالقطعيات العقليات التي لا ينازع فيها إلا مجنون، وما كان الدليل الذي احتج به الشافعي إلا مثالا لبيان المراد، ولم يكن ليخفى على الشافعي رحمه الله أن هذا الدليل وحده بغير النظر في باقي موارد الشريعة ليس قاطعا في بيان حجية الإجماع كما فهم الشوكاني وغيره.
وخلاصة الإشكال في نظري - والله تعالى أعلم - أن كثيرا من الباحثين في هذه المسألة من القدماء والمحدثين يبنون كلامهم على مجرد النظر في كتب الأصوليين بغير استقراء لموارد الشريعة، في حين إن ذلك هو الطريق الوحيد الدقيق لبناء القواعد والضوابط الأصولية الشرعية.
والله تعالى أعلم.
(تكملة للكلام السابق ):
وهذه المسألة لصيقة الصلة باحترام العلماء، ولكن ليس هذا كل شيء، فالمشكلة أكبر من ذلك بكثير؛ لأن الذي يريد أن يبحث المسائل بنفسه ويرجح بين أقوال أهل العلم لا بد أن يقيم هذه الترجيحات على قواعد، وهذه القواعد لا بد أن تكون مبنية على استقراء موارد الشريعة، ولا يصلح أن تكون هذه القواعد مأخوذة من كتب مصطلح الحديث فقط أو من كتب أصول الفقه فقط؛ لأنه إذا كان سيقلد العلماء الذين وضعوا هذه القواعد، فلأن يقلدهم في الفروع التي استنبطوها من هذه القواعد أولى؛ لأن كلامهم في الفرع قطعي الدلالة، وكلامهم في الأصل ظني الدلالة، ولا نزاع في أن القطعي أولى بالقبول من الظني.
سأعطيك مثالا:
قاعدة (هل الأمر يفيد الوجوب) يحتاج إليها الباحث كثيرا في ترجيح بعض الأقوال على بعض، فيأتي إلى نص من نصوص الشرع مثلا فيه أمر، ويجد العلماء اختلفوا في الحكم المستنبط من هذا الأمر، فيقول بعض العلماء بالاستحباب، وبعضهم بالوجوب، فيأتي هذا الباحث ويقول: الأمر للوجوب، وهذا أمر، فالحكم المستفاد هو الوجوب.
فإذا أنت سألته (من أين عرفت أن الأمر للوجوب) يقول لك: الدليل حديث كذا وكذا.
فيقال له: وهذا الحديث الذي استدللت به، ألا يحتاج إلى قواعد لغوية لفهمه؟ ألا يحتاج إلى قواعد حديثية لمعرفة صحته وضعفه؟ ألا يحتاج لقواعد أصولية لاستخراج الأحكام منه؟
فكيف بنيت القواعد على نصوص مفردة، وهذه النصوص أصلا تحتاج لقواعد في فهمها!
فهذا دَوْر واضح لازم لا محيد له عنه.
وليس لهذا الدَّوْر من حل إلا ببناء القواعد على الاستقراء التام أو شبه التام لموارد الشريعة؛ لأن المعنى المستفاد من جملة نصوص الشريعة لا يرد عليه احتمال أو اختلاف في الفهم، بخلاف النصوص المفردة التي قد تختلف فيها الفهوم.
وقد أشرتُ لنحو هذا المعنى في هذا الرابط:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=88502