تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : بين الفصاحة والبلاغة



أبو محمد بن عيسى آل مبارك
2012-03-28, 11:19 PM
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله خالق الألسن واللغات، واضع الألفاظ للمعاني بحسب ما اقتضته حِكمُه البالغات، الذي علم آدم الأسماء كُلَّها، وأظهر بذلك شرف اللغة وفضلها، والصلاة والسلام على نبينا محمد أفصح الخلق لسانا، وأعربهم بيانا، وعلى آله وصحبه أكرِم بهم أنصارا وأعوانا () .
وبعد : فكثيرا ما تلتبس البلاغة بالفصاحة ، حتى يظن الظان أنهما وجهان لعملة واحدة ، بل قد قال الوزير ابن الأثير - وهو بصدد ذكر الفروق بينهما - : «هذا باب متعذر على الوالج، ومسلك متوعر على الناهج، ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه، ولم أجد من ذلك ما يُعوَّل عليه إلا القليل» () .
ففتح هذا الكلام عندي شهية البحث ، وأحببت أن أُدلي فيه بدلوي مع الدلاء ، بغية الاستفادة مما كتب في هذا المقام ، وإطلاع الإخوة في المنتدى على ما وقفت عليه إثراء للموضوع وتعميما للفائدة ؛ خاصة بعد أن وقفت على عبارة لفخر الدين الرازي يصرح فيها بأن : «أكثر البلغاء لا يكادون يفرقون بين البلاغة والفصاحة، بل يستعملونهما استعمال الشيئين المترادفين على معنى واحدة في تسوية الحكم بينهما» () .
وبحثي هذا مقسم إلى فصلين وخاتمة ؛ أما الفصلان فأحدهما : معقود للفصاحة، والآخر للبلاغة . تطرقت في الأول منهما إلى تعريف الفصاحة، وبيان أركانها، وشروطها ، ثم عرَّجت على ذكر الفصيح من الكلمات والمتكلمين، وبينت أن الألفاظ الفصيحة ليست على درجة واحدة . وأما الفصل الثاني ؛ فقد عرَّفت فيه البلاغة، وذكرت أركانها ، وعلومها، ونماذج من البلاغة والفصاحة . وفي الخاتمة أجملت ما توصلت إليه في في بحثي هذا .
() راجع : «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص7) ، السيوطي .

() «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» (ج1ص80) ، ابن الأثير .

() راجع : «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص96) للأبشيهي ، و«خزانة الأدب» (ج2ص414)، للحموي .

أبو محمد بن عيسى آل مبارك
2012-03-28, 11:29 PM
الفصل الأول : الفصاحة

تعريف الفصاحة :
01/لغة : قال الراغب في «مفرداته» : الفصح خلوص الشيء مما يشوبه، وأصله في اللبن، يقال فصح اللبن وأفصح فهو فصيح ومُفصَح إذا تعرَّى من الرَّغوة . قال نَضْلَةُ السُّلَـميُّ من الوافر :
.............................. ......... وتـحــت الـرَّغـوَة اللَّبــــن الفصيح
وأَفْصَحَ الصُّبحُ: بدا ضوءُه واستبان. وكلُّ ما وَضَحَ، فقد أَفْصَحَ. وكلُّ واضح: مُفْصِحٌ. والفِصْحُ، بالكسر: فِطْرُ النصارَى، وهو عِيدٌ لهم. وأَفْصَحُوا: جاء فِصْحُهم، وهو إِذا أَفْطَرُوا وأَكلوا اللحم. ويقال كل ناطق فصيح ومالا ينطق فهو أعجم، وفَصُحَ العجمي جادت لغته حتى لا يلحن وتَفَصَّح في كلامه وتَفَاصحَ تكلف الفصاحة وأفْصَحَ العجمي إذا تكلم بالعربية .
والفَصِيح في اللغة : المُنْطَلِق اللّسَان في القول , والذي يَعْرِف جَيِّد الكلام من رَدِيئه : يقال : رجُلٌ فَصِيحٌ , ولسانٌ فَصِيحٌ , وكلامٌ فصيحٌ , وقد فَصُح فَصاحَة , وأفْصَح عن الشيء إفْصَاحا" إذا بَيَّنَه وكَشَفه () .
02/اصطلاحا : قال الإمام فخر الدين الرازي : «الفصاحة خلوص الكلام من التعقيد» () . وقال عبد القاهر الجرجاني : «وصف الكلام بحسن الدلالة وتمامها فيما له كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين وآنق، وأعجب وأحق بأن تستولي على هوى النفس، وتنال الحظ الأوفر من ميل القلوب، وأولى بأن تطلق لسان الحامد، وتطيل رُغم الحاسد، ولا جهة لاستعمال هذه الخصال غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه، وأتم له وأحرى بأن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية» () .
أقسام الفصاحة :
* الكلام عليه في أمرين أحدهما بالنسبة إلى اللفظ - ويدخل تحته المفرد والمركب -، والثاني بالنسبة إلى المتكلم به، والأول أخص من الثاني ؛ لأن العربي الفصيح قد يتكلم بلفظة لا تعد فصيحة () .
01/فصاحة اللفظ :
أ/فصاحة الكلمة (المفرد) : رأى المتأخرون من أرباب علوم البلاغة أن كل أحد لا يمكنه الاطلاع على ذلك، لتقادم العهد بزمان العرب، فحرَّروا لذلك ضابطا يعرف به ما أكثرت العرب من استعماله من غيره؛ فقالوا : الفصاحة في المفرد : خلوصه من تنافر الحروف، ومن الغرابة، ومن مخالفة القياس اللغوي () .
1/تنافر الحروف : ويكون إما لتباعد الحروف جدا أو لتقاربها فإنها كالطفرة والمشي في القيد كما قال الخليل ، وحيث دار الحال بين الحروف المتباعدة والمتقاربة فالمتباعدة أخف ، لأن الحروف إذا تقاربت مخارجها كانت أثقل على اللسان، وإذا تباعدت حسن التأليف . فالتنافر منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها ، كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته ، فقال : تركتها ترعى الهُعخع .
ومنه ما هو دون ذلك كلفظ مستشزر في قول امرؤ القيس في قصيدته اللامية التي هي من جملة القصائد السبع الطوال :
غـدائـره مـسـتـشـزرات إلـى الـعـلا .............................. ........
فلفظة مستشزرات - بمعنى : مضفورة على غير استواء - مما يقبُح استعمالها لأنها تثقل على اللسان ويشق النطق بها ، وسببه أن توسط الشين وهي مهموسة رخوة بين التاء وهي مهموسة شديدة والزاي وهي مجهورة ، فثقُل النطق بها، وإلا فلو جعلنا عوضا من الزاي راء ومن الراء فاء ؛ فقلنا : مستشرف ، لزال ذلك الثقل () .
قال ابن دُرَيد : «واعلم أن أكثر الحروف استعمالا عند العرب الواو والياء والهمزة، وأقل ما يستعملون على ألسنتهم لثقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الخاء ثم العين ثم النون ثم اللام ثم الراء ثم الباء ثم الميم، فأخف هذه الحروف كلها ما استعملته العرب في أصول أبنيتهم من الزوائد لاختلاف المعنى» () .
2/والغرابة ؛ والمراد به قلة الاستعمال ؛ وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا وقسموا، فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه ونفووا القبيح منها فلم يستعملوه، فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها، واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها، فالفصيح إذا من الألفاظ هو الحسن () .
والغرابة ؛ إما أن تكون في اللفظ، أو المعنى .
فالأول : بأن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها، فيُحتاج في معرفتها إلى من ينقر عنها في كتب اللغة المبسوطة ، والمعتبر ما تستغربه العرب العرباء لا ما هو غريب بالنسبة إلى استعمال الناس، وإلا لكان جميع ما في كتب الغريب غير فصيح () .
ومن هذا الضَّرب ما روي عن عيسى بن عمر النحوي : أنه سقط عن حمار فاجتمع عليه الناس؛ فقال : ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة ، افرنقعوا عني ! أي : اجتمعتم تنحوا .
وقد ناقش ابن دُرستويه هذا الشرط ؛ فقال في «شرح الفصيح» : «وليست الفصاحة في كثرة الاستعمال ولا قلته، وإنما هاتان لغتان مستويتان في القياس والعلة، وإن كان ما كثُر استعماله أعرف وآنس لطول العادة له .
...وقد يلهج العرب الفصحاء بالكلمة الشاذة عن القياس، البعيدة من الصواب حتى لا يتكلموا بغيرها، ويدعوا المنقاس المطرد المختار، ثم لا يجب لذلك أن يُقال هذا أفصح من المتروك؛ من ذلك قول عامة العرب : إيش صنعت، يريدون أيَّ شيء .
وإنما الفصيح ما أفصح عن المعنى واستقام لفظه على القياس لا ما كَثُر استعماله، فليس كل ما ترك الفصحاء استعماله يُخطَّأ، فقد يتركون استعمال الفصيح لاستغنائهم بفصيح آخر أو لعلة غير ذلك» () .
والثاني : أن يخرج لها وجه بعيد ؛ كما في قول الراجز يصف أنف فرس :
.............................. .... وفاحِـمًــا ومَـرسِـنًــــا () مُـسَـرَّجـا
فإنه لم يعرف ما أراد بقوله : مسرجا حتى اختلف في تخريجه؛ فقيل : هو من قولهم للسيوف ريجية منسوبة إلى قَين يقال له سُريج يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السريجي. وقيل : من السراج؛ يريد أنه في البريق كالسراج، وهذا يقرب من قولهم سرِج وجهه - بكسر الراء - أي حَسُن ، وسرَّج الله وجهه، أي : بهَّجه وحسَّنه () .
3/مخالفة القياس : كما في قول رُؤبة بن العجَّاج :
الـحَـمـدُ لله الـعَلِـيِّ الأَجــلَــلِ .............................. ....
فإن القياس الأجل بالإدغام () .
وقد نوقش هذا الشرط من وجهين :
أحدهما : أنه قد وردت في القرآن ألفاظ خلاف القياس ، كما في سرر فإن قياس سرير أن يجمع على أفعلة .
والثاني : أن مقتضى ما مثلوا به أن كل ضرورة ارتكبها شاعر ، فقد أخرجت الكلمة عن الفصاحة .
قال بهاء الدين السبكي في «عروس الأفراح»: «والتحقيق: أن المخل هو قلة الاستعمال وحدها، فرجعت الغرابة ومخالفة القياس إلى اعتبار قلة الاستعمال والتنافر كذلك، وهذا كله تقرير لكون مدار الفصاحة على كثرة الاستعمال وعدمها على قلته» () .
وقوله هذا مناقض لقول ابن درستويه، ولعلّه الأصوب؛ فإن علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها ؛ فيكون اللفظ على ألسنتهم أدوَر ، واستعمالهم له أكثَر () . وفي «طبقات النحويين» لأبي بكر الزبيدي قال ابن نوفل : «سمعت أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء : أخبرني عما وضعت مما سميت عربية أيدخل فيه كلام العرب كله ؟ فقال : لا! فقلت : كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم حجة ؟ فقال : أحمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات» . والمفهوم من كلام ثعلب أن مدار الفصاحة في الكلمة على كثرة استعمال العرب لها فإنه قال في أول «فصيحه» : «هذا كتاب اختيار الفصيح مما يجري في كلام الناس وكتبهم فمنه ما فيه لغة واحدة والناس على خلافها فأخبرنا بصواب ذلك ومنه ما فيه لغتان وثلاث وأكثر من ذلك فاخترنا أفصحهن ومنه ما فيه لغتان كثرنا واستعملتا فلم تكن إحداهما أكثر من الأخرى فأخبرنا بهما» . قال السيوطي : «ولا شك في أن ذلك هو مدار الفصاحة» () .
* وزاد بعضهم في شروط الفصاحة أمورا ؛ أهمها :
1/خلوصها من الكراهة في السمع ؛ بأن تمج الكلمة ويتبرأ من سماعها كما يتبرأ من سماع الأصوات المنكرة فإن اللفظ من قبيل الأصوات، منها ما تستلذ النفس بسماعه ومنها ما تكره سماعه كلفظ الجِرِشَّى - وهي : النفس - في قول أبي الطيب من المتقارب :
.............................. .... كريم الجرشى شريف النسب () .
قيل لابن عباد : ما أحسن السجع ؟ فقال : ما خف على السمع . فقيل : مثل ماذا؟ فقال : مثل هذا () .
2/السلامة من الابتذال : وهو لاحق من اللواحق المتعلقة بالاستعمال في زمان دون زمان وصقع دون صقع ، وهو إما لتغيير العامة لها إلى غير أصل الوضع كالصروم للقطع جعلته العامة للمحل المخصوص، وإما لسخافتها في أصل الوضع كاللقالق ولهذا عدل في التنزيل إلى قوله فأوقد لي يا هامان على الطين لسخافة لفظ الطوب وما رادفه . وكتب إبراهيم بن المهدي : إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة، فإن ذلك العناء الأكبر، وعليك بما سهل، مع تجنبك الألفاظ السفل () .
3/السلامة من الاستثقال : قال ابن النفيس في كتاب «الطريق إلى الفصاحة» : «قد تنقل الكلمة من صيغة لأخرى أو من وزن إلى آخر أو من مضي إلى استقبال وبالعكس فتحسن بعد أن كانت قبيحة وبالعكس فمن ذلك لفظ اللب بمعنى العقل يقبح مفردا ولا يقبح مجموعا كقوله تعالى لأولي الألباب، وكذلك الأرجاء تحسن مجموعة كقوله تعالى والملك على أرجائها ، وكذلك الأصواف تحسن مجموعة كقوله تعالى ومن أصوافها ، فهذه الألفاظ ومثيلاتها لا تحسن مفردة إلا مضافة ومما يحسن مفردا ويقبح مجموعا المصادر كلها وكذلك بقعة وبقاع وإنما يحسن جمعها مضافا مثل بقاع الأرض» () .
4/أن تكون الكلمة متوسطة بين قلة الحروف وكثرتها والمتوسطة ثلاثة أحرف؛ فإن الثلاثي أحسن من الثنائي والأحادي ومن الرباعي والخماسي، فإن كانت الكلمة على حرف واحد مثل ق فعل أمر في الوصل قبحت وإن كانت على حرفين لم تقبح إلا أن يليها مثلها () .
ب/فصاحة الكلام (المركب) : الكلام الفصيح هو الظاهر البين ؛ ولا يكون كذلك إلا إذا كان مألوف الاستعمال ، وإنما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مُدرَكٌ بالسمع، والذي يدرك بالسمع إنما هو اللفظ، لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف؛ فما استلذه السمع منه فهو الحسن، وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة، والقبيح غير موصوف بفصاحة لأنه ضدها لمكان قبحه، كالمزنة والديمة ولفظة البعاق () .
وثمة شرائط إذا وُجدت وصف الكلام بالفصاحة ؛ وهي أن يخلص من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات، والتعقيد مع فصاحتها .
1/فالضعف : بأن تكون الكلمات غير متمكنة في مواضعها قلقة غير متَّسقة ، والمعيب من ذلك كقول القائل :
لَـو كُـنتَ كَـتَـمـتَ الـحُبَّ كُنتَ كَـمَـا كُـنَّـا وَكُـنتَ وَلَـكـن ذَاكَ لَـم يَـكُــــن
وكقول بعضهم أيضا :
وَلا الضِّـعـفُ حتى يَبلُغَ الضِّعفُ ضِعفَهُ وَلا ضِعفُ ضِعفِ الضِّعفِ بَل مِثلُهُ أَلفُ
2/والتنافر ؛ منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها متتابعة كما في البيت الذي أنشده الجاحظ :
وَقَـبــرُ حَــربٍ بمكَـــانِ قَــــفـــر وَلَـيـسَ قُــربَ قَــبـــرِ حَـــربٍ قَبـــر
قيل : إن هذا البيت لا يمكن إنشاده في الغالب عشر مرات متوالية إلا ويغلَط المُنشِد فيه، لأن القرب في المخارج يُحدِث ثِقلا في النُّطق به () .
3/ والتعقيد : أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد به ، وله سببان :
أحدهما : ما يرجع إلى اللفظ؛ فيختل نظام الكلام ولا يدري السامع كيف يتوصل منه إلى معناه ، كقول الفرزدق :
وَمَـا مِـثـلُـهُ فِي الـنَّــاسِ إلاَّ مُـمَـلَّـكًـا أَبُــو أُمِّـهِ حَـيٌّ أَبُـــوهُ يُـقَـــارِبُــ ـــــه
كان حقه أن يقول : وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه ؛ فإنه يمدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان فقال : وما مثله أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا يعني هشاما أبو أمه أي أبو أم هشام أبوه أي أبو الممدوح فالضمير في أمه للملك وفي أبوه للممدوح . فهو كما تراه في غاية التعقيد .
والثاني : ما يرجع إلى المعنى؛ وهو أن لا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهرا، كقول العباس بن الأحنف :
سَـأَطلُبُ بَـعـدَ الـدَّارِ عَـنـكُـم لِــتَقرَبُوا وَتَـسـكُـبُ عَـيـنَـايَ الـدُّمُـوعَ لِـتَجمَدَا
كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن ، ثم طرد ذلك في نقيضه فأراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر وأخطأ لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها فلا يكون كناية عن المسرة وإنما يكون كناية عن البخل ، ولو كان الجمود يصلح أن يراد به عدم البكاء في حال المسرة لجاز أن يدعي به للرجل فيقال لا زالت عينك جامدة كما يقال لا أبكى الله عينك وذلك مما لا يشك في بطلانه .
** فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه من الخلل، فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك، إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة لفظية أو معنوية . والكلام الخالي عن التعقيد المعنوي : ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني الذي هو المراد به ظاهرا، حتى يخيل إلى السامع أنه فهمه من سياق اللفظ () .
02/فصاحة اللافظ (المتكلم) : وهي المَلكَة - أي : الهيئة القارة الراسخة في المتكلم - التي بها يقتدر على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح () .
الفصيح من الكلمات :
** رُتب الفصيح متفاوتة، ففيها فصيح وأفصح؛ ومن أمثلة ذلك : البر أفصح من قولهم القمح والحنطة، وأنصبه المرض أعلى من نصبه، الحبر العالم وهو بالكسر أصح لأنه يجمع على أفعال والفعل يجمع على فعول . قال ابن خالويه في «شرح الفصيح» : «قد أجمع الناس جميعا : أن اللغة إذا وردت في القرآن، فهي أفصح مما في غير القرآن لا خلاف في ذلك» () . وقال الراغب الأصفهاني في خطبة «المفردات» : «فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحِكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم، وما عداها وما عدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها، هو بالإضافة إليها كالقشور والنَّوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحُثالة والتِّبن بالنسبة إلى لبوب الحنطة» () .


الفصيح من العرب :
01/أفصح الأفراد : نبي الله محمد (ص) ، فهو أفصح الخلق على الإطلاق ، الذي أنزل عليه القرآن بلسان عربي مبين، وقال الخطابي: «اعلم أن الله لما وضع رسوله موضع البلاغ من وحيه، ونصبه منصب البيان لدينه؛ اختار له من اللغات أعربَها، ومن الألسن أفصحها وأبيَنَها، ثم أمَدَّه بجوامع الكلم . ومن فصاحته أنه تكلم بألفاظ اقتضبها لم تسمع من العرب قبله، ولم توجد في متقدم كلامها ؛ كقوله : «مات حتف أنفه» و«حمِي الوَطيس» و«لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين» في ألفاظ عديدة تجري مجرى الأمثال» () .
02/أفصح القبائل: قريش؛ فقد أجمع العلماء بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم، أن قريشا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة . وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدا، فجعل قريشا قُطَّان حَرَمِه ووُلاة بيته، فكانت وفود العرب من حُجَّاجها وغيرهم يَفِدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش، وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورِقَّة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تَخيَّروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طُبعوا عليها فصاروا بذلك أفصح العرب .
قال أبو نصر الفارابي في «الألفاظ والحروف» : «كانت قريش أجود العرب انتقادا للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعا، وأبيَنها إبانة عما في النفس. والذين عنهم نُقلت اللغة العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أُخذ، ومُعظَمُه وعليهم اتُكِّل في الغريب، وفي الإعراب والتصريف، ثم هُذَيل وبعض كِنانة وبعض الطائيين ولم يُؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم» () .
المصنفات في الفصيح :
* عني العلماء بالألفاظ الفصيحة ، وجمعوا في ذلك كتبا ، وأشهر مصنف في هذا الباب كتاب الفصيح لثعلب، التزم فيه الفصيح والأفصح مما يجري في كلام الناس وكتبهم ، وقد عكف الناس عليه قديما وحديثا واعتنوا به فشرحه ابن درستويه وابن خالويه والمرزوقي وأبو بكر بن حيان وأبو محمد بن السيد البطليوسي وأبو عبد الله بن هشام اللخمي وأبو إسحاق إبراهيم بن علي الفهري وذيل عليه الموفق عبد اللطيف البغدادي بذيل يقاربه في الحجم ونظمه ومع ذلك ففيه مواضع تعقبها الحذاق عليه () .
() راجع : «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص146) للسيوطي ، و«النهاية في غريب الحديث» (ج3ص450) لابن الأثير ، و«لسان العرب» (ج2ص544) لابن منظور .

() راجع : «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص96) للأبشيهي، و«خزانة الأدب» (ج2ص414) للحموي.

() «دلائل الإعجاز» (ج1ص52) ، الجرجاني .

() راجع : «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص146) ، السيوطي .

() «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص153) ، السيوطي .

() راجع : «المثل السائر» (ج1ص192) لابن الأثير ، و«المزهر» (ج1ص147) للسيوطي .

() راجع: «الإيضاح في علوم البلاغة» (ج1ص8) للقزويني، و«المزهر» (ج1ص153-156) للسيوطي.

() «المثل السائر» (ج1ص80) ، ابن الأثير .

() راجع : «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص149) ، السيوطي .

() راجع : «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص165) ، السيوطي .

() موضع الرَّسَن - وهو الزمام - من أنف الفرس . «لسان العرب» (ج13ص180) ، ابن منظور .

() راجع : «الإيضاح» (ج1ص8) للقزويني، و«المزهر» (ج1ص147) ، السيوطي.

() «الإيضاح في علوم البلاغة» (ج1ص8) ، القزويني .

() «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص150) ، السيوطي .

() راجع : «الإيضاح» (ج1ص9) للقزويني ، و«المزهر» (ج1ص149) للسيوطي .

() «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص146) ، السيوطي .

() راجع : «الإيضاح في علوم البلاغة» (ج1ص8) ، القزويني .

() «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص165) ، السيوطي .

() «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص151-152) ، السيوطي .

() راجع : «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص156-158) ، السيوطي .

() «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص159) ، السيوطي .

() «المثل السائر» (ج1ص80) لابن الأثير ، و«المستطرف» (ج1ص97) ، الأبشيهي .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص97) ، الأبشيهي .

() راجع : «الإيضاح في علوم البلاغة» (ج1ص10-11) ، القزويني .

() راجع : «الإيضاح في علوم البلاغة» (ج1ص12-13) ، القزويني .

() «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص168) ، السيوطي .

() «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص160) ، السيوطي .

() «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص165) ، السيوطي .

() راجع : «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص166-168) ، السيوطي .

() راجع : «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص160) ، السيوطي .

أبو محمد بن عيسى آل مبارك
2012-03-28, 11:35 PM
الفصل الثاني : البلاغة

تعريف البلاغة :
01/لغة : من الوصول والانتهاء ؛ يقال بلغت المكان إذا انتهيت إليه، ومبلغ الشيء منتهاه ، بلغت المكان إذا أشرفت عليه وإن لم تدخله قال الله تعالى (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) وقال بعض المفسرين في قوله تعالى (أم لكم أيمان علينا بالغة) أي وثيقة كأنها قد بلغت النهاية () . وسمي الكلام بليغا من ذلك؛ أي : أنه قد بلغ الأوصاف اللفظية والمعنوية .
02/اصطلاحا : أن يبلغ المتكلم بعبارته كُنه مراده مع إيجاز بلا إخلال ، وإطالة من غير إملال () . وعرفها السكاكي بأنها : بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها () . وعرفها بعضهم : بأنها وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الاشارة، وقيل : هي تصحيح الاقسام واختيار الكلام () . وعرفها بعض الوزراء بأنها : ما فهمته العامة ورضيت به الخاصة () .
أقسام البلاغة :
* للبلاغة طرفان ؛ أعلى إليه تنتهي وهو حد الإعجاز وما يقرب منه، وأسفل منه تبتدىء، وهو ما إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات، وإن كان صحيح الإعراب، وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة ؛ فركنا البلاغة الرئيسان الكلام والمتكلم () .
01/بلاغة الكلام : هي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته . قال الثعالبي : الكلام البليغ ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا () . فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى عند التركيب () .
* ومقتضى الحال مختلف، فإن مقامات الكلام متفاوتة؛ فمقام التنكير يُباين مقام التَّعريف، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام إلى غير ذلك .
02/بلاغة المتكلم : فهي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ ، قليل اللفظ كثير المعاني؛ فإن القول على حسب همة القائل يقع، والسيف بقدر عضد الضارب يقطع () . قال الثعالبي : البليغ من يحول الكلام على حسب الأمالي، ويخيط الألفاظ على قدر المعاني () . وقيل : إن معاوية سأل عمرو بن العاص من أبلغ الناس ؟ فقال : أقلهم لفظا وأسهلهم معنى وأحسنهم بديهة () .
أركان البلاغة :
* البلاغة في الكلام مرجعها إلى ثلاثة أشياء :
01/الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، وهو المصطلح عليه : بعلم المعاني . وعرَّفه السكاكي بأنه : تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره () .
02/تمييز الكلام الفصيح من غيره ، وهو المصطلح عليه : بعلم البيان . وهو كما قال الجاحظ : اسم جامع لكل ما كشف لك عن المعنى . قال الله تعالى (الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان) وقال نبيه × : أن من البيان لسحرا . وقال ابن المعتز : البيان ترجمان القلوب وصيقل العقول () . ومدار علم البيان على حاكم الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم () .
03/ما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته ، وهو علم البديع () .
كيف تُكتَسب البلاغة :
* من أحب أن يكون كاتبا أو كان عنده طبع مجيب ؛ فليحفظ كتاب الله تعالى ، وليضم إليه ما قدر عليه من حديث رسوله × ، ثم ليُعن بحفظ الدواوين ذوات العدد ولا يقنع بالقليل من ذلك ؛ فإن العرب الذين هم أهل الفصاحة أودعوا أشعارهم كل المعاني كما قال الله تعالى (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) . فمن أكثر من حفظ الشعر وفهم معانيه، غزرت لديه المواد وترادفت عليه المعاني، وتواردت على فكره، فيسهل عليه حينئذ حلها ووضعها في مكانها اللائق بها بحسب مقتضيات الكتابة .
فإذا تأتى له ذلك ؛ فليأخذ في نثر الشعر من محفوظاته ، فيعمد إلى الأبيات ذوات المعاني، فيحلها من عُقُل الشعر، ويسبكها في كلامه المنثور؛ وطريقه : أن يبتدئ فيأخذ قصيدا من القصائد فينثره بيتا بيتا على التوالي، ولا يستنكف في الابتداء أن ينثر الشعر بألفاظه أو بأكثرها، فإنه لا يستطيع إلا ذلك، وإذا مَرِنت نفسه وتدرب خاطره، ارتفع عن هذه الدرجة، وصار يأخذ المعنى ويكسوه عبارة من عنده، ثم يرتفع عن ذلك حتى يكسوه ضروبا من العبارات المختلفة، وحينئذ يحصل لخاطره بمباشرة المعاني لِقاح، فيستنتج منها معاني غير تلك المعاني، وسبيله أن يكثر الإدمان ليلا ونهارا، ولا يزال على ذلك مدة طويلة حتى يصير له ملكة، فإذا كتب كتابا أو خطب خطبة، تدفَّقت المعاني في أثناء كلامه، وجاءت ألفاظه معسولة لا مغسولة، وكان عليها حدة حتى تكاد ترقص رقصا () .
() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص94) ، الأبشيهي

() «خزانة الأدب» (ج2ص414) ، الحموي .

() «الإيضاح في علوم البلاغة» (ج1ص16) ، القزويني .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص94) ، الأبشيهي .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص95) ، الأبشيهي .

() «الإيضاح في علوم البلاغة» (ج1ص14-15) ، القزويني .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص95) ، الأبشيهي .

() راجع : «الإيضاح في علوم البلاغة» (ج1ص13-14) ، القزويني .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص98) ، الأبشيهي .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص95) ، الأبشيهي .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص94) ، الأبشيهي .

() «الإيضاح في علوم البلاغة» (ج1ص16) ، القزويني .

() «المزهر في علوم اللغة وأنواعها» (ج1ص7) ، السيوطي .

() راجع : «المثل السائر» (ج1ص25) ، ابن الأثير .

() «الإيضاح في علوم البلاغة» (ج1ص16)، القزويني.

() راجع : «المثل السائر» (ج1ص99) لابن الأثير ، «صبح الأعشى» (ج1ص329) للقلقشندي .

أبو محمد بن عيسى آل مبارك
2012-03-28, 11:44 PM
نماذج من الفصاحة والبلاغة


* بعد أن ذكرنا ما يتعلق بالفصاحة والبلاغة ، تقرَّر أن لا بلاغة بلا فصاحة ، وقد يفصح غير البليغ ؛ ويحسُن أن نختم هذين الفصلين بذكر نماذج من كلام الفصحاء البلغاء، حتى يُحتذى منه بالمثال ، ويُنسج على المِنوال ، فإنه بالفصاحة البيان استولى يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام على مصر وملك زمام الأمور، وأطلعه ملكها على الخفي من أمره والمستور . فمن ذلك :
من بلاغة القرآن الكريم :
* كلام الله تبارك وتعالى معجز من جميع الوجوه ، والبلاغة أحدها ، وهو كله في قمة البلاغة ، وإنما اقتصرنا على مثال منه ، ليتضح المقال ؛ فمن ذلك :
قوله تعالى (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) : هذه الاية الشريفة استخرج منها زكي الدين بن أبي الأصبع أنواعا كثيرة من البديع؛ منها : المناسبة التامة بين ابلعي وأقلعي، والمطابقة اللطيفة بين الأرض والسماء، والمجاز في قوله ويا سماء ومراده مطر السماء، والاستعارة في قوله أقلعي، والإشارة في قوله تعالى (وغيض الماء) فإنه بهاتين اللفظتين عبر عن معان كثيرة، والتمثيل في (وقضي الأمر) فإنه عبر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بغير لفظ الموضوع له، والإرداف في (واستوت على الجودي) فإنه عبر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظ المعنى، والتعليل لأن قوله تعالى (غيض الماء) علة الاستواء، وصحة التقسيم إذ قد استوعب سبحانه أقسام أحوال الماء حالة نقصه، والاحتراس في قوله تعالى (وقيل بعدا للقوم الظالمين) إذ الدعاء عليهم مشعر بأنهم مستحقون الهلاك احتراسا من ضعيف يتوهم أن الهلاك شمل من يستحق ومن لا يستحق، فأكد بالدعاء على المستحقين، والمساواة لأن لفظ الآية الشريفة لا يزيد على معناها، وحسن النسق لأنه سبحانه وتعالى قص القصة وعطف بعضها على بعض بحسن ترتيب وائتلاف المعنى، لأن كل لفظة لا يصلح معها غيرها، والإيجاز لأنه سبحانه وتعالى قص القصة بأقصر عبارة، والتسهيم لأنه من أول الآية إلى قوله أقلعي يقتضي آخرها، والتهذيب لأن مرادات الألفاظ موصوفة بصفات الحسن وعليها رونق الفصاحة لسلامتها من التعقيد والتقديم والتأخير، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها مطمئنة في مكانها، والانسجام وهو تحدر الكلام بسهولة كما ينسجم الماء ، وباقي مجموع الآية الشريفة هو الإبداع الذي هو المراد هنا مع تكرار الأنواع البديعية، وسهوت عن تقديم حسن البيان وهو أن السامع لا يتوقف في معرفة معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء من هذه النظائر، وهذا الكلام تعجز عنه قدرة البشر () .
من بلاغة الحديث النبوي الشريف :
* وأقواله (ص) كلها بليغة ، وحسبنا مثلالا على ذلك ما رواه : أبي بن كعب قال : قال رسول الله × : أحبب حبيبك هَونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما. وأبغض بغيضك هَونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما . أي : أحببه حبا قليلا فإنه ربما انقلب ذلك بتغيير الزمان والأحوال بغضا فلا تكون قد أسرفت في حبه فتندم عليه إذا أبغضته، أو حبا فلا تكون قد أسرفت في بغضه فتستحي منه إذا أحببته . فهونا ما صفة لما اشتق منه أحبب، وما إبهامية تزيد النكرة إبهاما وشياعا، وتسد عنها طرق التقييد، وجيء بها لتأكيد معنى القلة أي حبا مقتصدا لا إفراط ولا تفريط فيه، ويصح نصبه على الظرف لأنه من صفات الأحيان ؛ أي : أحببه في حين قليل ولا تسرف في حبه ، وكذا في عكسه () .
ومما يُذكر في هذا المقام :
** حُكي أن رجلا كان أسيرا في بني بكر بن وائل وعزموه على غزو قومه فسألهم في رسول يرسله إلى قومه فقالوا لا ترسله إلا بحضرتنا لئلا تنذرهم وتحذرهم، فجاؤا بعبد أسود فقال له : أبلغ قومي التحية، وقل لهم يكرموا فلانا يعني أسيرا كان في أيديهم من بكر بن وائل، فإن قومه لي مكرمون، وقل لهم إن العرفج قد دنا، وشكت النساء، وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بأمارة ما أكلت معكم حيسا، واسألوا عن خبري أخي الحارث. فلما أدى العبد الرسالة إليهم، قالوا : لقد جُنَّ الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملا أصهب. ثم دعوا بأخيه الحارث فقصوا عليه القصة؛ فقال : قد أنذركم ؛ أما قوله : قد دنا العرفج يريد أن الرجال قد استلأموا ولبسوا السلاح، وأما قوله شكت النساء أي أخذت الشِّكاء للسفر، وأما قوله أعروا ناقتي الحمراء أي ارتحلوا عن الدهناء، واركبوا الجمل الأصهب أي الجبل، وأما قوله أكلت معكم حيسا أي أن أخلاطا من الناس قد عزموا على غزوكم، لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط فامتثلوا أمره، وعرفوا لحن الكلام وعملوا به فنجوا () .
** روي أن ليلى الأخيلية مدحت الحجاج بن يوسف ؛ فقال : يا غلام اذهب إلى فلان، فقل له يقطع لسانها، قال : فطلب حجاما، فقالت : ثكلتك أمك إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة () .
** ذكروا أن المأمون سأل يحيى بن أكثم عن شيء؛ فقال : لا وأيد الله أمير المؤمنين! فقال المأمون : ما أظرف هذه الواو، وأحسن موقعها .

** وحكي أن المأمون ولى عاملا على بلاد وكان يُعرف منه الجَور في حكمه، فأرسل إليه رجلا من أرباب دولته ليمتحنه، فلما قدم عليه أظهر له أنه قَدِم في تجارة لنفسه، ولم يعلمه أن أمير المؤمنين عنده علم منه، فأكرم نزله وأحسن إليه، وسأله أن يكتب كتابا إلى أمير المؤمنين المأمون يشكر سيرته عنده، ليزداد فيه أمير المؤمنين رغبة؛ فكتب كتابا فيه بعد الثناء على أمير المؤمنين ؛ أما بعد : فقد قدمنا على فلان فوجدناه آخذا بالعزم، عاملا بالحزم، قد عدل بين رعيته وساوى في أقضيته، أغنى القاصد وأرضى الوارد، وأنزلهم منه منازل الأولاد، وأذهب ما بينهم من الضغائن والأحقاد، وعمَّر منهم المساجد الداثرة، وأفرغهم من عمل الدنيا وشغلهم بعمل الآخرة، وهم مع ذلك داعون لأمير المؤمنين يريدون النظر إلى وجهه . والسلام . فكان معنى قوله : آخذا بالعزم أي إذا عزم على ظلم أو جور فعله في الحال، وقوله قد عدل بين رعيته وساوى في أقضيته أي أخذ كل ما معهم حتى ساوى بين الغني والفقير، وقوله عمر منهم المساجد الداثرة وأفرغهم من عمل الدنيا وشغلهم بعمل الآخرة يعني أن الكل صاروا فقراء لا يملكون شيئا من الدنيا، ومعنى قوله يريدون النظر إلى وجه أمير المؤمنين أي ليشكوا حالهم وما نزل بهم . فلما جاء الكتاب إلى المأمون عزله عنهم لوقته، وولَّى عليهم غيره () .
** حكي : أن القاضي الفاضل كان صديق خصيص به، وكان صديقه هذا قريبا من الملك الناصر صلاح الدين، وكان فيه فضيلة تامة فوقع بينه وبين الملك أمر فغضب عليه وهم بقتله، فتسحَّب إلى بلاد التتر، وتوصَّل إلى أن صار وزيرا عندهم، وصار يعرف التتر كيف يتوصل إلى الملك الناصر بما يؤذيه، فلما بلغه ذلك نفر منه، وقال للفاضل اكتب إليه كتابا عرفه فيه أنني أرضى عليه واستعطفه غاية الاستعطاف إلى أن يحضر، فإذا حضر قتلته واسترحت منه . فتحير الفاضل بين الاثنين؛ صديقه يعز عليه، والملك لا يمكنه مخالفته، فكتب إليه كتابا واستعطفه غاية الاستعطاف، ووعده بكل خير من الملك، فلما انتهى الكتاب ختمه بالحمدلة والصلاة والسلام على النبي وكتب إن شاء الله تعالى كما جرت به العادة في الكتب، فشدَّد إنَّ ثم أوقف الملك على الكتاب قبل ختمه، فقرأه في غاية الكمال وما فهم إن، وكان قصد الفاضل (إن الملأ ياتمرون بك ليقتلوك)، فلما وصل الكتاب إلى الرجل فهمه وكتب جوابه بأنه سيحضر عاجلا، وختم الكتاب بإن شاء تعالى مد نونها وجعل في آخرها ألفا، وأراد بذلك (أنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها)، فلما وصل الكتاب إلى الفاضل فهم الاشارة، ثم أوقف الملك على الجواب بخطه ففرح بذلك () .
() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص110) ، الأبشيهي .

() راجع : «فيض القدير» (ج1ص176) ، المناوي .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص99) ، الأبشيهي .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص95) ، الأبشيهي .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص102) ، الأبشيهي .

() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص103) ، الأبشيهي .

أبو محمد بن عيسى آل مبارك
2012-03-28, 11:48 PM
الخاتمة

وأختم بحثي بذكر جملة من النتائج التي توصلت إليها :

أولها : أن الفصاحة والبلاغة ، لكل منهما معنى تختص به ، وأن إحداهما أعم من الأخرى ؛ فليس كل فصيح بليغا ، ولا يكون البليغ إلا فصيحا .
ثانيا : أن الفصاحة ملكة تهذبها الصنعة؛ وإنما تتهذب بتهذيب الألفاظ ، فتسلم مفرداتها من الغرابة والتنافر ، تخلُص عباراتها من الغموض والتعقيد وضعف التأليف .
ثالثا : أن أفصح من نطق بالضاد سيد ولد عدنان محمد × ، وأفصح العرب قريش، ومن كان قريبا منها .
رابعا : أن الفصيح من الألفاظ والتراكيب ليس رتبة واحدة ، بل هناك الفصيح والأفصح ، وتفاوت الناس في الفصاحة بحسب تفاوتهم في درك ذلك .
خامسا : أن العلماء اعتنوا بالألفاظ الفصيحة ، وجمعوا في ذلك كتبا ، وأشهر مصنف في هذا الباب كتاب الفصيح لثعلب ، التزم فيه الفصيح والأفصح مما يجري في كلام الناس وكتبهم ، وقد عكف الناس عليه قديما وحديثا واعتنوا به .
سادسا : أن البلاغة هي وصول المتكلم بعبارته كُنه مراده مع إيجاز بلا إخلال ، وإطالة من غير إملال . وأنها تكون في الكلام بمطابقة فصيحه لمقتضى الحال
سابعا : أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى ثلاثة أشياء : الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد ، وهو المصطلح عليه : بعلم المعاني . وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره ، وهو المصطلح عليه : بعلم البيان . وإلى ما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته ، وهو علم البديع .
ثامنا : أن البلاغة ميدان لا يقطع إلا بسوابق الأذهان، ولا يسلك إلا ببصائر البيان ؛ فمن رامها فليُعن بحفظ كتاب الله تعالى وما قدر عليه من الحديث النبوي الشريف ، وتمرين النفس على حل محفوظها من الشعر ، وسبكها في قالب النثر .
قال البُحتري : خير الكلام ما قل وجل، ودل ولم يُمَل .
وقال أحد الشعراء :
لَـكَ الـبَـلاغَـةُ مَـيــدانٌ نَـشَـــأتَ بـــهِ
وَكُـلُّـنَـا بـقُـصُـورٍ عَـنــكَ نَـعـتَــــرِفُ
مَـهَّــدَ لِــي الـعُــذرَ نَـظــمٌ بَــعثتُ بـهِ
مَـن عِـنــــــــدَه ُ الدُّرُّ لا يُـهدَى لَهُ الصَّدَفُ ()
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين ، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين . والحمد لله رب العالمين .
() «المستطرف في كل فن مستظرف» (ج1ص95) ، الأبشيهي .