(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) [الزمر:6]ما معنى الظلمات الثلاث؟
ذكر أهل العلم رحمة الله عليهم في التفسير أن معنى الآية: أن العبد يطور في الرحم خلقًا بعد خلق، أولًا يخلقه الله نطفة من مني المرأة ومني الرجل جميعًا أمشاج، ثم تحول هذه النطفة إلى علقة قطعة من الدم وهذا طور ثاني، ثم هذه العلقة يخلقها الله مضغة قطعة لحم بقدر ما يمضغ الماضغ، ثم يكون في هذه المضغة التخليق من الرأس والرجلين واليد ونحو ذلك، هذا معنى يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر:6] يعني: تطوير يطور في بطن أمه خلقًا بعد خلق من طور إلى طور.
وأما فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ [الزمر:6] فسرها العلماء بأن الظلمات الثلاث هي: ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة التي فيها الرحم، وظلمة البطن؛ بطن المرأة، فهي ظلمات ثلاث وفي الرحم، ثم في كيس المشيمة، ثم بعد ذلك ومن وراء البطن في داخل البطن داخل بطنها، فظلمة في بطن ظلمة، ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة التي هي كيس يكون فيه الولد يكون فيه الرحم، كيس يكون فيه الولد ثم ظلمة الرحم ثم ظلمة البطن، والمشيمة تسقط في الغالب تسقط مع الولد أو بعده، هذا الكيس اللي يكون فيه الولد في بطن الرحم، ثم الرحم ظلمة ثانية، ثم البطن ظلمة ثالثة،
الشيخ الشعراوى يفسر قوله سبحانه: { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [الزمر: 6] بيان للقرار المكين الذي يستقر فيه الإنسان في بطن أمه، قال تعالى: { { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [المرسلات: 21-22] والمكين هو المستقرّ في المكان، فبطن الأم مكان، والجنين في البطن مكين.
ولما تكلم العلماء في معنى الظلمات الثلاث قالوا: هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة. وكلمة الظلمة نفهم منها عدة أمور.
أولاً: الظلمة تعني عدم وجود النور، وهي مرتبطة بالليل.
ثانياً: الليل دائماً رطب عن النهار؛ لأن النهار فيه حرارةُ الشمس وحرارةُ الأنفاس الناشئة عن الحركة، أما الأنفاس في الليل فهادئة، لأنها لمجرد استبقاء الحياة، وليست ناشئة عن حركة العمل والجهد المبذول.
ثالثاً: كذلك في الظلمة سكون، وهدوء لا يتوفر في النهار.
إذن: في الظلمة عدم نور، وفيها برودة، وفيها سكون، وهذه الأمور الثلاثة ضرورية لنمو الجنين، وتكوُّن أعضائه في بطن أمه، لأنه في بطن أمه خلْقٌ ضعيف غير مكتمل الأعضاء والجوارح، لا يَقْوى على تحمُّل الحرارة، ولا تحمُّل الضوء، ولا تحمُّل الأصوات المزعجة، لذلك جعل له الخالق سبحانه عوازلَ تقيه هذه الأشياء، لذلك قال سبحانه: { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [الزمر: 6].
والأقرب للصواب أن هذه الظلمات الثلاثة في الرحم وليس منها ظلمة البطن؛ لأن الحق سبحانه يُحدِّثنا عن القرار المكين الخاص بالجنين، فيقول: { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ } [الزمر: 6] بيان للظرف العام الذي يقع فيه الظرف الخاص بالجنين وهو الرحم، فالبطن ظرف كبير يحوي الرحم والأمعاء والمعدة والكبد والطحال والبنكرياس .. إلخ لذلك حدد الظرف الخاص بالجنين فقال بعدها: { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [الزمر: 6].
إذن: الظلمات الثلاث عبارة عن عوازل وأغشية تحمي الطفل، وكلها داخل الرحم، وإذا كان الإنسان المكتمل الناضج تزعجه الأصوات، وربما أتلفت طبلة أذنه مثلاً، وتؤذيه الأضواء العالية، حتى لا يَقْوى نظره على مواجهتها، فهل يطيق الجنين مثل هذه الأشياء، وهو لم تكتمل أعضاؤه بعد؟
ومعلوم أن الطفل يُولد بجلد رقيق لا يتحمل الحرارة، ويُولد ولم تكتمل فيه بعض الأعضاء والجوارح، فالجهاز العصبي مثلاً لا يكتمل إلا بعد عدة سنوات، والجهاز العقلي لا ينضج إلا بعد سِنِّ البلوغ، والعين لا تؤدي مهمتها في الرؤية إلا بعد ثلاثة أيام.
فالجنين يحتاج إلى حماية؛ لذلك جعله الله في ظرف داخل ظرف داخل ظرف، كما أنك تجعل أوراقك المهمة مثلاً في ملف، والملف في الخزينة، والخزينة في غرفة، فقوله { فِي } دليل على العناية بهذا المخلوق، وتوفير ما يناسبه من الظروف المحيطة به.
” يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ” كنت يوما هناك في الظلمات حيث لا يعتني بك أحد حتى أمك. وحده الله : رعاك / د. عبد الله بلقاسم
ورد في الأحاديث أن الله يرسل ملكًا للجنين في رحم أمه، فيَكتُب رزقه وأجله وشقاءه وسعـادته، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعـود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: "إن أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا، فيكون عقله مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فيَنفُخ فيه الروح، ويؤمَر بأربع كلمات بكَتْب رزقـه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، فو الذي لا إله غيره، إن أحدكم يعمل بعمل أهـل الجنة حتى يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيَسبِق عليـه الكتاب، فيعمَل بعمل أهل الجنة، فيدخلها" . رواه البخاري؛ انظر لفتح 11/ 477، ومسلم رقم 4326.
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكَّل الله بالرحم ملكًا، فيقول: أي ربِّ نطفةٌ، أي ربِّ عَلَقةٌ، أي ربِّ مُضغةٌ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: أي ربِّ ذكرٌ أم أنثى، أشقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل، فيُكتب كلُّ ذلك في بطن أمه) رواه البخاري، وفتح الباري 11/ 477، ومسلم رقم 2646، واللفظ البخاري.