قول ابن تيمية:"أخطأ سيبويه في"الكتاب" ثمانين خطأ" ذم أم مدح؟
لا أقصد سيبويه أو كتابه فإنه فوق ابن تيمية في هذا الفن وأُجمع على مدحه وقول ابن تيمية لا يفهم منه الذم لأحد منهما لا لسيبويه ولا للكتاب
لكن أقصد أن هذا القول يُذكر في معرض مدح شيخ الإسلام
وليس كذلك
بل هذا يدل على أن أبا العباس قصر في فهم "الكتاب"
على رسلك (ابتسامة) أردت لم يفهم وجه الصواب في هذه المسائل الثمانين لا الكتاب كله
إما أن يكون لم يفهم مراد سيبويه أو فهمه لكن جانبه الصواب في تخطئته
ولا أزعم هذا في جميع الثمانين خطأ
لكن ثمانين خطأ في كتاب سيبويه!! هذا كثير كثير
ولا أزعم أن أبا العباس فيه كثافة فهم فلم يستطع فهم كتاب أبي بشر
بل لا يُشك في فرط ذكائه
لكن كتاب سيبويه استعصى على أذكياء العالم وصعب عليهم فهم مراده دهرا
كما يبين من أقوال العلماء حول الكتاب الآتي ذكرها
وهذا على ترجيح أن المقصود بالكتاب في كلام أبي العباس هو كتاب سيبويه لا القرآن وعلى الثاني فإن المراد:"أنه أخطأ في كلامه على بعض الآيات" وكلامه في "الكتاب" لأنه الكتاب الوحيد الذي وصلنا من كتب سيبويه ولعله لم يصنف غيره.
وعلى ترجيح أن القصة غير مختلقة وأن عدد الأخطاء ثمانين لا ثلاثين على أن الإشكال أيضا وارد على هذا الأخير
قال البغدادي في الخزانة1/ 370 : "وقد خرج كتاب سيبويه إلى الناس والعلماء كثير والعناية بالعلم وتهذيبه أكيده ونظر فيه وفتش فما طعن أحد من المتقدمين عليه ولا ادعى أنه أتى بشعر منكر وقد روى في كتابه قطعة من اللغة غريبة لم يدرك أهل اللغة معرفة جميع ما فيها ولا ردوا حرفا منها"
وقال محمد بن يزيد المبرد: إن المفتشين من أهل العربية ومن له المعرفة باللغة تتبعوا على سيبويه الأمثلة فلم يجدوه ترك من كلام العرب إلا ثلاثة أمثلة منها الهُندلِع وهي بقلة والدُّرْداقِس وهو عظم في القفا وشَمَنْصير وهو اسم أرض...
وكان محمد بن يزيد المبرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له: هل ركبت البحر تعظيماً له واستصعاباً لما فيه
وقال ثعلب:" اجتمع على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنسانا منهم سيبويه، والأصول المسائل للخليل" أي أنه جمع خلاصة علم النحاة قبله.
وقال المازني: أن رجلا قرأ عليه " كتاب " سيبويه في مدة طويلة فلما بلغ آخره قال: أما أنت فجزاك الله خيرا، وأما أنا فما فهمت منه حرفاً.
وانظر أقوال العلماء حول هذا الحرف الذي ذكره سيبويه في الكتاب: "ما أغفله عنك شيئا ، أي دع الشكّ".
فسأل المازنيُّ الأخفشَ عنه فقال: أنا مذ عقلت أسأل عن هذا فلم أجد من يعرفه على الحقيقة.
وقال المازني سألت الأصمعي وأبا زيد وأبا مالك عنه فقالوا لا ندري
وكان يونس (يعني ابن حبيب)يقول: ذهب من كان يعرف هذا.
والسبب في هذا هو أن هذا كلام جرى كالمثل وفيه حذف قل استعماله مظهرا فمضى من كان يعرفه.
ثم انظر الخبر في أخبار أبي القاسم الزجاجي ومقدمة هارون على تحقيق الكتاب
فهذا الأخفش الأوسط الذي لا يروى الكتاب إلا من طريقه وكان إذا استصعب عليه شيء في الكتاب سئل مؤلفه عنه وكان أخذ عن مشايخ المصنف يقول قولته هذه
وهذا يونس بن حبيب وهذا الأصمعي وفطاحل اللغة والنحو وأقرب الناس لعصر المؤلف زمنا وأعلم الناس بكتابه وأسلوبه يقولون ما قالوا
فما ظنك بمن دونهم في هذا كله
لا نعصِّم المؤلف وكتابه لكن لكل مقام مقال ولو جاء أحد المحدثين فقال في كتاب الرسالة للشافعي نحو ثمانين خطأ لا يعرفها أهل الأصول ولا يفهمونها لذم بما قال ولم يمدح
وفي البلغة للمجد:"محمد بن يحيى بن زكريا النحوي القرطبي المعروف بالقلفاط
كان نحويا بارعا لغويا فارعا ذكيا وهو أول من فك كتاب سيبويه وفتح مغلقه وكان ملازما له"
وفي كتب التراجم: "مهر في حل الكتاب وغوامضه" ونحو هذه العبارات مشهور
وقال ابن كيسان نظرنا في كتاب سيبويه فوجدناه في الموضع الذي يستحقه ووجدنا ألفاظه تحتاج إلى عبارة وإيضاح لأنه كتاب ألف في زمان كان أهله يألفون مثل هذه الألفاظ فاختصر على مذاهبهم قال أبو جعفر (هو النحاس) ورأيت علي بن سليمان (هو الأخفش الصغير تـ 315 هـ) يذهب إلى [غير ما قال ابن كيسان قال( 1)]: عمل سيبويه كتابه على لغة العرب وخطبها وبلاغتها فجعل فيه بينا مشروحا وجعل فيه مشتبها ليكون لمن استنبط ونظر فضل وعلى هذا خاطبهم الله عز وجل بالقرآن
قال أبو جعفر وهذا الذي قاله علي بن سليمان حسن لأن بهذا يشرف قدر العالم وتفضل منزلته إذ كان ينال العلم بالفكرة واستنباط المعرفة ولو كان كله بينا لاستوى في علمه جميع من سمعه فيبطل التفاضل ولكن يستخرج منه الشيء بالتدبر ولذلك لا يمل لأنه يزداد في تدبره علما وفهما.."
وكان المازني يقول: من أراد أن يعمل كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي.
قال المبرد: لم يكن أحد بعد سيبويه أعلم بالنحو من المازني
وقال أبو المحاسن التنوخي في ترجمة المبرد:" وله كتاب صغير يرد على سيبويه نحو أربعمائة مسألة.
قال الزجاج: رجع عن أكثرها إلى قول سيبويه.
قال: وفيها ما يلزم سيبويه على مذهبه نحو أربعين مسألة.
والذي أعتقد في ذلك أن سيبويه لا يتعلق به شيء مما ذُكر عنه، لأنه...
وأكبر ظني أن أبا علي الفارسي إنما عدل عن إقراء كتبه والتكثر بالرواية عنه بهذه الحال..ا.هـ
فأنت ترى كيف كان استخراج أعلم الناس "بالكتاب" الخطأ منه لم يتجاوز الأربعين وهو نصف العدد الذي ذكره أبو العباس فكيف وقد رجع عنها صاحبها إلى قول سيبويه فيها
وقال:"كان هذا في أيام الحداثة أما الآن فلا"
فهذا حال أهل اختصاص الاختصاص فما بالك بأبي العباس ابن تيمية الذي أفنى حياته في التخصص في غير علوم العربية
ولا يعترض هنا بذكر سعة علم شيخ الإسلام بالعربية لأن الكلام في وصف أهل الاختصاص العالي مع الكتاب
وقد قال الشافعي من طلب العلم فليدقق حتى لا يذهب دقيق العلم
واربط هذا بما تقدم من كلام الأخفش الصغير وتفسير تلميذه أبي جعفر النحاس له وقول المبرد:"كان هذا في أيام....
فلعلها حداثة من أبي العباس بان له خطؤها في آخر حصيلته العلمية
أو لما ذكروا في ترجمته أنه درس العربية في شهر ثم أخذ كتاب سيبويه ففهمه وعلم اللسان أوسع العلوم
بل هو أوسع من علم السنن كما نص عليه الشافعي في الرسالة
أو لعله أخذ الكتاب عن غير شيخ
ولم أرد ذكر ما مُدح به الكتاب فذاك كثير مشهور
وإنما أردت التنبيه على بعض ما يفيد بقلة الخطأ في "الكتاب" وصعوبته ودقة ما أودعه مؤلفه فيه وخطره عند أهل الاختصاص
ومهما يكن من شيء فلست من الطاعنين على أبي العباس ولكن أردت التنبيه على أنه لا يمدح بهذا وهيهات أن يمدح بأمثال هذه الزلات التي ينفر عنها أهل الاختصاص وغيرهم ويفهمونها على غير فهم من لم يشاركهم في علمهم
ولذلك نفر منه أبو حيان وإن أخطأ في جعلها ذنبا لا يغتفر
وأردت أيضا بيان خطر هذا الكتاب عند أهل العلم وأن فهمه وتخطئة صاحبه ليس بالهين
ولهذا سماه الناس قرآن النحو
ـــــــــــــــ ــــــ
(1) تصحفت في طبعة هارون للكتاب