( الفقرة الخامسة والأربعون )
( التمثيل )
قد علمت أن القياس المتعارف عليه هو أول الأدلة، وأن ثانيها هو قياس المساواة وهو قول مؤلف من قضايا متحدة في المحمول يكون متعلق محمول الأولى موضوعا للثانية.
وأما الدليل الثالث فهو التمثيل وهو: إثبات حكم في شيء لوجوده في شيء آخر يشترك معه في علة الحكم.
مثال: النبيذ مسكر كالخمر- والخمر حرام- فالنبيذ حرام.
فهنا أعطينا حكم الخمر وهو الحرمة للنبيذ لاشتراكهما في علة الحكم وهي الإسكار، بمعنى أنه إنما حرّمت الخمر لأنها مسكرة وبما أن الإسكار موجود في النبيذ أيضا فيكون حراما مثل الخمر.
فالتمثيل هو عملية عقلية يتم فيها تشبيه شيء بشيء آخر لوجود وصف جامع بينهما، فننقل حكم المشبَّهِ به إلى المشبَّهِ، وحياتنا اليومية ممتلئة بهذا النوع من الاستدلال، ويسمى التمثيل عند الأصوليين والفقهاء قياسا.
فالخمر مشبَّهٌ به، والنبيذ مشبَّهٌ، والوصف الجامع هو الإسكار، وحكم المشبه به هو الحرمة فننقل هذا الحكم إلى النبيذ.
ولهذا فأجزاء التمثيل وأركانه أربعة هي:
1- الأصل وهو المشبّه به المعلوم حكمه.
2- الفرع وهو المشبه الذي يراد معرفة حكمه.
3- العلة وهي الوصف الجامع بين الأصل والفرع.
4- الحكم وهو المعنى الثابت في الأصل والذي يراد نقله للفرع.
مثال: أن يعلم الإنسان أن شرب الماء الملوث يسبب مرض التيفوئيد، فيقيس عليه اللبن الملوث لأن العلة واحدة فيهما وهي التلوث والاحتواء على الفيروسات.
فالأصل هو الماء الملوّث، والفرع هو اللبن الملوّث، والعلة هي التلوّث، والحكم هو الإصابة بالتيفوئيد.
مثال: أن يرى الإنسان الطيور وهي تحلِّقُ في السماء فيتأمل كيف أنها ترتفع وتطير بسبب أجنحتها، فيصل إلى نتيجة أنه لو استطاع أن يصنع أجنحة ويتحكم بها كما تتحكم الطيور لاستطاع أن يطير مثلها.
وبهذا التمثيل فكر عباس بن فرناس وطار في السماء، ومن نفس الفكرة استمد الإنسان فيما بعد فكرة الطائرات.
ومن هذا الباب معرفة أساس عمل شيء من الأشياء فيفكر الإنسان بإيجاد بديل له يشابهه كي يحصل على نفس النتائج مثل أن يعرف مكونات بعض الأدوية وسبب تأثيرها فيجد بديلا لها على أساس التشابه في المكونات الرئيسية المؤثرة، أو يعرف طريقة عمل بعض الأسلحة فيصنع مثيلا لها.
مثال: أن يصاب زيد بالزكام فيذهب للطبيب فينصحه بتناول عصير البرتقال لاحتوائه على فيتامين سي فيجد زيد الليمون أمامه فيستعمله عوضا عن البرتقال ويقول الليمون كالبرتقال لاحتوائهما على فيتامين سي فيساعد مثل البرتقال على الشفاء من الزكام.
مثال: أن يدرس الإنسان التاريخ ويعلم أحوال الأمم الماضية ويعلم سبب دمارها وانتهاء حضارتها فيصل لنتيجة هي أن أمته وأي أمة أخرى إن سارت على نفس خطأ من سلفها من الأمم فستكون النتيجة واحدة.
ومن هذا القبيل ما قصه الله علينا من أحوال الأمم التي كذبت رسلها فأصابها بسبب التكذيب عذاب الله ثم أمر بعدها بالاعتبار فقال: ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) والاعتبار مشتق من العبور أي اعبروا وانتقلوا من حال تلك الأمم إلى حالكم إذا كذبت رسولكم فسيصيبكم مثل ما أصابهم فهذا تمثيل.
( إمكان رد التمثيل إلى القياس المنطقي )
كما أن روح القياس المنطقي هو الحد الأوسط، فكذلك روح التمثيل هو العلة التي تجمع بين الأصل والفرع، وعليه فيتأتى جعل العلة حد أوسطا وتحويل التمثيل إلى قياس منطقي بديهي الإنتاج من الشكل الأول.
مثال: النبيذ مسكر كالخمر- والخمر حرام- فالنبيذ حرام.
النبيذ مسكر- وكل مسكر حرام- فالنبيذ حرام.
فجعلنا العلة حد أوسطا وحذفنا المثال وهو كالخمر أي الأصل.
فالعبرة بما يقع بعد لأن إذْ هو الدليل، ويتأتى عرضه وتصويره بأكثر من حالة.
يقال: لمَ كان النبيذ حراما؟ فتقول: لأنه ( مسكر ) فالإسكار هو الدليل.
ويمكن عرض هذا الدليل أعني الإسكار بأكثر من هيئة فتقول:
1- النبيذ مسكر كالخمر- والخمر حرام- فالنبيذ حرام. ( تمثيل ).
2- النبيذ مسكر- وكل مسكر حرام- فالنبيذ حرام. ( قياس اقتراني ).
3- إذا كان النبيذ مسكرا فهو حرام- لكنه مسكر- فهو حرام. ( قياس استثنائي ).
والعبرة- كما رأيت- في الإسكار، ويتأتى عرضه بأكثر من هيئة وإلباسه أكثر من ثوب.
( التمثيل يفيد الظن أو اليقين )
هل أن التمثيل يفيد الظن فقط أو أنه يمكن أن يفيد اليقين؟
ذهب عامة المناطقة إلى أن التمثيل إنما يفيد الظن ولا يفيد اليقين.
واختار بعض المحققين كالإمام ابن تيمية أنه قد يفيد اليقين، وأن العبرة في المادة والمثال التي توضع في التمثيل فإذا كان يقينيا فالتمثيل يفيد اليقين، وإذا كان يفيد الظن فالتمثيل يفيد الظن، ولهذا يتأتى رد التمثيل بسهولة إلى القياس المنطقي.
والتحقيق أن التمثيل كي يفيد اليقين يحتاج إلى ما يلي:
أولا: أن يقطع بشكل يقيني أن العلة في الأصل هي هذا الشيء لا غيره.
ثانيا: أن يقطع بشكل يقيني أن الفرع تتحقق فيه العلة.
ثالثا: أن يقطع بشكل يقيني أنه لا يوجد خصوصية في الأصل ولا مانع في الفرع.
وهذه الأمور تؤخذ من كلام المناطقة أنفسهم فقد عللوا ظنية القياس بتلك الأسباب وذكروا أنه من الصعب أن تتوفر في التمثيل، وعليه فإذا توفرت كما في بعض الموارد فهو يفيد اليقين.
فمتى ثبت بالدليل اليقيني أن العلة في تحريم الخمر هو الإسكار، وليس لشيء آخر، وأن النبيذ مسكر كما هو مشاهد محسوس، وأن كون الخمر مصنوعا من العنب والنبيذ مصنوعا من غيره لا يمنع من الإلحاق لأن العبرة هي في الإسكار لا في شيء آخر فحينئذ لا خلاف في إفادة التمثيل اليقين.
وإنما لصعوبة تحقق تلك الأمور في شيء قال المناطقة بإفادة التمثيل الظن.
وبهذا يتضح أهمية التمثيل في الحياة اليومية وفي العلوم واستخراج النظريات وفي الفقه والأصول ولو كان يفيد الظن لأن الظن قد يكتفى به كما في العمل بالأحكام الشرعية فليس المقصود أن يصل المسلم في كل مسألة فقهية إلى اليقين بل يكفي الظن الذي تطمئن به النفس ولأجل ذلك كان الاجتهاد في الشريعة محمودا رغم أن الاجتهاد لا يؤدي إلا إلى الظن لوجود آراء مختلفة وأدلة متجاذبة.
تنبيهات:
أولا: اشتراك الأصل والفرع في العلة لا يعني أن الأصل والفرع متشابهان في كل شيء وإلا لو كانا متشابهين تماما في كل شيء لكانا شيئا واحدا فلا قياس حينئذ.
ثانيا: الفرع يعرف حكمه بالقياس على الأصل فإذا كان معلوما من قبل فلا فائدة من القياس كما هو ظاهر.
ثالثا: كما أن أساس عمل القياس المنطقي هو اللزوم، فأساس عمل التمثيل هو اللزوم أيضا لأن هذا شأن كل دليل يلزم من العلم به العلم بشيء آخر.
ففي التمثيل يلزم من ثبوت العلة في الفرع ثبوت حكم الأصل للفرع فالنبيذ يستلزم السكر، والسكر يستلزم الحرمة فيستلزم النبيذ الحرمة كما أن الخمر يستلزم السكر والسكر يستلزم الحرمة فيستلزم الخمر الحرمة.
فأساس عمل القياس المنطقي والتمثيل واحد، وإنما يزيد التمثيل على القياس بذكر مثال وهو الأصل كما حققه الإمام ابن تيمية يرحمه الله.
رابعا: أحيانا يكون الأمر الجامع بين الأصل والفرع ليس هو علة الحكم بل يوجد تشابه بينهما في بعض الصفات مما ينتقل الذهن بسبب ذلك إلى أن حكمهما واحد وهذا فيه ضعف ولا يفيد إلا الظن لأن اشتراكهما في بعض الأوصاف لا يقتضي بالضرورة اتحادهما في الحكم ومع هذا فكثيرا ما يستعمل الناس مثل هذا الأمر.
( مناقشات )
1- في ضوء ما تقدم ما هو التمثيل وما هي أركانه؟
2- ما هي أهمية التمثيل وهل يفيد اليقين أو الظن وضح ذلك؟
3- مثل بمثالين من عندك للتمثيل؟
( تمارين )
اجعل ما يلي تمثيلا ووضِّح أركانه:
1- يحرم ضرب الوالدين للإيذاء كالتأفف؟
2- الكاكاو ينفع في التنبيه لاحتوائه على الكافيين كالقهوة؟
3- الجبس ينفع في تثبيت العضو المكسور لمنعه من الحركة كالخشب؟