تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 36 من 36

الموضوع: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    سورة آل عمران



    اليوم نبدأ بثاني الزهراوين، اليوم نبدأ بالسورة التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بتعلّمها فقال: "تعلّموا القرآن فإنه شافعٌ يوم القيامة، تعلّموا البقرة وآل عمران، تعلّموا الزهراوين فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صوافّ يحاجّان عن صاحبهما.
    اليوم حديثنا عن سورة آل عمران، حديثنا عن السورة التي فيها آية قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ )".

    سورة آل عمران. هذه السورة العظيمة المقصد الأساس منها أن تثبتني على منهج الحق، على منهج الهداية ولذلك ليس هناك معنى كبير أن يهديني الله سبحانه وتعالى ثم -والعياذ بالله- أنتكس وأزيغ عن طريق الهداية ولكن الخير العظيم أن يهديني ربي سبحانه فأثبت على ذلك الطريق، طريق الحق، طريق الهداية. ولذا هذه السورة العظيمة حوت العديد من الأدعية التي تبيّن معنى التضرع لله عز وجل كما في بدايتها حين يقول المؤمن
    (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب)
    هذه الأدعية وتلك الابتهالات لله عز وجل تعكس خوف المؤمن والقلق الذي يصيبه من الزيغ، من الفتن، من الانتكاس والإنحراف عن طريق الهداية ومنهج الحق الذي ثبتته سورة البقرة في قلب المؤمن ولذلك كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك" الثبات، المحور الأساس الذي تدور حوله سورة آل عمران، السورة التي تدافع عن صاحبها بقدر ما يثبت في قلب صاحبها الإيمان بما جاء فيها وتطبيق ذلك المنهج والإيمان.

    أوضحت السورة في بداياتها كيفية مواجهة التحديات المتنوعة، داخلية، خارجية، عقائدية، فكرية، نفسية، كل أنواع التحديات أوجزتها في الآيات الأول من السورة ثم فصّلتها في منتصف السورة جاءت بأشكال، جاءت بمواقف بعض هذه المواقف وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه وأوضحت كيفية التعامل مع تلك التحديات، واقع، تاريخ، ولكن هذا التاريخ الذي تعرضه سورة آل عمران أنا بحاجة إليه اليوم وأنا أقف مواقف متعددة متنوعة وأربط من خلالها ما يقع لي بأنواع تلك التحديات التي واجهها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذا في منتصف السورة، أشكال من التحديات وكيفية مواجهة التحديات ولم تكن السورة – كما سنأتي عليها في عرضها - تروح بالمؤمن إلى جو من المثالية بعيدًا عن الواقع، إطلاقاً، القرآن يعالج خلجات النفس البشرية الإنسانية بواقعية وليس بمثالية، يواجه الخلل، يواجه الضعف ويعلّم الإنسان كيف يتغلب على نقاط الضعف الموجودة عنده،

    ثم جاءت خواتيم السورة بعد ذلك لتبين الخلاصة، الوصفة الموجزة لكيفية مواجهة التحديات وما بين البداية وما بين النهاية تأتي بنماذج من الأنبياء والصديقين والمؤمنين الذين ثبتوا على المنهج رغم كل التحديات التي واجهتهم في حياتهم. تأتي بنموذج مريم عليها السلام، تأتي بنموذج عيسى عليه السلام، تأتي بنموذج النبي صلى الله عليه وسلم والأصحاب الذين ثبتوا في المعارك والشدائد والصعوبات، تأتي بنماذج متعددة لتبين للمؤمن، المؤمن الذي يريد أن يتعلم سورة آل عمران ويجعلها في حياته، في واقعه نبراسًا نورًا يضيء له الطريق ولذلك سميت البقرة وآل عمران الزهراوين تنير، تضيء الطريق للمؤمن، كيف تضيء الطريق؟




    السورة بدأت كما بدأت سورة البقرة (الم) وبدأت كما بدأت سورة البقرة بالدعامة الأساس في قلب المؤمن "ثبات وهداية" عن طريق أيّ شيء؟
    التوحيد.

    قضية المؤمن الأساسية هي التوحيد، السورة تثبت التوحيد. وسورة آل عمران لم تقف عند قضية التوحيد فحسب بل عرضت للمؤمن العديد من الأمور والوسائل والتحديات التي يمكن أن تعرض له في طريق الحياة، تحديات فكرية، تحديات منطقية، تحديات متعلقة بالعقيدة والدين والتوحيد، تحديات نفسية، تحديات داخلية، تحديات خارجية، صراع مع فئات معينة في المجتمع وفي واقع الحياة

    والسورة بعظمة الآيات التي جاءت فيها أوضحت للمؤمن السلاح الحقيقي الذي يمكن له أن يواجه بالتسلح به كل تلك التحديات والصعوبات،
    القرآن يعالج خلجات النفس البشرية الإنسانية بواقعية وليس بمثالية، يواجه الخلل، يواجه الضعف ويعلّم الإنسان كيف يتغلب على نقاط الضعف الموجودة عنده، يعترف بوجود الضعف البشري الذي لا يمكن أن لا يعترف به الإنسان ولكن في نفس الوقت يعلم المؤمن المتبني لنهجه وآياته كيف يتعامل مع ذلك الضعف، كيف يترفع على الدنايا، كيف يترقي بنفسه، كيف يسمو بأخلاقياته لأجل أن يثبت على منهج الحق ومنهج الهداية.

    (الم اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
    وتأملوا الربط بين هذه الآية وآية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله
    (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّ)
    من هو ربك الذي تعبده؟
    من هو الرب الذي تدين له قلباً وقالبًا في حياتك؟
    من هو الرب الذي أسلمتَ له كل شيء في حياتك؟ من هو الربّ؟
    (اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
    قائم على كل شيء سبحانه. ولذلك أول آيات السورة تعرّف المؤمن بربه عز وجل من خلال عرض صفاته وهذا الرب القائم على كل شيء في مملكته ومنهم البشر والناس ما تركهم دون منهج (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) هذا الكتاب، القرآن الذي بين يديك، المنهج، القرآن شافع لأصحابه الذين يتعلمونه ويعملون به، الذين يتلون آياته آناء الليل وأطراف النهار ويطبقونها ويسيرون عليها في حياتهم.

    (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)
    المنهج وهذا المنهج ما جاء هكذا من فراغ جاء
    (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ
    هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ)
    الآيات في بداية سورة آل عمران تعترف وتقدم للبشرية الكتب السماوية السابقة التي أنزلها الله على عباده، التوراة والإنجيل، كلها ما نزلت إلا لتكون هداية للبشرية، ما نزلت لأجل أن تفرّق، نزلت لأجل أن توحّد، نزلت لأجل أن تعلم الناس كيف يعيشون وكيف يتعاونون وكيف يصلون بالحق إلى المسار الذي ينبغي أن يصلوا إليه. وتأملوا الربط والصفة هنا للقرآن (وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) والفرقان ومنذ تسميته هذه يعني أنه يفرق بين أمرين متضادين، يفرق بين الحق والباطل، يفرق بين الضلال والهدى، يفرق بين النور والظلام، فرقان وصفه ربي بأنه فرقان.


  2. #22
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ )
    ليس ثمة شيء تخفيه على الله عز وجل يعلم كل شيء، لا يخفى عليه شيء وبالتالي عليك أن تراقب الله في السر كما تراقبه في العلن لأنه لا يخفى عليه شيء. وبالتالي الثبات الذي نتكلم عنه الذي هو محور سورة آل عمران الأساس قضية قلبية قضية تبدأ بالقلب أولًا فعليّ أن أثبت الإيمان والتوحيد في قلبي وأتأكد من ذلك وأراقب الله عز وجل في ذلك الثبات

    (مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)

    كتاب مُحكم مُتقن، متقن في صياغته، متقن في أحكامه، متقن في تشريعاته، كله على السواء ولكن منه آيات متشابهات هذه الآيات المتشابهات نزلت لأجل أن تكون اختبار ابتلاء للمؤمن التمسك بهذا الكتاب العظيم ماذا يفعل تجاه تلك الآيات التي قد لا يتضح المراد منها، ماذا يفعل الإنسان؟

    يرد المتشابه إلى المحكم هذا حين يكون الثبات والهدى منهج متمرس متكرس في قلبه وهنا صفة رائعة وخلق ينبغي أن نضعه دائماً نصب أعيننا ونحن نأتي إلى القرآن: لا تأتي إلى القرآن وفي قلبك غاية سوى أنك تريد أن يهديك هذا القرآن إلى سواء السبيل لا تأتي للقرآن بغاية أخرى، إذا جئت للقرآن بغايات مختلفة تثبت رأياً شخصيًا أنت تدين به، تحاول أن تقوي وجهة نظرة معينة، كل هذه الأنواع من الغايات غايات فيها زيغ فيها انحراف لا بد أن يتخلص الإنسان منها. هذا القرآن من الشروط التي ينبغي أن تضعها أمامك لكي تهتدي به ولكي تطلق لقلبك العنان أن يهتدي بنوره أن تأتي إليه وأنت راغبٌ متضرعٌ إلى الله عز وجل أن يهديك به تقتبس منه الهداية تقتبس منه الشفاء.

    (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)

    أما أولئك الذين يأتون إلى القرآن بأفكار منحرفة، بغايات منحرفة فهؤلاء لا يمكن أبدًا أن يتنبهوا إلى هذه الحكمة الإلهية وإلى الاختبار الذي جعل في القرآن محكم ومتشابه بل يبدأون بمحاولات التأويل الفاسد، المحاولات الفاسدة التي لا يمكن أن تزيد الضالين إلا ضلالًا، أما المؤمن فلا تزيده تلك الآيات إلا هدى وثباتًا ورسوخًا.
    ولذلك ختمت الآية السابعة في الحديث عن المحكم والمتشابه في القرآن

    (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )

    أولو الألباب حاضرون بشكل واضح في سورة آل عمران ولنا أن نتساءل لماذا؟ محور السورة الثبات على الحق والهدى لا يمكن أن يحدث ثبات على منهج الحق والهدى دون تبصر، دون تفكر دون تذكر، دون القيام بمستوى العمليات العقلية التي تؤكد للإنسان أن عليك أن تثبت على الحق الذي تؤمن به مهما بلغت التحديات الموجودة أمامك، مهما كان حجم التحديات لأن عادة الحق وأهل الحق أن يُبتلوا في الدنيا بشتى الابتلاءات بالخير بالشر هذه طبيعة الحياة، هنا تأتي أهمية الثبات.

    كيف تثبت أمام كل تلك التحديات إن لم يكن لديك عقل وتكون من أصحاب الألباب والعقول الكبيرة التي تنظر إلى الأمام تنظر إلى العواقب تحاول أن تستحضر النتائج قبل أن تضع أقدامها على هذا الطريق أو ذاك، تفكّر، تدرس، تنظر إلى الأمور من جوانب وزوايا مختلفة نظرة استراتيجية،سورة آل عمران تعيد صياغة الإنسان المؤمن الثابت، تعطيه مواصفات، تعلّمه كيف يكون ثابتًا، كيف يكون راسخًا، لا يمكن أن يكون هناك ثبات ورسوخ دون أن يكون هناك تبصّر وتعقّل وتفكّر.

    ولذا من أبرز وأهم مواصفات هؤلاء أولو الألباب الدعاء والتضرع والتوجه لله عز وجل فكيف يكون ذلك؟

    أول الآيات بدأت بالتوجه لله (ربنا)

    وهذا كلام أولو الألباب، كلام أصحاب العقول الكبيرة

    (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)

    الزيغ أي الانحراف عن الحق الميل عن الحق وهو مرض يقع في القلب أولًا ثم ينعكس على تصرفات الإنسان وسلوكه وسورة آل عمران تعالج مرض الزيغ، لماذا سورة آل عمران تعالج الزيغ؟ لأن الزيغ نقيض الثبات

    فأول سلاح يتسلح به أولو الألباب سلاح الدعاء التضرع لله عز وجل. علينا أن نستحضر وندرك أنت مهما كنت ومهما بلغت درجة الإيمان في قلبك والتوحيد إياك أن تتصور أنك تؤمن وتثبت على الحق دون رحمة الله عز وجل ومشيئته ولذلك أنت أولى بالضرع إليه أن يحفظ قلبك، أن يحفظ عليك إيمانك، توحيدك ولذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من هذا الدعاء
    "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    الدنيا كبرت أو صغرت زادت ابتلاءاتها أو قلّت هي في النهاية ستنتهي أنا أؤمن أنها مجرد مرحلة وقتية وبالتالي لا أعطيها أكبر من حجمها فلا يذهب قلبي فرحًا ولا حزنا يبقى قلبي ثابتًا لأني مؤمن أن ربي جامع الناس ليوم لا ريب فيه، عليّ أن أعدّ العدة.

    ثم تنتقل الآيات بعد ذلك لشيء آخر لنموذج من أناس لم يدركوا حقيقة الدنيا وحقيقة تحدياتها زاغوا فأزاغ الله قلوبهم نموذج آل فرعون، فرعون إنسان أُعطي من القوة وهذا تحدي من القوة والسلطان والجاه والمال والمنعة ما جعله يطغى ويستعلي على الآخرين فكيف كانت عاقبة هذا الفرعون؟

    أولو الألباب أصحاب العقول الكبيرة تعطيهم سورة آل عمران وسيلة أخرى لمواجهة التحديات وكيفية الثبات على المنهج والهداية:

    النظر في أحوال الأمم السابقة ولنا أن نفهم وأن نستحضر السورة نزلت على الجيل الأول جيل التلقي من المسلمين كانوا يرون أمام أعينهم كفار قريش اليهود النصارى وفد نجران الذين جاؤوا للنبي صلى الله عليه وسلم كانوا يروا قوى الباطل من حولهم وهذا تحدي كبير لأن المؤمن في حياته معرّض لأن يرى الباطل وهو منتشي يرى الباطل في قوة يرى الباطل فيه مال فيه جاه فيه سلطان فيه أناس يعززونه ويتحالفون معه هذا تحدي كبير كيف يثبت أمام هذا التحدي؟

    تأتي الآيات في سورة آل عمران فتثبته

    (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)

    كل الذين كفروا في صف واحد في خانة واحدة سبقهم ولاحقهم أولهم وآخرهم ميتهم وحيّهم كلهم في خانة واحدة

    (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ )

    لا يزيغ قلبك أمام ما تراه من أموال ولا من قوة ولا من جاه ولا من منعة ولا من سلطان ولا من تحالفات لقوى الباطل الفاسدة لأنها لن تغني عنهم شيئًا،ويعطيك المثال الأول

    (كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ)

    هذا مثل واحد ولكن المؤمن يربط المؤمن ينتقل من شيء إلى آخر هكذا يعلمني لقرآن، آل فرعون كانوا نموذجًا وربما النماذج اللاحقة التي لحقت بآل فرعون ربما لم تبلغ ما بلغه الفرعون من قوة ومنعة ولكن النتيجة واحدة ولذلك جاء الكلام

    (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)

    إذن أنت يا محمد صلى الله عليه وسلم وأنت تواجه تحديات الكفار والمشركين وقريش واليهود وغيرهم قل لهم
    (سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ)
    من أين جاءك هذا اليقين وهذا الثبات من الذي أخبرك بهذا؟
    الرب الذي علمك في القرآن أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا فقس اللاحق على السابق والحاضر على الغئب وكل قوى الباطل مهما تتابعت ومهما تغيرت صورها ومهما تغيرت أشكالها النتيجة التي ستلحق بهم واحدة طالما أنك حققت الشرط الإلهي شرط التوحيد والإيمان في قلبك وعدم الزيغ والثبات واليقين بالله سبحانه وتعالى.

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني


    (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)
    قضية حتمية ألغت كل أنواع وأشكال وصور الجهل.
    الجهل أنواع:
    الجهل البسيط أن لا تعرف الشيء والجهل المركب أن تعرف الشيء الخطأ
    فلكي يعالج الجهل المركب عليك أن تزيل الخطأ أولًا ثم تأتي بالصواب ليحل محل ذاك الخطأ.

    فأول كلمة عالجتها سورة آل عمران لتخلص الإنسان من السبب الأول للزيغ إنهاء الجهل (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) شهادة من الرب سبحانه لنفسه فإذا شهد الله عز وجل فمن بقي بعد ذلك ليشهدّ (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) التوحيد الذي جاءت به كل الشرائع السماوية، موسى عليه السلام جاء به، اليهودية جاءت به، النصرانية جاءت به على لسان عيسى عليه السلام.

    إذن لماذا زاغ بعض الناصرى وبعض أهل الكتاب عن ذلك التوحيد؟
    الآية تعالجه ولكن الحقيقة الراسخة التي ينبغي أن تستقر في قلبك وفي وجدانك وعقلك أن لا إله إلا الله. ثم تعود الآية، نفس الآية
    (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
    التوحيد ذكر مرتين في آية واحدة، قضية التوحيد هي القضية الأساس فأيّ انحراف عن ذلك التوحيد باي شكل زيغ، ضلال

    قد يسأل سائل لم الدمج بين آل عمروان والبقرة
    وسميت البقرة وآل عمران بالزهراوين؟
    لأنهما يتحدثان عن قضية واحدة،
    سورة البقرة تتحدث عن الهداية وسورة آل عمران تتحدث عن الثبات على الهداية، كلاهما يكمّل الآخر، كلاهما يدافعان عن صاحبهما، بأيّ شيء؟
    بما ركز في قلبك من الإيمان والعمل بما جاء فيهما.

    (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)
    هذا التوحيد وهذا الاستسلام وهذا الانقياد والخضوع لله عز وجل ولما جاء به الأنبياء من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وانتهاء به وهذا الكتاب الذي نزل الفرقان الذي جاء مصدقًا للتوراة والإنجيل هذا هو الحق الذي ينبغي اتباعه.
    إذن لماذا حدث الزيغ؟
    (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) ظلم! المسألة في الزيغ قد تكون جهلًا وقد تكون ظلمًا وفي كلتا الحالتين فإن الله سريع الحساب. ما موقفك يا نبي صلى الله عليه وسلم ويا كل إنسان مؤمن أمام هذا التحدي؟ أن يأتيك الباطل وهو في حالة انتفاش، يأتيك الباطل وهو مُنتفش مغترّ، ما هو موقفك؟

    (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)
    القضية واضحة عندي أنا لا يهمني من يتبعني ومن يخالفني القضية واحدة أنا ثابت على إيماني وتوحيدي ولذلك الآيات ختمت
    (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ)
    المهمة التي ينبغي لك أنت كإنسان مؤمن بهذه الآيات وهذه السورة العظيمة أن تبلّغ أن توضّح أن تبين أن توصل الرسالة تقوم بإيصال الرسالة وتثبت على الحق وتؤمن بأن ما حدث من زيغ وانحراف في بعض الأمم إنما جاء من قبيل انحراف بعض أهلها وليس من قبيل تلك الكتب حاشا لله ولا من قبيل الرسل

    (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)
    لماذا الحديث عن المُلك في وسط الآيات؟
    الباطل والزيغ والإنحراف قد يمتلك الكثير، قد يصبح الملك والسلطة والجاه في يديه، ما هو موقفك أنت كمؤمن كثابت؟ هل تتزعزع أمام ذاك التحدي؟ أم أنك تُدرك أن الله هو مالك الملك وأنه يؤتي الملك من يشاء وتنزع الملك ممن يشاء وأن عاقبة الأمور إليه سبحانه وأنه على كل شيء قدير وأن إليه المرجع وإليه المآب وإليه المصير وأن كل ما يحدث أمامك من تحديات ومن وقائع ومن مجريات أمور إنما هو من قبيل الابتلاء والاخبتار فاحذر.
    ولذلك في ضمن هذه الآيات جاء الحديث عن
    (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)
    لأن الولاء في قلب المؤمن كل الولاء لله، للإيمان، لا يمكن قلب المؤمن أن يميل لأحد إلا لله عز وجل ولأهل الإيمان الذين يشاركونه إيمانه وتوحيده لخالقه سبحانه وتعالى والمسألة هنا ليست مسألة أشخاص وفئات ومجتمعات ودول، لا، المسألة متعلقة بالإيمان، بالإحساس، بالميل، قلبك يميل لمن؟ لأهل الإيمان أم لأهل الكفر؟! القضية في غاية الأهمية


    .................


    (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)

    طهّر قلبك لأن الزيغ أول ما يبدأ يبدأ بالقلوب

    "يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك"

    إذن انتبه لنفسك واعلم أن الله مراقِبك فاجعل قلبك يميل ويكون هواه لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكن قلبك تبعًا لأهواء وشهوات غير ما جاء به الحق. نقطة في غاية الأهمية والمسألة ليست مجرد مشاعر قلبية وإنما مسألة اتّباع ومسألة منهج ولذلك جاءت الآيات بعد ذلك بقوله

    (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)

    حب والميل والأمور القلبية ليست ادعاء وإنما اتّباع، منهج أسير عليه في حياتي، أتحبب إلى الله بمتابعة أمره وأتجنب أن يبغضني الله عز وجل والعياذ بالله من خلال تجنبي لما نهاني عنه. لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك أن تكون. المؤمن وقّاف عند أمر الله عز وجل ونواهيه، يترك محابّه هو إلى ما يحبه الله ورسوله، يترك ما يحب لأنه يؤمن تماماً ويثق أنه إذا ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا، مؤمن. قد يحبّ أشياء معينة من أشياء الدنيا ولكن الله سبحانه وتعالى نهى على سبيل المثال عنها أو أمر بأشياء أخرى مختلفة عنها،

    كيف يكون الموقف في هذه الحالة؟

    أترك ما أحب لما يحبه الله ورسوله اِجعل أول رقم في حياتك وأولوياتك من المحبة والولاء ما يحبه الله، هل هذا الشيء يحبه الله؟ أم لا يحبه؟

    . هذا سبيل من سبل التخلص من الزيغ والانحراف وخداع النفس، نهى النفس عن الهوى ولذلك أمر ربي سبحانه وتعالى أمر داوود عليه السلام فقال (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ (26) ص) (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) القصص)



    أعظم ظلم يرتكبه الإنسان في حق نفسه أن يتبع هواه، أعظم ظلم اتباع الهوى! اخرج من هواك، اترُك هواك، دع ما تهواه لما يريده الله، قاعدة من أعظم القواعد. ولذلك هذا المقطع من السورة ختم بقول الله عز وجل

    (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ (32))

    الطاعة، تريد أن تثبت على الحق انظر فيما أمرك الله فقف عند أمره ونهيه، هذا سبيل الثبات، هذا سبيل الطاعة


    يقول ابن تيمية في كلمة جميلة:

    "صلاح العبد في أن يعلم الحق ويعمل به فمن لم يعلم الحق فهو ضال عنه ومن علمه فخالفه واتبع هواه فهو هاو ومن عمله أي الحق وعمل به كان من أولي الأيدي عملًا ومن أولي الأبصار علماً"

    أعظم نعمة على الإنسان أن تعلم الحق وتثبت عليه


  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ )

    السورة في أول نموذج تعرضه للثابتين على الحق تعرضه في سورة امرأة، امرأة عادية امرأة عمران امرأة سمت وارتقت بآمالها وأهدافها وطموحاتها. امرأة حملت بجنين فجعلت ذلك الجنين مشروع رسالة بالنسبة لها هذه العملية الطبيعية عملية الحمل حمّلتها تلك المرأة معاني وقيم جديدة، هذه المرأة امرأة عمران توجهت بكلّها لله متضرعة إليه أن يجعل ما في بطنها الذي نذرت به أن يكون محررا من كل التكاليف ومن كل الأعباء ليتفرّغ لخدمة بيت المقدس وعبادة الله وحده، مشروع. ولنا أن نتوقف ونحن نتحدث عن مناهج التربية وعوامل التربية ومؤسسات التربية وكيف يتربى الناس على الثبات وكيف يتربى الطفل من صغره على أن يكون إنسانًا صاحب مشروع، صاحب رسالة، صاحب شعور بالمسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين وتجاه المجتمع الذي يعيش فيه، كيف يتربى على تلك المعاني؟

    امرأة عمران منذ أن حملت بمريم جنينًا في بطنها غرست تلك المعاني، توجهت لله سبحانه، دعته سبحانه والدعاء حاضر في سورة آل عمران في كل المواقف ليبين لي أن من أعظم وسائل الثبات الدعاء لله سبحانه وتعالى ولذلك هذه المرأة العظيمة دعت ربها قالت

    (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )

    هذه المرأة وُجهت بتحدي باختبار صعب أنها وضعتها أنثى وكان المتعارف عليه في مجتمعها أن من يتفرغ لخدمة بيت المقدس ولعبادة الله يكون ذكرًا ولا يكون أنثى ولكن هذه المرأة العظيمة ما تخلّت عن حلمها ما تخلت عن هدفها ما تخلت عن مشروعها توجهت من جديد لخالقها، بعد أن وضعتها أنثى

    والمسألة ليست مسألة تمييز بين ذكر وأنثى المسألة مسألة ظرفية تاريخية اجتماعية كانت تعيشها تلك المرأة توجهت من جديد لله سبحانه وقالت

    (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )

    فماذا كان جزاء ذلك الثبات الذي كان في قلب امرأة آل عمران؟ ماذا كان جزاء ذاك اليقين؟ ماذا كان جزاء ذاك التوجه والسمو والرقي في الآمال والطموحات؟

    مشروع الولادة الذي أصبح معتادًا وهو معتاد جدًا في كل أنثى وفي كل امرأة، مشروع طبيعي جدًا، كيف استطاعت تلك المرأة أن تحوله إلى مشروع قيَمي، مشروع هادف، مشروع حياة، مشروع رسالة من خلال إيمانها وثباتها ويقينها بالله عز وجل؟ ماذا كان الجزاء؟

    (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)

    هذا القبول كان جزاء للثبات فالجزاء من جنس العمل.

    كلما ازددت ثباتًا على أوامر الله كلما ازداد في قلبك الرسوخ واليقين بأمر الله بما أمرك الله سبحانه وتعالى كلما ازددت اقبالاً وصدقًا عليه سبحانه كلما ازددت إخلاصاً وتيقنًا بما عنده سبحانه كلما زادك الخالق وأقبل عليك بالنعم والمنح والعطايا كلما فتح عليك الأبواب وأمامك الأبواب من حيث لا تحتسب

    هذا قانون من القوانين الذي تضعه سورة آل عمران

    زكريا عليه السلام كان يقوم برعاية مريم وهذه همسة في أذن الآباء والأمهات وأولياء الأمور: التربية ليست مجرد تزويد بالحاجات المادية من طعام وشراب وملبس وإرسال إلى المدارس، التربية متابعة، التربية مراقبة، التربية شيء متواصل رعاية متواصلة لا تنقطع عن ذاك الطفل لا يمكن أن تنقطع بحال، فزكريا لاحظ أنه كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقًا من فواكه وأشياء ما كانت موجودة في ذلك الموسم في ذاك المكان وفي ذاك الزمان، وحُقّ له أن يتساءل عن مصدر ذلك الرزق وهذه أيضاً وقفة تربوية لا بد لولي الأمر أن يتابع أبناءه، لا بد لولي الأمر أن يعرف من أين (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا) لا بد، مهما كانت الثقة، المسألة ليست مسألة ثقة المسألة مسألة متابعة، المسألة مسألة شعور بالمسؤولية، المسألة مسألة تكفّل، كلمة كفالة كلمة شاملة كلمة تشمل كل أونواع الرعاية الوجدانية والعاطفية والشعورية كل أنواع الرعاية وأشكالها، وقد قام بها زكريا عليه السلام. ولكن هذه الفتاة أجابت إجابة أيقظت أمنية قديمة مرّ عليها وقت طويل في قلب ذلك النبي زكريا عليه السلام (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ )

    زكريا كان قد حُرم من نعمة الولد وكانت زوجته عاقر ووقف وثبت أمام الابتلاء ولكن زكريا النبي يعرف تمامًا أن الله هو مسبب الأسباب يدرك تمامًا أن الأسباب حين تنقطع يبقى مسبب الأسباب سبحانه لا ينقطع الأمل ولا الرجاء فيه.

    زكريا يدرك تماما أن الله هو مسبب الأسباب، يدرك تمامًا أن بيده الأمور كلها، يدرك تماماً أن بيده مقاليد كل شيء وأنه يقول للشيء كن فيكون وحين تتوق نفسه لشيء لا بد أن يسمو في ذلك الطموح وفي ذلك الأمل

    ولذلك تذكر الآيات في سورة مريم أن طموح زكريا في الولد ورغبته في الولد ما كانت مجرد رغبة مادية أن أجد من يحمل اسمي .البشر يرغبون بالولد لأجل أن يكون امتدادًا لهم ولاسمهم، لأجل أن يكون عونًا لهم حين يحتاجون إليه، نصرة، تأييد، ولكن زكريا عليه السلام يضرب مثلًا جديدًأ كذاك المثل الذي ضربته امرأة عمران في الطموح والآمال حيث يقول

    (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا )

    وراثة الأمانة، حمل أمانة التوحيد والرسالة، أن يكون ذاك الولد امتدادًا لأبيه فيحمل تلك الأمانة أمانة الدعوة لله سبحنه والتفرغ لعبادته. تلك الأمنية العظيمة التي تتسامى وترقى فوق آمال وأمنيات البشر الذين حوّلوا مسألة إنجاب الأولاد إلى شيء طبيعي جدًأ

    ولذلك زكريا عليه السلام توجه فقال
    (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) وكما كانت الإجابة في موقف امرأة عمران كانت الإجابة في موقف زكريا عليه السلام الله سبحانه أرسل إليه البشرى، الرب الذي أحسن الظن به وتيقن بقدرته، الرب الذي تضرع إليه، الرب الذي لجأ إليه الرب الذي افتقر إليه أعطاه، من أقبل بقلبه لله مستغنيًا به عن كل أحد وعن كل سبب أغناه الله بلا سبب.

    (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ).

    والتوجّه في كل الأحوال بذاك القلب المؤمن لله ذكرًا ودعاءً وتسبيحًا

    (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ).

    المؤمن الذي يريد الثبات عليه أن يديم ذكر الله عز وجل بقلبه ولسانه وجوارحه. أنا أريد الثبات، كيف أثبت إلا على شيء قد اتصلت به وتعلقت به. أريد أن أثبت على أوامر الله عليّ أن أصل صلتي وأقويها بالله سبحانه وتعالى وأعظم صلة ذكر الله سبحانه (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) الأنفال) (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) البقرة) أدِم ذكر الله عز وجل

    >>>>>>>

    مريم تعرضت لامتحان وابتلاء شديد صعب وكذلك أصحاب الرسالات، ما من صاحب قيمة ولا رسالة ولا مشروع إلا وكان سنة الله في خلقه أن يتعرض للابتلاء والامتحان.

    والثبات يعلّم الإنسان المؤمن كيف يثبت في وجوه الخطوب والمحن يثبت فلا تحدي ولا تزيغ به التحديات والخطوب ولا تميل به الصعوبات والشدائد، ثابت، راسخ.

    هذه المرأة كانت تتولى نفسها وقلبها بالذكر والابتهال والقنوت والركوع والسجود لله سبحانه فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل وأن يبشرها بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم. والآيات في سورة مريم تصف موقف مريم، تصف حالة مريم الإنسانة وما أصابها من الخوف والهلع والقلق والشدة والضيق إلى الدرجة التي قالت

    (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا )

    هذه مريم الإنسانة، طبيعي جدًا أن الإنسان حين يتعرض لمحنة تبدأ عوامل القلق والخوف في نفسه، عوامل الضعف البشري الإنساني المعتاد الذي لا شيء فيه ولكن الثبات يأتي هنا تمامًا ربي سبحانه وتعالى أمر أمرًا فتلك الفتاة التي كانت تديم الركوع والسجود بين يديه عليها أن تديم الامتثال لأمره وطاعته حين يبتلي وحين يأمر بأمر فكان ذاك.

    (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

    ترسّخت تلك الحقيقة في قلب مريم فما كان منها إلا ما يكون من المؤمن الثابت التفويض وتسليم الأمر لله الواحد الأحد ألا له الأمر من قبل ومن بعد سبحانه. سلّمت أمرها لله وجاءت قومها وهي تحمله وتحمل معه الثبات في قلبها واليقين وتدرك تمامًأ ما ستواجَه به من قبل قومها من اتهامات ومن افتراءات وتطاول عليها وهي الطاهرة العفيفة المبرّأة من كل سوء، امتحان صعب!

    ولكن اليقين الذي كان في قلبها والإيمان جعلها تثبت، جعلها تقف صامدة أمام كل تلك التحديات فجاءت به بمنتهى الشجاعة. جاءت لتواجه المجتمع، جاءت لتواجه الأهل والناس والأقارب والعشيرة وما كان ذلك سهلاً عليها! ولكن الثبات واليقين بالله سبحانه وتعالى سهّله عليها.

    كلما كان الإنسان مليء القلب بالثبات والرسوخ لأمر الله واليقين به وحسن الظن به كلما فتح الله أمامه الأبواب المغلقة كلما سهّل عليه الشدائد والصعاب كلما جعل تلك المحن تنزل على قلبه وكأنها منح وعطايا وكان ذلك الأمر في مريم.

    وكان ذاك الجزاء أن جعلها الله وابنها آية للعالمين وأنزل فيها القرآن الذي يُتلى وأنزل فيها كل تلك الآيات البينات جزاء الثبات، جزاء اليقين، جزاء الامتثال لأوامر الله. والوقفة رائعة، العبادة والقنوت والركوع والسجود والتفرغ لعبادة الله لا بد أن يكون لها ما يصدّقها في الواقع من الثبات حين تشتد الخطوب وتتوالى على الإنسان الابتلاءات. الإنسان معرّض والركوع والسجود وذكر الله زاد المؤمن في المحن، زاد المؤمن الذي يمدّه بطاقة إيجابية، زاد المؤمن الذي يمده بقوة لا يفهمها الكثير من البشر يتعجبون لحاله كيف يثبت والمحن تتوالى عليه كيف يثبت؟!

    إنما يثبته الله
    (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (27) إبراهيم)
    وكذلك في الآخرة.

    <<<<


    (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ )

    الكلمة التي جاء بها كل الأنبياء، الكلمة التي ثبت عليها كل الأنبياء الكلمة التي جاء بها الأنبياء للناس ليجعلوا من الحق والعدل قيمة عليا والحق لا يمكن أن يترفع بأناس لا يثبتون عليه.

    الله قادر على أن يرفعه بقول كن فيكون لكن الله سن للبشر سنن وقوانين ومن تلك السنن أن يكون للحق وللعدل وللقيم وللصدق آل وأناس يدافعون عنه، أناس على استعداد لبذل المال والنفس في سبيله، في سبيل أن يرتفع عاليًا وقد أدرك عيسى تلك المعاني ولذلك سورة آل عمران تعرض نماذج من البشر العاديين ليسوا من الأنبياء ولكنهم ثبتوا ولذلك يأتي لاحقًا

    (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )

    ثبات أمام التحديات والشدائد والمحن والكروب، هذا الثبات كيف يُصنع؟

    توجه عيسى عليه السلام لما أحس من قومه المكائد والكفر

    (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)

    عيسى عليه السلام يدرك أن الله ناصره لكنه أراد أن يؤسس أن الحق لا بد أن يكون له من أناس ينصرونه بأرواحهم

    (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّون َ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)
    هذه الفئة من البشر نصرت الحق،
    دافعت عنه لماذا أراد عيسى أن يؤكد هذه المعاني؟

    الإنسان في الحياة مهما امتد به العمر سينقطع فكل نفس ذائقة الموت ولكن الحق ممتد وباقي، أمر الله وتعاليمه باقية ولا بد أن يكون لذلك امتداد ولا بد للنبي وأتباع الأنبياء وأصحاب الحق أن يحمِّلوا من بعدهم الرسالة، رسالة الأمانة، رسالة التوحيد والقيم والحق والعدل، لا بد أن يعلموا هؤلاء من يحملوا بعدهم ذاك الهمّ أن الحق غالي، أن الحق يدافع عنه بالأرواح أن الحق تبذل في سبيله التضحيات ليحق الله الحق بكلماته ويقطع بعد ذلك دابر الكافرين والظالمين المناهضين للحق وقيم العدل.

    ولذلك عيسى عليه السلام الذي أحيط بكمّ من الكروب والمحن ما هزته الشدائد ولا غيّرته الدسائس ولا المكر ولا الكيد ولا المحن ولا الصعوبات، فالله يمكر له (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ).

    كانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى رفعه إليه، أن الله سبحانه وتعالى جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا، جعل أنصار الحق والعدل والقيم الذين ثبتوا على ذلك فوق الذين كفروا وهذه قاعدة وقانون:

    من يثبت على الحق والعدل لا بد أن الله يرفعه لا بد أن الله ينصره. وليس النصر فقط في الدنيا وإنما في الآخرة ويوم القيامة.

    أما أولئك الكفرة، أولئك الذين يبيعون ويشترون بالحقّ وبالعدل وبالقيم فأولئك لا خلاق لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة وما لهم من ناصرين.

    (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ )

    ليس المطلوب من المؤمن أن يحمل الناس أو يُكرههم على الحق وإنما المطلوب منه أن يُظهر ذلك الحق بالحوار والحكمة والموعظة الحسنة ثم يترك للناس حرية الاختيار في اتخاذ القرار وفي كل الأحوال يضرب المثل الأعلى والأسمى في الثبات على ذاك الحق مهما كلفه الثمن.

  6. #26
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    الولاء والانتماء لا يكون لأفراد ولا لأشخاص ولو كان هؤلاء الأشخاص صفوة الخلق من الأنبياء، الولاء والانتماء يكون للدين، الولاء والانتماء يكون للتوحيد، الولاء والانتماء يكون للشريع الذي جاء به الله سبحانه وتعالى والأنبياء ومن بعدهم رجال الدين، هؤلاء جميعًا إنما يحملون أمانة توصيل الرسالة ولكن الانتماء لا يكون لهم كأشخاص، ألغت سورة آل عمران تلك الفوارق والحواجز لتقطع دابر العنصرية والتعصّب


    (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُون)



    لا تجادل بأشياء باطلة


    ابراهيم عليه السلام كان سابقًا على اليهودية والنصرانية من الناحية التاريخية ومن الناحية الزمنية فلِمَ تحاجّون، لِمَ تريدون أن تخضعوا كل شيء لأهوائكم، لِمَ تأتون إلى الحق بأفكار مُسبقة تريدون أن تُخضعوا الحق لها


    الحق لا ينبغي أن يُخضع لآراء مسبقة، الحق يُخضَع له ولا يخضه هو لشيء،

    (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (69))

    ليس كل أهل الكتاب على حد سواء، أنت مهما كان انحرافات البعض منهم لا ينبغي لك أن يدفع بك الهوى والتعصّب والعنصرية لأن تنظر إلى كل الفئة أو الطائفة أو أصحاب الدين بمنظار واحد. لا يحق لك ذلك، لا ينبغي لك، أنت تؤمن بالله أنت تؤمن بمبادئ القرآن والقرآن حرّم الظلم وحرّم التعميم حرّم أن تعمم الأحكام على شعوب أو على طوائف فيقال الشعب الفلاني كذا، النصارى كذا، اليهود كذا، أبداً، طائفة فريق أمة فرقة ولكن لا تعمم لأن التعميم ظلم والظلم قد حرّمه القرآن بشتى صوره وأشكاله وأنواعه.


    (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا (75)).

    لا تنظر ولا تجحِف في النظرة إليهم على حد سواء لا بد أن يكون هناك تفرقة، لا بد أن تعامل الناس بمعيار العدل والحق ولا تعاملهم بمعيار التعميم ولا تعاملهم وكأنهم بشر على طائفة وعلى قلب واحد، منهم الأشرار ومنهم الأخيار، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك كانوا طرائق، الناس طرائق، الناس مشارب مختلفة حتى وإن انتموا لدين واحد، حتى وإن كانوا يدينون بدين واحد أو ينتمون إلى حزب واحد أو إلى طائفة أو ما شابه مما تعارف عليه الناس.


    القرآن يعلمني الإنصاف

    القرآن يعلمني العدل حتى في الكلمة التي أقولها،

    لا تعمم.

    ولذلك جاء بعد ذلك في نهاية الآيات لتعيب على بعض أهل الكتاب ما قالوه وخاصة اليهود


    (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)



    لا يهمنا من خالفنا، نسرق منهم، ننهب منهم، نصادر أموالهم وحياتهم لا يهم

    (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)

    ولكن هذا المبدأ مبدأ مرفوض في القرآن، لماذا؟

    لأن القرآن يعلمني أن أكون أميناً مع من ائتمنني ومن أمَّنَنِي سواء أكان خائناً أم كان أميناً، هذا ما يعلمني عليه القرآن. القرآن يعلمني أن أمارس الأمانة بمطلقيتها، القرآن يعلمني أن أمارس الأمانة بإطلاق لا أفرق بين الناس، أنا أمين سواء أكان ذاك الذي أتعامل معه أمين أم خائن لا يهم ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم

    "أدِّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك".

    (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76))


    الوفاء بالعهود، قيم القرآن العظيمة الوفاء، الوفاء مع الجميع، الوفاء كقيمة مطلقة لا تحدّها مع من أتعامل، هكذا يعلم القرآن أتباعه، هكذا يربي القرآن من يسير عليه، هكذا القرآن ينقض تلك المواثيق الجائرة التي جاء بها البشر جراء اتباعهم للهوى وللتعصب وللعنصرية.


    لا عليك من الوقوع في ظلم من يخالفك، مبدأ مرفوض تماماً لا يقبله القرآن

    (بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

    ثم تقدّم لي الآية وتؤكد المعنى من جديد لماذا تخلى هؤلاء عن تلك المبادئ التي جاءت في اليهودية وفي النصرانية

    لأنهم اشتروا بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، باعوا تلك القيم والمبادئ التي لا يختلف عليها الأنبياء ولم يختلف عليها أحد من العقلاء، باعوها بأي شيء؟

    بثمن قليل. باعوها لأجل مصالحهم الشخصية، باعوها بعنصريتهم، باعوها بتعصبهم الأعمى باعوا القيم وتاجروا بها فكيف سيكون الجزاء؟

    (لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)


    (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ (86))


    الهداية نعمة من الله عز وجل صحيح ولكن الإنسان لا بد أن يؤهِّل نفسه أن يكون موضعاً ومحلاً لهداية الله. كيف يؤهل نفسه؟

    حين يُعرض عليه الحق يقبله وحين يُعرض عليه الباطل لا يقبل به ويرفضه، هذه من مؤهلات الهداية حتى يصبح قلبي أهلاً وموضعاً لهداية الله عز وجل. أما أن أرتضي الضلال بعد الهدى، أما أن أرضى بالباطل يحكم في حياتي بعد أن رأيت الحق هذا زيغ، هذا انحراف عاقبته أن (اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، عاقبته

    (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)) لماذا؟

    لأنهم كفروا بعد إيمانهم. لأن المسألة ما كانت مسألة اختيار، المسألة كانت مسألة زيغ وضلال وانحراف ومحاولة لزرع ذلك الضلال والإنحراف وهذه قضية لا يقبل بها القرآن، ولذلك ربي قال

    (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90))

    الضالون الذين يتعّوذ المؤمن منهم مرات ومرات في سورة الفاتحة حين يقول (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) الفاتحة) هذا هو القرآن، أولئك هم الضالون (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) من هم؟ (الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا (90)) الذين ابتغوا الباطل بعد أن رأوا الحق والعمى واستحبوه بعد أن رأوا الهداية، الذين أضلوا بأعمالهم، أضلوا الآخرين، الذين باعوا واشتروا بقيم الحق والعدل وقيم الدين الذي جاء به كل الأنبياء. ولذلك هؤلاء لا تُقبل منهم فدية ولذلك هؤلاء لا يُقبل منهم عمل، تلك الإنحرافات الحقيقية والإفتراء على الله عز وجل وعلى أنبيائه لا يمكن أن تبقي بعد ذلك محلا للقبول



    (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (92))

    في مقابل أيّ شيء؟

    في مقابل أن هؤلاء الذين كفروا لا تُقبل منهم فدية

    (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ (91))

    لإصرارهم على الكفر، إصرارهم على الضلال، إصرارهم على البعد عن الله



    (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (92))

    لماذا ذكر الإنفاق في مقابل هذا؟



    للتأكيد أن أهل الباطل سينفقون من الأموال الكثير الكثير لإحقاق الباطل الذي ساروا عليه فأنتم يا أهل الحق، يا أهل الثبات عليكم أن تضحّوا وتقدموا الأموال والأنفس والأرواح لأجل الحق الذي تؤمنون به وعليكم الثبات

    بعض الناس يقول أنا على الحق ولكني لست على استعداد أن أنفق شيئًا في سبيل ذلك الحق، ما قيمة أن تؤمن بالشيء ولا تنفق لأجله؟! ما قيمة أن تؤمن بشيء ولا تنصره ولا ترفعه ولا تحاول أن تبذل شيئًا في سبيل إحقاقه؟!

    (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)

    تجديد في الثبات، الآيات بعد الآية 100 تشدد على المؤمنين في مسألة الثبات على الحق وتؤكد لهم ذلك

    (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)

    تنهى عن الفرقة وتأمر بجمع القلوب وتأمر بتوحيد الصفوف وتأمر بجعل الكلمة كلمة واحدة ثابتة لا مرجعية ولا تراجع عنها، منجاة للمجتمع، منجاة للأمة من الانهيار




    (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)

    وصنوان تلك الوحدة وتلك المشاعر وعدم التفرّق الذي لا يقبل به دين، صنوان ذلك أن يكون منكم أمة تدعو إلى الخير وإلى الحق، القيم، ترفع القيم عاليًا، تعلي من شأن القيم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتأملوا الآي

    (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )



    عدم فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تخلي الأفراد والمجتمعات والأمم عن دورها في حماية القيم، في حماية المكتسبات الإيمانية التي حققها التوحيد، تخلّي الأفراد والجمتمعات عن تلك القيم وعن حمايتها يؤدي إلى الفرقة، يؤدي إلى التشتت، يؤدي إلى انهيار وحدة الأمة ووحدة المجتمع.

    وحين يحدث ذلك لا سمح الله فلن يكون هناك إلا العذاب والخسارة العذاب دنيوي وأخروي. وشتى أنواع العذاب وأشكال العذاب الدنيوي ما قد يراه الإنسان في المجتمعات من تمزّق الأسرة الواحدة وتفرّق كلمتها والنزاع والخصومة بشتى أنواعها ووقوع اوالقتل والحروب والدمار على لا شيء، لِمَ حدث ذلك كله؟




    حين تخلّت الأمة عن أوامر ما جاء في كتاب الله،



    (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)

    بأي شيء يا رب؟




    (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110))

    والمعروف ما عرّفه الله لنا في كتابه: القيم، الحق، العدل، التسامح، الرحمة بالبشر دون تفرقة بينهم، دون فوارق مفتعلة افتعلها الشيطان وهوى النفس وافتعلتها التحزّب والعنصرية والطائفية دون تلك العوامل التي افتعلها الشيطان وهوى النفس.

    (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون (112))

    لا طريق للخلاص لأيّ أمة من الأمم إلا بعودتها إلى المنهج الرباني ولذلك هذه الآية تعرض صوراً من إذلال الأمم حين تخالف أوامر الله عز وجل.

    (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا)

    خلافات داخلية، تخلّف، استعباد، كوارث طبيعية، البعد عن المنهج الرباني كفيلٌ بتحقيق الهزيمة بكل أنواعها وصورها في حياة الفرد وفي حياة المجتمعات والأمم، لماذا يا رب؟




    (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ (113))

    وتأملوا معي كلمة "قائمة"، أمة ثابتة على أيّ شيء يا رب؟

    (يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ

    الآيات توضح تعامل هذه الفئة الجيدة الراسخة الثابتة من أهل الكتاب مع كتاب ربها، كيف يكون التعامل؟


    تلاوة لآيات الله آناء الليل وهم يسجدون، تعامل وتفاعل قلبي ووجداني واضح أثناء الليل مع آيات الكتاب العظيم ولكن في نفس الوقت هذا التفاعل الوجداني ما كان ليبقى تفاعلًا فقط في عالم الوجدان والعواطف بل تحول في النهار إلى فعل وسلوك وتطبيق في واقع الحياة

    (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114))


    التفاعل في النهار إنما هو متحول إلى سلوكيات، إلى واقع، إلى أعمال خيرية، أعمال صالحة، إلى مبادرة


    (وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ)

    مباردة للعمل الصالح والنهضة به وحماية لمكتسبات العمل الصالح في حياة الفرد والأمم.




    (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا (116))


    المنافسات الموجودة في الدنيا كثرة الثروة المادية أو العلمية لا تعني أنك يا مؤمن معنى ذلك أنك تخضع لتلك الفئات من البشر. هؤلاء الذين يختلفون معك في قيم الحق والعدل التي جاءت بها كل الكتب السماوية لا تخضع لهم حين ترى الدنيا قد حيزت لهم وجمعت بين أيديهم ووضِعَت فإن جمع الدنيا واكتساب الثروة المادية والعلمية لا يعني الخيرية بحال، أبداً! لا يعني الخيرية، لماذا؟


    لأن الذين حادوا عن قيم الكتب السماوية والديانات السماوية أخطأوا في فهم الحياة، أخطأوا في فهم الآخرة، أخطأوا في الأهداف والغايات والمقاصد وبالتالي كل الوسائل التي يتوسلون بها من وسائل مادية أو مكتسبات ومنجزات مادية حضارية لا تغني عنهم شيئاً.


  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا (118)

    لا تتخذوا من هؤلاء الفئات التي أخطأت في الأهداف، أخطأت في المقاصد، حادت عن منهج الله لا تقربونهم إليكم، لا تتخذوا منهم مهما بلغ قشر المادة التي هم يحتشدون فيها وحولها، مهما بلغت القوة أو التقدم أو التطور المادي أو الذكاء العلمي لديهم، لا تتخذوا من هؤلاء مستشارين لا تتخذوا من هؤلاء أصحاب خبرة يقدمون إليكم المعلومات التي تحتاجون إليها في بناء مجتمعاتكم أو في بناء دولكم، لماذا يا رب؟ لماذا كل هذا التحذير؟

    (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا)
    الضرّ، يوقعون بكم الضر، يوقعون بكم الأذى، ولماذا قضية إيقاع الأذى وذاك التحذير الشديد منهم؟ إختلاف المقاصد. أنتم اختلفتم في الأهداف معهم هؤلاء أناس ليسوا بأصحاب رسالة ولا قيم وإن تبدّى لكم أنهم قد اكتسبوا القيم المادية، القيم التي جاءت بها الأديان، القيم العظمى من عدالة ومن حرية ومن مساواة لا يمكن أن تنفك عن القيم المادية أو المنجزات المادية. وحين يخطئ الإنسان في تلك القيم الأساس التي جاءت بها الأديان قطعاً سيخطئ كذلك في الوسائل.



    (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور (119))
    النوايا ليس للمؤمن أن يتدخل فيها، ليس للمؤمن أن يُحاكِم البشر وفق نواياهم ولكن للمؤمن أن يكون حذراً، للمؤمن أن يعرف الأمور وأن يقيسها بشكل جيد.



    (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا (120))
    المؤمن ليس بالخدّاع ولا بالمكّار ولا بالمختال، المؤمن إنسان صاحب مصداقية مع المؤمن والكافر، مع المؤمن والمنافق على حد سواء، ولكن في ذات الوقت هو ليس بالإنسان المغفّل لذي يمكن أن يُستغل إلى أبعد حد، لا. المؤمن إنسان صاحب قيم ولكن هذه القيم لا تعني أن يكون مغفّلاً ولكنه تعني أن يكون واقفاً عند أمر الله له بالتحذير ولذلك هذه الآيات بيّنت وسائل التعامل مع الزائغين والضالين عن القيم التي جاءت بها الأديان، كيف يتعامل المؤمن؟ كيف يتعامل المؤمن في أجواء وفي عصور تموج بالضلال والمكائد والمكر، كيف يتعامل؟ القرآن يقدّم له أول أسلوب من أساليب التعامل الثبات على المبادئ والقيم وليس على المصالح، ليس على المصالح الشخصية ولذلك جاءت الآية بالتحذير

    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا (118))
    لا تقدّم المصلحة الشخصية لذاتك على مبادئك وقيمك.

    لا تتنازل عن القيم والمبادئ التي تؤمن بها في كتابك لأجل تحقيق مصلحة شخصية أو غرض قريب من أغراض وعروض الدنيا، لا تتنازل.

    (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ (119))
    المؤمن لا يحقد، المؤمن لا يبغض إلا لله ومعنى البغض لله أن يبغض الفعل لا يبغض الشخص، المؤمن ليس بالإنسان صاحب العداوات الشخصية، المؤمن ليس إنسانًا يعادي لأجل عرق أو تعصب أو قومية أو ما شابه.



    (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ (121))
    استعداد مادي، تجهيز العدّة والعتاد، استعداد مادي بحت لكن تأملوا كيف يربط القرآن بين الاستعداد المادي والاستعداد الروحي، كيف يجعل التقوى قضية حاضرة في لبّ المعركة، كيف يجعل التقوى قضية حاضرة في الاعداد المادي لأي مواجهة أو معركة

    (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
    عليم بالنوايا ولذلك لا يمكن أن يتم إعداد الجيش إعدادًأ حقيقيًا دون أن يكون له رصيد من التقوى، من الشعور بأن الله سميع عليم، بأن الله مطّلع على النيّات والمقاصد والأهداف. وهذه لفتة واضحة جدًا أن المؤمن وأن المؤمنين كجماعة وكأمة لا تخرج لأجل مصالح شخصية، لا تخرج لكي تقاتل الناس لأجل أن تفرض آراءها أو تفرض مبادئها بالقوة، إطلاقاً! المؤمن إنسان يصفي نيته لله عز وجل،



    (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) آل عمران)
    من الذي ينصر؟
    الله.
    هل الإنسان يأتي ويأتيه النصر من تلقاء نفسه؟

    لا، المؤمن عليه أن يستحضر هذه الحقيقة الكبرى أن النصر من عند الله، أن النصر ليس من الغرب ولا من الشرق، أن النصر ليس بالعدة المادية فحسب، هذه وسائل، هذه جزئية ولكن الجزئيات الأكبر أن النصر من عند الله عز وجل فعليك أن تكون مع الله وتخرج لله لأجل أن ينصرك وإلا فلن يتحقق النصر.



    (فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
    تأملوا التقوى، الوصية بالتقوى، الوصية بإصلاح علاقة الإنسان مع الله عز وجل التي بها صلاح شأنه. المؤمن لا يصلح شأنه فردًا كان أو جماعة أو دولة أو أمة إلا بصلاح علاقته مع خالقه، إلا بتصحيح المنهج الذي أراد له الله أن يسير عليه في الواقع. ولذلك جاءت الآيات التي تليها بتثبيت المؤمنين، بإعطاء المؤمنين وسائل للنصر لا يمكن أن تكون للكافر أبداً

    (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) آل عمران)
    جيش من الملائكة وجيوش الملائكة لا يمكن أن تقاتل من أجل باطل، جيوش الملائكة لا يمكن أن تكون مع أناس حركتهم المصالح الشخصية،



    (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) آل عمران)
    إذاً هذا من عند الله، هذه وسائل ربانية من عند الله لا يمكن للعلم ولا للتطور ولا التقدم في آليات الحروب أن تعرف لها سبيلاً. لا يعرفها إلا المؤمن، المؤمن الذي خالجت التقوى خاصية وسويداء قلبه، المؤمن الذي صبر على المبادئ والقيم، المؤمن الذي ثبت عليها، المؤمن الذي جاءت المعركة لتؤكد ثباته وصبره بالله عز وجل.



    (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) آل عمران).

    هذه الحقيقة لا ينبغي أن تغيب عن المؤمن بحال أن النصر من عند الله وأن الهزيمة من عند النفس الأمارة بالسوء من قبيل حظوظ النفس والاستجابة والخضوع لمتطلباتها.


  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    آيات سورة آل عمران تقدم قوانين النصر.

    قوانين النصر في أي مواجهة لأي أمة من الأمم التي حادت عن المنهج الرباني وتحقيق قيمه في واقع الحياة. لأجل أن يكتب لك النصر عليك أن تنتصر على نفسك وأهوائها وشهواتها في الداخل وإلا فلن تُنصر في الخارج. النصر إنما يبدأ بالنفس لا يبدأ بالآخر، لا يمكن لأمة أن تنتصر على عدوها وهي لم تتمكن من أن تنتصر على شهوات نفوسها وأهوائها لا يمكن أبدًا، والربا الذي هو مكتسب غير مشروع حرمه الله عز وجل، استغلال لحاجة الضعيف إيجاد طبقة من المترفين لطبقة من المستغلين طبقة من الناس الذين تحركهم غرائز جمع الأموال ومصادرة حقوق الآخرين واستغلال ضعفهم وفقرهم وحاجتهم

    (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
    وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132))
    نفِّذ المنهج.
    آيات القرآن العظيم ما جاءت من أجل أن تكون وآيات وحسب جاءت ونزلت لأجل أن تكون آيات تطبق في واقع حياتك في نفسك في مجتمعك طاعة الله متابعة المنهج الذي تقرأه في كتاب الله في أبسط وأدق جزئيات حياتك.

    (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133))
    مبادرة، مسارعة، استحضر دائماً أنك في سباق مع الزمن، الأيام معدودة والأجل محتوم والعمر قصير والمؤمن إنسان صاحب مبادرات، إنسان لا يضيع شيئًا من وقته فيما لا طائل من ورائه.

    (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134))
    ممارسات وسلوكيات اجتماعية، إحسان إلى الآخرين. المؤمن الذي يواجه وينتصر في المعركة إنسان صاحب قيم وصاحب سلوك متميز في تعامله مع الآخرين. ثم تختم الآيات بالحديث عن التوبة والاستغفار والرجوع عن الذنوب، لماذا؟

    من أعظم أسباب الهزائم الفردية والجماعية في الأمم كثرة الذنوب والخطايا والمعاصي، مخالفة أمر الله عز وجل، مخالفة المنهج الذي نزل في هذا الكتاب العظيم بشتى أنواع المخالفات. ولكن كيف تعالج تلك المخالفات؟

    سورة آل عمران في آية واحدة تقدم لي التعامل مع المخالفات، الاستعداد، الإعداد النفسي للقاء العدو ولمواجهته

    (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135))
    (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ)
    الاستغفار هنا ليس عملًا سلبيًا، ليس كلمات باللسان أستغفر الله العظيم وأتوب إليه وأنا منغمس في أوضاع مخالفة لأمر الله، هذا ليس بالاستغفار الكامل، أبداً!

    التوبة من شرائطها العزم على عدم الرجوع إلى الذنب، التوبة من أعظم شروط تحققها وقبولها أن يشعر الإنسان المسلم بالندم على ما قد صدر منه والعزم على عدم الرجوع إليه (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا) تراجع عن الخطأ، إصلاح الوضع السابق، الأعداء لا يمكن أن يواجهوا بذنوب. أنا لا يمكن أن أتوقع النصر وأنا مليء بأوضاع خاطئة، أوضاع غير صحيحة، أوضاع نفسية وتراكمات اجتماعية وسلوكيات منحرفة، لا يمكن. ولذلك التوبة من أعظم الأسلحة التي يُكتب بها النصر للمؤمنين التوبة التي تعني التراجع عن الخطأ

    ولذلك التوبة من أعظم الأسلحة التي يُكتب بها النصر للمؤمنين التوبة التي تعني التراجع عن الخطأ ولذل


    (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138))
    بيان لأسباب النصر، بيان لسنن النصر والهزيمة حتى يكون المؤمن على بينة وهو ويخوض في واقع المواجه. ولذلك جاءت بعد ذلك الآيات تطمينًا لنفوس المؤمنين تهوينًا وتخفيفًا على قلوب المؤمنين الذين أدركوا مواطن الخلل والخطأ وعزموا على الرجوع والتراجع وإصلاح ما كان من خلل

    (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140))

    الابتلاءات، المحن، الهزائم، النكبات، النكسات، القروح، الجروح، الندوب، الآلام، الأحزان، هذه من واقع الحياة تصيب المؤمن وتصيب الكافر والأيام مداولة بين الناس ولكن المؤمن يفقه معنى الابتلاء والاختبار ولا تكون الخطوب أو المصائب والشدائد التي تمر به سواء على مستوى الحياة الفردية واليومية أو على مستوى الأمم والدول لا تكون مدعاة لإدخاله في نوبة اكتئاب أو في نوبة حزن سلبي فالحزن منهيٌ عنه في القرآن، ما ذُكِر الحزن في موضع القرآن إلا وقد نُهي عنه

    (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (40) التوبة)
    (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) آل عمران)
    لماذا هذا النهي عن الحزن؟
    حزن سلبي يُدخل الإنسان في مداخل غريبة بعيدة عن قيم القرآن،
    المؤمن متفائل، القرآن يزرع الأمل والتفاؤل في نفس المؤمن

    . القرآن وسورة آل عمران تعلمني أن أتعلم من الخطأ، الهزائم والنكبات والمصائب تجعل الإنسان إذا تعلّم مواضع ومواطن الخطأ فيها أكثر قوة أكثر صلابة أشد قدرة على مواجهة تلك الصعاب والمحن والابتلاءات. ثم إن سورة آل عمران تقدم لي فقه الابتلاء، فقه المحن، فقه التعامل مع المشاكل، فقه التعامل مع مصائب الحياة، مع أزماتها

    (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141))
    والآية التي قبل

    (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
    اختبار، تمحيص، لا يمكن أن يكون هناك إيمان بدون تضحيات، لا يمكن أن يكون هناك ثبات بدون أن يقدم الإنسان عربونًا لذلك الثبات. المحن والشدائد والمصائب لها حِكَم، لها مشيئة من إرادة الله سبحانه وتعالى، فيها دروس، فيها عبر تفرز المؤمن من المنافق من الكافر، تمحيص، يمحص، المحن والشدائد والصعوبات طهارة للمؤمن، تنقية لإيمانه، غربلة لعناصر الثبات في حياته، ترك وفرز لعناصر الضعف من القوة في قلبه ونيته وإخلاصه لله عز وجل يمحّص، تمحيص.

    ولذلك الآية التي تليها
    (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142))
    كثير من الناس اليوم يتساءل لماذا المحن؟
    لماذا يحصل لي هذا وأنا مؤمن وأصلي؟!

    كثير من الناس بعض المؤمنين اليوم حين يواجه بمصيبة فقد عزيز، مرض عضال، ضائقة مادية شديدة، إصابة في أولاد، إصابة في شيء من هذه الأمور المادية المختلفة على المستوى الفردي وأحياناً على المستوى المجتمعي أول سؤال يتبادر لذهنه وإن لم يصرِّح به لماذا أنا؟!!

    وأنا مؤمن بالله، أنا أخاف الله، أنا أصلي لله، أنا أقوم بفروض الطاعة والولاء لله لماذا يصيبني هذا؟! هذا التساؤل في حد ذاته غير مشروع كيف؟

    المؤمن لا يصلي لأجل أن لا يصاب بمحن، المؤمن لا يمتثل لأوامر الله لأجل أن يحميه الله سبحانه وتعالى من النكبات والمصائب، المؤمن ليست هذه هي الغاية لديه المؤمن يمتثل لأمر الله لله، المؤمن يصلي لله لأن الله قد أمره بذلك، المؤمن يسير على منهج الله لأنه المنهج الحق الذي أمر به الله عز وجل سواء كان فقيرًا أو غنيًا، سواء أن الله سبحانه وتعالى ابتلاه بمرض أو كان صحيح الجسم، سواء أقبلت عليه الدنيا أو أدبرت. قضية الإيمان والامتثال والسير على منهج الله قضية لا ينبغي أن تخضع لظروف الحياة ونكباتها وأزماتها، هذا من فقه الابتلاء والاختبار، هذه من فوائد المحن والمصائب والشدائد، إفراز قيمة المؤمن، قيمة الإيمان في قلبه، تمحيص، طهارة. ولذلك ألم ونار وشدة التضحيات والمصائب ومرارة المواقف الصعبة في حياة المؤمن لها لذة خاصة حين يصبر عليها المؤمن. صحيح المؤمن يسأل الله العفو والعافية ولكن إن أصابته المحنة أو الكرب ما تراجع عن إيمانه بل ثبت على الإيمان ثبت على القيم، تأكد أن الله سبحانه وتعالى إنما يختبر ويمتحن قوة يقينه وثقته بالله عز وجل وليس مجرد قوة الإيمان أو عدم الإيمان بل قوة يقينك بالله. أنت تعلم وتقول بأن الله رحمن رحيم ما مدى يقينك بهذا الإيمان؟ ما مدى يقينك بهذه الصفة أن الله رحمن رحيم عزيز حكيم؟ كل ابتلاء وكل مصيبة من ورائها حكمة وفي أمر الله عز وجل. ثم إن جدارة الدخول إلى الجنة تقتضي منك أن تقدم التضحية، الإيمان ليس بالتمني ليس بالأماني الباطلة، ليس أن يتمنى الإنسان الجنة ولا يسعى لها ولا يقدم مهرًا لها


  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144))


    تراجعتم، تخاذلتم، زغتم وحدتم عن المنهج الحق ولم تثبتوا عليه، هنا موطن الشدة والابتلاء هنا اختبار موطن الثبات على الحق ولذلك ربي عز وجل قرر هذه الحقيقة أمام مصيبة الموت، الموت مصيبة تقع على الإنسان سواء في نفسه أو في غيره ومن يعزّ عليه


    (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145))


    الموت لا ينحصر في القتال ولا في ساحة المعركة والثبات في ساحات المعركة ومواجهة العدو لا تقصّر أجلاً كما أن الجبن والتراجع والتخاذل والفشل وعدم الثبات لا يطيل عمر الإنسان ولا يؤخّر في أجله شيئًا، كتاب مؤجل عند الله عز وجل. فلتكن إرادة المؤمن الآخرة، التطلع إلى الإيمان، القوة الروحية ولذلك تقدم سورة آل عمران في هذا الموقع من السورة وسائل النصر

    " القوة الروحية"

    القوة التي لا يمكن أن تستمد إلا من هذا الكتاب العظيم آيات القرآن العظيمة. ولذلك ضربت مثلاً لكل المؤمنين عبر العصور مع أنبيائهم وكتبهم


    (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ (146))


    كثرة مهولة كما أن للباطل من ينصره فإن للحق آلاف مؤلفة وجنود مجندة تنصره عبر الأجيال وعبر التاريخ.


    (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا

    وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)

    وهن ضعف خضوع تذلل واستكانة لمن يخالفوك في القيم والمبادئ التي أنت ينبغي أن تثبت عليها، من جراء ماذا؟ من جراء عدم الثبات، من جراء عدم القدرة والاستعداد للتضحية. ولذلك النصر لا يُكتَب إلا بهذه المبادئ، قوة روحية مستمدة من القرآن العظيم. إيمان وثبات على الحق استعداد للتضحية بالغالي والنفيس لأجل ذلك الإيمان الذي تحمله في قلبك. لا معنى للإيمان إن كان مجرد تمني وأماني باطلة وحين تحق الحقيقة ويطلب الله من عباده التضحية بالمال والنفس لا يجد منهم إلا التخاذل، هذا ليس بالإيمان! هذه أماني باطلة، استعداد. ثم يصاحبه الدعاء ليصبح سلاح المؤمن الماضي الذي لا يمكن أن يرد ولا يصد


    (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147))

    في تلك الأجواء الإيمانية العظيمة وتلك الاستعدادات المادية والروحية والوجدانية وتلك الاستعدادات للتضحية بكل شيء لأجل هذا المنهج والثبات عليه والسير على ما جاء فيه لا يمكن أن يكون الجزاء إلا الجنة
    (فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)).



    المؤمن إنسان ينظر إلى الأمام، تقع منه الأخطاء قد تقع منه الهزيمة، قد يصدر منه الخلل والمخالفة ولكن لا يبقى أسيرًا لتلك المخالفة ولا أسيرًا لذلك الخطأ الذي وقع فيه من خلال الندم لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن عوضًا عن ذلك يقدم له القرآن منهجًا في التعامل مع الخطأ حاول أن تستفيد من الأخطاء التي وقعت ولكن لا تحزن على ما فات ولا على ما أصابك واجعل الخطأ والفشل والهزيمة درسًا تتعلم منه الأفضل والأحسن. اجعل العثرة التي تتعثر فيها في طريق الحياة اجعلها نقطة قوة تتعلم من خلالها، اجعل الصخرات والعقبات التي تمر بها في حياتك اجعلها صخرة ترتقي عليها، اجعلها صخرة تحاول أن تنهض من فوقهاوتتعلم من خلالها.

    ولذلك القرآن يعرض بعد هذه الآيات لأصناف من البشر أصناف من المنافقين الذين يتراجعون ويتخاذلون في المواقف الشديدة الصعبة


    (يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154))



    هذا قول المنافقين المتخاذلين المثبطين المتراجعين في الشدائد والمحن الذين حين يرون الموت بأعينهم يقولون يا ليتنا كنا في بيوتنا! الذين لا يدركون الحقيقة الذين لا يدركون أن الموت بأمر الله وأن القتال والثبات والصبر على الحق في المحن والشدائد والمعارك لا يمكن أن يكون هو السبب وراء تقديم ولا تأخير ساعة الموت ولا الأجل المحتوم فالأمر بيد الله



    (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْوَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)

    تمحيص، فرز الإيمان عن النفاق، هذه من أعظم الحكم من وراء المصائب والمحن. المواقف الشديدة والصعبة تفرز المؤمن من المنافق من الكافر، وجود المنافقين بين ظهراني المؤمنين نقطة ضعف وليست نقطة قوة ولولا المصائب والشدائد والمحن ما برز المنافق من المؤمن، ما ظهر الإيمان من النفاق في قلوب أصحابه وأتباعه، هنا تظهر معادن الناس، في الشدائد والمحن تظهر المعادن.


    (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155))

    الذنوب من أعظم أسباب الهزيمة الفردية والمجتمعية، الذنوب. ولذلك الآيات التي قبل حين تحدثت عن النصر تحدثت عن التوبة لا يمكن أن يتحقق نصر بدون توبة وتراجع عن الذنوب والمعاصي وإصلاح مواطن الخلل والفساد في نفسك وفي مجتمعك. تريد نصرًا من الله؟ تريد تثبيتًا من الله؟ تريد أن يلقي الله الرعب في قلوب أعدائك؟ تريد مددًا من الملائكة؟

    عليك أن تتراجع عن الأخطاء وتصلح، عليك أن تصحح الأوضاع الخطأوالأوضاع غير الصحيحة في نفسك وفي واقعك. ثم تأتي بعد ذلك الآيات لتأتي ببلسم لجروح المؤمنين، لتأتي بشفاء لجراحاتهم وآلامهم وتضحياتهم لتأتي بمفهوم جديد للموت وللشهادة تأملوا معي قول الله عز وجل


    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156))


    المؤمن إنسان مستعد للتضحية، إنسان مستعد لمغادرة الأهل والأوطان والمال والراحة والدَعَة لأجل الحق الذي يؤمن به وهو مؤمن أن ما يصيبه في سبيل ذلك مدخر عند الله عز وجل وأن ما يتركه وراءه من مال ونفس وولد سيُخلف الله عليه بأفضل منهم



  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا)
    تتساءلون عن أسباب الهزيمة؟

    (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165))

    الهزيمة من عند أنفسكم من عند التراجع والخذلان والفشل ومخالفة أمر الله وعدم الثبات على منهجه. ثم في نهاية الأمر ما يصيب المؤمن من فرح أو من حزن أو من ثبات أو نصر أو من هزيمة فما كان له أن يخرج عن مشيئة الله فبإذن الله
    (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)).
    (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (185))
    ولكن هناك فارق شاسع بين من يموت في سبيل الله وبين من يموت في سبيل أهوائه وشهواته ومطامعه وبين من يموت الموت العادي. مكسب أن يموت الإنسان في سبيل الله، مكسب أن يموت الإنسان في سبيل الحق الذي امتلأ به صدره وآمن به، هذا مكسب، ربح، هذه ليست خسارة هي خسارة في أعين المنافقين والمتخاذلين ولكنها مكسب في أعين المؤمنين لأن هذا هو منهج القرآن العظيم.
    (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173))
    المؤمن لا تزيده الجموع والحشود حشود الباطل وأعوان الباطل لا تزيده تقاعسًا ولا خذلانًا بل تزيده إيمانًا وثباتًا فالله سيكفيه، الله سيحميه، أعدّ العدة أخذ بالأسباب المشروعة وبقي لديه الإيمان الراسخ الذي يستطيع من خلاله أن يواجه أقوى الحشود شراسة وإعداداً، لا تهمه الحشود وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فماذا كانت النتيجة؟
    (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174))
    هذا المؤمن هذا جزاء الثبات، هذا جزاء المؤمن الذي لا يشتري الكفر بالإيمان أما الذي يشتري الكفر بالإيمان فهؤلاء لن يضروا الله شيئاً، فهؤلاء ربي سبحانه يملي لهم في الدنيا ما هم فيه من متاع الدنيا وإقبال الدنيا عليهم ليس بشيء
    (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178))
    أبداً! هذا إملاء هذا إمهال (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) لماذا يا رب؟
    (لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)
    الخير الذي هم فيه خير الدنيا هذا ليس بالخير لأنفسهم،
    هذا شر، هذا إمهال لهم، هذا مد لهم في الباطل والإثم والعدوان.
    ولذلك جاءت الآيات التي تليها للحديث عن فئة من الضالين من اليهود، هؤلاء الذين ما استطاعوا أن يضحوا في سبيل الحق الذي جاء به الأنبياء، هؤلاء الذين بخلوا بما آتاهم الله به من فضله، هؤلاء الذين كذبوا الرسل، هؤلاء الذين ليسوا أهلاً وليست لهم جدارة أن يرتقوا إلى مستوى التضحية في سبيل الإيمان مستوى الابتلاء أما المؤمن فالله سبحانه وتعالى رقاه بآيات الكتاب ورباه ليصبح موضعاً للشهادة
    (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186))
    الابتلاء سنة من سنن الله في الكون وفي النفس وفي المجتمع ولكن
    (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
    تتقوا مرة أخرى بعد مرة كيف أواجه الابتلاءات؟
    صبر وتقوى، سلاح المؤمن سلاح المؤمن الذي لا يعرف الانكسار.

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني



    ثم تنتقل بعد ذلك آيات سورة آل عمران إلى الختام، إلى عبادة من أعظم العبادات، إلى عبادة لا يتم ثبات المؤمن إلا بها تلك التي جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلّ الله عليه وسلم أنه قال

    (لقد نزلت علي الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها)

    (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190))

    أعظم وسيلة الوسيلة التي تجمع كل وسائل الثبات التي ذكرتها السورة العظيمة سورة آل عمران التفكر الذي يلتفت فيه القلب إلى عظيم آيات الله في الكون فتتضح له قدرة الله عز وجل المطلقة فيخرّ القلب خاضعًا ساجدًا بين يدي ربه عز وجل ذاكرًا لله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون. التفكر يولد التفكر مرة أخرى، التفكر في هذا الكون آيات الكون المبثوثة من حوله والمؤمن لا يستقيم حاله إلا بالتفكر في آيات الكون المبثوثة في السماء والأرض وفي آيات الكتاب العظيم الذي أنزله عليه في هذا القرآن العظيم.

    (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191))

    ربي خلق السموات والأرض بالحق وطالما أنه خلق السموات والأرض بالحق فعليك أنت يا مؤمن يا من أنت من أصحاب الألباب وأولي الألباب والعقول الكبيرة المتفكرة عليك أن تقيم الحق في واقعك، أن تقيم الحق في قلبك وفي نفسك لأن السموات والأرض ما قامت إلا بالحق.

    ولذلك بعض الصالحين يقول الفكر مرآة تريك الحسنات والسيئات.

    وابن القيم يقول: الفكر ينقل المؤمن من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، من المكاره إلى المحابّ، من سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة، من أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور، أصل كل طاعة من الفكر.

    من أعظم أعمال القلوب الفكر، التفكر في النفس فتفكر ساعة خير من عبادة ستين عامًا بدون تفكر،وما معنى التفكر هنا؟

    هل هو مجرد عمل قلبي لا يحرك الجوارح؟

    على الإطلاق!

    هو عمل جوارح، عمل يبدأ بالقلب والعقل والفكر والوجدان ويحرك الجوارح

    هذا التفكر الذي تبنيه سورة آل عمران، تفكر لا يمكن أبداً أن يبتعد عن آيات الكتاب العظيم، تفكر يجعل المؤمن معلقًا قلبه بالله سبحانه وتعالى، يجعل المؤمن يقول

    (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193))
    الأبرار من أولي الألباب أصحاب العقول المتفطنة، أصحاب العقول اليقظة، أصحاب العقول التي استيقظت ضمائرها فأصلحت العالم والمجتمع والنفوس وأهدت للبشرية الخير والعمل الصالح والعطاء





    (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199))

    نفوس عرفت الإيمان فلزمته، نفوس أدركت الحق فحفظته في قلوبها وفي نفوسها وفي حياتها وفي واقعها، نفوس ما تاجرت بالقيم ولا بالدين ولا بالمبادئ، نفوس ما اشترت بآيات الله ثمنًا قليلا ومتاعًا زائلًا من متاع الدنيا،

    (أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)

    سورة آل عمران تفتح لي رسالة لدعوة عالمية لكل المؤمنين بالقيم والحق والمبادئ التي بات العالم يتعطش إليها، دعوة مفتوحة، دعوة مفتوحة للثبات على هذه القيم مهما بلغت التضحيات فإن أوان الباطل ساعة وأوان الحق إلى قيام الساعة.

    ولكن الأمر يحتاج إلى صبر ومصابرة ورباط وتقوى من الله. ولذلك تختم سورة آل عمران بهذه الأسلحة التي ما فتئت منذ بدايتها إلى آخر آية فيها تؤكدها وتحضّ عليها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200))

    لا يمكن أن يكون هناك نصر بدون ثبات، لا يمكن أن يقوم الحق بدون ثبات أهله عليه، لا يمكن أن يقوم للحق وللمثل وللقيم التي جاءت بها الكتب السماوية الحق وجاء بها كل الأنبياء لا يمكن أن يكون له قائمة دون صبر وثبات ومرابطة وطول نفس على ذاك الحق وإيمان به وتقوى تجعل من الإيمان سلوكًا في واقع الحياة، عملًا صالحًا ومبادرة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحماية لمكتسبات الحقوالقيم والمثل.

    أهل الحق من كل الأمم ومن كل الأديان أشد ما يكونون حاجة إلى الوقوف على هذه السورة العظيمة، سورة الثبات سورة الرسوخ على الحق والوقوف والثبات على الإيمان

    أن تموت في سبيل الحق والعدل والقيم التي جاء بها القرآن هو ليس بموت بل هو حياة لا يعرف معناها إلا الشهداء الذين عاينوا حلاوة تلك الحياة وعاشوها ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم

    (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194))


  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    تدبر سورة النساء د. رقية العلواني




    نريد اليوم أن نتدبر في سورة النساء، هذه السورة التي نزلت بعد سورة الممتحنة ولكن في ترتيب المصحف هي السورة الرابعة بعد سورة آل عمران مباشرة. ولو تأملنا في هذا الترتيب العظيم وكنا قد قلنا في مناسبات سابقة أن ترتيب القرآن بالشكل الذي هو عليه اليوم وبين أيدينا توقيفي جاء بالوحي وليس للبشر فيه شيء على الإطلاق. هذا الترتيب بين السور في كتاب الله عز وجلّ، هذا النظم القرآني، هذا البناء المتكامل ربي سبحانه وتعالى أراد منه أن يُحقق حكمًا ومقاصد ما كانت لتتحقق لو أن هذه السورة وضعت في مكان سورة أخرى ولذلك اهتم منذ القدم العلماء لسابقون والمفسرون بقضية التناسب بين السور، التناسب بين نهايات السور وفواتحها، التناسب بين الآيات، التناسب بين أول الآية وآخر الآية، أشكال متنوعة من التناسب، وكل أنواع وأشكال البحث في المناسبات لتحقيق ذلك المقصد التربوي العظيم في كتاب الله عز وجلّ (التدبر).


    سورة النساء السورة التي بدأها ربي سبحانه وتعالى بقوله


    (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)


    ودعونا نقف عند الآية الأخيرة في سورة آل عمران يقول الله عز وجلّ فيها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) الخطاب للمؤمنين (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم سورة النساء في أولها (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) خطاب لكل الناس. خطاب سورة آل عمران وصية للمؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) والخطاب في مفتتح سورة النساء يبدأ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ).


    التعاليم العظيمة التي جاءت في كتاب الله عز وجلّ تذكّرنا سورة بعد سورة أن رسالة هذا القرآن رسالة عالمية لا تختص بالمسلمين فحسب، لا تختص بالقوم الذين شرفهم الله بنزول القرآن فيهم أولا بل إن مهمة هؤلاء الأساسية أن يحملوا هذا النور لكل الناس، العالم ولذلك الأمانة الكبيرة جدًا هي رسالة القرآن والحمل لهذه الرسالة ليس بالضرورة يكون بأن يقرأوا القرآن على الناس قد تمر عليهم أوقات كما هو الحال اليوم ليس أمة من الأمم بحاجة إلى أن تستمع إلى الآيات أو السور، الحاجة الحقيقية إلى رؤية التطبيق، ا


    ولذلك لما أدرك المسلمين الأوائل، الجيل الأول هذه الحقائق طاروا بها في شرق الأرض وغربها بتعالميها، بتطبيقها، بشعورهم وإحساسهم بالمسؤولية والأمانة تجاه أمم الأرض، حملوا تعاليم القرآن في أخلاقهم، في تعاملهم بالدرهم والدينار، تعاملهم فيما بينهم، الأخلاق، السلوك، الأقوال، القضاء، المعاملة المالية، كل أشكال التعامل هذا نوع من أنواع حمل الرسالة وهذا الحمل للرسالة لكي يؤدي فعلًا النتيجة والمقصد التي لأجله كان لا بد أن يكون له رصيد عميق جدًا من التقوى، رصيد التقوى. ورصيد التقوى يذكرني القرآن به مرة بعد مرة ولذلك جاء التذكير به في أول سورة النساء (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) التقوى والتقوى لكي تتحقق في ذات الآية الأولى من سورة النساء تكلمت عن كيفية بناء التقوى، التقوى تبنى حين يستحضر الإنسان رجلًا كان أو امرأة الطبيعة والخِلقة التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها.






    سورة النساء سورة تتكلم في كل آياتها عن العدالة وتحقيق العدالة بكل صورها ولذلك السورة سورة مدنية نزلت لكي تُطبّق في المجتمع المسلم الأول في المدينة، القرآن وأحكام القرآن تنزل لأجل أن تطبق، التطبيق العملي للآيات هو التفسير الحقيقي لهذه الآيات العظيمة.


    السورة بكل آيات 176 آية كل هذه الآيات تحدثنا عن العدالة، عدالة في المشاعر، عدالة في القول، عدالة في الظن، عدالة في العمل والسلوك، عدالة مع النساء، عدالة مع الصغار، عدالة مع الكبار، عدالة مع الأقوياء، عدالة مع الضعفاء، عدالة أول ما تبدأ تبدأ في النفس ولذلك أعظم أنواع العدل أن يتقي الإنسان ربه. صورة العدالة تتجسد في النفس الإنسانية على قدر ما يحمل الإنسان من التقوى ترجمة حقيقية لمعاني العدالة في النفس. الإنسان إذا لم يتقي ربه كيف يمكن أن يكون عادلًا مع الآخرين سواء كان في الأسرة أو في المجتمع؟! كيف يمكن أن يكون منصفًا وهو لم يحقق معاني العدالة مع خالقه سبحانه وتعالى؟!


    فالنفس البشرية لكي يكون لها رصيد حقيقي من العدالة لا بد أن تحمل رصيدًا من التقوى ولذلك بدأت السورة بالحديث عن التقوى أول وصية،


    أعظم وصية لكل البشر: تصحيح العلاقة مع الربّ.


    سورة النساء تكلمت عن العدالة بكل صورها كما سنأتي عليها: عدالة في الحكم، عدالة في السياسة، عدالة في الاقتصاد، عدالة في المال والاقتصاد، عدالة في المجتمع، عدالة في الأسرة، عدالة في النفس، كل شيء.


    ولكن العدالة لو أردنا أن نرسم لها مثلثًا كما جاءت في سورة النساء سنجد أن معها أطرافًا أخرى في المثلث، على رأسه العدالة ثم على الجانب الآخر الرحمة ثم على الجانب الثالث الأمانة. بمعنى آخر لو رسمنا مثلث العدالة كما جاء في سورة النساء لوجدنا على رأسه العدالة ثم الرحمة ومعها بنفس المستوى الأمانة، وكل واحد من هذه القيم العظيمة القرآنية يؤدي إلى القيمة الثانية وبدون أن تتكامل الثلاثة قيم هذه لا يمكن أن تتحقق العدالة وفي القلب وفي المحور والمركز تمامًا هناك مكان التقوى، هذه العدالة التي تصنعها سورة النساء.


    الكثير من المفسرين يتكلمون عن سورة النساء وفي كلامهم عن العدالة يقولون بأن سورة النساء قد بدأت بالكلام عن العدالة مع النساء ومع اليتامى ومع الضعفاء لأن السورة تتكلم عن العدالة مع الضعفاء، وهذه الفئات من النساء واليتامى فئات ضعيفة في المجتمع والإنسان حين يكون في موطن ضعف فإنه مما لا شك فيه أن يمكن أن يكون محلًا لوقوع الظلم عليه فجاء الكلام في هذه السورة عن العدالة لحماية هؤلاء الضعفاء ولكن حين قرأت في الآية الأولى من سورة النساء لم أجد مكانًا للحديث عن الضعف، وجدت حين تدبرت في الآية أن الله سبحانه وتعالى يعلّمنا أن ننظر إلى خلقه جميعًا رجالًا ونساء، صغارًا وكبارًا، أغنياء وافقراء، يتامى حُرموا من الأب أو اشخاص لديهم أُسر ومكتفين بهم، يتحدث عن الجميع في آية واحدة وكلمة واحدة فيقول


    (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)


    وهذه الكلمة لها مقصد ولها معنى، المعنى والله أعلم معنى المساواة، بمعنى آخر أن قيمة العدالة التي تتحدث عنها سورة النساء فيها محور آخر قائم على المساواة بين الخلق، المساواة في القيمة الإنسانية (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) التي جاءت بها سورة النساء. ولذلك لا أجد فيها كلامًا عن الضعف، بالعكس هناك كلام عن العدالة مع القوة لأن العدالة لا بد لكي تتحقق فعلًا أن تقوم على الشعور بأن الخلق متساوون فيما بينهم، متساوون في أصل خلقتهم، متساوون في أن الذي خلقهم سبحانه واحد وهذا معنى عظيم نحتاج أن نستحضره ونحن نتدبر في آيات سورة النساء

    يتبع

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني




    في الآية الأولى في سورة النساء الكلام عن التقوى يأتي في موضعين


    (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)

    وفي نفس الآية


    (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)


    الأولى (اتقوا ربكم) والأخرى (واتقوا الله).

    الرب الذي يربّي سبحانه، الرب الذي خلق الرجل والمرأة، الصغير والكبير، الرب الذي يربي خلقه والتربية ليست مجرد تغذية جسدية، الرب الذي خلق من نفس واحدة وأعطى كل مقومات الحياة وسخّر الشمس والقمر وحفظ للإنسان ما يمكن أن يقوم به معاشه على الأرض، هو الربّ الذي يربي الإنسان بالتعاليم والشرائع، فمن تمام التربية أن يشرّع لنا وهذا معنى عظيم جدًا.

    الكثير من الناس اليوم في علاقتهم مع أبنائهم في التربية يتوهمون أن التربية مجرد تغذية جسدية، قيام بالاحتياجات التي يحتاج إليها الولد أو البنت: طعام، ملابس، مدارس، لكن القرآن يعطيني بعدًأ آخر للتربية: الشرائع التعاليم والقيم والأخلاق التي لا تستقيم بدونها الحياة البشرية، لا يمكن للإنسان أن يُربى بدون قيم، بدون أخلاق، بدون تعاليم، بدون شرائع وأعظم وأصلح من يمكن أن يقدم لي هذه الشرائع هو الرب الذي خلق ولذلك جاءت (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) فالخالق هو الذي يربّي، الذي أوجد من العدم، الذي خلق الرجل والمرأة هو الرب سبحانه وتعالى القادر العالم اللطيف الخبير الرقيب الذي يعلم سبحانه ما تصلح به حياة الرجل وحياة المرأة وحياة البشر على هذه الأرض. ثم إن الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى من سورة النساء أوكل الرقابة الحقيقة وكل أجهزة الرقابة على المرأة والرجل، على الخلق، على العنصر الإنساني فقال

    (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)


    وبدون استشعار الإنسان لهذه الرقابة الإلهية الدائمة التي لا تنقطع لا في ليل ولا في نهار لا في سر ولا في علانية، بدون استشعارها فعلًا لا تستقيم الحياة.


    كل أجهزة المراقبة في العالم، كل الكاميرات التي توضع في المؤسسات والشوارع والمحلات التجارية لا يمكن لها أن تؤدي دورها الحقيقي إذا لم يكن هناك رصيد من الشعور بالرقابة الذاتية، الرقابة الذاتية مكمّلة وتكملها وتحميها تلك الرقابة التي يصنعها البشر بمختلف الأجهزة التي نراها ولكن بدون استكمال الاثنين معًا لا يمكن أن تتحقق العدالة.


    وتدبروا عظمة هذا القرآن في كل كلمة من كلماته: العدالة تحتاج إلى رقابة، لا يمكن أن تتحقق عدالة في أسرة أو مؤسسة أو مجتمع بدون عنصر رقابة بمعنى آخر لا تتكل أن يكون هناك مجرد عدالة بين الناس فتترك موضوع الرقابة، لا بد من الرقابة والمتابعة وهذا تنبيه وتنويه لكل المؤسسات المجتمعية في الواقع الإنساني، دور الرقابة دور مهم جدًا دور لا يمكن الاستغناء عنه لأجل أن تستكمل العدالة التحقق في تلك المؤسسات وفي تلك المجتمعات.


    ثم تبدأ بعد ذلك السورة بتحقق أشكال العدالة وتفاصيلها واللافت للنظر أنها أول ما تبدأ تبدأ بالكلام عن اليتامى، شيء عجيب جداً!

    أول ما تبدأ بعد هذه المقدمة الواضحة بقوله عز وجلّ

    (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)


    جرت عادة البشر حين يضعون القوانين يبدأون بالأهم ثم الأقل أهمية، حسب الأهمية، ولله المثل الأعلى ربي عز وجلّ بدأ بهذه الفئة لكي يتحقق معنى ومفهوم وقيمة العدالة المطلقة التي جاء بها هذا القرآن العظيم.





    هناك مقولة قديمة تقول أن العدالة عمياء وهي مقولة يقصد بها معنى إيجابي، يقصد بها أن العدالة لا تنظر إلى جنس ولا تنظر إلى لون ولا تنظر إلى عرق ولا تنظر إلى تفاوت بين الناس في الأموال ولا في الأجناس ولا في أي شيء. فأطلقت هذه الكلمة "العدالة عمياء" ولكن العدالة التي يؤسسها القرآن عدالة مبصرة عدالة لا تحتاج أن يكون الإنسان معصوب العينين لكي يحققها في الواقع بل على العكس تمامًأ يحتاج أن يكون مبصرًا يرى الأشياء، يراها كما هي ولكنه يُخضع قلبه ووجدانه وأحكامه لميزان العدالة، العدالة التي يدعو الناس إليها القرآن عدالة مبصرة.



    مهم
    جدًا أن نتعرف وأن نقارن ونحن في سياق التدبر، التدبر من أعظم معانيه أن الإنسان يتعلم كيف ينظرإلى القرآن وكيف ينظر إلى واقعه الذي يعيش ويحيى، ينظر إلى الأمرين، والقرآن بصائر بدون هذه البصائر لا يستطيع الإنسان أن يبصر واقعه كما ينبغي أن يكون فالرب عز وجلّ بدأ بالحديث عن اليتامى واللافت للنظر في الآية الثانية


    (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ

    وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا )


    بدأ باليتامى، بدأ بالعنصر الأهمّ في المجتمع، السؤال لماذا؟


    لأن قيمة العدالة التي يؤسسها القرآن وسورة النساء عدالة لا ترتبط بأوضاع الناس الاجتماعية، أبدًأ، عدالة ترتبط بإنسانية الإنسان، عدالة ترتبط بالإنسانية، عدالة ترتبط فعلًا بأن هذه الفئة من الناس اليتامى الموجودة في المجتمع قد يحدث نتيجة لتقلبات الزمان والتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن هذه الفئة تُهدَر أموالها لسبب أو لآخر فأراد القرآن أن يبدأ بهذه الفئة لأن المجتمع الذي يتعلم فيه أفراده كيف يحققون العدالة مع هذه الفئة هو المجتمع الأقرب إلى تطبيق العدالة الأُممية مع كل أمم وشعوب الأرض، المجتمع الذي يمارس العدالة مع اليتامى في أموالهم وحقوقهم هو المجتمع الأمثل الذي يبنيه القرآن ويصنعه القرآن لأجل أن يحمل ويكون جديرًا بحمل رسالته إلى الأمم كافة.



    وتدبروا ذلك القول العظيم في الآية

    (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)

    المال الخبيث وإن كثُر فإن الخبث كصفة يبقى ملازمًا له لا يغادره ولأنه خبيث فسيأتي قطعًا على الحياة الإنسانية يهدرها هدرًا يجعلها حياة شقية حياة لا تعرف طعم السعادة بعكس الطيب وإن كان قليلًا أو بسيطًا أو محدودًا.

    وهنا كعادة القرآن، القرآن يصحح الأوضاع بكلمة وبجملة وبجزء من آية

    فتأملوا لو أننا كمجتمعات إنسانية حققنا هذه القاعدة

    (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)

    إياك أن تفرّط بالطيب لصالح الخبيث! بكل الأشياء،


    قاعدة عامة ليست فقط في الأموال، في الكلام، في التعامل، في الأخلاق خبيث، الميزان ليس بواحد. لماذا القرآن يصحح لي هذا المقياس؟ أنا بحاجة إلى تصحيحه في التعامل الإنساني، لا تستقيم الحياة حين يرتقي الخبيث على الطيب لأي سبب من الأسباب، فلأجل أن أحقق العدالة فعلًا لا بد أن أدرك أن الخبيث وإن كثر وإن زاد وإن قوي فهو يبقى على خبثه، والطيب مهما كان بسيطًا أو قليلًا أو محدودًا فهو طيب ولن تتغير هذه الصفة فيه، هذه الصفة ملازمة فيه
    .


  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني



    في الآية الأولى في سورة النساء الكلام عن التقوى يأتي في موضعين

    (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)
    وفي نفس الآية
    (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)

    الأولى (اتقوا ربكم) والأخرى (واتقوا الله).

    الرب الذي يربّي سبحانه، الرب الذي خلق الرجل والمرأة، الصغير والكبير، الرب الذي يربي خلقه والتربية ليست مجرد تغذية جسدية، الرب الذي خلق من نفس واحدة وأعطى كل مقومات الحياة وسخّر الشمس والقمر وحفظ للإنسان ما يمكن أن يقوم به معاشه على الأرض، هو الربّ الذي يربي الإنسان بالتعاليم والشرائع، فمن تمام التربية أن يشرّع لنا وهذا معنى عظيم جدًا.

    الكثير من الناس اليوم في علاقتهم مع أبنائهم في التربية يتوهمون أن التربية مجرد تغذية جسدية، قيام بالاحتياجات التي يحتاج إليها الولد أو البنت: طعام، ملابس، مدارس، لكن القرآن يعطيني بعدًأ آخر للتربية: الشرائع التعاليم والقيم والأخلاق التي لا تستقيم بدونها الحياة البشرية، لا يمكن للإنسان أن يُربى بدون قيم، بدون أخلاق، بدون تعاليم، بدون شرائع وأعظم وأصلح من يمكن أن يقدم لي هذه الشرائع هو الرب الذي خلق ولذلك جاءت (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) فالخالق هو الذي يربّي، الذي أوجد من العدم، الذي خلق الرجل والمرأة هو الرب سبحانه وتعالى القادر العالم اللطيف الخبير الرقيب الذي يعلم سبحانه ما تصلح به حياة الرجل وحياة المرأة وحياة البشر على هذه الأرض. ثم إن الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى من سورة النساء أوكل الرقابة الحقيقة وكل أجهزة الرقابة على المرأة والرجل، على الخلق، على العنصر الإنساني فقال

    (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
    وبدون استشعار الإنسان لهذه الرقابة الإلهية الدائمة التي لا تنقطع لا في ليل ولا في نهار لا في سر ولا في علانية، بدون استشعارها فعلًا لا تستقيم الحياة.


    كل أجهزة المراقبة في العالم، كل الكاميرات التي توضع في المؤسسات والشوارع والمحلات التجارية لا يمكن لها أن تؤدي دورها الحقيقي إذا لم يكن هناك رصيد من الشعور بالرقابة الذاتية، الرقابة الذاتية مكمّلة وتكملها وتحميها تلك الرقابة التي يصنعها البشر بمختلف الأجهزة التي نراها ولكن بدون استكمال الاثنين معًا لا يمكن أن تتحقق العدالة.

    وتدبروا عظمة هذا القرآن في كل كلمة من كلماته: العدالة تحتاج إلى رقابة، لا يمكن أن تتحقق عدالة في أسرة أو مؤسسة أو مجتمع بدون عنصر رقابة بمعنى آخر لا تتكل أن يكون هناك مجرد عدالة بين الناس فتترك موضوع الرقابة، لا بد من الرقابة والمتابعة وهذا تنبيه وتنويه لكل المؤسسات المجتمعية في الواقع الإنساني، دور الرقابة دور مهم جدًا دور لا يمكن الاستغناء عنه لأجل أن تستكمل العدالة التحقق في تلك المؤسسات وفي تلك المجتمعات.


    ثم تبدأ بعد ذلك السورة بتحقق أشكال العدالة وتفاصيلها واللافت للنظر أنها أول ما تبدأ تبدأ بالكلام عن اليتامى، شيء عجيب جداً!

    أول ما تبدأ بعد هذه المقدمة الواضحة بقوله عز وجلّ
    (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)
    جرت عادة البشر حين يضعون القوانين يبدأون بالأهم ثم الأقل أهمية، حسب الأهمية، ولله المثل الأعلى ربي عز وجلّ بدأ بهذه الفئة لكي يتحقق معنى ومفهوم وقيمة العدالة المطلقة التي جاء بها هذا القرآن العظيم.




    هناك مقولة قديمة تقول أن العدالة عمياء وهي مقولة يقصد بها معنى إيجابي، يقصد بها أن العدالة لا تنظر إلى جنس ولا تنظر إلى لون ولا تنظر إلى عرق ولا تنظر إلى تفاوت بين الناس في الأموال ولا في الأجناس ولا في أي شيء. فأطلقت هذه الكلمة "العدالة عمياء" ولكن العدالة التي يؤسسها القرآن عدالة مبصرة عدالة لا تحتاج أن يكون الإنسان معصوب العينين لكي يحققها في الواقع بل على العكس تمامًأ يحتاج أن يكون مبصرًا يرى الأشياء، يراها كما هي ولكنه يُخضع قلبه ووجدانه وأحكامه لميزان العدالة، العدالة التي يدعو الناس إليها القرآن عدالة مبصرة.


    مهم
    جدًا أن نتعرف وأن نقارن ونحن في سياق التدبر، التدبر من أعظم معانيه أن الإنسان يتعلم كيف ينظرإلى القرآن وكيف ينظر إلى واقعه الذي يعيش ويحيى، ينظر إلى الأمرين، والقرآن بصائر بدون هذه البصائر لا يستطيع الإنسان أن يبصر واقعه كما ينبغي أن يكون فالرب عز وجلّ بدأ بالحديث عن اليتامى واللافت للنظر في الآية الثانية


    (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
    وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا )
    بدأ باليتامى، بدأ بالعنصر الأهمّ في المجتمع، السؤال لماذا؟

    لأن قيمة العدالة التي يؤسسها القرآن وسورة النساء عدالة لا ترتبط بأوضاع الناس الاجتماعية، أبدًأ، عدالة ترتبط بإنسانية الإنسان، عدالة ترتبط بالإنسانية، عدالة ترتبط فعلًا بأن هذه الفئة من الناس اليتامى الموجودة في المجتمع قد يحدث نتيجة لتقلبات الزمان والتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن هذه الفئة تُهدَر أموالها لسبب أو لآخر فأراد القرآن أن يبدأ بهذه الفئة لأن المجتمع الذي يتعلم فيه أفراده كيف يحققون العدالة مع هذه الفئة هو المجتمع الأقرب إلى تطبيق العدالة الأُممية مع كل أمم وشعوب الأرض، المجتمع الذي يمارس العدالة مع اليتامى في أموالهم وحقوقهم هو المجتمع الأمثل الذي يبنيه القرآن ويصنعه القرآن لأجل أن يحمل ويكون جديرًا بحمل رسالته إلى الأمم كافة.

    وتدبروا ذلك القول العظيم في الآية
    (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)
    المال الخبيث وإن كثُر فإن الخبث كصفة يبقى ملازمًا له لا يغادره ولأنه خبيث فسيأتي قطعًا على الحياة الإنسانية يهدرها هدرًا يجعلها حياة شقية حياة لا تعرف طعم السعادة بعكس الطيب وإن كان قليلًا أو بسيطًا أو محدودًا.
    وهنا كعادة القرآن، القرآن يصحح الأوضاع بكلمة وبجملة وبجزء من آية
    فتأملوا لو أننا كمجتمعات إنسانية حققنا هذه القاعدة
    (وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)
    إياك أن تفرّط بالطيب لصالح الخبيث! بكل الأشياء،

    قاعدة عامة ليست فقط في الأموال، في الكلام، في التعامل، في الأخلاق خبيث، الميزان ليس بواحد. لماذا القرآن يصحح لي هذا المقياس؟ أنا بحاجة إلى تصحيحه في التعامل الإنساني، لا تستقيم الحياة حين يرتقي الخبيث على الطيب لأي سبب من الأسباب، فلأجل أن أحقق العدالة فعلًا لا بد أن أدرك أن الخبيث وإن كثر وإن زاد وإن قوي فهو يبقى على خبثه، والطيب مهما كان بسيطًا أو قليلًا أو محدودًا فهو طيب ولن تتغير هذه الصفة فيه، هذه الصفة ملازمة فيه
    .




    (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ

    فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)
    معادلة صعبة بالنسبة للبشرية أن يدركوها.
    نحن في التدبر لا نقف عند كل آية نحن نريد أن نعرف فقط من الآيات ماذا تريد الآية مني أن أحققه في حياتي في واقعي ومجتمعي؟ هذا معنى من معاني التدبر العظيمة. ربي سبحانه وتعالى يقول هنا (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ) واقع إنساني، الإنسان بطبيعته يخاف على أبنائه يريد أن يؤمن مستقبلهم ولكن اللافت للنظر أن هذه الآية العظيمة تعطيني وصفة لكل من يخشى على أولاده ويريد حقًا أن يؤمن مستقبلهم ماذا يفعل؟ (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) بينما نحن في واقعنا إذا أردنا أن نتأمل في الواقع إذا أردنا أن نؤمن على مستقبل أولادنا نزيد لهم في الحسابات في البنك ونزيد في الشراء ونزيد في الأموال ونزيد في الأراضي والقرآن يقول لي (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) حِزام ضابط.

    المفروض لا تعارض بين الاثنين بمعنى آخر الإنسان يعقل ويتوكل، يتقي الله ويقوم بما يقدره الله سبحانه وتعالى ويمكنه فيه من العمل وأن يترك أولاده فعلًا وهم ليسوا بحاجة لأحد ماديًا أفضل بكثير من أن يتركهم وهم عالة على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم ولكن علينا ضبط الأمور ووضع الأمور في نصابها كما يضعها القرآن العظيم. إذا أردت فعلا أن تؤمن مستقبل أولادك فعليك بالتقوى والقول السديد وهذا المعنى العظيم وهذه اللفتة التربوية جاءت في سور عديدة في كتاب الله عز وجلّ ومنها سورة الكهف (وكان أبوهما صالحا) لفتة رائعة لكل الآباء والأمهات: إذا أردت صلاح الأبناء وتأمين مستقبل الأبناء فعليك بالتقوى في نفسك والعدالة في القول مع الآخرين، العدالة في القول والعمل لأن الآية التي تليها مباشرة

    (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ).



    وتدبروا اعجاز اللفظة القرآنية في تصوير العمل الحرام البشع أولًا جاءت كلمة (يأكلون) أكل، هل المال يؤكل؟! في زماننا المال أوراق نقدية، فهل تؤكل؟! هل رأينا فعلًا أكل حقيقي للمال؟! الإنسان يأكل أوراقا؟! لا، إذن لماذا القرآن يعبر عنها بالأكل (يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى)؟


    يمكن أن يكون أحد الأسباب أن الأكل هو أكثر ما تقوم به حياة الإنسان بالمال يتصرف به بالأكل الذي هو قوام الحياة البشرية. ويمكن أن يكون لتنفير الإنسان من هذا الفعل ومزاولته ولذلك جاء بها مرتين في آية واحدة (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) أكل! الإنسان الذي يأكل حقوق الآخرين إنما هو يأكل نارًا فهل يعقل لإنسان عاقل فعلًا أن يستسيغ أكل النار؟! المال الحرام نار، المال الحرام لا يمكن أن تقوم به حياة بشرية ولا تستقيم به حياة بشرية وتدبروا ربي سبحانه وتعالى جاء بلفظة نار (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) لأن طبيعة النار تحرق وتأكل كل شيء تأتي عليه، ربي سبحانه وتعالى بهذه اللفظة العظيمة المعجزة في هذه الآية أراد أن ينفرنا من الحرام، أراد أن يجعل الإنسان قبل أن يأخذ من المال الحرام ولو فلسًا واحدًا يتأمل فيه يدرك ويستحضر أن هذا الدينار الحرام سيأتي على كل ماله كما تأتي النار على كل شيء فتأكله وتجعله أثرًا بعد عين. المال الحرام يأتي على قوام الحياة البشرية يفسدها يجعلها فعلًأ أثرا بعد عين، فهل هذا الذي تريده لنفسك؟

    القرآن يعالج ظاهرة اجتماعية الإنسان حين تكون عنده أسرة ويكون عنده أولاد يبدأ يحمل همّ الرزق وهمّ العيال وكيف أؤمن ملبسهم وكيف أؤمن مدارسهم؟ هذا الخوف الذي ما أراده القرآن أن يكون لأنه خوف سلبي، الرزق بيد الله، والآيات في سورة النساء ستعالجه، هذا الخوف السلبي قد يدفع بالإنسان إلى أن يقع في الحرام والمحظور فنتيجة لذلك الخوف غير المبرر على الأبناء ومستقبل الأبناء ولماذا وكيف وماذا سأفعل وراتبي لا يكفي والحياة غالية والأسعار في ارتفاع وعشرات المبررات! هذه المبررات والمخاوف لا ينبغي أن تكون في نفس الإنسان الذي يدرك أن الرزق بيد الله وأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، هذا الخوف قد يدفع الإنسان بأن يسلك مسلكًا حرامًأ فتمتد يده إلى الحرام مبررًا ذلك لنفسه أنه يريد أن يؤمن مستقبل الأولاد وتدبروا بالله عليكم في حياتنا المعاصرة اليوم كم من أب اختلس أو وقع في الرشوة أو أكل مال اليتيم من أبناء إخوته أو من قريب أو بعيد تحت مبرر أولادي لا أريد أن أتركهم فقراء وأن ألبي احتياجات أولادي؟!

    عالجها القرآن بهذه الكلمة. تفكّر تدبر هل يمكن أن تقوم حياة الأولاد أو حياتك أنت بأكل النار؟! نار حقيقية! المال الحرام نار لا يمكن أن تستقيم به الحياة فهل تُدخل النار على بيتك وأسرتك وأولادك؟ هل تقبل؟

    (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)

    آية عظيمة آية حين يقف عندها الإنسان يستحضر معانيها يدرك حجم الخطأ المهول الذي يقع فيه حين تمتد يده إلى حرام قلّ أو كثُر ولذلك خسرنا كثيرًا حين ابتعدنا عن التدبر في كتاب الله أيّما خسارة ولسنا نحن فقط من خسرنا، نحن وقعنا كذلك في وصول شعوب العالم اليوم إلى الخسارة التي يعانون منها اليوم، خسارة حقيقية، حتى الخسارة الاقتصادية، حتى ما يعاني منه العالم اليوم من فقر، العالم اليوم مستويات الفقر والبطالة فيه بلغت أدنى مستويات الإنسانية وأعلى مستويات الفقر والبطالة!

    من أين جاءت هذه المستويات؟
    من عدم إدراك هذه المعاني التي جاءت في كتاب الله عز وجلّ.

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني


    تأملوا الآية الأولى قالت (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) ثم بعد ذلك (إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) ثم الآية (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ)
    آيات مترابطة.
    الآية الأولى تكلمت عن الخوف غير المبرر خوفي على أبنائي وحذرتني من الوقوع في الحرام نتيجة الخوف غير المبرر والآية الثالثة قالت (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) الرب الذي أعطاني كل هذه الأوامر رب رحيم رب يوصيني بأولادي خيرًا فهو حينًا يحذرني من إدخال الحرام على نفسي وعلى أولادي وأسرتي إنما لأجلي لصالحي هو الرب الذي يوصيني في أولادي هو الرب الذي شرّع لي هذه التعليمات لذلك اللافت للنظر في الأحكام في سورة النساء وفي سائر القرآن أن فيها بعد رحمة لا تجده في كل القوانين التي وضعها البشر.

    أحكام وتشريعات القرآن العادلة مبنية على الرحمة الرحمة لا تغادرها، في الحقيقة هي منطوية على الرحمة، عدالة القرآن، العدالة التي يصنعها القرآن وتبنيها سورة النساء عدالة قائمة على الرحمة، الرحمة في كل جوانبها، ما عليك إلا أن تتدبر في الآيات لترى جوانب ولمسات الرحمة في كل شيء.

    ربي حينما حرّم الحرام وحرّم أكل أموال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل وأكل حقوق الآخرين إنما رحمة بنا رحمة بضعنا وعجزنا رحمة بنا من إدخال النار على حياتنا وأُسرنا وقلوبنا وأموالنا وأنفسنا ومجتمعاتنا النار التي إن لم ننتبه إلى لهيبها وأصبحنا اليوم نعاني من ويلاتها تحت نيران الأزمات الاقتصادية التي بدأت تطيح بالدول المختلفة، تطيح بدول وليس فقط أفراد، تطيح بهم الأزمات الاقتصادية بسبب مخالفة هذه التعاليم الربانية السامية القائمة على العدالة والرحمة. ولذلك نهاية الكلام في آيات الميراث تقول
    (آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)

    فإذا أنا لم أعلم كبشر لمحدوديت أيهم أقرب لي نفعًا الفروع أم الأصول أيّ واحد من أبنائي ومن أقاربي؟ عدالة التشريع وعدالة التوزيع تنصرف لمن وتكون بيد من غير الخالق الرب الذي يعلم ما كان وما سيكون وما هو أقرب لي نفعًا وما هو أعظم لي نفعًأ في ديني ودنياي وآخرتي ولذلك جاءت الآية
    (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)

    أعظم شكل من أشكال العدالة أن تكون عادلًا مع نفسك ولا يمكن أن أكون عادلًا مع نفسي إن لم أصحح علاقة نفسي بخالقها عز وجلّ. قمة العدالة أن تصحح العلاقة مع الله وعن تلك العدالة تنبثق كل قيم العدالة الأخرى في التعامل ولكن إن لم أكن عادلًا مع نفسي كيف لي أن أحقق العدالة بكل مستوياتها مع الآخرين؟! عدالة منقوصة! لأني لم أدرك كيف أحقق تلك العدالة مع الله سبحانه وتعالى.
    (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)
    كل هذه الوصايا في تقسيم الأموال ونحن نرى في واقعنا الإنساني قديمًا أو حديثا كثيرًا من الخلافات التي تقع بين البشر بل بين أفراد الأسرة الواحدة مردّها المال وعدم العدالة في التوزيع فإذا استطاع الإنسان أن يحل هذه النزاعات القائمة على تقسيم وتوزيع الثروة المالية نستيطع أن نقول أكثر من خمسين بالمئة إن لم يكن أكثر بكثير من مشاكل الأُسَر والمجتمعات والدول ستُحَلّ.

    لو نظرنا حتى إلى النزاعات بين الدول لوجدنا من أهم أسباب النزاع توزيع الثروات، المال، من الذي يملك حق التوزيع؟

    الذي يملك حق التوزيع فعلًا الرب سبحانه وتعالى لذلك جاء بكلمة (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) الرب الغني الرب الذي هو سبحانه أعطى المال وهو الغني عنا وعن أموالنا وما جعل المال إلا لتقوم به حياة الإنسان. الرب الرحمن الرب الذي حتى حين شرع لنا شرع لصالحنا وليس لأي شيء آخر أما البشر فحينما يشرّعون ويضعون القوانين والتشريعات لا يمكن أن تضمن إلى أي مدى استطاعوا أن يتخلصوا من النظر في مصالحهم ولذلك حال الأمم اليوم كما نرى في المجتمعات لأن تلك العدالة عدالة لم تستطع أن تُسقط المصالح الشخصية لنفسها أما عدالة الخالق سبحانه وتعالى العدالة التي يصنعها القرآن العظيم في سورة النساء عدالة مطلقة لأنها عدالة الغني سبحانه وتعالى عن عباده وهم الفقراء إليه.
    تنتقل بعد ذلك الآيات للحديث عن نوع آخر من العدالة الاجتماعية العدالة في إقامة الحدود، العدالة في الجرائم الأخلاقية الجرائم المتعلقة بالعلاقات خارج إطار الزواج الذي وضعه الله سبحانه وتعالى ليكون الإطار الحقيقي لكل علاقة بين رجل وامرأة وخارج تلك العلاقة لا يكون الإنسان إنسانًا

    (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ)

    كل العلاقات أسقطها خارج إطار العلاقة المشروعة بين الرجل والمرأة ضمن الأسرة في الزواج. ولذلك قلنا ونقول ليست الجاهلية فترة زمينة ما نراه اليوم في بعض المجتمعات من تدهور وانحطاط إنساني قبل أن يكون أخلاقي أو ديني: علاقة رجل برجل وعلاقة رجل بنساء خارج إطار الزواج هذا التدهور قيمي، هذا انحطاط إنساني قبل أن يكون أخلاقي.

    هذه العلاقة ربي عز وجلّ أراد لها أن تكون مصانة تليق بإنسانية الإنسان فإذا نزلنا بها وجعلناها تكون أقرب ما تكون إلى الحيوانية والبهيمية كل ما يشتهيه الإنسان يسعى إليه ويحصل عليه، إذن حصل انحطاط في الجانب الإنساني، ما عاد الإنسان إنسانا وإنما عاد كبهيمة لأن البهيمة تنظر فقط إلى قضية الغريزة والشهوة فهل هذا هو الرقي الذي نريده في مجتمعات اليوم؟!

    للأسف الشديد حتى في قضايا العلاقات الجنسية اليوم المدتمعات في الغرب على سبيل المثال بدأت تروج لها هذه العلاقات المحرمة بدعوى المساواة لأنه يفترض عندما يكون هناك مساواة أن هؤلاء الذين يمارسون العلاقات من هذا النوع لهم الحقوق في أن يمارسوا ما يريدون! تزييف! تزييف حتى للطبيعة الإنسانية الفطرة التي خلق الله الناس عليها.
    والسؤال: يا ترى ما هي طبيعة الويلات والكوارث الاجتماعية والإنسانية التي ستأتي على المجتمعات التي تسكت على هذا النوع من التردي الإنساني والانحطاط؟!!

    ماذا سيفعل البشر؟!

    ولو نظرنا إلى سورة النساء في آياتها، كل آيات سورة النساء ولا زلنا في بداياتها نجد أن المطلب الرئيس والمقصد الأول في السورة:

    العلاقات الأسرية وتحديدًا العلاقات الزوجية، الكلام عن المهر، الكلام عن الحقوق المالية، الكلام عن الحقوق النفسية، الكلام عن كل شيء يتعلق بتلك العلاقة المصونة الميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة.

    ولنا أن نتساءل ونحن نتدبر في السورة لِمَ كل هذا الاهتمام بالأسرة؟

    دون الحفاظ على مؤسسة الأسرة وإقامة العدل وتحقيق العدل فيها لا يمكن أن نتكلم عن عدالة خارج الأسرة. لا يمكن أن أتكلم عن عدالة اجتماعية ولا عدالة في الحكم ولا عدالة في القضاء ولا عدالة في مستوى العلاقات بين الدول وأنا كإنسان ضيّعت العلاقة في أسرتي الحصن الأول، اللبنة الأولى في المجتمع. لا يمكن أن أكون إنسانًا عادلًا قادرًا على أن يحقق العدالة ويقدمها للبشرية كما دعت سورة النساء في أول آية لها دون أن أتمكن من تحقيق العدالة فيما بيني وبين نفسي وطبيعي جدًا أن تنعكس تلك العدالة على العلاقة مع الزوجة، على العلاقة في نطاق الأسرة ولذلك لا أنا أستغرب وأنا أتدبر في كتاب الله وأنظر إلى الواقع فأرى سلسلة من المظالم التي ترتكب في بعض المجتمعات في بعض الدول، ذلك الظلم الجماعي الذي بات يئن منه العالم بأسره! لا أستغرب أبدًا لأني حين أنظر إلى الأسرة اللبنة الأولى في المجتمع أجد عشرات الصور التي ضيعت العدالة في مجال الأسرة في العلاقة بين الزوجين.

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Jun 2024
    المشاركات
    1,045

    افتراضي رد: سلسلة : روائع البيات لـ د/ رقية العلواني

    ربي سبحانه وتعالى في الآية 21 يقول
    (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ)
    يتكلم عن المهر والحقوق المالية في إطار الزوجية طبعًا
    (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا )
    هذه الآية تهز وجدان الإنسان ليستيقظ الضمير فيه ويتأكد تمامًأ ويتحقق أن العدالة ليست قضية مرتبطة بالأمزجة وليست مرتبطة بالرضى أو بالغضب، تلك الحالات الإنسانية التي تعترض كل إنسان في الحياة، وليست كذلك مرتبطة بالمحبة أو الكره، المحبة والكراهية مشاعر إنسانية ولكن قيمة العدالة قيمة مطلقة والمشاعر الإنسانية نسبية تتغير، الإنسان قد يحب ولكن بعد فترة من الزمن قد يقع في كره نفس الإنسان الذي كان قد وقع في حبّه وهذا واضح في المشاكل الأسرية بين الزوجين ولكن العدالة التي تصنعها سورة النساء عدالة غير مرتبطة بمشاعر الحب والكراهية، عدالة قيمية عدالة مرتبطة بتقوى الإنسان عدالة مرتبطة بذلك الرصيد الإيماني الذي بنته التقوى وتبنيه سورة النساء العظيمة.



    (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
    إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا )
    مجتمعات فعلًا برزت فيها تلك المعالم الجاهلية ولذلك قلنا ونقول بأن قضية الجاهلية هي ليست فترة تاريخية أو زمنية، ليست بُعد زمني، البعد الواضح فيها بُعد التعامل والسلوك ولذلك ما نراه في بعض المجتمعات اليوم من إهدار لتلك المحرمات من تجاوز لتلك الحدود من تحطيم الإنسان لهذه الأسوار والسياجات المختلفة على دعوى الحرية والمساواة هي في واقع الأمر كما نراها ونحن نتدبر في كتاب الله عز وجلّ ما هي إلا مرحلة انحطاط بالإنسانية نحو الجاهلية، انحطاط واضح، انحطاط لا يقيم وزنًا لسياج ولا يقيم وزنًا لسور يحمي إنسانية الإنسان. ولذلك يخشى الإنسان بالفعل وهو ينظر في هذه المجتمعات التي بدأت فعلًا تتسرب إليها تحت دعوى الحرية وحقوق الإنسان الممارسات الجاهلية بكل ما تحمل الكلمة من معاني.



    (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
    وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

    الله سبحانه وتعالى حدد هنا (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ليس فقط بيان وإنما هداية وتوبة لأنه العليم الحكيم سبحانه وتعالى.
    وفي نفس الوقت وتدبروا في الآية التي تليها مباشرة
    (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا
    يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا )


    كل خدش في مجال العلاقات هذه التي وضع الله سبحانه وتعالى في شريعته للعلاقات بين الرجل والمرأة تلك الحدود و ووضعها في سياج كل من يحاول أن يفكك ويقترب من تلك الشريعات ويغير فيها إنما هو يغير من قبيل الشهوات، من قبيل الغرائز وشيء طبيعي جدا أن الإنسان حينما لا يخضع في غرائزه ومشاعره وعلاقاته وعواطفه لتعاليم الله سبحانه وشرائعه فهو خاضع لنداء آخر ذاك النداء الذي يحدثنا عنه القرآن (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) شيء طبيعي أن الإنسان حين لا يمشي وراء ما شرّعه الله له سيحدث الميل سيحدث الزيغ سيحدث الانحراف ستحدث الجرائم، سترتفع نسب الجرائم بالشكل المهول الذي نراه بات يهدد المجتمعات المعاصرة بل الأدهى والأمر أنه بات كذلك بات يهدد –إذا كنا على قدر من الشجاعة والصراحة مع أنفسنا - حتى المجتمعات العربية والمجتمعات المسلمة من أين جاءت كل هذه النسب الرهيبة التي باتت بالفعل تقض مضاجع الآمنين تهدد الإنسان في أمنه الاجتماعي، هناك أمن يسمى الأمن الاجتماعي وهناك أمن يسمى الأمن الأُسري، الأمن الاجتماعي والأمن الأسري لا يمكن أن يتحقق بعيدا عما أراده الله سبحانه وتعالى ووضعه لخلقه، وضعه للبشر وهو يريد أن يتوب عليهم


    (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا )
    عجيب! يخفف عنا بالتشريع؟! يخفف عنا من قبيل النواهي والمحرمات والمنع؟! كيف يكون المنع تخفيفا وكيف يكون غلق الأبواب عندما تقتضي الحاجة تخفيفًا على الإنسان؟! كيف؟!

    عظمة القرآن، اعجاز القرآن حين نتدبر في معانيه ونتأمل في آياته ونقف عند تلك الآيات والأحكام، المنع من قبيل التخفيف. ربي عز وجلّ وضع حين يقتضي الأمر تلك الموانع والحواجز في العلاقات بين الرجل والمرأة وتلك الحدود من قبيل التخفيف لأنك حين تفتح الأبواب هكذا ولا تجعل هناك أي نوع من أنواع الحدود بدعوى الحرية على سبيل المثال كما هو حاصل إنما تثقل كاهل الإنسان تثقله بذلك الإطلاق غير المبرر للجانب الغريزي في داخل الإنسان وهو ما لا يريده القرآن.



    القرآن جعل لها مصارف معينة تليق بكرامة الإنسان تليق بإنسانيته مصرف الزواج ولكنك حين تطلق وتفتح الباب هكذا إنما أنت بالفعل تثقل كاهل الإنسان ليس كفرد فحسب وإنما كمجتمع وكأمة. وإذا أردنا دليلا أو شاهدا على ذلك العبء الذي بات فعلا يئن تحته الإنسان المعاصر فقط ننظر إلى نسب الجرائم والاعتداءات المختلفة التي تقع في مختلف المجتمعات المعاصرة اليوم إذا كان فعلا هذا من باب التخفيف والحرية والمساواة فلماذا ترتفع نسب الجرائم والاعتداءات؟ لماذا بلغت مستويات مخيفة هددت بل نستطيع أن نقول أنها قتلت جوانب الأمن الاجتماعي والأمن الأسري لماذا إذا كان فيها خير فعلا؟ طبعا ليس هناك إجابة لأن الذين يتبعون الشهوات لا يقدمون حلولا ولكنهم في واقع الأمر يزيدون من حجم المشاكل والضغوط التي تقع على البشر.






    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)
    مباشرة بعد الحديث عن العلاقات بين الرجل والمرأة يأتي الكلام عن الأموال، أكثر الأشياء التي تهدد أمن الأسر وأمن المجتمعات وأمن الإنسانية هي هذه القضايا التي يحدثنا القرآن عنها في سورة النساء. الإنسان القادر على أن يقول لنفسه حين يقتضي الأمر:لا، هو الإنسان الذي لا يمكن أن تحدثه نفسه بأن تمتد يده إلى الحرام وأكل أموال الناس بالباطل، أما الإنسان الضعيف المهزوز الذي لا يضع لنفسه ولا لغرائزه حدودًا ولا أسوار ولا يعترف بمنطق السياج للبيوت فهذا إنسان أعجز ما يكون عن الوقوف عند المنع أو الحرام، هو أكثر إنسان لا قدرة لديه على التحكم في نفسه إزاء أموال الآخرين وأكل حقوقهم.
    وربما يقول قائل ما الدليل على ذلك؟
    الدليل هو ما نراه في مجتمعات اليوم، المجتمعات المعاصرة حتى المتقدمة، هذا النهب الجماعي لأموال ومقدرات الشعوب من قبل القوى الأقوى من أين جاء؟ّ وتحت أي مبرر؟ ما الذي يبرره؟! هذا الأكل الجماعي لأقوات الشعوب وترك مجموعات من البشر تئن تحت الجوع والحصار ولا تجد حتى ما يليق بوجودها كبشر في نفس الوقت الذي يرمي به العالم وترمي به المجتمعات المتقدمة بأكداس وأكوام من الطعام والغذاء والشراب في بطون وأعماق البحار والمحيطات! هذا التناقض كيف يمكن أن نفهمه بعيدًا عن هذه الآيات التي يحدثنا القرآن عنها؟
    القرآن يعلمنا بالآية بالحرف، بالكلمة وذكرنا
    (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)
    ثم قال في نفس الآية
    (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)

    هذا التوجيه الرباني في وسط هذه الآيات في سورة النساء التي جاءت لتحقق وتقيم مقصد العدالة العدالة التي لا تقوم بعيدا عن الحفاظ على سياج الأعراض والأموال، سياج وسورة النساء وضعت حدود ذلك السياج حول الأعراض وحول الأموال. أعراض الناس محرّمة أن تنتهك محرمة أن يتعرض إليها الغير بأي شكل من أشكال المهانة التي لا تليق بإنسانية الإنسان بصرف النظر عن كون هذه العلاقات قائمة مع مسلمين مع غير مسلمين

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •