أبو الخلود
2011-08-14, 09:28 PM
في جُحر الضب
إنهم كثيرون أولئك الذين سمعوا البعض، وهو يصف الثائرين في سورية على الظلم والطغيان، والمطالبين بالحرية والكرامة، بأنهم موظفون مأجورون، يتلقون أجورهم من الخارج. وأنهم مندسون، لا تعرف جباههم السجود، ولا تعرف أعجازهم الركوع. وأنهم حثالة الناس، وأن إسقاط النظام هو إسقاط للإسلام، وغير ذلك الكثير. هنا تساءل السائلون: ما الذي جرى للبوطي ؟ وأين علمه ؟ وكيف انحدر إلى هذا المنزلق الخطير؟ إلى آخر سلسلة الأسئلة التي تثير الحيرة والعجب معاً.
لذلك جاءت هذه المقالة، التي أحث القارئ على الصبر على قراءتها، حتى آخذ بيده، ونسير معاً خطوة خطوة؛ لنقف على جحر الضب الذي يختبئ فيه ، وينفث منه سمومه، ويعلن الحرب بالكلمة المقروءة والمسموعة، منذ ثلاثة عقود أو تزيد، على الحركات الإسلامية، على اختلاف مشاربها. كما أعطى ولاءه للطغاة، دفاعاً عنهم واحتماء بهم، وبعد أن تنكشف الحقيقة، ويزول العجب، ترى نفسك - أيها القارئ الكريم - أمام قرمطي باطني، من قرامطة القرن الخمس عشر، لا يقل سوءاً عن الحلاج أحد قرامطة القرن الثالث الهجري.
أما البحث فيدور حول أربعة محاور: (الأول): بيان معنى وحدة الوجود ووحدة الشهود. (الثاني): صورة الله والكون والإنسان عند ابن عجيبة. (الثالث) حقيقة الإنسان والكون. (الرابع) السبب الحقيقي لقتل الحلاج.
المحور الأول- وَحْدة الوجود ووحدة الشهود
هل لهذا الكون المشهود وجود، أم هو مجرد وهم وسراب؟
هل وراء هذا الوجود المشهود المنظور وجود آخر، أم لا؟
ما الله؟ ما الكون؟ هل أحدهما غير الآخر أم هو هو؟
1- الإسلام والوجود.
يقرر الإسلام ثنائية الوجود: وجود ربٍّ خالق، وكونٍ مخلوق. رب خالق معبود، وإنسان مخلوق عابد. رب بائن عن خلقه مفارق له، متصف بالكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته، وكون مخلوق- ومنه الإنسان- يتصف بصفات النقص والعجز.
ومع هذا التباعد بين كل من حقيقة الله وحقيقة الكون فإن الصلة قائمة بينهما، ولكن من وجه آخر، فالله هو الذي خلق الكون بما فيه، وهو الذي يدبر الأمر فيه، وهو على مقربة من مخلوقاته، ولكن برحمته وإرادته وقدرته وعلمه، لا بذاته. هذا ما يقوله الإسلام، فماذا يقول سادة الصوفية في ذلك؟
2- الصوفية ووَحدة الوجود.
الوَحْدة ضد الكثرة، والوجود ضد العدم. فما المقصود بوحدة الوجود؟
يقول القاشاني: «وحدة الوجود: يُعْنَى به عدم انقسامه إلى الواجب والممكن([1] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn1))... الوجود هو ما به تحققَ حقيقةُ كلِّ موجود، وذلك لا يصح أن يكون أمراً غير الحق عز شأنه».([2] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn2))
وما دام هذا الكون من الممكنات فلا وجود له عند القاشاني، بل الوجود للحق (لله) الذي يختفي وراء سلسلة من الإمكانات، فالجسمُ ليس موجوداً لكونه ممكن الوجود، بل الحق هو الذي تجلى وتصوَّر بأحكام الجسمية من طول وعرض وارتفاع وحركة، وتجلى بالصور الجسمية الخاصة، على اختلاف أنواعها وأشكالها وهيئاتها، وما يتجدد لها من أطوار.
فليس وراء الموجودات المتعددة المتكثرة إلا حقيقة واحدة، هي الوجود الإلهي، فهو الظاهر في المظاهر، وهو الذي أظهر صورة العالم في ذاته، وتجلى بصور الممكنات، فوجود الله هو «مرآة الكون.. لأن الأكوان وأوصافها وأحكامها لم تظهر إلا فيه، وهو يخفَى بظهورها كما يخفى وجه المرآة بظهور الصور فيه».([3] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn3))
هذه الصور، صور الممكنات، هي التي يسمونها بالقيود، وإذا استطاع الإنسان التجرد من ملاحظة هذه الصور بالمجاهدات، عرف (أنه هو) أي: عرف أن وجوده هو عين وجود الله، لا غيره.
فحقيقة قول الواصلين أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى، لا شيء سواه البتة، ومنه قولهم: (ما الكون إلا القيوم الحي). وقال أحمد الفاروقي السرهندي (ت1034هـ):
ما دمت لم تضرب بـ (لا) عنق السوى في قصر (إلا الله) لست بواصل([4] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn4))
قال الغزالي: «لم يفهم العارفون أن معنى قوله: (الله أكبر) أنه أكبر من غيره، حاش لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه، بل ليس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية، بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه، فالموجود وجهه فقط، ومحال أن يقال: إنه أكبر من وجهه».([5] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn5))
فالإمام ينفي صراحة وجود الغير أو السوى، إلا من حيث أن الغير هو مظهر التجليات والتعينات الإلهية.
وقال ابن عربي: «إن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء».([6] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn6))فقوله (بل) وما بعده لقطع دابر كل تأويل.
وقال ابن عربي: «ومن أسمائه الحسنى العليُّ، على مَنْ؟ وما ثَمَّ إلا هو؛ فهو العليُّ لذاته. أو عن ماذا؟ وما هو إلا هو؛ فعُلُوُّه لنفسه. وهو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدَثات هي العليَّة لذاتها، وليس إلا هو... وهو المسمى أبا سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات».([7] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn7))
فتوحيد المحجوبين (لا إله إلا الله)، أما توحيد العارفين الواصلين فهو (لا موجود إلا الله).
3- بين وحدة الشهود ووحدة الوجود:
الفناء - عند السادة الصوفية - فناءان: (الأول): الفناء عن شهود السوى، ويعبر عنه بالفناء، أو بوحدة الشهود، وهو مقام المجذوبين السائرين، (والثاني): الفناء عن وجود السوى، ويعبر عنه بالبقاء، أو بوحدة الوجود، وهو مقام العارفين الواصلين، وغاية السالكين السائرين.
فإذا قال الصوفي: (ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله) فهو في حالة فناء، أو وحدة شهود. وإذا قال: (ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه) فهو في حالة بقاء، أو وحدة وجود.
قال ابن عجيبة: «والفرق بين الفاني والعارف: أن العارف يثبت الأشياء بالله. والفاني لا يثبت شيئاً سوى الله... (العارف) يرى الحق في الخلق، كقول بعضهم: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه، (والفاني) لا يرى إلا الحق، يقول: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله. العارف في مقام البقاء، والفاني مجذوب في مقام الفناء. الفاني سائر، والعارف متمكن واصل».([8] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn8))
الفناء والبقاء مصطلحان متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ فإذا كنت فانياً عن شيء فأنت باقٍ بغيره. وإذا كنت باقياً في شيء فأنت - لا بدَّ - فانٍ عن سواه. وهذا شيء طبيعي؛ لأن المرء عاجز أن يركز انتباهه على أكثر من موضوع في وقت واحد. فمن ركز انتباهه في كتاب بين يديه، ففكر في (طوله، عرضه، لونه...) تعذَّرت عليه قراءته، وإن ركز تفكيره فيما يقرأ تعذَّر عليه التفكير في أبعاده وأوصافه، ففي الحالة الأولى يقال: أنه باقٍ بالكتاب فانٍ عن القراءة. وفي الحالة الثانية، يقال: أنه فانٍ عن الكتاب باقٍ بالقراءة.
قال ابن عجيبة: «الفناء هو أن تبدوَ لك العظمة، فتنسيك كل شيء، وتغيِّبك عن كل شيء سوى الواحد، الذي ليس كمثله شيء، وليس معه شيء. أو تقول: هو شهود حق بلا خلق، كما أن البقاء هو شهود خلق بحق... فمن عرف الحق شهده في كل شيء، ولم ير معه شيئاً؛ لنفوذ بصيرته من شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، ومن شهود عالم الملك إلى شهود فضاء الملكوت. ومن فني به وانجذاب إلى حضرته غاب في شهود نوره عن كل شيء، ولم يثبت مع الله شيئاً». ([9] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn9))
قوله: (الفناء: هو شهود حق بلا خلق، كما أن البقاء هو شهود خلق بحق) معناه: أن الفناء أو وحدة الشهود هو امتصاص الله أو الواحد أو المبدأ لتجلياته، وشفطه لها، أو هو اختزال الدائرة في نقطة المركز، بينما البقاء أو وحدة الوجود هو شيوع الله أو الواحد أو المبدأ في تجلياته، أو هو اندياح نقطة المركز في الدائرة. أو كنفاخة الطفل، ففي حالة الشفط تختفي، وفي حالة النفخ تتجلى وتظهر. كذلك في الفناء يغيب الخلق في الحق، وفي البقاء يتجلى الحق في الخلق. والحق والخلق أبداً ما بين غياب وتجلٍّ، أو ظهور وبطون، كما يحلو لهم القول؛ لأن علمَهم مقيَّد بالكتاب والسنة، كما يزعمون.
4- وحدة الشهود هي النبحة الأولى من وحدة الوجود.
قال أحمد زيني دحلان، وهو قطب صوفي، توفي بالمدينة (1304هـ) تحت عنوان: فتوى بقتل من يقول بوحدة الوجود: «وسئل والد الشيخ محمد الرملي عن القائل بوحدة الوجود، (فقال): يقتل هذا المرتد وترمى جيفته للكلاب؛ لأن قوله هذا لا يقبل تأويلاً، وكفره أشدُّ من كفر اليهود والنصارى - واستحسن الشيخ ابن حجر منه هذا الفتوى، وكان قبل ذلك يتمحل لبعض الصوفية القائلين بها، ويؤوِّل كلامهم، فرجع عن تأول قول بعضهم: إن القائلين بوحدة الوجود مرادهم بها وحدة الشهود - (قال): فمن زعم أن وحدة الوجود غيرُ وحدة الشهود لم يشمَّ رائحة معنى الوحدة، فوحدة الوجود ترجع إلى وحدة الشهود من غير حلول ولا اتصال، هذا هو القول الحق».([10] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn10))
توضيحات:
1- نفي الحلول، والاتصال، أي: الاتحاد؛ لأن القول بأحدهما يقتضي وجود اثنين: وجود ربٍ خالقٍ، ووجود كونٍ مخلوق. وهذا يتناقض مع القول بوحدة الوجود.
فالحلول: هو أن يحل الأعلى في الأدنى، كاعتقاد بعض النصارى بحلول الله تعالى في عيسى – عليه السلام. والاتحاد أو الاتصال: هو أن يتحد الأدنى بالأعلى، كاعتقاد البوذيين بأن المرء- نتيجة رياضات معينة - يرتقي في الأحوال حتى يتحد بالنيرفانا، الإله الخالق.
قال ابن عجيبة في نفيه للحلول: «لا وجود للأشياء مع وجود الله؛ فانتفى القول بالحلول؛ إذ الحلول يقتضي وجود السوى، حتى يحل فيه معنى الربوبية، والغرض أن السوى عدم محض، فلا يتصور الحلول. (وقال) في نفي الاتحاد: تقرر أن الأشياء كلها في حيز العدم، إذ لا يثبت الحادث مع من له وصف القدم، فانتفى القول بالاتحاد، إذ معنى الاتحاد: هو اقتران القديم مع الحادث فيتحدان حتى يكون شيئاً واحداً، وهو محال؛ إذ هو مبني أيضا على وجود السوى، ولا سوى».([11] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn11))
2- أنهم يفتون بكفر وارتداد وقتل القائل بـ (وحدة الوجود) ظاهراً بألسنتهم؛ للتمويه والنجاة من السيف، أو لكتمان السر، الذي طالما تواصوا بكتمانه! هذا لَمَّا كان للإسلام دولة، أما اليوم فحتى لا يخسروا مراكزهم وتأثيرهم، أو حتى لا يجلبوا على أنفسهم غضبة الجمهور، لذلك كانوا حريصين على الجمع بين الظاهر، وهو التمسك بالشريعة، وبين الباطن، وهو الاعتقاد بوحدة الوجود.
لذلك كان من مصطلحاتهم الجمع والفرق، والجمع: إثبات الحق بلا خلق، وهو مقام العارفين. والفرق: إثبات الخلق مع الحق، وهو مقام المحجوبين من أهل الشريعة، أمثالنا. قال الطوسي: «إذا جمعتَ قلت: الله ولا سواه، وإذا فرقت قلت: الآخرة والدنيا والكون... وكل جمع بلا تفرقة فهو زندقة، وكل تفرقة بلا جمع فهو تعطيل».([12] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn12)) أي: على العارف أن يجمع بين الجمع والتفرقة. كيف ذلك؟
قال أبو الحسن الشاذلي، المتوفى (606هـ): «إذا أردت الوصول إلى الطريق التي لا لون فيها فليكن الفرق في لسانك موجوداً والجمع في سرك مشهوداً».([13] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn13))معنى (لا لون لها): أي: أن يمارس التَّقِيَّة، حتى لا تُعْرَف هُوِّيتُه. ومعنى (الفرق): أن يظهِر شريعة النبي المختار قولاً وعملاً. ومعنى (الجمع): أن يبطِن عقيدة وحدة الوجود، أو أنه هو الله.
وقال ابن عجيبة: «إياك أن تقول أناهُ، واحذر أن تكون سواهُ».([14] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn14))واضح أن عبارة (أناهُ) تعني: (أنا هو)، أي: (أنا الله)، فهو يقول: إياك أن تقول بلسانك للناس: (أنا الله) ولكن احذر أن تعتقد في سرك وقلبك (أنك سوى الله). وهذا المقام يسمونه مقام (التحقيق) وهو التَّقِيَّة والنفاق بعينه.
فنحن أمام وثنية جديدة ومعقدة، تسعى إلى نفي العالم، لإثبات الله وتصفه (بالحق) في مقابل وصف الدنيا أو العالم (بالباطل)، بينما كان الناس في جاهليتهم يعيشون وثنية بسيطة، فلم يكونوا ينفون وجود الله، ولكنهم كانوا يجسمونه، ويشيِّئونه، يجعلونه شيئاً، ربما صنعوه من التمر فإذا جاعوا أكلوه.
***** ***** *****
المحور الثاني- حقيقة الكون والإنسان والروح عند ابن عجيبة
تعد كتابات ابن عجيبة ، ومنبع إلهام له، وربما أهم مصادره، لذا يستحن عرض فلسفة ابن العجيبة عن الله والكون والإنسان، لنرى كيف اتبعه البعض حذو القذة بالقذة.
1- حقيقة الكون والكائنات:
قال ابن عجيبة: «اعلم أن الحق جل جلاله واحد في ملكه لا شريك معه، ولا ضد له، ولا ند له، كان ولا شيء معه وهو الآن على ما كان عليه، كان في أزل أزليته حكيماً قديراً، لطيفاً لا يدرك، خفياً لا يعرف، قائماً بذاته، متصفاً بمعاني أسمائه وصفاته، فأراد سبحانه أن يعرَّف بذاته، وأن يظهر أثر أسمائه وصفاته، فأظهر قبضة من نوره اللطيف فتكثفت بقدرته، ليتهيأ بها التعريف، ثم تنوعت [أي: تلك القبضة النورية] على عدد أسمائه وصفاته، فلما ظهرت تلك القبضة النورية، تجلى فيها باسمه (الباطن) فبطنت في ظهورها، وكمنت في مظاهرها، فالأشياء كلها مظاهر للحق، لكن لا بد للحسناء من نقاب، وللشمس من سحاب...
ثم اختلفت تلك الحكمة([15] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn15)) في نسجها وغزلها: فمنها ما رق غزله ولطف نسجه، فكان فيه النور قريباً. ومنها ما غلظ غزله وكثف نسجه، فخفي النور لأجل غلظ الستور... فالكون كله باطنه نور وظاهره ظلمة، باطنه قدرة وظاهره حكمة، باطنه لطيف وظاهره كثيف، وإليه اشار صاحب العينية بقوله: وما الكون في التمثال إلا كثلجة *** وأنت لها الماء الذي هو نابع».([16] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn16))
توضيح:
قوله: (كان ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه) نفي لهذا العالم الذي نعيش فيه، وصريح في وحدة الوجود، فلا وجود إلا لله، وهو عين الوجود، وهو واحد أزلاً وأبداً.
وقوله: (كان الحق في أزل أزليته... خفياً لا يعرف... فأراد سبحانه أن يعرف بذاته) فيه إشارة إلى حديث موضوع مختلق، لا سند له، اعتمده الصوفية، وبنوا عليه أصولاً لهم، هو (كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت خلقًا فبي عرفوني).
قوله: (فأظهر قبضة من نوره اللطيف فتكثفت بقدرته) نص صريح بأن هذا العالم جزء من الله، صادر عنه، أو إن هذا الوجود المحسوس المشهود هو التعين المكثف لوجود الله، الذي كان نوراً قبل هذه المرتبة. فقد كان في المرتبة الأولى نوراً لطيفاً، وصار في مرتبة تالية جسماً كثيفاً؛ فالأشياء كلما كانت قريبة من مصدر النور كانت رقيقة لطيفة، وكلما ابتعدت عن المصدر صارت غليظة كثيفة مظلماً.
قوله: (فالأشياء كلها مظاهر للحق) يقصدون بالحق (الله)، يستعملون الحق مقابل الباطل، الذي يصفون به الدنيا أو العالم، فالأشياء أو هذا الوجود المشهود المرئي هو تجليات ومظاهر لله تعالى، فالأشياء ظاهرها خلق، وباطنها حق، أي: أن الله عين الأشياء، أو الله والوجود وجهان لشيء واحد.
يقول الجيلي، وهو سبط عبد القادر الجيلاني، مخاطباً الله تعالى([17] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn17)):
وما الخلقُ في التمثال إلا كثلجة وأنت لها الماءُ الذي هو نابعُ
فما الثلجُ في تحقيقنا غيرُ مائه وغَيْران، في حكم دعته الشرائعُ
فالجيلي يقول: إن الخلق بالنسبة لله، كالثلج بالنسبة للماء، فكما أن الثلج ليس شيئاً سوى مائه، فكذلك الخلق ليس شيئاً سوى الله عند أهل الحقيقة، فالله عند أهل الحقيقة عين الخلق. أما أهل الشريعة القائلون بثنائية الوجود، وبأن الله غير خلقه؛ فلهم زعمهم وادعاؤهم.
ويلخص ابن عربي المذهب بعبارة، فيقول: «فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها».([18] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn18))
ويقول أيضاً: «فالله على التحقيق عبارة لمن فهم الإشارة».([19] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn19)) أي: أن (الله) ليس له مدلول آخر وراء هذا الكون، ومظاهره المحسوسة المشهودة.
وخلاصة الأمر: أن الوجود صادر عن الله - تعالى عما يقولون - صدوراً تنازلياً، عن طريق التجليات، وهذا ما يسمى بوحدة الوجود الصدورية، بمعنى: (أن كل شيء هو الله). وإذا أراد الصوفي الوصول إلى الله فعليه أن يسلك الطريق التصاعدي، وهو طريق التأمل الباطني والتجرد والمجاهدات.
وهذا ما كان يعتقده أفلوطين الإسكندراني، فقد كان يؤمن بوحدة الوجود الصدورية،([20] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn20)) التي تقول بأن المبدأ تصدر عنه الموجودات أو الله تصدر عنه المخلوقات، وهذا الصدور لا يمس جوهر الله مطلقاً، فقد كان يتصور الوجود سلسة من الحلقات المتطورة بعضها عن بعض، (فالواحد) أو الله نشأ عنه (العقل الكلي) الذي نشأت عنه (النفس الكلية) التي نشأ عنها (عالم الكون والفساد)، أي: عالم الأفلاك السيارة. وكل ذلك من غير فصل، ومن غير أن يتخلله زمن. وطريق العودة إلى الأصل أو الواحد، أي: التخلص من الناسوتية والعودة إلى الروحانية، هو التأمل الباطني والرياضات الروحية.
كثيراً ما يستعمل الصوفي مع لفظة (الحق) لفظة (الخلق)! وتفسيرُ ذلك أن الخلق متخلف في تشكله، وتطوره من ذاك الأصل الأزلي، فهو باعتبار ما كان حق، وباعتبار ما صار إليه خلق.
2- حقيقة الإنسان وخصائصه.
بعد الذي سبق قوله عن حقيقة الكون استمر ابن عجيبة في القول لبيان حقيقة الإنسان وخصائصه فقال: «ثم إن الحق سبحانه خص مظهر هذا الأدمي بخصائص لم تكن لغيره، منها: أن جعل روحه اللطيفة النورانية في قالب كثيف، ليتأتى له منه غاية التصريف...
ومنها: أنه جعله حاكماً على المظاهر كلها، مالكاً لها بأسرها، خليفة عن الله فيها...
ومنها: أن أعطاه سبحانه سبعاً من الصفات تشبه صفات المعاني الأزلية، إلا أنها ضعفت بإحاطة القهرية، وهي القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، فحصل له بهذا أنموذج وشبه بالصمدانية الربانية.
ومنها: أنه سبحانه جعله نسخة الوجود يحاكي بصورته كل موجود، فإن عرف الحق كان الوجود نسخة منه...
(قال): حقيقة الإنسان هي روحانية، وهي لطيفة نورانية لاهوتية جبروتية، ثم احتجبت ببشرية كثيفة ناسوتية...
(قال): وهذا الشبه (بالصمدانية) الذي حازه الإنسان دون غيره، هو اتصافه بشبه أوصاف الحق سبحانه، حيث جعل الله فيه قدرة وإرادة وعلماً وحياة وسمعاً وبصراً وكلاماً، وجعله نسخة من الوجود بأسره، وخليفة عن الله في حكمه، يتصرف في الأشياء باختياره في ظاهر أمره...
وخصه أيضاً، فجعله خزانة لسائر أسمائه، ففي الآدمي تسعة وتسعون اسماً، كلها كامنة في سره، ثم يظهر على ظاهره ما سبق له في علم الغيب، فالبعض يظهر عليه اسم الكريم، والبعض اسمه الرحيم، والبعض اسمه الحليم، والبعض اسمه المنتقم، والبعض اسمه المتكبر، والبعض اسمه القهار، والبعض اسمه القابض، والبعض اسمه الباسط، وقد يتعاقب عليه أسماء كثيرة في وقت واحد.
وإذا فني عن حسه وغاب عن نفسه ظهرت عليه أنوار الألوهية فينطق بالأنانية [يقول: أنا الله] غلبة ووجداً، وبها قتل الحلاج».([21] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn21))
توضيح:
- قوله: «حقيقة الإنسان هي روحانية، وهي لطيفة نورانية لاهوتية جبروتية، ثم احتجبت ببشرية كثيفة ناسوتية». صريح في أن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة: لاهوتية ناسوتية، ففي كل فرد اجتمع اللاهوت مع الناسوت، أو الروح مع الهيكل، أو المعنى مع الحس.
- وذكر أن للإنسان سبع صفات، إلا أنها ضعيفة بالنسبة لصفات الله لسببين: (الأول): أن روحه التي هي منبع تلك الصفات محبوسة في هياكل كثيفة (جعل روحه اللطيفة النورانية في قالب كثيف). (الثاني): أنها جزء من الكل، والجزء أضعف من الكل، فهي (ضعفت بإحاطة القهرية).
- أما قوله: (يتصرف في الأشياء باختياره، في ظاهر أمره) فمؤداه أن الإنسان مجبور في صورة مختار فيما يعمل أو يدَعُ من عمل، فهو ريشة في مهب الريح تلعب به الحتميات. ومن لوازم هذه العقيدة تصويبُ كلِّ عقيدة ودين، ورفعُ المسؤولية عن الإنسان.
ويأتي في هذا السياق قول الإمام الغزالي: «لو انكشف الغطاء لعرفتَ أن العبد في عين الاختيار مجبور؛ فهو إذاً مجبور على الاختيار».([22] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn22))
إن القوم دائماً يتحدثون عن الكشف والحجاب، ولا يتحدثون عن العلم والجهل؛ لأنه بالكشف وحده يصل السالك السائر إلى مقام العرفانية، والكشف طريقه التأمل الباطني مع ما يصاحبه من رياضات روحية، بينما العلمُ طريقُه النقلُ، والعقل، والبحث والاستدلال، وهو طريق المحجوبين.
- وقوله: «أنه سبحانه جعله نسخة الوجود يحاكي بصورته كل موجود، فإن عرف الحق كان الوجود نسخة منه». أي: أن الله تعالى جعل الإنسان نسخة عن الله، لأن وجود الحق هو وجود الله وحده، وما عداه فهو وَهْم، لذلك يعد الإنسان نموذجاً وصورةً مصغرة عن الوجود الكبير (الله)؛ لأنه يسري في كيانه (لطيفة نورانية لاهوتية جبروتية) فهو بروحه فرع من الأصل. وإذا وصل إلى درجة العرفان انقلبت المعادلة؛ فيصير الفرع أصلاً (فإن عرف الحق كان الوجود نسخة منه... ففي الآدمي تسعة وتسعون اسماً)، وهي عدد أسماء الله تعالى. والعبارات التالية توضح الأمر:
لهذا قال ذو النون المصري: «معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى».([23] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn23))
وقال ابن عربي: «فلا قرب أقرب من أن تكون هويتُهُ[أي هوية الله] عينَ أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى، فهو[أي الله] مشهود في خلق متوهم، فالخلق معقول[أي متوهم لا وجود له] والحقُّ محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود».([24] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn24))
وقال المرسي شيخ ابن عطاء: «لو كشف عن نور الولي لعبد من دون الله».([25] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn25))
- قال ابن عجيبة: (وخص مظهر الآدمي فجعله خزانة لسائر أسمائه، ففي الآدمي تسعة وتسعون اسماً... فالبعض يظهر عليه يظهر عليه اسم الكريم... والبعض اسمه المنتقم...).
قال القاشاني: «العبادلة: هم أرباب التجليات الأسمائية إذا تحققوا بحقيقة اسم ما من أسمائه تعالى، واتصفوا بالصفة التي هي حقيقة ذلك الاسم...».([26] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn26))
حسب معتقد القوم يبدو أن طاغية الشام ظهر عليه اسم المنتقم، واتصف بالصفة التي هي حقيقة ذلك الاسم، ففعل ما فعل من زهق الأرواح، وانتهاك الأعراض، وهدم البنيان، وحرق المحاصيل؛ لذلك قال أحدهم: إسقاط النظام هو إسقاط للإسلام.
- ثم قال ابن عجيبة: «وإذا فني عن حسه وغاب عن نفسه ظهرت عليه أنوار الألوهية فينطق بالأنانية غلبة ووجداً، وبها قتل الحلاج». الفناء – هنا - هو الفناء في الذات وهو مقام الجمع، أو التحقيق، وهو مقام خاص بالعارفين الواصلين، فالعارف أو الواصل من تحقق الإلهية، ونطق بالأنانية، أي: قال: أنا الله، كما تحققها الحلاج، فقال: أنا الحق.
وقال الإمام الغزالي في تائيته، مخاطباً الله تعالى([27] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn27)) :
وهل أنا إلا أنت ذاتاً ووحدة وهل أنت إلا نفسُ عينِ هويتي
3- أصل الروح وحقيقتها
قال ابن عجيبة: «إن الأرواح أصلها قبضة من نور الجبروت، فهي عالمة، قادرة، مريدة، سميعة، بصيرة، متكلمة، فحيث سجنت في هذه الهياكل الكثيفة، كَمُنَ فيها ذلك السر، وخفي، ولم يظهر منه إلا نموذج ضعيف، فسمع العبد وبصره وكلامه وعلمه وقدرته وإرادته وحياته بقية من تلك الصفات، ظهرت على العبد...».([28] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn28))
توضيح:
إذا أطلق عالم الجبروت، أو عالم الأرواح، أو عالم المعاني، أو العالم الروحاني، أو الوجود الحق؛ فهي أسماء لمسمىً واحد، ويراد بها (الله) تعالى، قبل أن يتجلى في المظاهر.
إذاً، كان الكون قبضة من نور الله (فأظهر قبضة من نوره اللطيف فتكثفت بقدرته) وروح الإنسان أيضاً (أصلها قبضة من نور الجبروت) فهي قديمة أزلية؛ لأنها جزء من نور الجبروت الكلي، وهي متصفة بصفات المعاني السبع، وهي الصفات المعنوية عند الأشعرية، إلا أنها ضعيفة لسببين: أولهما: أنها جزء من الكل، ومعلوم أن قوة الجزء دون قوة الكل. والسبب الثاني: أنها سجنت وحبست في هياكل كثيفة، التي هي الأجسام، كالسيف في الغمد.
***** ***** *****
يتبع......
-----------------------------------------
([1]) ينقسم الوجود إلى ثلاثة أقسام: الواجب، وهو وجود الله تعالى بصفاته وأسمائه. والممكن، وهو وجود ما سوى الله تعالى من الموجودات المحْدَثة. ومعنى إمكانه: أنه يمكن إيجاده ويمكن إعدامه، فالكون بجميع أجزائه محدَثٌ، أي مخرج من العدم إلى الوجود، والذي أخرجه من العدم إلى الوجود هو الله تعالى. والمستحيل، وهو افتراض شريك أو زوجة أو ولد لله تعالى، أو مثيل له في ذاته أو أسمائه أو صفاته، سبحانه.
([2]) لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام (2/387)
([3]) اصطلاحات الصوفية (ص102) وانظر: لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام (2/302) كلاهما للقاشاني.
([4]) المكتوبات، الجزء الأول (المكتوب 52 ص 113) وفي المنتخبات من المكتوبات (ص 17).
([5]) مشكاة الأنوار (ص 56) تحقيق: أبو العلا العفيفي.
([6]) فصوص الحكم، فص هارون ( ص 192).
([7]) فصوص الحكم، فص إدريس (ص 76، 77)
([8]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، حكمة: من عرف الحق شهده في كل شيء... (ص 236)
([9]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، حكمة: من عرف الحق شهده في كل شيء... (ص 235- 236)
([10]) تقريب الأصول لتسهيل الوصول (ص 87) مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1420هـ = 1999م
([11]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم (ص 45- 46)
([12]) اللمع (ص 283). (التعطيل): الإلحاد.
([13]) طبقات الشعراني (2/7)
([14]) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة: شرح المباحث الأصلية لابن بنا السرقسطي (ص 347) على هامش إيقاظ الهمم.
([15]) (الحكمة): هي عالم الملك، وهي مرتبة الوجود الوهمي، وهي المرتبة الثالثة والأخيرة للوجود عنده.
([16]) الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية (ص 39- 40).
([17]) الإنسان الكامل ( ص 46).
([18]) الفتوحات المكية، طبعة دار صادر (2/459).
([19]) فصوص الحكم، فص إلياس (ص 183). تحقيق وتعليق أبو العلا عفيفي.
([20]) وهناك من يعتقد بوحدة وجود باطنة وهي التي تقول بأن الله حال في الكون، بمعنى: (أن الله هو كل شيء).
([21]) الفتوحات الإلهية، في شرح المباحث الأصلية لابن البنا السَّرقُسطي (ص 40- 42)
([22]) إحياء علوم الدين (4/254) طبعة دار الكتب العلمية أربعة أجزاء.
([23]) الرسالة القشيرية (ص 142). تحقيق عبد الحليم محمود.
([24]) فصوص الحكم، الفص هود ( ص 108).
([25]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم (ص 156).
([26]) اصطلاحات الصوفية (ص 126).
([27]) معارج القدس، ذيل (ص 188).
([28]) الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية (ص 64).
إنهم كثيرون أولئك الذين سمعوا البعض، وهو يصف الثائرين في سورية على الظلم والطغيان، والمطالبين بالحرية والكرامة، بأنهم موظفون مأجورون، يتلقون أجورهم من الخارج. وأنهم مندسون، لا تعرف جباههم السجود، ولا تعرف أعجازهم الركوع. وأنهم حثالة الناس، وأن إسقاط النظام هو إسقاط للإسلام، وغير ذلك الكثير. هنا تساءل السائلون: ما الذي جرى للبوطي ؟ وأين علمه ؟ وكيف انحدر إلى هذا المنزلق الخطير؟ إلى آخر سلسلة الأسئلة التي تثير الحيرة والعجب معاً.
لذلك جاءت هذه المقالة، التي أحث القارئ على الصبر على قراءتها، حتى آخذ بيده، ونسير معاً خطوة خطوة؛ لنقف على جحر الضب الذي يختبئ فيه ، وينفث منه سمومه، ويعلن الحرب بالكلمة المقروءة والمسموعة، منذ ثلاثة عقود أو تزيد، على الحركات الإسلامية، على اختلاف مشاربها. كما أعطى ولاءه للطغاة، دفاعاً عنهم واحتماء بهم، وبعد أن تنكشف الحقيقة، ويزول العجب، ترى نفسك - أيها القارئ الكريم - أمام قرمطي باطني، من قرامطة القرن الخمس عشر، لا يقل سوءاً عن الحلاج أحد قرامطة القرن الثالث الهجري.
أما البحث فيدور حول أربعة محاور: (الأول): بيان معنى وحدة الوجود ووحدة الشهود. (الثاني): صورة الله والكون والإنسان عند ابن عجيبة. (الثالث) حقيقة الإنسان والكون. (الرابع) السبب الحقيقي لقتل الحلاج.
المحور الأول- وَحْدة الوجود ووحدة الشهود
هل لهذا الكون المشهود وجود، أم هو مجرد وهم وسراب؟
هل وراء هذا الوجود المشهود المنظور وجود آخر، أم لا؟
ما الله؟ ما الكون؟ هل أحدهما غير الآخر أم هو هو؟
1- الإسلام والوجود.
يقرر الإسلام ثنائية الوجود: وجود ربٍّ خالق، وكونٍ مخلوق. رب خالق معبود، وإنسان مخلوق عابد. رب بائن عن خلقه مفارق له، متصف بالكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته، وكون مخلوق- ومنه الإنسان- يتصف بصفات النقص والعجز.
ومع هذا التباعد بين كل من حقيقة الله وحقيقة الكون فإن الصلة قائمة بينهما، ولكن من وجه آخر، فالله هو الذي خلق الكون بما فيه، وهو الذي يدبر الأمر فيه، وهو على مقربة من مخلوقاته، ولكن برحمته وإرادته وقدرته وعلمه، لا بذاته. هذا ما يقوله الإسلام، فماذا يقول سادة الصوفية في ذلك؟
2- الصوفية ووَحدة الوجود.
الوَحْدة ضد الكثرة، والوجود ضد العدم. فما المقصود بوحدة الوجود؟
يقول القاشاني: «وحدة الوجود: يُعْنَى به عدم انقسامه إلى الواجب والممكن([1] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn1))... الوجود هو ما به تحققَ حقيقةُ كلِّ موجود، وذلك لا يصح أن يكون أمراً غير الحق عز شأنه».([2] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn2))
وما دام هذا الكون من الممكنات فلا وجود له عند القاشاني، بل الوجود للحق (لله) الذي يختفي وراء سلسلة من الإمكانات، فالجسمُ ليس موجوداً لكونه ممكن الوجود، بل الحق هو الذي تجلى وتصوَّر بأحكام الجسمية من طول وعرض وارتفاع وحركة، وتجلى بالصور الجسمية الخاصة، على اختلاف أنواعها وأشكالها وهيئاتها، وما يتجدد لها من أطوار.
فليس وراء الموجودات المتعددة المتكثرة إلا حقيقة واحدة، هي الوجود الإلهي، فهو الظاهر في المظاهر، وهو الذي أظهر صورة العالم في ذاته، وتجلى بصور الممكنات، فوجود الله هو «مرآة الكون.. لأن الأكوان وأوصافها وأحكامها لم تظهر إلا فيه، وهو يخفَى بظهورها كما يخفى وجه المرآة بظهور الصور فيه».([3] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn3))
هذه الصور، صور الممكنات، هي التي يسمونها بالقيود، وإذا استطاع الإنسان التجرد من ملاحظة هذه الصور بالمجاهدات، عرف (أنه هو) أي: عرف أن وجوده هو عين وجود الله، لا غيره.
فحقيقة قول الواصلين أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى، لا شيء سواه البتة، ومنه قولهم: (ما الكون إلا القيوم الحي). وقال أحمد الفاروقي السرهندي (ت1034هـ):
ما دمت لم تضرب بـ (لا) عنق السوى في قصر (إلا الله) لست بواصل([4] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn4))
قال الغزالي: «لم يفهم العارفون أن معنى قوله: (الله أكبر) أنه أكبر من غيره، حاش لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه، بل ليس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية، بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه، فالموجود وجهه فقط، ومحال أن يقال: إنه أكبر من وجهه».([5] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn5))
فالإمام ينفي صراحة وجود الغير أو السوى، إلا من حيث أن الغير هو مظهر التجليات والتعينات الإلهية.
وقال ابن عربي: «إن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء».([6] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn6))فقوله (بل) وما بعده لقطع دابر كل تأويل.
وقال ابن عربي: «ومن أسمائه الحسنى العليُّ، على مَنْ؟ وما ثَمَّ إلا هو؛ فهو العليُّ لذاته. أو عن ماذا؟ وما هو إلا هو؛ فعُلُوُّه لنفسه. وهو من حيث الوجود عين الموجودات. فالمسمى محدَثات هي العليَّة لذاتها، وليس إلا هو... وهو المسمى أبا سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات».([7] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn7))
فتوحيد المحجوبين (لا إله إلا الله)، أما توحيد العارفين الواصلين فهو (لا موجود إلا الله).
3- بين وحدة الشهود ووحدة الوجود:
الفناء - عند السادة الصوفية - فناءان: (الأول): الفناء عن شهود السوى، ويعبر عنه بالفناء، أو بوحدة الشهود، وهو مقام المجذوبين السائرين، (والثاني): الفناء عن وجود السوى، ويعبر عنه بالبقاء، أو بوحدة الوجود، وهو مقام العارفين الواصلين، وغاية السالكين السائرين.
فإذا قال الصوفي: (ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله) فهو في حالة فناء، أو وحدة شهود. وإذا قال: (ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه) فهو في حالة بقاء، أو وحدة وجود.
قال ابن عجيبة: «والفرق بين الفاني والعارف: أن العارف يثبت الأشياء بالله. والفاني لا يثبت شيئاً سوى الله... (العارف) يرى الحق في الخلق، كقول بعضهم: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه، (والفاني) لا يرى إلا الحق، يقول: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله. العارف في مقام البقاء، والفاني مجذوب في مقام الفناء. الفاني سائر، والعارف متمكن واصل».([8] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn8))
الفناء والبقاء مصطلحان متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ فإذا كنت فانياً عن شيء فأنت باقٍ بغيره. وإذا كنت باقياً في شيء فأنت - لا بدَّ - فانٍ عن سواه. وهذا شيء طبيعي؛ لأن المرء عاجز أن يركز انتباهه على أكثر من موضوع في وقت واحد. فمن ركز انتباهه في كتاب بين يديه، ففكر في (طوله، عرضه، لونه...) تعذَّرت عليه قراءته، وإن ركز تفكيره فيما يقرأ تعذَّر عليه التفكير في أبعاده وأوصافه، ففي الحالة الأولى يقال: أنه باقٍ بالكتاب فانٍ عن القراءة. وفي الحالة الثانية، يقال: أنه فانٍ عن الكتاب باقٍ بالقراءة.
قال ابن عجيبة: «الفناء هو أن تبدوَ لك العظمة، فتنسيك كل شيء، وتغيِّبك عن كل شيء سوى الواحد، الذي ليس كمثله شيء، وليس معه شيء. أو تقول: هو شهود حق بلا خلق، كما أن البقاء هو شهود خلق بحق... فمن عرف الحق شهده في كل شيء، ولم ير معه شيئاً؛ لنفوذ بصيرته من شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، ومن شهود عالم الملك إلى شهود فضاء الملكوت. ومن فني به وانجذاب إلى حضرته غاب في شهود نوره عن كل شيء، ولم يثبت مع الله شيئاً». ([9] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn9))
قوله: (الفناء: هو شهود حق بلا خلق، كما أن البقاء هو شهود خلق بحق) معناه: أن الفناء أو وحدة الشهود هو امتصاص الله أو الواحد أو المبدأ لتجلياته، وشفطه لها، أو هو اختزال الدائرة في نقطة المركز، بينما البقاء أو وحدة الوجود هو شيوع الله أو الواحد أو المبدأ في تجلياته، أو هو اندياح نقطة المركز في الدائرة. أو كنفاخة الطفل، ففي حالة الشفط تختفي، وفي حالة النفخ تتجلى وتظهر. كذلك في الفناء يغيب الخلق في الحق، وفي البقاء يتجلى الحق في الخلق. والحق والخلق أبداً ما بين غياب وتجلٍّ، أو ظهور وبطون، كما يحلو لهم القول؛ لأن علمَهم مقيَّد بالكتاب والسنة، كما يزعمون.
4- وحدة الشهود هي النبحة الأولى من وحدة الوجود.
قال أحمد زيني دحلان، وهو قطب صوفي، توفي بالمدينة (1304هـ) تحت عنوان: فتوى بقتل من يقول بوحدة الوجود: «وسئل والد الشيخ محمد الرملي عن القائل بوحدة الوجود، (فقال): يقتل هذا المرتد وترمى جيفته للكلاب؛ لأن قوله هذا لا يقبل تأويلاً، وكفره أشدُّ من كفر اليهود والنصارى - واستحسن الشيخ ابن حجر منه هذا الفتوى، وكان قبل ذلك يتمحل لبعض الصوفية القائلين بها، ويؤوِّل كلامهم، فرجع عن تأول قول بعضهم: إن القائلين بوحدة الوجود مرادهم بها وحدة الشهود - (قال): فمن زعم أن وحدة الوجود غيرُ وحدة الشهود لم يشمَّ رائحة معنى الوحدة، فوحدة الوجود ترجع إلى وحدة الشهود من غير حلول ولا اتصال، هذا هو القول الحق».([10] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn10))
توضيحات:
1- نفي الحلول، والاتصال، أي: الاتحاد؛ لأن القول بأحدهما يقتضي وجود اثنين: وجود ربٍ خالقٍ، ووجود كونٍ مخلوق. وهذا يتناقض مع القول بوحدة الوجود.
فالحلول: هو أن يحل الأعلى في الأدنى، كاعتقاد بعض النصارى بحلول الله تعالى في عيسى – عليه السلام. والاتحاد أو الاتصال: هو أن يتحد الأدنى بالأعلى، كاعتقاد البوذيين بأن المرء- نتيجة رياضات معينة - يرتقي في الأحوال حتى يتحد بالنيرفانا، الإله الخالق.
قال ابن عجيبة في نفيه للحلول: «لا وجود للأشياء مع وجود الله؛ فانتفى القول بالحلول؛ إذ الحلول يقتضي وجود السوى، حتى يحل فيه معنى الربوبية، والغرض أن السوى عدم محض، فلا يتصور الحلول. (وقال) في نفي الاتحاد: تقرر أن الأشياء كلها في حيز العدم، إذ لا يثبت الحادث مع من له وصف القدم، فانتفى القول بالاتحاد، إذ معنى الاتحاد: هو اقتران القديم مع الحادث فيتحدان حتى يكون شيئاً واحداً، وهو محال؛ إذ هو مبني أيضا على وجود السوى، ولا سوى».([11] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn11))
2- أنهم يفتون بكفر وارتداد وقتل القائل بـ (وحدة الوجود) ظاهراً بألسنتهم؛ للتمويه والنجاة من السيف، أو لكتمان السر، الذي طالما تواصوا بكتمانه! هذا لَمَّا كان للإسلام دولة، أما اليوم فحتى لا يخسروا مراكزهم وتأثيرهم، أو حتى لا يجلبوا على أنفسهم غضبة الجمهور، لذلك كانوا حريصين على الجمع بين الظاهر، وهو التمسك بالشريعة، وبين الباطن، وهو الاعتقاد بوحدة الوجود.
لذلك كان من مصطلحاتهم الجمع والفرق، والجمع: إثبات الحق بلا خلق، وهو مقام العارفين. والفرق: إثبات الخلق مع الحق، وهو مقام المحجوبين من أهل الشريعة، أمثالنا. قال الطوسي: «إذا جمعتَ قلت: الله ولا سواه، وإذا فرقت قلت: الآخرة والدنيا والكون... وكل جمع بلا تفرقة فهو زندقة، وكل تفرقة بلا جمع فهو تعطيل».([12] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn12)) أي: على العارف أن يجمع بين الجمع والتفرقة. كيف ذلك؟
قال أبو الحسن الشاذلي، المتوفى (606هـ): «إذا أردت الوصول إلى الطريق التي لا لون فيها فليكن الفرق في لسانك موجوداً والجمع في سرك مشهوداً».([13] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn13))معنى (لا لون لها): أي: أن يمارس التَّقِيَّة، حتى لا تُعْرَف هُوِّيتُه. ومعنى (الفرق): أن يظهِر شريعة النبي المختار قولاً وعملاً. ومعنى (الجمع): أن يبطِن عقيدة وحدة الوجود، أو أنه هو الله.
وقال ابن عجيبة: «إياك أن تقول أناهُ، واحذر أن تكون سواهُ».([14] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn14))واضح أن عبارة (أناهُ) تعني: (أنا هو)، أي: (أنا الله)، فهو يقول: إياك أن تقول بلسانك للناس: (أنا الله) ولكن احذر أن تعتقد في سرك وقلبك (أنك سوى الله). وهذا المقام يسمونه مقام (التحقيق) وهو التَّقِيَّة والنفاق بعينه.
فنحن أمام وثنية جديدة ومعقدة، تسعى إلى نفي العالم، لإثبات الله وتصفه (بالحق) في مقابل وصف الدنيا أو العالم (بالباطل)، بينما كان الناس في جاهليتهم يعيشون وثنية بسيطة، فلم يكونوا ينفون وجود الله، ولكنهم كانوا يجسمونه، ويشيِّئونه، يجعلونه شيئاً، ربما صنعوه من التمر فإذا جاعوا أكلوه.
***** ***** *****
المحور الثاني- حقيقة الكون والإنسان والروح عند ابن عجيبة
تعد كتابات ابن عجيبة ، ومنبع إلهام له، وربما أهم مصادره، لذا يستحن عرض فلسفة ابن العجيبة عن الله والكون والإنسان، لنرى كيف اتبعه البعض حذو القذة بالقذة.
1- حقيقة الكون والكائنات:
قال ابن عجيبة: «اعلم أن الحق جل جلاله واحد في ملكه لا شريك معه، ولا ضد له، ولا ند له، كان ولا شيء معه وهو الآن على ما كان عليه، كان في أزل أزليته حكيماً قديراً، لطيفاً لا يدرك، خفياً لا يعرف، قائماً بذاته، متصفاً بمعاني أسمائه وصفاته، فأراد سبحانه أن يعرَّف بذاته، وأن يظهر أثر أسمائه وصفاته، فأظهر قبضة من نوره اللطيف فتكثفت بقدرته، ليتهيأ بها التعريف، ثم تنوعت [أي: تلك القبضة النورية] على عدد أسمائه وصفاته، فلما ظهرت تلك القبضة النورية، تجلى فيها باسمه (الباطن) فبطنت في ظهورها، وكمنت في مظاهرها، فالأشياء كلها مظاهر للحق، لكن لا بد للحسناء من نقاب، وللشمس من سحاب...
ثم اختلفت تلك الحكمة([15] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn15)) في نسجها وغزلها: فمنها ما رق غزله ولطف نسجه، فكان فيه النور قريباً. ومنها ما غلظ غزله وكثف نسجه، فخفي النور لأجل غلظ الستور... فالكون كله باطنه نور وظاهره ظلمة، باطنه قدرة وظاهره حكمة، باطنه لطيف وظاهره كثيف، وإليه اشار صاحب العينية بقوله: وما الكون في التمثال إلا كثلجة *** وأنت لها الماء الذي هو نابع».([16] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn16))
توضيح:
قوله: (كان ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه) نفي لهذا العالم الذي نعيش فيه، وصريح في وحدة الوجود، فلا وجود إلا لله، وهو عين الوجود، وهو واحد أزلاً وأبداً.
وقوله: (كان الحق في أزل أزليته... خفياً لا يعرف... فأراد سبحانه أن يعرف بذاته) فيه إشارة إلى حديث موضوع مختلق، لا سند له، اعتمده الصوفية، وبنوا عليه أصولاً لهم، هو (كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت خلقًا فبي عرفوني).
قوله: (فأظهر قبضة من نوره اللطيف فتكثفت بقدرته) نص صريح بأن هذا العالم جزء من الله، صادر عنه، أو إن هذا الوجود المحسوس المشهود هو التعين المكثف لوجود الله، الذي كان نوراً قبل هذه المرتبة. فقد كان في المرتبة الأولى نوراً لطيفاً، وصار في مرتبة تالية جسماً كثيفاً؛ فالأشياء كلما كانت قريبة من مصدر النور كانت رقيقة لطيفة، وكلما ابتعدت عن المصدر صارت غليظة كثيفة مظلماً.
قوله: (فالأشياء كلها مظاهر للحق) يقصدون بالحق (الله)، يستعملون الحق مقابل الباطل، الذي يصفون به الدنيا أو العالم، فالأشياء أو هذا الوجود المشهود المرئي هو تجليات ومظاهر لله تعالى، فالأشياء ظاهرها خلق، وباطنها حق، أي: أن الله عين الأشياء، أو الله والوجود وجهان لشيء واحد.
يقول الجيلي، وهو سبط عبد القادر الجيلاني، مخاطباً الله تعالى([17] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn17)):
وما الخلقُ في التمثال إلا كثلجة وأنت لها الماءُ الذي هو نابعُ
فما الثلجُ في تحقيقنا غيرُ مائه وغَيْران، في حكم دعته الشرائعُ
فالجيلي يقول: إن الخلق بالنسبة لله، كالثلج بالنسبة للماء، فكما أن الثلج ليس شيئاً سوى مائه، فكذلك الخلق ليس شيئاً سوى الله عند أهل الحقيقة، فالله عند أهل الحقيقة عين الخلق. أما أهل الشريعة القائلون بثنائية الوجود، وبأن الله غير خلقه؛ فلهم زعمهم وادعاؤهم.
ويلخص ابن عربي المذهب بعبارة، فيقول: «فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها».([18] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn18))
ويقول أيضاً: «فالله على التحقيق عبارة لمن فهم الإشارة».([19] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn19)) أي: أن (الله) ليس له مدلول آخر وراء هذا الكون، ومظاهره المحسوسة المشهودة.
وخلاصة الأمر: أن الوجود صادر عن الله - تعالى عما يقولون - صدوراً تنازلياً، عن طريق التجليات، وهذا ما يسمى بوحدة الوجود الصدورية، بمعنى: (أن كل شيء هو الله). وإذا أراد الصوفي الوصول إلى الله فعليه أن يسلك الطريق التصاعدي، وهو طريق التأمل الباطني والتجرد والمجاهدات.
وهذا ما كان يعتقده أفلوطين الإسكندراني، فقد كان يؤمن بوحدة الوجود الصدورية،([20] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn20)) التي تقول بأن المبدأ تصدر عنه الموجودات أو الله تصدر عنه المخلوقات، وهذا الصدور لا يمس جوهر الله مطلقاً، فقد كان يتصور الوجود سلسة من الحلقات المتطورة بعضها عن بعض، (فالواحد) أو الله نشأ عنه (العقل الكلي) الذي نشأت عنه (النفس الكلية) التي نشأ عنها (عالم الكون والفساد)، أي: عالم الأفلاك السيارة. وكل ذلك من غير فصل، ومن غير أن يتخلله زمن. وطريق العودة إلى الأصل أو الواحد، أي: التخلص من الناسوتية والعودة إلى الروحانية، هو التأمل الباطني والرياضات الروحية.
كثيراً ما يستعمل الصوفي مع لفظة (الحق) لفظة (الخلق)! وتفسيرُ ذلك أن الخلق متخلف في تشكله، وتطوره من ذاك الأصل الأزلي، فهو باعتبار ما كان حق، وباعتبار ما صار إليه خلق.
2- حقيقة الإنسان وخصائصه.
بعد الذي سبق قوله عن حقيقة الكون استمر ابن عجيبة في القول لبيان حقيقة الإنسان وخصائصه فقال: «ثم إن الحق سبحانه خص مظهر هذا الأدمي بخصائص لم تكن لغيره، منها: أن جعل روحه اللطيفة النورانية في قالب كثيف، ليتأتى له منه غاية التصريف...
ومنها: أنه جعله حاكماً على المظاهر كلها، مالكاً لها بأسرها، خليفة عن الله فيها...
ومنها: أن أعطاه سبحانه سبعاً من الصفات تشبه صفات المعاني الأزلية، إلا أنها ضعفت بإحاطة القهرية، وهي القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، فحصل له بهذا أنموذج وشبه بالصمدانية الربانية.
ومنها: أنه سبحانه جعله نسخة الوجود يحاكي بصورته كل موجود، فإن عرف الحق كان الوجود نسخة منه...
(قال): حقيقة الإنسان هي روحانية، وهي لطيفة نورانية لاهوتية جبروتية، ثم احتجبت ببشرية كثيفة ناسوتية...
(قال): وهذا الشبه (بالصمدانية) الذي حازه الإنسان دون غيره، هو اتصافه بشبه أوصاف الحق سبحانه، حيث جعل الله فيه قدرة وإرادة وعلماً وحياة وسمعاً وبصراً وكلاماً، وجعله نسخة من الوجود بأسره، وخليفة عن الله في حكمه، يتصرف في الأشياء باختياره في ظاهر أمره...
وخصه أيضاً، فجعله خزانة لسائر أسمائه، ففي الآدمي تسعة وتسعون اسماً، كلها كامنة في سره، ثم يظهر على ظاهره ما سبق له في علم الغيب، فالبعض يظهر عليه اسم الكريم، والبعض اسمه الرحيم، والبعض اسمه الحليم، والبعض اسمه المنتقم، والبعض اسمه المتكبر، والبعض اسمه القهار، والبعض اسمه القابض، والبعض اسمه الباسط، وقد يتعاقب عليه أسماء كثيرة في وقت واحد.
وإذا فني عن حسه وغاب عن نفسه ظهرت عليه أنوار الألوهية فينطق بالأنانية [يقول: أنا الله] غلبة ووجداً، وبها قتل الحلاج».([21] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn21))
توضيح:
- قوله: «حقيقة الإنسان هي روحانية، وهي لطيفة نورانية لاهوتية جبروتية، ثم احتجبت ببشرية كثيفة ناسوتية». صريح في أن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة: لاهوتية ناسوتية، ففي كل فرد اجتمع اللاهوت مع الناسوت، أو الروح مع الهيكل، أو المعنى مع الحس.
- وذكر أن للإنسان سبع صفات، إلا أنها ضعيفة بالنسبة لصفات الله لسببين: (الأول): أن روحه التي هي منبع تلك الصفات محبوسة في هياكل كثيفة (جعل روحه اللطيفة النورانية في قالب كثيف). (الثاني): أنها جزء من الكل، والجزء أضعف من الكل، فهي (ضعفت بإحاطة القهرية).
- أما قوله: (يتصرف في الأشياء باختياره، في ظاهر أمره) فمؤداه أن الإنسان مجبور في صورة مختار فيما يعمل أو يدَعُ من عمل، فهو ريشة في مهب الريح تلعب به الحتميات. ومن لوازم هذه العقيدة تصويبُ كلِّ عقيدة ودين، ورفعُ المسؤولية عن الإنسان.
ويأتي في هذا السياق قول الإمام الغزالي: «لو انكشف الغطاء لعرفتَ أن العبد في عين الاختيار مجبور؛ فهو إذاً مجبور على الاختيار».([22] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn22))
إن القوم دائماً يتحدثون عن الكشف والحجاب، ولا يتحدثون عن العلم والجهل؛ لأنه بالكشف وحده يصل السالك السائر إلى مقام العرفانية، والكشف طريقه التأمل الباطني مع ما يصاحبه من رياضات روحية، بينما العلمُ طريقُه النقلُ، والعقل، والبحث والاستدلال، وهو طريق المحجوبين.
- وقوله: «أنه سبحانه جعله نسخة الوجود يحاكي بصورته كل موجود، فإن عرف الحق كان الوجود نسخة منه». أي: أن الله تعالى جعل الإنسان نسخة عن الله، لأن وجود الحق هو وجود الله وحده، وما عداه فهو وَهْم، لذلك يعد الإنسان نموذجاً وصورةً مصغرة عن الوجود الكبير (الله)؛ لأنه يسري في كيانه (لطيفة نورانية لاهوتية جبروتية) فهو بروحه فرع من الأصل. وإذا وصل إلى درجة العرفان انقلبت المعادلة؛ فيصير الفرع أصلاً (فإن عرف الحق كان الوجود نسخة منه... ففي الآدمي تسعة وتسعون اسماً)، وهي عدد أسماء الله تعالى. والعبارات التالية توضح الأمر:
لهذا قال ذو النون المصري: «معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى».([23] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn23))
وقال ابن عربي: «فلا قرب أقرب من أن تكون هويتُهُ[أي هوية الله] عينَ أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى، فهو[أي الله] مشهود في خلق متوهم، فالخلق معقول[أي متوهم لا وجود له] والحقُّ محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود».([24] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn24))
وقال المرسي شيخ ابن عطاء: «لو كشف عن نور الولي لعبد من دون الله».([25] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn25))
- قال ابن عجيبة: (وخص مظهر الآدمي فجعله خزانة لسائر أسمائه، ففي الآدمي تسعة وتسعون اسماً... فالبعض يظهر عليه يظهر عليه اسم الكريم... والبعض اسمه المنتقم...).
قال القاشاني: «العبادلة: هم أرباب التجليات الأسمائية إذا تحققوا بحقيقة اسم ما من أسمائه تعالى، واتصفوا بالصفة التي هي حقيقة ذلك الاسم...».([26] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn26))
حسب معتقد القوم يبدو أن طاغية الشام ظهر عليه اسم المنتقم، واتصف بالصفة التي هي حقيقة ذلك الاسم، ففعل ما فعل من زهق الأرواح، وانتهاك الأعراض، وهدم البنيان، وحرق المحاصيل؛ لذلك قال أحدهم: إسقاط النظام هو إسقاط للإسلام.
- ثم قال ابن عجيبة: «وإذا فني عن حسه وغاب عن نفسه ظهرت عليه أنوار الألوهية فينطق بالأنانية غلبة ووجداً، وبها قتل الحلاج». الفناء – هنا - هو الفناء في الذات وهو مقام الجمع، أو التحقيق، وهو مقام خاص بالعارفين الواصلين، فالعارف أو الواصل من تحقق الإلهية، ونطق بالأنانية، أي: قال: أنا الله، كما تحققها الحلاج، فقال: أنا الحق.
وقال الإمام الغزالي في تائيته، مخاطباً الله تعالى([27] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn27)) :
وهل أنا إلا أنت ذاتاً ووحدة وهل أنت إلا نفسُ عينِ هويتي
3- أصل الروح وحقيقتها
قال ابن عجيبة: «إن الأرواح أصلها قبضة من نور الجبروت، فهي عالمة، قادرة، مريدة، سميعة، بصيرة، متكلمة، فحيث سجنت في هذه الهياكل الكثيفة، كَمُنَ فيها ذلك السر، وخفي، ولم يظهر منه إلا نموذج ضعيف، فسمع العبد وبصره وكلامه وعلمه وقدرته وإرادته وحياته بقية من تلك الصفات، ظهرت على العبد...».([28] (http://majles.alukah.net/newthread.php?do=newthread&f=2#_edn28))
توضيح:
إذا أطلق عالم الجبروت، أو عالم الأرواح، أو عالم المعاني، أو العالم الروحاني، أو الوجود الحق؛ فهي أسماء لمسمىً واحد، ويراد بها (الله) تعالى، قبل أن يتجلى في المظاهر.
إذاً، كان الكون قبضة من نور الله (فأظهر قبضة من نوره اللطيف فتكثفت بقدرته) وروح الإنسان أيضاً (أصلها قبضة من نور الجبروت) فهي قديمة أزلية؛ لأنها جزء من نور الجبروت الكلي، وهي متصفة بصفات المعاني السبع، وهي الصفات المعنوية عند الأشعرية، إلا أنها ضعيفة لسببين: أولهما: أنها جزء من الكل، ومعلوم أن قوة الجزء دون قوة الكل. والسبب الثاني: أنها سجنت وحبست في هياكل كثيفة، التي هي الأجسام، كالسيف في الغمد.
***** ***** *****
يتبع......
-----------------------------------------
([1]) ينقسم الوجود إلى ثلاثة أقسام: الواجب، وهو وجود الله تعالى بصفاته وأسمائه. والممكن، وهو وجود ما سوى الله تعالى من الموجودات المحْدَثة. ومعنى إمكانه: أنه يمكن إيجاده ويمكن إعدامه، فالكون بجميع أجزائه محدَثٌ، أي مخرج من العدم إلى الوجود، والذي أخرجه من العدم إلى الوجود هو الله تعالى. والمستحيل، وهو افتراض شريك أو زوجة أو ولد لله تعالى، أو مثيل له في ذاته أو أسمائه أو صفاته، سبحانه.
([2]) لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام (2/387)
([3]) اصطلاحات الصوفية (ص102) وانظر: لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام (2/302) كلاهما للقاشاني.
([4]) المكتوبات، الجزء الأول (المكتوب 52 ص 113) وفي المنتخبات من المكتوبات (ص 17).
([5]) مشكاة الأنوار (ص 56) تحقيق: أبو العلا العفيفي.
([6]) فصوص الحكم، فص هارون ( ص 192).
([7]) فصوص الحكم، فص إدريس (ص 76، 77)
([8]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، حكمة: من عرف الحق شهده في كل شيء... (ص 236)
([9]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، حكمة: من عرف الحق شهده في كل شيء... (ص 235- 236)
([10]) تقريب الأصول لتسهيل الوصول (ص 87) مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1420هـ = 1999م
([11]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم (ص 45- 46)
([12]) اللمع (ص 283). (التعطيل): الإلحاد.
([13]) طبقات الشعراني (2/7)
([14]) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة: شرح المباحث الأصلية لابن بنا السرقسطي (ص 347) على هامش إيقاظ الهمم.
([15]) (الحكمة): هي عالم الملك، وهي مرتبة الوجود الوهمي، وهي المرتبة الثالثة والأخيرة للوجود عنده.
([16]) الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية (ص 39- 40).
([17]) الإنسان الكامل ( ص 46).
([18]) الفتوحات المكية، طبعة دار صادر (2/459).
([19]) فصوص الحكم، فص إلياس (ص 183). تحقيق وتعليق أبو العلا عفيفي.
([20]) وهناك من يعتقد بوحدة وجود باطنة وهي التي تقول بأن الله حال في الكون، بمعنى: (أن الله هو كل شيء).
([21]) الفتوحات الإلهية، في شرح المباحث الأصلية لابن البنا السَّرقُسطي (ص 40- 42)
([22]) إحياء علوم الدين (4/254) طبعة دار الكتب العلمية أربعة أجزاء.
([23]) الرسالة القشيرية (ص 142). تحقيق عبد الحليم محمود.
([24]) فصوص الحكم، الفص هود ( ص 108).
([25]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم (ص 156).
([26]) اصطلاحات الصوفية (ص 126).
([27]) معارج القدس، ذيل (ص 188).
([28]) الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية (ص 64).