نظرية نواة التبلور " نظرية بذرة التبلور"
Nucleus theory of crystallization " Seed crystallization theory"
نظرية نواة التبلور " نظرية بذرة التبلور"
"Nucleus theory of crystallization " Seed crystallization theory"
الحمدُ للهِ الذي أجرى سُننَهُ في الأكوان، فجعلَ من الذرّةِ بذرةً ، ومن البذرةِ شجرةً، ومن النقطةِ محيطًا، ومن الشرارةِ نارًا تسري في الوجودِ بأمرهِ سَريانًا.
أحمده سبحانه حمدًا يُبلِّغُ رضاه ، وأشكره شكرًا يورثُ مزيدَ من عطاياه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، بيده مقاليدُ النُّظمِ ومفاتيحُ السُّنن ، يقلبها كيف يشاء بحكمةٍ بالغةٍ وعدلٍ لا يَزِلّ .
وأصلي وأسلم على سيّدنا محمدٍ، سرّ الوجود، ومصباح الشهود، الذي غيّر اللهُ عز وجل به مجرى التاريخ فكان هو البذرةَ المباركةَ التي تبلور منها دينٌ وعدلٌ ونورٌ ورحمةٌ للعالمين
أما فكرة هذه النظرية فقد نشأت في المعامل الكيميائية بحيث أنه لو وضعنا قطعة صغيرة من مادة بلورية إلى محلول فوق مشبع أو مادة منصهرة من نفس المادة فإنها تعمل على تسريع وبدء عملية التبلور والتجمد وتطورت هذه النظرية في رواية أمريكية علمية خيالية لفونيغوت اسمها "مهد القطة" "Cat's Cradle"وبشكل موجز لهذه الرواية كان هناك عالم " وهو أحد مخترعي القنبلة الذرية " استطاع اختراع بلورات ثلجية أسماها الجليد – 9 " ice-nine "هذه البلورات إذا لامست أي ماء سائل، فإنها تتسبب في تحوّل كل جزيئات الماء إلى "الجليد-9"، وبما أن المسطحات المائية متصلة ومفتوحة على بعضها فإنه سيؤدي عبر عمليات متسلسلة إلى تجمد جميع المسطحات المائية في العالم وبالتالي وفي المحصلة فناء الحياة على الأرض
وسأقوم بإسقاط فلسفي فكري على نظرية تبلور البلورات على الأنظمة السياسية والدينية والتربوية والإقتصادية والإجتماعية والعسكرية وحتى الأسرية بأسلوب يعرف بالنمذجة الفكرية (Intellectual modeling)
بحيث أقوم بتصويغ وإعادة تشكيل re-formulation نظرية ( نواة ، بذرة التبلور ) واستخدامها كأداة تدمير أو نهوض للأنظمة السياسية والدينية والتربوية والإقتصادية والإجتماعية والعسكرية وحتى الأسرية
وسنرى أنه يمكن نتيجة عنصر صغير حاسم يعمل (كنواة ، بذرة - محفّزة )، يطلق سلسلة من التفاعلات المتسارعة الغير خطية تغيّر بنية النظام جذريًا (تأثير الدومينو أو الفراشة) بسبب الترابط الشديد بين أجزائه و التشابك البنيوي للنظام الذي يتألف من وحدات مترابطة فإذا تغيّرت وحدة واحدة قد يعيد تشكيل البنية كلها إما ( إنهيار وانحلال أو نهوض وارتقاء) وكلما كان الترابط أكبر، كان انتقال الأثر أسرع وأعمق
ويمكن أن نصيغ هذه النظرية على أن أي نظام معقد (سياسي، اقتصادي، عسكري، ديني، تربوي، اجتماعي، أسري، بيئي ...) يمكن أن يتعرض لانهيار جذري أو نهضة شاملة نتيجة عنصر صغير حاسم يعمل بمثابة نواة/بذرة محفّزة تطلق سلسلة من التفاعلات غير الخطية (Non-linear cascades)، تغير بنية النظام بأكمله بسبب التشابك البنيوي والترابط الداخلي بين مكوناته
أسس النظرية
• التشابك البنيوي: كل نظام هو شبكة من وحدات مترابطة وتغيّر وحدة واحدة قد يعيد تشكيل الكيان بأكمله
• النواة/البذرة المحفزة: عنصر صغير قد يكون حدثًا أو فكرة أو شخصًا أو اختراعًا، لكنه يطلق تفاعلات متسارعة غير قابلة للعكس.
• قابلية الانتشار: كلما كان النظام أكثر ترابطًا، كان تأثير البذرة أسرع وأعمق.
• الاتجاه المزدوج: النواة/البذرة المحفزة قد تكون نواة/بذرة نهوض (ابتكار، إصلاح، فكرة ملهمة) أو نواة/بذرة انهيار (فتنة، صدمة، إخفاق مركزي).
فمثلا سياسيًا: اغتيال أو الإطاحة بزعيم أو توقيع معاهدة ( النواة ، البذرة - المحفزة ) قد يعيد رسم خرائط القوى كما حدث عند سقوط عائلة الأسد في سوريا وكما سيحدث عند ظهور المهدي الذي سيحول الأنظمة الحاكمة إلى نظام الخلافة
ودينيًا: ظهور مصلح أو فتنة فكرية ( النواة ، البذرة - المحفزة ) قد تحوّل مسار التدين الجمعي كتحول مصر إلى المذهب الشيعي عند سيطرة الفاطميين على حكم مصر وفي الصورة المضادة لها تحول مصر من المذهب الشيعي إلى السني بعد القضاء على الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي
وتربويا : محاربة المناهج أو المعلمين ( النواة ، البذرة - المحفزة ) سيؤدي إلى تدهور منظومة التعليم بشكل دراماتيكي سريع
واقتصاديًا: إفلاس بنك مركزي أو اختراع ثوري للعملات الرقمية ( النواة ، البذرة - المحفزة ) يبدّل النظام المالي.
و عسكريًا: تدمير مركز قيادة أو تطوير سلاح جديد ( النواة ، البذرة - المحفزة ) يغيّر موازين الحرب.
واجتماعيًا: حادثة رمزية أو حركة احتجاج صغيرة ( النواة ، البذرة - المحفزة ) تصبح ثورة شاملة مثل حادثة محمد البوعزيزي التونسي والتي أشعلت ثورات الربيع العربي في العالم العربي كله
وأسريا قد يكون موت الأب أو الأم أو طلاق الأبويين ( النواة ، البذرة - المحفزة ) له تأثيرات تدميرية كاملة على الأطفال
وبيئيا فذوبان جليد القطب يمكن أن يصبح بذرة تفاعلات مناخية متسارعة تقلب النظام البيئي والمناخي
ف( النواة ، البذرة - المحفزة ) يمكن
• أن تغيير في بعض عناصر النظام (التغيير يكون جزئيا بإضافة أو إزالة شيء جزء إلى شيء كل أو تعديل شيء جزء من شيء كل)
• أو تبديلها ( التبديل يكون كليا إحلال واستبدال شيء بكل جزئياته مكان شيء موجود بكل جزئياته )
• أن تكون عنصر جديد غير مكون أو موجود في النظام
فأثر ( النواة ، البذرة - المحفزة ) = (فاعلية المحفّز × قوة الترابط × قابلية النظام للتأثر) ÷ قدرة النظام على امتصاص أثر التغيير
• فاعلية المحفّز: حجم وقوة النواة/البذرة المحفزة.
• قوة الترابط: مدى التشابك بين مكونات النظام.
• قابلية النظام للتأثر: ضعف البنية الداخلية أو هشاشتها.
• قدرة الامتصاص: مرونة النظام في العزل والاحتواء والتحوصل حول المحفّز.
والنظم القوية ليست التي تمنع ( الأنوية ، البذور - المحفزة ) فالتفاعل مع ا لعوامل الخارجية لا بد منها، بل تلك النظم التي تملك آليات عزل واحتواء وتقوم بالتحوصل حول ( الأنوية / البذور - المحفزة ) لتمنعها من أن تكون من أمواج جارفة من البلورات المتبلورة الجديدة كما في كريات الدم البيضاء عندما تتحوصل حول الخلايا السرطانية أو تلك النظم التي تقوم بتطويع ( الأنوية / البذور - المحفزة ) لتتفاعل مع باقي مكونات النظام وتجبرها على السير وفق نهج النظام لا وفق نهجها .
البعد الفلسفي
• هذه النظرية تُظهر أن التغيير الجذري لا يحتاج إلى "زلزال شامل"، بل إلى "بذرة صغيرة" في المكان المناسب والزمن المناسب.
• وهي تحذير من هشاشة الأنظمة المترابطة التي قد تنقلب بكاملها بسبب عنصر متناهٍ في الصغر.
• وفي المقابل، هي بشرى أن بذرة خير واحدة قد تُطلق نهضة شاملة.
• القوة الحقيقية للنظام = مرونته وقدرته على العزل والاحتواء والتكيّف.
• أما القوة الشكلية المبنية على ترابط محكم بلا مرونة = هشاشة مموهة قد تتحول لانهيار كلي عند أول بذرة محفِّزة
وكما أن دوائر المصابيح إذا وُصلت على التوالي أظلمت كلّها بانطفاء واحدٍ منها، دلّ ذلك على هشاشة النظم المتسلسلة التي يرديها خللٌ يسير فيسقط بنيانها الكبير،
بينما إذا وُصلت على التوازي ظلّ النور ساطعًا ولو انطفأ مصباح، كان ذلك مثل النظم المرنة التي تمتصّ الصدمات وتبقى قادرة على الحياة،
فالقوة إذن ليست في شدّة الترابط وحده، بل في قدرة النظام على الاحتواء والتكيّف، وفي امتلاك منافذ بديلة تُبقي النور مشتعلاً ولو تهاوى بعض أجزائه
وهكذا يتبيّن أن ما يُسمّى بـ "نواة/ بذرة التبلور" ليس مجرّد مَثَلٍ كيميائي أو صورةٍ خيالية ، بل هو ناموسٌ ربّاني يجري في الكون والإنسان والمجتمع ، ليشهد الخلقُ أن التغيير قد يبدأ من ومضةٍ خفيّةٍ ، فإذا بها تصنع أقدار أمةٍ بأسرها.
فاللهم يا من تُحوِّل القلوب كما تُحوِّل الأزمان ، ويا من تُدير النُّظم كما تُدير الأفلاك ، اجعل بذورنا بذورَ نهضةٍ ورشد، ولا تجعلها بذورَ فتنٍ وفساد.
وصلّى الله على سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، الذي كان بذرةَ الرحمةِ ، وبلورةَ الهداية ، وقطبَ دائرةِ النور ، وعلى آله وصحبِه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
والله أعلم