
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو الفداء
وفي عجالة أقول:
المسألة القديمة (وأعني بها كل مسألة في العبادات أو في المعاملات بحثها أهل القرون الفاضلة): الخلاف فيها سائغ ما دام قديما بقدمها ولكل قائل فيها سلفه، فإن كان الخلاف حادثا فهو مذموم.
المسألة الحادثة (النازلة): الخلاف فيها سائغ ما لم يكن القياس شديد الجلاء ولا يكاد يُعترف ولا يُعتبر عند المجتهدين إلا بقول واحد فيها..

ولو أننا أطلقنا القاعدة التي ذكرتها أخي التقرتي (بالمناسبة أخي: كيف تُضبط هذه الكلمة؟) بأنه يجوز إحداث قول جديد ما لم ينقض قولا من الأقوال القديمة في مسألة قديمة، لانتهى بنا الأمر إلى هدم إجماع الأمة أو على الأقل تخطئة سائر القرون المنصرمة، وكفى بهذا بابا للإفساد في الدين، وإن قال به من قال من أفاضل أهل العلم، والله أعلم.

وأما هذا كله الذي ذكرته أنا الآن، فلن يسلم شيء منه من وجود من يخالف فيه!! فهل يعني هذا أن كل من خالف فيه ساغ كلامه ولم يصح النكير عليه؟ كلا ولا شك! ولكن من لا يميز بين المتفق عليه والشاذ من الأقوال فليس له أن يخالف أصلا، ولا عبرة بخلافه!

وأما التعصب للمشايخ فمرض قديم قدم التاريخ نفسه، لا يسلم منه إلا من عصمه الله وسلمه، نسأل الله السلامة.. فإذا قال شيخ من المشايخ أن مسألة ما لا يسوغ فيها الخلاف، فوارد أن يكون سبب ذلك - مع عظم منزلة ذلك الشيخ وعلو كعبه في صنعته - قصور استقرائه عن تتبع قول قديم في المسألة له سلف فيمن ورثنا عنهم ديننا، فإذا جاء من يقول لتلامذة هذا الشيخ: بل فيها خلاف وقد قال به فلان وفلان وتابعه فلان وفلان، وأدلتهم كذا وكذا، فلا يقال له "أأنت أعلم أم شيخنا؟؟" ففوق كل ذي علم عليم، والعلم يتجزأ، ومهما علم الإنسان وتبحر وتوسع في فنون العلم، فلا يزال معرضا لأن يأتيه من هو دونه في العلم بمسألة خفيت عليه، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء! ولكن من أعمى التعصب قلبه عن تتبع أدلة الأقوال، وآثر الاستدلال بكلام الرجال، لا الاستدلال له، فهذا مسكين يجب تعزيره وتوبيخه وتوجيهه إلى من يأخذ على يده!

ولكن في المقابل، فليست السلفية أن يتجرد حديث السن قليل الحظ من التأصيل والضبط من التقيد بأي عالم من الثقات المشهود لهم بالعلم والورع يتبعه في مستهل أمره، فيقول لا أقلد أحدا، وكلام الرجال يستدل له لا به، وأنا أبحث عن الدليل وأنظر فيه مبشارة كما نظروا هم! فما هكذا كان السلف، وما هكذا يستقيم للمسلم أمر هذا العلم الخطير، ومن كان هكذا ديدنه فلا خير فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله..
فليقلد العامي ومن في حكمه من يثق في علمه، فهذا واجبه، ولكن ليعلم أنه أدنى منزلة - هذا المقلد - من أن يخرج عن قول هذا الشيخ الذي قلده، ومن أن ينكر - وهو الأهم - على من خالفه فيه، دونما تثبت من شيخه الذي يقلده أو من غيره من أن القول هذا لا مخالف فيه أو أنه محل إجماع! فإن تابع شيخه على خطأ عنده في إثبات الإجماع ونفي وجود الخلاف، فأنكر على مخالفه كما ينكر ذلك الشيخ على مخالفه، فهو معذور في ذلك، لأنه على واجبه! وعلى من علم الصواب أن يترفق به وأن يتفهم مبعث الأمر عنده، وأن يحيله على ما يفيده بوجود خلاف قد غفل عنه شيخه، فإن أبى إلا التقليد الأعمى، فلن يعدم ناصحه - غالبا - إمكان أحالته على شيخ آخر يثق فيه هذا الرجل، يكون عنده في مثل منزلة شيخه أو أعلى، يبين له أن في الأمر خلافا لم يقف عليه شيخه الأول، وأن في المسألة سعة.. وهذا يحتاج إلى فقه دقيق لعقلية المقلد ومقدار ما حصله من العلم والفهم، ومنازل الثقات من أهل العلم عنده.. فقه قلما يتحلى به طلبة العلم في زماننا، والله المستعان.

أما من كان متعصبا لا يريد الرجوع إلى غير الشيخ فلان، ولا يرى علما ولا فضلا عند غيره، ويرى قوله حجة على سائر خلق الله، فهذا حقه النكير عليه والتعزير والتشديد، عسى الله أن يرفع عنه هذا الغلو، وإن كان ينزجر بالهجر فليهجر، وليطرد من المجالس، ففساده متعدٍ ولا حول ولا قوة إلا بالله..
هذا ما أمكنني سطره الآن في عجالة، ولي عود إن يسر الله وأعان..
والله أعلى وأعلم.