المسألة الثانية :
( بالمتنزَّل ) هل فتح الزاي فيها من عمَل المحقِّق ؟
قال السيد صقر يردُّ على الشيخ أحمد شاكر :
( قال امرؤ القيس يصِف فرسًا :
كميت يزِل اللِّبدُ عن حال متنِه *** كما زلَّتِ الصفواءُ بالمتنزَّلِ
والصواب : ( بالمتنزِّل ) كما جاء في شرح المعلقات للتبريزي ص 41 ، والديوان 133 ) ا . هـ .
فقلتُ في أصل الموضوعِ :
( هذه الرِّواية التي خطَّأها روايةٌ ثابتةٌ صحيحةٌ رواها ابنُ قتيبةَ ( ت 276 هـ ) نفسُه في « كتاب المعاني الكبير 1 / 146 » ، ورواها أيضًا شيخُه أبو حاتمٍ السجستانيُّ ( ت 255 هـ ) في « المذكر والمؤنث 161 » ، وأبو منصور الأزهريُّ ( ت 370 هـ ) في « تهذيب اللغة 12 / 249 » . ويبعُد أن تكونَ مصحَّفةً في جميعِ هذه الكتبِ .
فهذا ما بلغَنا من الرِّوايةِ في ضبط هذه الكلمة . وهي صحيحةٌ في اللغةِ ؛ فقد وردَ في المعاجمِ أن ( تنزَّلَه ) مثلُ ( نزَّله ) ؛ فـ ( المتنزَّل ) إذن بمعنى ( المنزَّل ) ؛ وهو المطرُ ) .
فقال الأخ الكريم :
( إحالتك على المصادر التي ذكرتَها لا تستقيم إلا إذا كان فيها ما يشير تلميحًا أو تصريحًا إلى ضبط "المتنزّل" بفتح الزاي. وفرقٌ بين الاستناد إلى المصدر، والاستناد إلى ضبط محقِّقه ) .
#
والردُّ عليه :
-كانت حُجَّتي في إثباتِ صِحَّة ( المتنزَّل ) بالفتح هي ورودَها في بعضِ كتبِ أهلِ العِلْم المتقدِّمين مضبوطةً هذا الضبطَ . ومنها :
1-« المذكَّر والمؤنَّث 161 » لأبي حاتم السجستانيِّ ( ت 255 هـ ) ، تح حاتم الضامن .
2-« المعاني الكبير 1 / 146 » لابن قتيبةَ ( ت 276 هـ ) ، تص عبد الرحمن اليماني .
3-« تهذيب اللغة 12 / 249 » لأبي منصور الأزهريِّ ( ت 370 هـ ) ، تح أحمد البردوني ، ومراجعة علي البجاوي .
وزدْ عليها من كتبِ مَن بعدَهم :
4-« مجمل اللغة 1 / 535 » لابن فارس ( ت 395 هـ ) ، تح زهير سلطان .
5-« رسالة الغفران 540 » لأبي العلاء المعرِّي ( ت 449 هـ ) ، تح عائشة بنت عبد الرحمن " بنت الشاطئ " .
6-« لسان العرب » لابن منظور ( ت 711 هـ ) ، مادة ( ص ف ا ) ، ط بولاق التي اعتمدَ فيها على نسخة بخطِّ ابن منظور نفسِه ، وط صادر ، وذكرَ في الهامش : ( وفي رواية أخرى : " والمتنزِّل " بدلَ " والمتنزَّل " ) .
7-« تاج العروس » للزَّبيديِّ ( ت 1205 هـ ) ، مادة ( ص ف و ) ، تح عبد الصبور شاهين ، ومراجعة محمد حماسة عبد اللطيف .
وغيرَها .
-وكانت حجَّة الأخ الكريم أنَّ الاعتماد على الضبط لا يستقيمُ ، ما لم يكن في هذه الكتب تصريحٌ ، أو تلميحٌ .
والعلَّة التي منعَ بها ذلك
هي أنَّ هذا الضبطَ من عمَل المحقِّقِ .
هكذا قالَ الأخ .
* وهذا قولٌ مردودٌ من خمسة وجوهٍ :
1-أنَّه يَلزَمُ من ذلك إبطالُ الاحتجاجِ بأكثر معجماتِ العربيَّة ، ودواوينِها ، وسائرِ كتبِها ؛ إذْ ليس فيها تصريحٌ ، أو تلميحٌ بالضبطِ . وفي هذا من الفسادِ ما لا يخفَى على عاقلٍ .
2-أنَّه يبطُلُ أوَّلَ ما يبطلُ الاحتجاجُ بـ ( المتنزِّل ) بالكسرِ ، لأنَّ المؤلِّفَ أيضًا لم يصرِّح بكسرِها ، ولم يُلمِّح .
3-أنَّ هذا مخالِفٌ للمنطقِ القاضي بأنَّ المحقِّقين يختلفونَ جودةً ، ورداءةً ، وبأنَّ مواضعَ الضبطِ تختلِفُ أيضًا قوَّةً ، وضعفًا .
4-أنَّ هناكَ ما يدُلُّ على أنَّ ضبطَها بالفتحِ في « الشعر والشعراء » ليس من صنعِ الشيخ أحمد شاكر ؛ وإنما اعتمدَ فيه على النُّسَخِ المخطوطة ، أو نُسخةٍ منها . وذلكَ أنَّه لم يأخذ بإنكارِ السيد صقرٍ للفتحِ في الطبعة الثانية . ولو كان هذا من اجتهادِه ، أو كانَ خطأ مطبعيًّا ، لرجعَ عنه ؛ ولا سيَّما بعدَ أن ذكرَ له السيد صقر ما هو مُثبَتٌ في « الديوانِ » ، و « شرح المعلقات العشرِ » ؛ وهو لا شَكَّ الأعرفُ .
5-أنَّ روايةَ الكسرِ أشهرُ من روايةِ الفتحِ ، وهي المثبتةُ في « شرح القصائد السبع » ، و « شرح المعلقات العشر » ، و « الديوان » ؛ فكيفَ يتفقُ طائفةٌ من المحقِّقين على ضَبطِ هذا الحرفِ بالفتحِ معَ أن الكسرَ أشهرُ ؟
فمقتضَى هذا :
أن يكونَ المتأخِّر منهم يأخذ ضبطَه لهذا الحرف عن المتقدِّم . وهذا بعيدٌ جدًّا ، لأنَّ الكتبَ التي وردت فيها هذه الكلمةُ بالفتحِ ليست أصولاً يُرجَع إليها في روايةِ معلَّقة امرئ القيس ؛ وإنما العادةُ أن يرجِعَ المحقِّق في ضبطِ أبياتِها إلى شروح المعلقاتِ ، أو الديوان .
خلاصة المسألة :
خطَّأ السيِّد صقرٌ رِوايةَ ( المتنزَّل ) بالفتحِ ، فرددتُّ عليه تخطئتَه ، وذكرتُ عدةَ مصادرَ ضُبِطت فيها الكلمةُ بالفتحِ ، فاعترضَ الأخ على هذا بأنَّه استنادٌ إلى ضبطِ المحقِّقِ ، وليس ثَمَّ تصريحٌ ، أو تلميحٌ من المؤلِّفِ بالفتحِ ، فرددتُّ عليه مبيِّنًا فسادَ هذا القولِ ، ومستدِلاًّ على أنَّ الشيخَ شاكرًا ، وغيرَه لم يضبطوها هذا الضبطَ إلا اعتمادًا على النسخِ الخطيَّة التي عندَهم .
=
وإذن ، تبطلُ هذه الضلالاتُ التي تَردَّى فيها الأخُ ، ويثبتُ أنَّ السيِّد صقرًا أخطأ في هذا كما يخطئ من هو أعلمُ منه ؛ فالدفاعُ عنه بعد هذا مغالطةٌ ، وخيانةٌ للعِلْمِ .
* وسيُلحَق بهذه المسألة مزيدُ تفصيلٍ إن شاء الله .
ملحوظة :
لن أردَّ بعد هذا إلا على الكلام العلمي المؤصَّل ، معرِضًا عن كلِّ ما سوى ذلك من اللَّغوِ .