رد: التداعي للدعاء الجماعي
التداعي للدعاء الجماعي
فهد بن يحيى العماري
• فإن قال قائل:
ورد عن جعفر بن برقان، قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز في زلزلة كانت بالشام: " أن اخرجوا يوم الاثنين من شهر كذا وكذا، ومن استطاع منكم أن يخرج صدقة فليفعل، فإن الله تعالى قال: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}(21). واستدل به ابن رجب على عدم الصلاة(22)، وقيل: إن أمره لهم بالخروج كان لأجل الصلاة والدعاء، فقد جاء في بعض الروايات: (أما بعد، فإن هذا الرجف شيء يعاقب الله تعالى به العباد، وقد كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا، فمن كان عنده شيء فليصدق)(23)، وجعله ابن أبي شيبة في أبواب الكسوف، ومنهم من جعله على أنه في العيد(24)، وجعله عبد الرزاق في باب الاستسقاء: (كتب عمر بن عبد العزيز إلى ميمون بن مهران: " إني كتبت إلى أهل الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا ليستسقوا..).
قال ابن حجر: (ثم وجدت في كتاب ابن أبى الدنيا؛ أن عمر بن عبد العزيز كتب- لما وقعت الزلازل في زمانه- إلى الأمصار: أن يجتمعوا للصلاة في وقت بعينهِ، ومن عنده شيء فليتصدق، فإن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى}، وقولوا كما قال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا...} الآية"(25) فكيف الجواب؟
فالجواب عنه من وجوهٍ أربعة:
الوجه الأول: أن أهل العلم قد اختلفوا وتباينوا في التبويب على هذا النقل، وتحديد سبب أمره لهم بالخروج والدعاء والصدقة، فمنهم من جعل ذلك في باب الكسوف، ومنهم من جعله في باب العيد أي مع الصلاة فيها، كالكسوف أو بعدها كالاستسقاء، وليس على وجه الانفراد بالدعاء دون الصلاة، ومنهم من جعله بدون صلاة، وبحصول هذا الاختلاف يضعف الاحتجاج به على إثبات مشروعية التداعي للدعاء، ولا يصح الاحتجاج بمختلف فيه، ولا يحسن في البحث والمناقشة، وهو يضعف الاستدلال به.
الوجه الثاني: أن الخروج للصلاة للزلزلة جماعة والدعاء بعدها على وجه الانفراد كالكسوف هو مذهب الحنابلة وغيرهم، وقد ورد ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، ولكنهم لم يجعلوا ذلك خروجاً واجتماعاً للدعاء فقط بدون صلاة، وإنما الإشكال في الخروج لأجل الدعاء فقط، ولم يقل أحد بالخروج للكسوف للدعاء فقط بدون صلاة مع أن أصل الصلاة للزلزلة جماعة أو على هيئة الكسوف محل خلاف بين الفقهاء رحمهم الله، وليس المقام لبسط ذلك.
الوجه الثالث: أنه لو فرضنا أن المجيز استدل بفعل عمر بن عبد العزيز على مجرد الاجتماع للدعاء فقط وأنه الوارد بدون صلاة تنزلاً معه فيقال:
إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تابعي(26)، فلا يُحتجّ بقوله في إثبات مشروعية عبادة، أو تحديد صفة لها؛ لأن التابعيّ لا يُحتجّ بقوله، وإنما يكون قوله اجتهاداً، يُعرض على الكتاب والسنة وقواعد الشرع وأدلته، وهذا مذهب جمهور أهل الأصول، وقد ردّ أهل العلم أقوالاً للتابعين في التفسير والحديث والفقه للمخالفة للنصوص الشرعية، وقواعدها، ومخالفة القياس، وإذا خالف التابعي القياس لم يعتدّ بقوله اتفاقاً، والقياس الموافق لأصول الشريعة وأدلتها هنا عدم الدعاء الجماعي والتداعي له في الصورة محل البحث، والمخالفة في مخالفة هذا القياس واقعة هنا.
والمراد بالقياس هنا عند أهل الأصول: (القواعد العامة الموافقة لأصول الشريعة) والله الموفق(27).
الوجه الرابع: أن حكاية الخلاف لا تعني الاحتجاج بالخلاف أو أنه مشروع، قال الله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ).
والقول بأن الخلاف يمنع التبديع على إطلاقه محل نظر، إذ ذلك يفضي إلى عدم وجود بدعة أصلاً.
ومثله لو جعلنا كل خلاف له اعتبار وحظ من النظر، وعدم الإنكار، ولم نعتبر في الخلاف شذوذاً وضعفاً وغلطاً وباطلاً ماذا سيكون حال الإسلام والمسلمين والعبث بالدين بحجة وجود الخلاف؟
وتعطيل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإسداء النصيحة، وهذا لا يمكن أن يقول به قائل، فهو ممتنع شرعاً وعقلاً وعادة، لأن ذلك يستلزم العصمة في أقوال الناس وأفعالهم، وعدم تخطئة أحد، ولازم ذلك عدم معاقبة أحد لمن يملك ذلك كالسلطان ونحوه، ولأنه في الجملة ما من قول إلا له تعليله وفلسفته كما يقال، وهذا كله فاسد، ويؤدي إلى الفساد حتى في حياة الناس وأنظمتهم الحياتية فكيف في دين الله؟.
ثم إن في كتب الفقهاء ما يدل على القول بالبدعية والإنكار على المخالف مع وجود الخلاف، وكتب مذاهب الأئمة الأربعة مليئة بذلك: مثل كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة سواء الكتب الفقهية أو الحديثية، واستعمل ذلك الصحابة رضي الله عنهم والتابعون، والإمام مالك والإمام أحمد، والقرافي والشاطبي وابن الحاج وابن تيمية وغيرهم، ومن ذلك صلاة الرغائب، والجهر بالبسملة في الصلاة، وصلاة الضحى، وصلاة الاستسقاء، والتثويب في الأذان، والدعاء الجماعي أعقاب الصلوات، والقنوت في الفجر، والاضطجاع بعد سنة الفجر، والقراءة على القبر، والتسبيح بالمسبحة، والجلوس للعزاء، والسجود على الحجر الأسود، وشد الرحال إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد وقع الخلاف في بدعيتها، ولكن حكموا بالبدعية، ولم يتوقفوا في الحكم بالبدعة مراعاة للخلاف وغيره.
والناس في هذا طرفان ووسط، والتوفيق والهداية من الله.
والاحتجاج بالخلاف مرفوض ولا يجوز، وهو محل إجماع، حكاه ابن حزم وابن عبدالبر وابن تيمية وغيرهم.
ولا يجوز للإنسان أن يفعل الفعل الشاذ والغلط ويقول أنا أتبع فيه قول العالم أو الشيخ فلان، وهو شيخ وعالم، لأن العصمة ليست لأحد، وذكر ابن عبد البر في تمهيده عن معمر عن أيوب قال: (قال عروة لابن عباس ألا تتقي الله ترخص في المتعة فقال ابن عباس سل أمك يا عرية فقال عروة أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا فقال ابن عباس: " والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثونا عن أبي بكر وعمر")، وإذا كان هذا في أبي بكر وعمر فكيف بمن دونهم؟
والأئمة الأربعة وغيرهم متفقون على مقولتهم المشهورة صراحة ومعنى: (إذا خالف قولي حديث رسول الله فاضربوا بقولي عرض الحائط)، وقد قال علي رضي الله عنه: (إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله).
وقال الذهبي في السير: (من التزم بتقليد إمام، فإن له مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجته في تلك المسألة أقوى، لا بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، ولا كمن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه، عمل به من أي مذهب كان، ومن تتبع رخص المذاهب، وزلات المجتهدين، قد رق دينه)(28).
وقال الشاطبي: (وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية؛ حتى صار الخلاف في المسائل معدودا في حجج الإباحة، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف؛ فإن له نظرا آخر، بل في غير ذلك، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع؛ فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها، فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفاً فيها، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة)(29).
فإن قال قائل: لم يخالف أحد الخليفة عمر بن عبد العزيز وكان في عصره بعض التابعين؟
فالجواب من أوجه:
1- أنه والٍ، وقد تصعب أو تتعذر مخالفته، كما أنه لم يستطع مخالفة الوليد بن عبد الملك في إدخال الحجرات في المسجد ويمتنع عن أمره مع أنه كان مخالفاً للوليد، وقد عارضه جماعة من أهل العلم، ومثله لم يخالف الصحابة عمر رضي الله عنه في بعض المسائل في عهده لشدته رضي الله عنه، وعدم الجرأة على مخالفته، فلما مات خولف وقالوا لم نتجرأ عليه هيبة منه رضي الله عنه، ولذلك أمثلة متعددة، وليس ذلك اتهاماً لأحد أو انتقاصاً، وعلى قاعدة المصالح والمفاسد في مثل تلك المواقف، كما فعل ابن حجر كما سيأتي.
2- أو أن حكمه يرفع الخلاف في وقته، ولا يكون حكماً عاماً.
3- أو أنها قضية عين اجتهادية، وغيرها من التأويلات.
4- ثم حكاية عدم المخالفة، تحتاج إلى استقراء ودليل، مع أنه يتعذر معرفة ذلك مع تفرق أهل العلم من التابعين وغيرهم في البلدان.
قال ابن القيم: (وقول التابعي: "إذا لم يعلم له مخالف"ليس كقول الصحابي، لأن "التابعين انتشروا انتشارًا لا ينضبط؛ لكثرتهم، وانتشرت المسائل في عصرهم، فلا يكاد يغلب على الظن عدم المخالف، لما أفتى به الواحد منهم)(30).
مسألة: قال ابن رشد: (وسئل مالك: عن الصيام قبل الاستسقاء أمما يعمل به؟ قال: ما سمعت إنكارا على من عمله، قال محمد بن رشد: الصيام قبل الاستسقاء مما لم يأت به أثر عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ولا عن الخلفاء الراشدين المهديين بعده، وإنما هو أمر أحدثه بعض الأمراء، فاستحسنه كثير من العلماء؛ فعله موسى بن نصير بإفريقية حين رجع من الأندلس، فاستحسنه الجذامي وغيره من علماء المدينة؛ وإلى هذا ذهب ابن حبيب، قال: استحب للإمام أن يأمر الناس قبل بروزه بهم إلى المصلى، أن يصبحوا صياما يومهم ذلك؛ ولو أمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام - آخرها اليوم الذي فيه يبرزون، كان أحب إلي، والمعلوم من مذهب مالك إنكار هذه الأمور المحدثات كلها، من ذلك أنه كره في سماع ابن القاسم القراءة في المسجد، والاجتماع يوم عرفة بعد العصر في المساجد للدعاء، والدعاء عند خاتمة القرآن، فيحتمل ما في هذه الرواية من قوله ما سمعت إنكارا على منعمله، أن يكون انتهى كلام مالك إلى قوله ما سمعت، أي: ما سمعت أن ذلك يفعل، ويكون إنكارا على من عمله من قول ابن القاسم. أخبر أن مالكا أراد بقوله ما سمعت - الإنكار على من عمله، فيكون ذلك مطابقا لمذهبه المعلوم، ويحتمل أن يكون الكلام كله من قول مالك، فيقتضي جواز ذلك عنده؛ إذ قد نفى أن يكون سمع الإنكار على من عمله، والأول من التأويلين أولى - والله تعالى أعلم، وبه التوفيق)(31).
تنبيه: أنه حين الحديث عن البدعة لا بد من التفريق بين الحكم على الأفعال والأقوال بعيداً عن تنزيل الحكم على الأفراد، لأنه لا تلازم بينهما، لوجود التأويل والشبهة في الجملة.
فإن قال قائل: أليس حصول شيء من النفع والخير بعد ذلك يدل على صحته؟
فالجواب: أرأيتم لو أن شخصاً ذهب إلى ساحر أو وكاهن أوولي عند قبره يطلبه الحاجات فتحقق له شيء من ذلك، فهل يعني أن فعله صحيح؟
الجواب:
1-لا، لأنه قد يكون حصول ذلك موافقة، وقد يكون اختباراً من الله، وغير ذلك.
2- أنه قد يحصل للكافر من الرزق في الدنيا ما لا يحصل للمسلم، فهل يعني أن الكافر على حق؟
الجواب: لا، لأن الرزق يشترك فيه الكافر والمسلم والعاصي والمؤمن، لأن ذلك من القدر والقضاء الكوني، والقدر الكوني يشمل الجميع، لأن الله قد يحبه، وقد لا يحبه، وعطاؤه سبحانه لا يلزم أن يكون عن رضا، وهذا أمر متقرر ومعلوم وواقع، ولا ينكره أحد.
أيها العلماء: واعلموا أنه مما لا شك فيه ولا اختلاف أن يوجه الناس للسنة المشروعة في ذلك، وهي: (كل يدعو بنفسه ويتضرع، ويعمل الصالحات، ويكثر من الاستغفار)، كما دلت على ذلك نصوص الشريعة، ورد ذلك عن السلف، وأن يبتعد المسلم عن التقرب إلى الله بما لم يشرع أو بعبادة مشكوك فيها.
وكيف يستدفع البلاء بعبادة غير مشروعة أو صحتها محتملة ومشكوك فيها؟!
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس
تنبيه: ومما يزيد المنع في تلك التجمعات للدعاء ونحوه ما يحصل فيها من المنكرات في رفع الصوت بالدعاء ونحوه والصراخ والعويل، وهذا كله مما نهى عنه الشارع.
وفي ذلك أيضاً إيذاء لمن في البيوت من العجزة والمرضى، ومن في حكمهم.
والشريعة جاءت بسد الذرائع في ما يفضي إلى المحرمات وإن كان في أصله مباح أو حسن، والحكم والفتوى تكون على الوقائع والنوازل لا الفرضيات.
فتوى ابن تيمية، والجواب عنها:
وسئل ابن تيمية رحمه الله -:
عن عوام فقراء يجتمعون في مسجد يذكرون ويقرؤون شيئاً من القرآن ثم يدعون ويكشفون رءوسهم ويبكون ويتضرعون وليس قصدهم من ذلك رياء ولا سمعة بل يفعلونه على وجه التقرب إلى الله تعالى فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، الاجتماع على القراءة والذكر والدعاء حسن مستحب إذا لم يتخذ ذلك عادة راتبة - كالاجتماعات المشروعة - ولا اقترن به بدعة منكرة وأما كشف الرأس مع ذلك فمكروه لا سيما إذا اتخذ على أنه عبادة فإنه حينئذ يكون منكرا ولا يجوز التعبد بذلك والله أعلم.
والجواب عن كلامه هذا:
1-أن ابن تيمية رحمه الله كغيره من أهل العلم، ليس معصوماً، ويناقش اجتهاده كغيره من أهل العلم وفق أصول البحث العلمي، وكل يؤخذ من قوله ويرد، ولا يعني ذلك انتقاص أهل العلم في عدالتهم وعلمهم ولا ينافي ذلك الأدب معهم وإجلالهم، وقد نوقشت في البحث العلمي وكتب الفقهاء أقوال الصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا، مع كامل الاحترام والتقدير لهم، فتأمل.
2-أن الشيخ ابن تيمية قيد ذلك بضوابط:
الأول: أن يكون اجتماعاً مشروعاً، وأما إذا كان غير مشروع فلا يجوز.
الثاني: أن يكون غير راتب أي معتاد، وأما المعتاد فلا يجوز.
الثالث: ألا يقترن به بدعة منكرة، فإن اقترن فلا يجوز.
3-قد يحمل كلامه أيضاً على العارض وليس في التداعي والتواطؤ.
4-قد يحمل كلامه على التبعية، وليس على وجه الاستقلالية، كمجلس ذكر وتدارس يختم بالدعاء، وجرى عمل أهل العلم على مثل ذلك، ويؤيده ما رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك..).
مسألة: يشرع أن يقنت الناس في بيوتهم في صلاة وترهم مع أسرهم، يوتروا جماعة ويقنتوا في بعض الليالي، وصلاة الليل جماعة في بعض الأحيان من غير مداومة تصح، لفعل ابن عباس رضي الله عنهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قام معه في صلاة الليل، وكذلك في قيام رمضان، وقرره بعض أهل العلم.
5-القنوت في صلاة الفرائض لرفع الوباء محل خلاف بين العلماء رحمهم الله: فقيل: يشرع، وهو مذهب جمهور الفقهاء ورواية عند الحنابلة، وقيل: لا يشرع، وهو وجه عند الشافعية ومذهب الحنابلة.
والأقرب: عدم فعل ذلك، لعدم وروده، مع قيام سببه وعدم المانع لفعله في عصر الصحابة والتابعين، وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أحاديث عدة في الطاعون وغيره وكيف التعامل معه؟، ولم يرد الحث على القنوت فيه وفي نحوه، فامتنع القنوت والقياس على ما ورد به النص.
• تحليل كلام ابن حجر رحمه الله:
قال ابن حجر رحمه الله في كتابه بذل الماعون في فضل الطاعون ص (328): (فليس الدعاء برفع الوباء ممنوعاً ولا مصادماً للمقدور من حيث هو أصلاً، وأما الاجتماع له -كما في الاستسقاء- فبدعةٌ حدثت في الطاعون الكبير سنة (٧٤٩ه) بدمشق، فقرأت ;جزء المنبجي; بعد إنكاره في جمع الناس في موضع، فصاروا يدعون ويصرخون صراخاً عالياً، وذلك في سنة (٧٦٤ه) لما وقع الطاعون بدمشق؛ فذكر أن ذلك حدث سنة (٧٤٩ه)، وخرج الناس إلى الصحراء، ومعظم أكابر البلد، فدعوا واستغاثوا، فعَظُم الطاعون بعد ذلك وكَثُر! وكان قبل دعائهم أخف!! قلت: ووقع هذا في زماننا، حين وقع أول الطاعون بالقاهرة في ٢٧ من شهر ربيع الآخر سنة ٨٣٣ هـ، فكان عدد من يموت بها دون الأربعين، فخرجوا إلى الصحراء في ٤ جمادى الأولى بعد أن نودي فيهم بصيام ثلاثة أيامٍ -كما في الاستسقاء-، واجتمعوا ودعوا وأقاموا ساعةً ثم رجعوا، فما انسلخ الشهر حتى صار عدد من يموت في كل يومٍ بالقاهرة فوق الألف، ثم تزايد، ووقع الاستفتاء عن ذلك، وأفتى بعض الناس بمشروعية ذلك، واستند فيه إلى العمومات، الواردة في الدعاء، واستند آخر إلى أنه وقع ذلك في زمن المؤيد، وأجدى ذلك، وحضره جمع من العلماء، فما أنكروه، وأفتى جماعة من العلماء بأن ترك ذلك أولى، لما يخشى من الفتنة به إثباتًا ونفيًا ؛ لأنه إن أجدى لم يأمن خطر الدعوى، وإن لم يُجد لم يأمن سوء الظن بالعلماء والصلحاء والدعاء..
ثم قال ابن حجر: ونحوت هذا النحو في جوابي، وأضفت إلى ذلك أنه لو كان مشروعاً، ما خفي على السلف، ثم على فقهاء الأمصار، وأتباعهم في الأعصار الماضية، فلم يبلغنا في ذلك خبرٌ ولا أثرٌ عن المحدِّثين، ولا فرعٌ مسطورٌ عن أحدٍ من الفقهاء، وألفاظ الدعاء وصفات الداعي لها خواصٌّ وأسرارٌ، يختص بها كل حادثٍ بما يليق به، والمُعتَمَدُ في ذلك الاتِّباع، ولا مَدْخَلَ للقياس في ذلك....ومثال ذلك: أن ما ورد في تخويف بالكسوفين له هيئة تغاير ما ورد في التخويف بالجدب وما ورد في النازلة كالقحط والوباء على رأي من رأى القنوت في ذلك يغاير ما ورد في الكسوف والاستسقاء فالذي يأتي بهذا لهذا ولهذا بهذا يلتحق بمن أحدث في أمر الدين ما ليس به فيرد عليه وقد نص الشافعي رحمه الله على أنه لا قنوت في الاستسقاء وهو يؤيد ما ذكرته، وهذا من الأسباب الحاملة لي على تبيض هذا الكتاب، بعد أن كنت جمعت منه أكثر الأحاديث وبعض الكلام عليها، في سنة تسع عشرة وثمان مائة، وكنت امتنعت من الخروج في هذه المرة الأخيرة، ولا حضرت صحبة الملك المؤيد في تلك المرة، مع اختصاصي به، لهذا المعنى الذي أشرت إليه. وقد وقع ما تخيلته من الأمرين معًا في المرة الأولى، وفي المرة الثانية، وقيل ما قيل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يقول ابن حجر: ثم وجدت في كتاب ابن أبى الدنيا ؛ أن عمر بن عبد العزيز كتب-لما وقعت الزلازل في زمانه- إلى الأمصار: أن يجتمعوا للصلاة في وقت بعينهِ، ومن عنده شيء فليتصدق، فإن الله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ من تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} وقولوا كما قال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا...} الآية (6) فهذا الذى بلغنا عن السلف، ولم يبلغنا قط في زمن من الأزمنة، في عهد الصحابة والتابعين، أنهم اجتمعوا لذلك اجتماعهم للاستسقاء، إلا في سنة تسع وأربعين، فاجتمعوا ودعوا ورجعوا، فازداد الأمر شدة، ولم يحصل من قام فيذلك على المقصود، فاتفق أن الذي وقع بعد خمس وثمانين سنة نظيره كِفَّةً بِكِفَّة. تكملة: تقدمت قصة عمر بن عبد العزيز، في أمره بالتصدق والدعاء بقوله تعالى: {ربَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا..} الآية، وهذا أرفع ما وقفت عليه في ذلك وهو وإن كان ورد في الزِّلْزِلة، فلا يُمْتنع أن يُفْعل مثله في الطاعون، والجامع وقوع التخويف بهما).
اختلف القارئون لكلام ابن حجر في الاجتماع لأجل الدعاء طلباً لرفع الوباء على عدة اتجاهات:
الاتجاه الأول: ابن حجر يمنع ذلك، ويجعله بدعة من البدع الممنوعة، وكلامه صريح في ذلك، ومناقشته للمجيز واضحة، وأنه لا مدخل للقياس في ذلك.
الاتجاه الثاني: ابن حجر يجيز ذلك، استدلالاً، بفعل عمر بن عبد العزيز وقياساً على الاستسقاء بجامع التخويف.
الاتجاه الثالث: حمل كلام ابن حجر في البدعة على أنها البدعة الحسنة، ولعلهم جمعوا بين الأمرين.
النتيجة: أن ابن حجر رحمه الله قرر في البداية المنع صراحة وصدع بذلك ثم ظاهر كلامه الرجوع، وإن كان لم يصرح به صراحة ولم يصرح بنقض الأول، ولكنه استحسن القياس ووجد ما يعضده من فعل عمر بن عبد العزيز، وكأنه لما وقف على فعل الخليفة عمر بن عبد العزيز صعب عليه مخالفة هذا الإمام، وهدأت نبرة الصوت كما يقال، ولذا لم يطل الكلام في تقرير الجواز، وأنهى المسألة بدون بسط، بخلاف تقرير البدعة فقد أطال فيها ورد أدلة المجيز، وهذا أحياناً يكون محيراً في كلام بعض أهل العلم، فلا يستطيع أن يجزم القارئ بم استقر عليه كلام العالم خاصة إذا احتفت به بعض القرائن، أو كان كلامه في أكثر من موضع، ومتفاوت في الإطناب والإيجاز حسب المواضع والمناسبات.
وبالتالي: فإنه يقال: إما أن يكون له رأيان في المسألة، ولا يمكن الجزم بأحدهما، وإما أن رجوعه محتمل، وهو فيه نوع من الظهور، ولكنه غير صريح، أو يقدم الصريح على المحتمل أو يحمل المحتمل على الصريح، والله أعلم.
مسألة: حكم رفع القرآن من خلال مكبرات المساجد في هذا الوباء
فيه تفصيل:
1-إن قصد بذلك رفع الوباء فحكمه حكم ما تقدم من عدم المشروعية، ولم يعهد مثله في عمل السلف.
2-إن قصد به الاستماع للقرآن فالأولى تركه، لأن الناس غالباً لا تستمع، ولأن في ذلك إيذاء للمرضى والنائمين ومن في حكمهم.
مسألة: رفع الأذان ليس لأجل دخول وقت الصلاة، وإنما لأجل رفع الوباء عمل غير مشروع، وهو من البدعة في الدين.
مسألة: التكبير لرفع الوباء قياساً على التكبير على الحريق؟
1-أن ما روي في ذلك عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الحريق فكبروا؛ فإن التكبير يطفئه» فرواه الطبراني في الدعاء وابن السني في عمل اليوم والليلة، فهو مختلف في صحته(32).
2-إن صح فهل يعمل القياس؟
الجواب:
أولاً: هل هذا مما يدخله القياس؟
الأقرب: أن الأمر تعبدي غير معقول المعنى.
ثانياً: إن قيل تنزلاً يدخله القياس، فما هي العلة ونوعها؟وهل هي قاصرة أو متعدية؟ وهل هي موجودة في الوباء؟ وغير ذلك مما تقدم ذكره حتى تكتمل أركان القياس.
وفي الختام: أنبه إلى الحذر من الاستهزاء والسخرية، فإن ذلك يزيد في البلاء، وتتعدد أنواعه وإن رفع الله بعضها.
قال الله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُه ُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (القلم 45).
ولنتواصى جميعاً على إنكار ذلك، وكراهته بقلوبنا.
أخيراً: أوصي نفسي والمسلمين بالرجوع إلى الله أولاً، وكثرة الاستغفار، والإقبال على الله، وكل منا يحاسب نفسه، مع الالتزام بما تقرره الحكومات من أنظمة احترازية، وما تقرره الهيئات الشرعية، وعدم الافتيات على أهل الاختصاص في ذلك.
ونسأل الله أن يكشف الغمة عن المسلمين، وأن ينصر عباده المؤمنين والمظلومين، وأن يعيد الأمة إلى دينها آيبة تائبة منيبة.
___________________
(1) رواه ابن ماجه (4036) والحاكم وصححه (8439) وحسنه ابن حجر في فتحه (13/84)
(2) رواه أحمد في مسنده (7899)
(3) رواه أحمد في مسنده (13298) وأبو يعلى في مسنده (3715)
(4) مسند الروياني (593)
(5) رواه الطبراني في الكبير (125)
(6) الاعتصام (1/367)
(7) البدعة الإضافية موقع الدرر السنية.
(8) المصدر السابق.
(9) رواه البيهقي في السنن الكبرى (191)
(10) الاعتصام (1/49)
(11) الإحكام للآمدي (4/156) السلسلة الضعيفة (2/19)
(12) البدعة الإضافية، موقع الدرر السنية.
(13) مجموع الفتاوى (27/152)
(14) بذل الماعون في فضل الطاعون (219) فتاوى ابن حجر (4/27) ما رواه الواعون في أخبار الطاعون للسيوطي (167)
(15) غمز عيون البصائر (4/ 136)
(16) الاعتصام (1/468)
(17) انظر بذل الماعون في فضل الطاعون بتصرف وزيادة لا تغير المعنى (313)
(18) (2/103)
(19) الإحكام (1/200)
(20) حاشية ابن العطار (1/363)
(21) مصنف ابن أبي شيبة (8328).
(22) فتح الباري (9/251)
(23) العقوبات لابن أبي الدنيا (23).
(24) السنن الكبرى للبيهقي (7719)
(25) بذل الماعون في فضل الطاعون (313)
(26) سير أعلام النبلاء (5/115)
(27) كشف الأسرار للبخاري (3/225) والتقرير والتحبير (2/313) المسودة (339) المسائل الأصولية المتعلقة بفعل التابعي.
(28) 1/53
(29) الموافقات (5/93).
(30) إعلام الموقعين (1/174)
(31) البيان والتحصيل (2/324)
(32) قال ابن حجر مرسل حسن في المطالب (14/134) وضعفه ابن رجب في الفتح (5/217) والألباني في السلسلة (6/110)
رد: التداعي للدعاء الجماعي
انظر ماذا حدث للمسلمين في دمشق والقاهرة عندما قرروا أن يتداعوا للدعاء الجماعي*
-ومثله التداعي للصيام أو السهرات التعبدية من قيام الليل وغيره…-
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله:
(فليس الدعاء برفع الوباء ممنوعاً ولا مصادماً للمقدور من حيث هو أصلاً. *وأما الاجتماع له* -كما في الاستسقاء- *فبدعةٌ!* حدثت في الطاعون الكبير سنة (٧٤٩) بدمشق، فقرأت في "جزء المنبجي" بعد إنكاره في جمع الناس في موضع، فصاروا يدعون ويصرخون صراخاً عالياً، وذلك في سنة (٧٦٤ ه ) لما وقع الطاعون بدمشق؛ فذكر أن ذلك حدث سنة (٤٩)، وخرج الناس إلى الصحراء، ومعظم أكابر البلد، فدعوا واستغاثوا، *فعَظُم الطاعون بعد ذلك، وكثر! وكان قبل دعائهم أخف!!*
قلت: ووقع هذا في زماننا، حين وقع أول الطاعون بالقاهرة في ٢٧ من شهر ربيع الآخر سنة ٨٣٣ ه، *فكان عدد من يموت بها دون الأربعين، فخرجوا إلى الصحراء في ٤ جمادى الأولى بعد أن نودي فيهم بصيام ثلاثة أيامٍ -كما في الاستسقاء-، واجتمعوا ودعوا وأقاموا ساعةً ثم رجعوا. فما انسلخ الشهر حتى صار عدد من يموت في كل يومٍ بالقاهرة فوق الألف، ثم تزايد!)* إلى أن قال: (أنه لو كان مشروعاً، ما خفي على السلف، ثم على فقهاء الأمصار، وأتباعهم في الأعصار الماضية! فلم يبلغنا في ذلك خبرٌ ولا أثرٌ عن المحدِّثين، ولا فرعٌ مسطورٌ عن أحدٍ من الفقهاء. وألفاظ الدعاء وصفات الداعي لها خواصٌّ وأسرارٌ، يختص بها كل حادثٍ بما يليق به، *والمُعتَمَدُ في ذلك الاتِّباع! ولا مَدْخَلَ للقياس في ذلك*)
من كتاب *"حكم التداعي لفعل الطاعات في النوازل والشدائد والملمات"* (ص ١٧-٢١) لشيخنا مشهور بن حسن آل سلمان حفظه الله.
رد: التداعي للدعاء الجماعي