يا صبر أيوب
للشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد
(من مأثور حكاياتنا الشعبية، أن مخرزاً نسي تحت الحمولة على ظهر جمل..)
قالوا وظلَّ.. ولم تشعر به الإبــلُ *** يمشي، وحاديهِ يحدو.. وهو يحتملُ..
ومخــرزُ الـموتِ في جنبيـه ينشتـلُ *** حتى أناخ َ ببابِ الـدار إذ وصـلـوا
وعندمـا أبصروا فيضَ الدما جَفلـوا *** صبرَ العراق صبورٌ أنت يا جمــلُ!
وصبرَ كل العراقيين يا جملُ
صبـرَ العـراق وفي جَنبيهِ مِخـرزهُ *** يغوصُ حتى شغاف القلب ينسـملُ
ما هدموا.. ما استفزوا من مَحارمهِ *** ما أجرموا.. ما أبادوا فيه.. ما قتلوا
وطوقـُهم حـولهُ.. يمشي مكابـرةً *** ومخــرزُ الطــوق في أحشائه يَغـِلُ
وصـوتُ حاديه يحـدوهُ على مَضضٍ*** وجُرحُــهُ هـو أيضاً نازِفٌ خضـلُ
يا صبـر أيوب.. حتى صبرُه يصــلُ*** إلى حُدودٍ، وهــذا الصبرُ لا يصلُ!
يا صبـر أيـوب، لا ثـوبٌ فنخلعُــهُ *** إن ضـاق عنا.. ولا دارٌ فننتقــلُ
لكنـه وطـنٌ، أدنى مكارمـه *** يا صـبر أيوب، أنا فيـه نكتملُ
وأنه غُــرَّةُ الأوطـان أجمـــعِها *** فأين عن غـرة الأوطـان نرتحلُ؟!
أم أنـهم أزمعوا ألا يُظلّلنـا *** في أرضنا نحن لا سفحٌ، ولا جبلُ
إلا بيارق أمــريكا وجحفلـُهـا *** وهــل لحرٍ على أمثالهــا قَبـَلُ؟
واضيعة الأرض إن ظلت شوامخُهـا *** تهوي، ويعلو عليها الدونُ والسفلُ!
كانـوا ثلاثين جيشاً، حولهـم مـددٌ *** من معظم الأرض، حتى الجارُ والأهلُ
جميعهم حـول أرضٍ حجـمُ أصغرهِم *** إلا مروءتُها.. تـندى لهــا المُقلُ!
وكـان ما كـان يا أيـوبُ.. مـا فعلتْ *** مسعورة ً في ديـار الـناس مــا فعلوا
ما خربت يد أقسى المجرمين يـداً *** مـا خرّبت واستباحت هــذه الـدولُ
هذي التي المثل العليا على فمهـا *** وعنـد كـل امتحــان تبـصقُ المُثُلُ!
يا صبر أيوب، ماذا أنت فاعلـهُ *** إن كان خصمُكَ لا خـــوفٌ، ولا خجلُ؟
ولا حيـاءٌ، ولا مـاءٌ، ولا سِمـةٌ *** في وجهه.. وهـــو لا يقضي، ولا يكِلُ
أبعد هـذا الذي قــد خلفـوه لنــا *** هذا الفناءُ.. وهـذا الشاخصُ الجـَلـَلُ
هذا الخـرابُ.. وهذا الضيقُ.. لقمتُنا *** صارت زُعـافاً، وحتى مـاؤنا وشِلُ
هل بعده غير أن نبري أظافرنـا *** بريَ السكاكينِ إن ضاقت بنا الحيَلُ؟!
يا صبر أيوب.. إنا معشرٌ صُبًُـرُ *** نُغضي إلى حـــد ثوب الصبر ينبـزلُ
لكننا حين يُستعدى على دمنـا *** وحين تُقطـعُ عـن أطفالنا السبلُ
نضجُّ، لا حي إلا اللهَ يعلـمُ مـا *** قد يفعل الغيض فـينا حين يشتعلُ!
يا سيدي..يا عراق الأرض..يا وطناً *** تبقى بمـرآهُ عيـنُ اللهِ تكتحلُ
لم تُشــرق الشمسُ إلا من مشارقــه *** ولـم تَغِب عنـه إلا وهي تبتهـلُ
يا أجملَ الأرضِ..يا من في شواطئه *** تغفو وتستيقظ الآبــادُ والأزلُ
يا حافظـاً لمسار الأرضِ دورتــه *** وآمـراً كفـةَ الميـزان تعتــدلُ
مُـذ كـوّرت شعشعت فيهـا مسلّتـه *** ودار دولابــه، والأحـرُفُ الرسـلُ
حملـن للكـون مسرى أبجديّتـه *** وعنـه كـل الـذين استكبـروا نقلـوا!
يا سيدي.. أنت من يلوون شِعفـتَه *** ويخسأون، فـلا والله، لن يصلوا
يضاعفون أسانا قـدر ما قـدِروا *** وصبرُنا، والأسى، كـل لـه أجـلُ
والعالـمُ اليـومُ، هـذا فـوق خيبتـه *** غافٍ، وهـذا إلى أطماعـه عَجِـلُ
لكنهـم، ما تمـادوا فـي دنائتهـم *** وما لهم جوقـةُ الأقـزامِ تمتثـل
لن يجرحـوا منكِ يا بغـداد أنمُلةً *** ما دام ثديُك رضاعـــوه ما نَذلـوا!
بغدادُ.. أهلُك رغم الجُرحِ، صبرهمو*** صبرُ الكريم،وإن جاعوا،وإن ثـَكِلوا
قـد يأكلون لفـرط الجـوع أنفسهـم *** لكنهم من قـدور الغير ما أكلوا!
شكراً لكـل الـذين استبدلـوا دمنـا *** بلقمـة الخبز.. شكراً للذي بذلـوا
شكـراً لإحسانهم.. شكراً لنخوتهـم *** شكراً لما تعبوا.. شكراً لما انشغلوا
شكـراً لهـم أنهم بالزاد ما بَخَلـوا *** لـو كان للـزاد أكّالون يا جمـلُ!
لكن أهلـي العـراقيين مغلقــةٌ *** أفواههـم بدماهـم فـرط ما خُذِلـوا
دماً يمجّون إمّا استنطقـوا، ودمـاً *** إذ يسكتون، بجوف الروح، ينهملُ!
يا سيدي.. أين أنت الآن؟ خــذ بيدي *** إني إلى صبرك الجبـارِ أبتهــلُ
يا أيهذا العــراقي الخصيبُ دمــا *** وما يــزال يلالــي مـلأه الأمـلُ
قل لي، ومعـذرةً، من أي مبهمـةٍ *** أعصابُك الصمُ قُدت أيها الرجـلُ؟!
ما زلت تـؤمن أن الأرض دائـرةٌ *** وأن فيهــا كرامـاً بعدُ ما رحلـوا
لقـد نظـرت إلى الدنيــا، وكان دمـي *** يجري..وبغدادُ ملءَ العين تشتعلُ
ما كان إلا دمي يجري.. وأكبـرُ مـا *** سمعتُهُ صيحة ًباسمي وما وصلوا!
وأنت يا سيدي مـا زلت تومـئ لـي *** أن الطــريق بهـذا الجبِّ يتصلُ
إذن فباسمـك أنت الآن أسألُهـم *** إلـى متى هذه الأرحـام تقتتــل؟
إلى متى تتـرعُ الأثـداء في وطنـي *** قيحاً من الأهـل للأطفـال ينتـقلُ؟
إلى متى يا بنـي عمـي؟.. وثابتـةٌ *** هذي الديارُ.. وما عـن أهلها بَدَلُ؟
بلى... لقـد وجد الأعرابُ منتـَسَباً *** وملـةً ملـةً في دينـهـا دخلوا!
وقايضوا أصلهم.. واستبدلوا دمهم *** وسُوّي الأمر..لا عتبٌ، ولا زعلُ!
الحمد لله.. نحـن الآن فـي شُغـُلٍ *** وعندهـم وبني أخوالهـم شُغـُـلُ!
أنـا لنسأل هــل كانت مصادفــةً *** أن أشرعت بين بيتي أهلنا الأسَـلُ؟
أم أن بيتاً تنــاهى فـــي خيانتـه *** لحـدِّ أن صـار حتى الخـوفُ يفتعلُ؟
وها هــو الآن يستعدي شريكتــه *** بألفِ عــذرٍ بلمـح العين ترتجــلُ!
أمـا هنـا يا بني عمي، فقـــد تعبت *** ممـا تحــن إلى أعشاشها الحَـجَـلُ!
لقـد غــدا كُلُ صوت في منازلنـا *** يبكي إذا لم يجـد أهـلاً لهم يصـلُ!
يا أيهــا العالـم المسعورُ.. ألفُ دمٍ *** وألفُ طفـل ٍ لنا في اليـوم ينجــدل
وأنت تُحكِـمُ طـوقَ المـوت مبتهجاً *** من حول أعناقهم والموت منذهلُ!
أليس فيك أبٌ؟.. أمّ ٌ يصـح بهـا *** رضيعُها؟؟ طفــلـةٌ تبكـي؟ أخٌ وجِلُ؟
يصيح رعبـاً، فينــزو من توجّعـه *** هذا الضميرُ الذي أزرى به الشلل؟
يـا أيها العــالم المسعورُ.. نحن هنـا *** بجُرحنــا، وعلى اسم الله نحتفـل
لكي نعيـد لهـذي الأرض بهجَتهــا *** وأمنَها بعدمــا ألـوى به هُبـلُ!
وأنت يا مرفـأ الأوجاع أجمعهـا *** ومعقلَ الصبـر حين الصبـرُ يُعتقـلُ
لأنك القلب ممـا نحــن، والمُقـَـلُ *** لأن بغيـرك لا زهــوٌ، ولا أمــل
لأنهـم مـا رأوا إلاّك مسبعـــة *** على الطريق إلينا حيثمــا دخلــوا!
لأنك الفـارع العمـلاقُ يا رجـلُ *** لأن أصدق قــول فيك: يا رجـلُ!
يقودنـي ألفُ حب.. لا مناسبــةٌ *** ولا احتفالٌ.. فـهذي كلهــا عللُ!
لكي أناجيك يا أعلـى شوامخهـا *** ولن أرددَ ما قالـوا، وما سألـوا
لكـن سأستغفر التاريخَ إن جـرحت *** أوجاعُـنا فيه جرحاً ليس يندمــل
وسوف أطوي لمن يأتون صفـــحته *** هذي، لينشرها مستنفرٌ بطــلُ
إذا تلاهـا تلاهـا غيـرَ ناقصـــة *** حرفاً، وإذ ذاك يبدو وجهك الجـَذِلُ!
يا سيدي يا عراقَ الأرض يا وطني *** وكلمـا قلتُهـا تغرورقُ المقــل!
حتى أغــصّّ بصوتـي، ثـم تطلقــه *** هــذي الأبوة في عينيك والنـُبـُلُ!
يا منجمَ العمر.. يا بدئـي وخاتمتـي *** وخيـرُ ما في أني فيك أكتهـلُ!
أقول: ها شيبُ رأسي هـل تكرمُني *** فأنتهي وهو في شطيك منسدلُ؟!
ويغتـدي كلّ شعـري فيك أجنحـة *** مرفرفــاتٍ على الأنهـار تغتسلُ!
وتغتـدي أحـرفي فـوق النخيـل لهــا *** صوتُ الحمائم إن دمع ٌ، وإن غـَزََلُ
وحين أغفـو وهــذي الأرض تغمـرُني *** بطينهـا... وعظـامي كلُهـا بلـل
ستورق الأرضُ من فوقي وأسمعُها *** لهـا غنـاءٌ على أشجارهــا ثـــملُ
يصيح بي: أيهــا الغافــي هنــا أبــداً *** إن العـــراق معافى أيها الجمـلُ
****
منقول من الساحة الأدبية