عبدالرحمن بن شيخنا
2010-10-02, 07:42 PM
الإسـعـــاد
فـي نقد أحاديث الخضاب بالسواد
الحمد لله رب العالمين، وصل اللهمَّ وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعـــد :
فهذه دراسة حديثية نقدية للأحاديث الواردة في تحريم الخضاب بالسواد، خاصة حديث ابن عباس مرفوعًا : «يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة» ؛ إذ هو من الأحاديث القليلة التي اختلف فيها نظر الأئمة إلى حد التناقض: بين من يحكم له بالصحة على شرط الشيخين، ومن يحكم عليه بالوضع !!
وقد اقتضت دراسة هذا الحديث دراسة شواهده الواردة في هذا الباب، خاصة ما جاء في حديث جابر في صحيح مسلم في قصة أبي قحافة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «جنبوه السواد»، وغيره من الروايات التي يمكن ادعاء صلاحيتها في الشواهد.
فجاءت الدراسة شاملة لكل الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، وهي: حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة، وحديث أنس، وحديث أسماء بنت أبي بكر.
والله الموفق للصواب.
* * *
· حديث ابن عباس: «يكون قوم في آخر الزمان، يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة»([1]).
دراسة الإسنـاد:
اختلف الأئمة في الحكم على هذا الحديث اختلافًا شديدًا إلى حد التناقض؛ فقد أورده ابن الجوزي في "الموضوعات"([2])، وأورده الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة"، وقال: (قال القزويني: موضوع)([3])، ولم يتعقبه الشوكاني ولا المحقق الشيخ المعلمي بشيء.
وقد صححه الضياء المقدسي في "المختارة"([4])، وقال الحافظ ابن حجر: (إسناده قوي) ([5]). وهو كما قال، إلا أن له علة؛ قال ابن الجوزي: (هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتهم به عبدالكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري). واستدرك عليه الحافظ ابن حجر فقال: (أخطأ في ذلك؛ فإن الحديث من رواية عبدالكريم الجزري الثقة المخرج له في الصحيح) ([6])، وهو الظاهر، وإن كانت أكثر الروايات قد ذكرت عبدالكريم مهملاً غير منسوب، وقد قال الذهبي: (وقد مات هو - أي ابن أبي المخارق - وعبدالكريم الجزري الحافظ في عام سبعة وعشرين ومائة، واشتركا في الرواية عن سعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وروى عنهما الثوري، وابن جريج، ومالك، فقد يشتبهان في بعض الروايات) ([7]).
وعبيد الله بن عمرو الرقي الراوي عن عبدالكريم اشتهر بالرواية عن الجزري وأكثر عنه، وعُرف به([8])، فالأصل أنه إذا روى عن عبدالكريم مهملاً أن يكون المقصود هو الجزري لا البصري، وإن كان قد روى أيضًا عن البصريين من طبقة ابن أبي المخارق كما في ترجمته([9]).
إلا أنه يشكل على استدراك الحافظ أن الطبراني رواه في الأوسط من طريق هشام الدستوائي، عن عبدالكريم أبي أمية، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا: «يكون في آخر الزمان قوم يسودون أشعارهم، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة»([10]).
وعبدالكريم أبو أمية ابن أبي المُخارق، ضعيف من السادسة([11]).
فالحديث ضعيف، إلا أنه يفيد أن لقول ابن الجوزي وجهًا من أن المهمل هو أبو أمية.
فثبت بهذا الإسناد البصري أن عبدالكريم بن أبي المخارق البصري يروي هذا الحديث، وهشام الدستوائي ثقة حافظ، وقد روى عن عبدالكريم بن أبي المخارق([12])، ولم يعرف بالرواية عن عبدالكريم الجزري، كما أن عبدالكريم بن أبي المخارق يروي عن مجاهد([13]).
فثبت بذلك وجهة ما ذكره ابن الجوزي من أن عبدالكريم هو ابن أبي المخارق، وقد نظرت في رواية عبيدالله بن عمرو الرقي، فإذا عامة الروايات عند تذكر عبدالكريم مهملاً؛ كذا رواه أحمد، وابن سعد، والموصلي، وأبو داود، والنسائي([14])، والطبراني، والبيهقي.
وإنما جاء منسوبًا في رواية الطحاوي والبغوي، والظاهر من سياق رواية البغوي أن نسبته استظهار من أحد رواة الإسناد؛ إذ قال: (عن عبدالكريم هو الجزري) فالظاهر أن من نسبه استظهر ذلك؛ لكون الراوي عنه هو عبيدالله بن عمرو لا أنه منسوب في أصل الرواية، إلا أن عبيد الله يروي عن البصريين أيضًا.
ومما يؤيد هذه الرواية عن مجاهد ما رواه معمر في "جامعه"([15])، عن خلاد بن عبدالرحمن ، عن مجاهد، قال: «يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد، لا ينظر الله إليهم». مما يؤكد أن للحديث أصلاً عن مجاهد ، كما جاء في رواية هشام، إلا أن الصواب وقفه على مجاهد، كما رواه خلاد بن عبدالرحمن، لا وصله ورفعه عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما رواه عبدالكريم بن أبي المخارق فوهم على مجاهد، ولزم الجادة لكثرة ما يرويه مجاهد عن ابن عباس، فظن هذا الحديث منها ؟! كما وهم مرة أخرى فرواه عن ابن جبير عن ابن عباس تارة موقوفًا وتارة مرفوعًا ؟! ([16]).
وهذا اضطراب من ابن أبي المخارق فيما يبدو؛ فتارة يرويه عن مجاهد عن ابن عباس، كما رواه عنه هشام. وتارة يرويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، كما رواه عبيدالله بن عمرو.
ثم على فرض صحة ما رجحه ابن حجر من أن عبدالكريم هو الجزري، فإن هذا لا يقضي للحديث بالصحة؛ للتالي:
1- أن الجزري وإن كان ثقة ، إلا أنه متكلم فيه، فقد قال عنه يحيى بن معين: "عبدالكريم عن عطاء رديء"([17]).
وقال عنه يعقوب بن شيبة: "إلى الضعف ما هو، وهو صدوق ثقة"([18]).
وقال عنه أبو أحمد الحاكم: "ليس بالحافظ عندهم"([19]).
وقال فيه ابن حبان: "كان صدوقًا، ولكنه كان ينفرد عن الثقات بالأشياء المناكير، فلا يعجبني الاحتجاج بما انفرد به من الأخبار، وإن اعتبر معتبر بما وافق الثقات من حديثه فلا ضير، وهو ممن أستخير الله فيه"([20]).
وقال عنه ابن عدي: "أحاديثه عن عطاء رديئة". وقال أيضًا: "لعبدالكريم أحاديث صالحة مستقيمة يرويها عن قوم ثقات، وإذا روى عنه الثقات فحديثه مستقيم"([21]).
وهذه الأقوال تقتضي التحري فيما انفرد به من الأخبار؛ إذ ربما حكم الأئمة على حديث الثقة المتفق على توثيقه بأنه منكر، إذا تفرد به ولم يتابع عليه عن إمام من الأئمة الذين جمع الحفاظ حديثهم؛ كقتادة والزهري وسعيد بن جبير([22]). فمن باب أولى إذا كان الثقة متكلمًا فيه كالجزري، وقد تفرد بهذا الحديث عن كل أصحاب سعيد بن جبير، ثم عن كل أصحاب ابن عباس!! وابن حبان وإن كان متساهلاً في توثيق المجاهيل لقاعدته التي التزم بها في تعريف العدل، فإنه في جرح المعروفين - من الرواة والعلماء المشاهير - ذو نظر بالغ ونقد ثاقب([23]).
وقد وافقه على تضعيف الجزري مطلقًا أو مقيدًا: يحيى بن معين، ويعقوب بن شيبة، وأبو أحمد الحاكم، وابن عدي، فلم يتفرد ابن حبان في حكمه هذا ، وإن كان أكثرهم تشددًا. وكل ذلك كاف للحكم على الحديث بأنه منكر، وإن كان قوي الإسناد؛ إذ ليس كل ما صح سندًا صح متنًا.
2- أن عبيد الله بن عمرو الرقي الراوي عن عبدالكريم ثقة ربما أخطأ([24])، وقد قال عنه ابن حجر: "ثقة فقيه ربما وهم"([25])، ولم يتابع على روايته عن عبدالكريم، ولا عن سعيد بن جبير، ولا عن ابن عباس، ولا عن أحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم !!
وقد قال أبو بكر البرديجي الحافظ: (إن المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة، أو عن التابعين عن الصحابة، لا يعرف ذلك الحديث - وهو متن الحديث - إلا من طريق الذي رواه، فيكون منكرًا).
قال ابن رجب بعد عبارة البرديجي : (ذكر هذا الكلام في سياق ما إذا انفرد شعبة أو سعيد بن أبي عروبة أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا كالتصريح بأن كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يعرف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبدالله بن دينار) ([26]).
فإذا كان هذا حال ما انفرد به أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج عن قتادة عن أنس في نظر البرديجي، فكيف بما انفرد به عبيد الله بن عمرو عن عبدالكريم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ؟!! لا شك بأنه أحق باسم المنكر.
3- أنه رواه تارة مرفوعًا وتارة موقوفًا، وقد رواه ابن الجوزي في الموضوعات بإسناد صحيح عن عبدالجبار بن عاصم عن عبيدالله بن عمرو به، موقوفًا على ابن عباس لم يرفعه([27]). وعبدالجبار ثقة باتفاق([28]). وقد أراد ابن الجوزي إعلاله بذلك.
وقد قال الحافظ ابن حجر: "وإسناده قوي، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه"([29]). وهذه علة توهن الحديث عند بعض الأئمة قديمًا، فإن منهم من يعل المرفوع بالموقوف والمسند بالمرسل مطلقًا([30]). وهذا الاختلاف هو من عبيدالله بن عمرو فيما يبدو.
وأما قول الحافظ ابن حجر: "وعلى تقدير ترجيح وقفه فمثله لا يقال بالرأي، فحكمه الرفع"([31]) - فغير مسلم له فيه ؛ إذ الحديث منكر من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس، فلا يثبت مرفوعًا ولا موقوفًا ولا مقطوعًا.
وإنما يثبت عن مجاهد مقطوعًا عليه.
ثم على فرض صحة وقفه على ابن جبير أو ابن عباس، فلا يبعد أن يكون قد بلغه عن أهل الكتاب، فقد جاء عن الزهري قال: "مكتوب في التوراة: ملعون من غيرها بالسواد. يعني اللحية"([32]). ومثله ما ثبت عن مجاهد قال: "يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد لا ينظر الله إليهم"، أو قال: "لا خلاق لهم"([33])، لا يقال بأن له حكم الرفع بدعوى أن مثله لا يقال بالرأي؛ إذ احتمال أخذه عن أهل الكتاب وارد كما جاء عن الزهري، وإلا لرفعه مجاهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يسنده إلى من سمعه منه، أما أن يرسله ولا يرفعه فلا يكون لمثله حكم الرفع؛ لشيوع الأخذ عن أهل الكتاب في ذلك العصر، ولا يبعد أن يكون عبدالكريم الجزري - وهو من تلاميذ مجاهد - قد سمعه من مجاهد([34])، فوهم على سعيد بن جبير أو دلسه عنه.
4- أن كل من روى هذا الحديث رواه بالعنعنة في كل طبقات الإسناد، لم يصرح فيه بالسماع، فقد رواه الناس عن عبيدالله بن عمرو، عن عبدالكريم، عن سعيد، عن ابن عباس معنعنًا، ولم أقف على رواية واحدة فيها تصريح بالسماع مع كثرة الرواة عن عبيدالله بن عمرو، مما يثير الشك في احتمال وقوع التدليس في الإسناد، وعبدالكريم الجزري ذكره ابن أبي حاتم في "المراسيل" وروى عن علي بن المديني قوله عنه: إنه لم يسمع من البراء([35]).
والبراء هو ابن زيد البصري، ابن بنت أنس بن مالك، ولم يرو عنه سوى عبدالكريم الجزري([36]).
وهذا وصم له بالتدليس من علي بن المديني؛ إذ إن الجزري أدرك أنس بن مالك ورآه([37]). فالظاهر أنه عاصر وأدرك حفيده البراء بن زيد من باب أولي، فتكون روايته عنه حينئذ من باب التدليس، إذ لم يثبت له منه سماع كما نص على ذلك ابن المديني.
وقد قال المحقق المعلمي: "إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة، فإنهم يتطلبون له علة ؛ فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا، حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست قادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر، فمن ذلك إعلاله بأن راويه لم يصرح بالسماع، هذا مع أن الراوي غير مدلس)([38]). ثم ذكر أمثلة من تصرف البخاري وابن المديني وأبي حاتم في الإعلال بعدم التصريح بالسماع، مع أن الراوي لم يعرف بالتدليس.
فكيف إذا كان الراوي قد وُصم بالتدليس كالجزري وإن لم يذكر في المدلسين؛ إذ لم يشتهر به ولم يكثر منه.
وعلى كل حال، فإن العنعنة في حديث منكر نحو هذا الحديث توهن من قوته، على فرض أنه ليس في رجاله مدلس؛ إذ عدها بعض أهل الحديث من قبيل المنقطع، وإن كان الجمهور على خلاف([39]).
5- أن أيوب السختياني سأل سعيد بن جبير عن صبغ اللحية بالوسمة، فقال: "يعمد أحدكم إلى نور جعله الله في وجهه فيطفئه".
رواه عبدالرزاق قال: أخبرنا معمر، عن أيوب ، قال: سمعت سعيد بن جبير([40]).
وهذا إسناد مسلسل بالأئمة الحفاظ الأثبات، فلو كان الحديث الذي رواه عبدالكريم عن سعيد بن جبير محفوظًا عن ابن جبير، لما عدل سعيد عن الاحتجاج به - حين سأله أيوب عن صبغ اللحية بالسواد - إلى قوله : "يعمد أحدكم إلى نور.."، ولذكر له حديث : «يكون قوم آخر الزمان..»؛ لما فيه من الوعيد الشديد الدال على حرمة هذا الفعل، وأنه من الكبائر.
وقد رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن حماد بن زيد، عن أيوب، سمعت سعيد بن جبير وسئل عن الخضاب بالوسمة فكرهه، فقال: يكسو الله العبد في وجهه النور ثم يطفئه بالسواد([41]).
6 - أن محمد بن الحنفية سئل عن الخضاب بالوسمة فقال: "هي خضابنا أهل البيت". وكان هو يختضب بالسواد([42]).
وبعيد أن يروى ذلك عن أهل البيت - وابن عباس فقيههم - لو كان حديث عبدالكريم عن سعيد عن ابن عباس محفوظًا عنه.
وقد ثبت عن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - أنهما كانا يصبغان بالسواد([43]). وهذا يؤكد صحة ما جاء عن ابن الحنفية، من نسبته الخضاب بالسواد إلى أهل البيت. وكذا كان علي بن عبدالله بن عباس يخضب لحيته بالسواد([44]).
فكيف يتواطأ أهل البيت على فعل ما فيه مثل هذا الوعيد الشديد، وراويه هو ابن عباس فقيه أهل البيت ثم لا ينهاهم ولا يخبرهم بهذا الوعيد وهو بين ظهرانيهم؟!
فاجتمع في حديث ابن عباس هذا ست علل إسنادية، هـي:
أ ) تفرد راويه في روايته عن إمام كبير وهو سعيد بن جبير، مع كثرة أصحابه الذين حفظوا حديثه ورووا عنه.
ب) وعدم وجود متابع له عن ابن عباس مع كثرة أصحابه الذين رووا عنه، ولا شاهد له عن أحد من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ج ) وضعف في راوي الحديث عبدالكريم الجزري، خاصة فيما انفرد به من المناكير عن الرواة المشاهير، وهذا الحديث أحدها؛ إذ لا يُروى ولا يعرف هذا الحديث لا عن سعيد بن جبير، ولا عن ابن عباس ، ولا عن أحد من الصحابة الآخرين عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طريق عبدالكريم ، بل ولم يروه عن عبدالكريم إلا عبيد الله بن عمرو الرقي، فيما وقفت عليه من الروايات، وهذا أشد أنواع المنكر نكارة، حيث لا يعرف من حديث أحد من الصحابة إلا عن ابن عباس، ولا يعرف من حديث أحد من التابعين إلا عن سعيد بن جبير، ولا يعرف من حديث أحد من أتباع التابعين إلا عن عبدالكريم الجزري، ولا يرويه أحد من أتباعه إلا عبيدالله بن عمرو([45]) !! وهذا كله على فرض أن عبدالكريم هو الجزري كما يرى الحافظ ابن حجر، لا عبدالكريم البصري الضعيف كما يراه ابن الجوزي.
د ) كما لم يُصرح فيه بالسماع في أي من طبقات الإسناد في جميع روايات هذا الحديث، مع وصم ابن المديني لعبدالكريم بالتدليس في روايته عن البراء بن زيد البصري مع عدم سماعه منه.
هـ) الاختلاف على راويه وقفًا ورفعًا، مع ما قيل فيه بأنه ربما وهم، مما يثير الشك في ضبطه لهذا الحديث.
و ) تردد الاسم المهمل بين عبدالكريم الجزري الثقة، والبصري الضعيف، دون قيام دليل قاطع على أيهما الراوي لهذا الحديث ، مما يورث الشك في صحته. هذا على فرض عدم وجود دليل خارجي يرجح أحدهما، فكيف وقد روى هشام الدستوائي ما يرجح أنه عن عبدالكريم بن أبي المخارق البصري ؟!
ز ) كما أنه يعارض ما جاء عن أهل البيت - وابن عباس فقيههم - من أن خضابهم السواد ، وقد ثبت ذلك عن الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، ونسبه إلى أهل البيت.
وكذلك في الحديث علتان في المتن توجبان التوقف فيه :
الأولى : أنه يعارض ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين :
· قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»([46]). وفـي رواية: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى»([47]). فأمر بالتغيير مطلقًا ولم يستثن شيئًا من الأصباغ. وقد كان هذا الأمر بالخضاب وصبغ الشيب متأخرًا، كما قال الطحاوي: "في هذه الآثار إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن اليهود والنصارى كانوا لا يخضبون ، فعقلنا بذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان في البدء على مثل ما كانوا عليه؛ لما قد ذكرناه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيما لم يؤمر فيه بشيء يحب موافقة أهل الكتاب على ما هم عليه منه ؛ فكان صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى أحدث الله عز وجل له في شريعتهما يخالف ذلك من الخضاب ؛ فأمر به، وبخلاف ما عليه اليهود والنصارى من تركه، وعقلنا بذلك أن جميع ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في الأمر باستعمال الخضاب متأخر عن ذلك) ([48]).
ويؤكده أن راوي هذا الحديث هو أبو هريرة، وهو متأخر الإسلام؛ إذ هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر، في السنة السابعة من الهجرة([49]).
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الصحابة بصبغ الشيب ومخالفة أهل الكتاب الذين لا يصبغون، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يبين لهم ما الصبغ الجائز من الصبغ الممنوع، ومعلوم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالصبغ وتغيير الشيب مطلقًا، وهذا بإطلاقه يشمل جميع أنواع الصبغ بما فيها الوسمة وهي السواد. ولا يقال بأن هذا التعارض بين حديث ابن عباس هذا وحديث أبي هريرة يزول بحديث جابر مرفوعًا: «غيروا، وجنبوه السواد»، بدعوى أن هذا يقيد حديث أبي هريرة ويوافق حديث ابن عباس؛ إذ هذا الحديث إنما قاله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في حق أبي قحافة عندما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأن رأسه ثغامة(*) بيضاء.
· فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد»([50])، وفـي رواية: «غيروا هذا بشيء»([51])، وفـي رواية : «غيروا، أو اخضبوا»([52])، وفـي رواية: «غيروه، وجنبوه السواد»([53]).
فلا يقوى مثل هذا الحديث - الذي هو حادثة عين - على تخصيص عموم حديث أبي هريرة لو صح، فكيف وقد اضطرب راويه - وهو أبو الزبير المكي - في روايته؛ فتارة يقول: «غيروا هذا بشيء» مطلقًا، وتارة يقول: «غيروه وجنبوه السواد»، وقد رواه عنه بالإطلاق دون لفظ: «وجنبوه السواد»:
1 - زهير بن معاوية أبو خيثمة؛ كما عند مسلم وأحمد. وقد صرح زهير بالسماع من أبي الزبير عند أحمد، وفـي روايته: (قال زهير: قلت لأبي الزبير: أقال جنبوه السواد؟ قال: لا)، وكذا رواه علي بن الجعد في مسنده، وأبو داود الطيالسي([54]).
2- عزرة بن ثابت كما عند النسائي بإسناد صحيح، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن أبي قحافة: «غيروا أو اخضبوا».
وكذا رواه الحاكم من طريق عزرة بلفظ : «اخضبوا لحيته»([55]).
وقد رواه عن أبي الزبير بزيادة : «وجنبوه السواد» كل من :
1- ابن جريج: كما عند مسلم إلا أنه لم يصرح فيه بالسماع، ولم أقف على تصريح بالسماع له من أبي الزبير في جميع المصادر التي روته من طريق ابن جريج، بل رواه عنه معنعنًا وهو مشهور بالتدليس، وقد أورد مسلم روايته في المتابعات بعد رواية زهير بن معاوية([56]).
2- ليث بن أبي سليم: كما عند أحمد، وابن ماجه، ومعمر في الجامع، وابن أبي شيبة. إلا أن ليثًا شديد الضعف مع صلاحه وصدقه في نفسه([57])، وقد أجمل فيه الحافظ ابن حجر القول فقال: "صدوق اختلط جدًا، ولم يتميز حديثه فترك"([58]). وقد وهم الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى - فظن ليثًا هذا هو ابن سعد، وهو لا يروي عن أبي الزبير إلا ما كان قد سمع من جابر، ولهذا صححه الشيخ الألباني([59]). والصحيح أن الراوي هو ليث بن أبي سليم المتروك([60]).
3- الأجلح بن عبدالله عن أبي الزبير عن جابر: كما عند الموصلي والطبراني([61])، وقال: (لم يروه عن الأجلح إلا شريك). وفيه علل:
أ ) ضعف الأجلح([62]).
ب) وضعف في شريك بن عبدالله([63]).
ج ) عنعنة شريك وهو مدلس([64]).
4- أيوب عن أبي الزبير عن جابر:
كذا رواه أبو عوانة([65])، عن أحمد بن إبراهيم، عن عبدالرحمن بن المبارك، عن عبدالوارث بن سعيد، عن أيوب، عن أبي الزبير، به؛ كما رواه ابن جريج.
وهو غريب جدًا من هذا الطريق، فلم أقف عليه من حديث أيوب - مع إمامته وكثرة الرواة عنه - إلا عند أبي عوانة، ولم أجد من تابع أحمد بن إبراهيم على روايته عن عبدالرحمن بن المبارك، ولا من تابعه على روايته عن عبدالوارث بن سعيد، ولا عن أيوب ؟!! وليس أحمد بن إبراهيم ممن يحتمل منه مثل هذا التفرد عن هؤلاء الأئمة.
وعلى كل، فليس فيه تصريح بالسماع بين أبي الزبير عن جابر، بل ثبت عنه أنه لم يسمع من جابر زيادة (وجنبوه السواد).
فإذا كان الأمر كذلك فالراجح عن أبي الزبير هو ما رواه عنه أبو خيثمة زهيربن معاوية وعزرة بن ثابت، وكلاهما ثقة ثبت، وقد صرح زهير بالسماع من أبي الزبير وقد سأله عن الزيادة : «وجنبوه السواد» فأنكرها ونفاها؛ فثبت بذلك أن رواية ابن جريج في صحيح مسلم مدلسة، وقد تكون بلغته عن ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، فدلسها ابن جريج عن أبي الزبير ، أو يكون أبو الزبير إنما يرويها عن جابر بالعنعنة تدليسًا، فلما أوقفه زهير وسأله عن سماعه لهذه اللفظة نفاها، ولعله لهذا السبب قدم مسلم رواية زهير، ثم أورد رواية ابن جريج بعدها في المتابعات.
وعلى كل، فالصحيح عن أبي الزبير ما رواه زهير وعزرة، وهي الرواية الموافقة لحديث أبي هريرة في الصحيحين بلفظ الإطلاق، وأما الزيادة : «وجنبوه السواد» فلا تثبت عن أبي الزبير عن جابر، وقد نص أبو الزبير نفسه أنها ليست من حديثه، وهذا وحده كاف في إثبات بطلانها وعدم صحتها، وإن كانت في صحيح مسلم.
ثم إنه على فرض صحتها عنه فقد تكلم الأئمة في أبي الزبير، واشترطوا لقبول حديثه تصريحه بالسماع لكونه معروفًا بالتدليس، ولم يصرح ههنا بالسماع في كل الروايات عنه([66]).
وعليه، ففي حديث ابن جريج عن أبي الزبير في صحيح مسلم علل، هي:
1- عنعنة ابن جريج عن أبي الزبير، وهو مدلس لا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالسماع([67]).
2- تفرد ابن وهب المصري في رواية هذا الحديث عن ابن جريج؛ إذ كل من رواه من طريق ابن جريج إنما رواه عن ابن وهب عنه، وقد تكلم يحيى بن معين في روايته عن ابن جريج، وقال: (ليس بذاك في ابن جريج، وكان يستصغره) ([68]).
3- عنعنة أبي الزبير عن جابر، ولم يصرح بالسماع وهو مدلس.
4- الاختلاف على أبي الزبير في لفظ هذا الحديث.
5- نفي أبي الزبير نفسه زيادة لفظ : «وجنبوه السواد»، وهي أقوى هذه العلل، وهي التي كشفت تدليس ابن جريج لهذا الحديث عن أبي الزبير، وأنه لم يسمعه منه، أو سمعه منه دون هذه الزيادة ودلسها عنه؛ ولهذا أوردها مسلم في المتابعات، وتجنب أحمد روايتها من حديث ابن جريج، وأخرج رواية زهير التي فيها تصريح أبي الزبير بنفي هذه الزيادة.
· دراسة شواهد حديث جابر : «وجنبوه السواد» :
1 - حديث عبدالعزيز بن أبي رواد، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة مرفوعًا:
«غيروا الشيب ، ولا تشبهوا باليهود، واجتنبوا السواد»([69]).
وهو من مناكير ابن أبي رواد، وقد أورده ابن عدي في "الكامل" على أنه منها([70]). وعبدالعزيز متكلم فيه؛ قال عنه علي بن الجنيد : "كان ضعيفًا وأحاديثه منكرات" ([71]). وقال ابن حبان: "يحدث على الوهم والحسبان، فسقط الاحتجاج به"([72]).
وقد انفرد ابن أبي رواد بهذه الزيادة: «واجتنبوا السواد»؛ إذ لم يتابعه على روايتها أحد ممن روى هذا الحديث عن أبي هريرة، كما لم أجد من تابعه على روايته هذا الحديث عن محمد بن زياد، فثبت صحة صنيع ابن عدي حين أورد هذا الحديث من مناكيره فمثله لا يكون شاهدًا؛ إذ المنكر أبدًا منكر.
وقد روى الطبراني من طريق أبي غسان النميري، عن أبي سفيان المديني، عن داود بن فراهيج، عن أبي هريرة قصة أبي قحافة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم عن شيبه: «غيروه، وجنبوا السواد»([73])، وقال : "لم يروه عن داود إلا أبو سفيان".
وداود ضعفه شعبة بن الحجاج، ويحيى بن معين في إحدى الروايتين عنه. وقال تارة: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: صدوق([74]).
فاجتمع في هذا الحديث :
1- جهالة في أبي غسان النميري ، الراوي عن أبي سفيان.
2- وتفرده بهذا الإسناد.
3- وضعف في داود بن فراهيج.
4- وعدم متابعة أحد من أصحاب أبي هريرة مع كثرتهم له في روايته هذا الحديث من قصة أبي قحافة؛ فالحديث منكر.
2- حديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - لما جيء بأبي قحافة إليه عام الفتح - : «غيروهما - أي رأسه ولحيته - وجنبوه السواد»([75]).
وهشام بن حسان مدلس، وقد جعله ابن حجر في المرتبة الثالثة في المدلسين([76])، وهم من أكثروا من التدليس، فلم يحتج الأئمة إلا بما صرحوا فيه بالسماع([77]).
ولم يصرح هشام بالسماع في جميع الروايات عنه، بل رواه معنعنًا. وقد رواه هكذا: (سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شاب إلا يسيرًا، ولكن أبا بكر وعمر بعده خضبا بالحناء والكتم.
قال : وجاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة، يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «غيروهما، وجنبوه السواد».
والجزء الأول من الحديث ثابت عن أنس في الصحيحين من طرق كثيرة، منها: حديث ثابت أن أنسًا سئل: خضب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: "لم يبلغ شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يخضب . . . ولكن أبا بكر كان يخضب بالحناء، وكان عمر يخضب بالحناء) ([78]).
كما رواه عاصم الأحول وأيوب السختياني كلاهما عن محمد بن سيرين([79])، بنحو حديث ثابت عن أنس. وكذلك رواه عبدالله بن إدريس وروح بن عبادة، كلاهما عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، ولفظه: (سئل أنس بن مالك: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إنه لم يكن رأى من الشيب إلا - كأنه يقلّله - وقد خضب أبو بكر وعمر بالحناء والكتم) ([80]). فلم يذكر أحد ممن رواه عن هشام بن حسان، ولا ممن رواه عن ابن سيرين، ولا ممن رواه عن أنس، الزيادة التي جاءت في آخره وهي: (قال: وجاء أبو بكر بأبيه . . . إلخ) مما يثير الشك في صحتها، والظاهر أن هشام بن حسان روى الجزء الأول عن ابن سيرين عن أنس، ثم ذكر الزيادة في آخره وفصلها عن أول الحديث؛ ولهذا قال الراوي عنه - وهو محمد بن سلمة الحراني - في آخره : (قال: وجاء أبو بكر بأبيه . . . إلخ). وهذا يشعر بأن هذه الزيادة ليست متصلة بالحديث، ويبدو أن هشام بن حسان أو الراوي عنه قد دلسها، والمقصود بقول الراوي : (قال: وجاء . . . إلخ) هو هشام بن حسان.
ومما يؤكد أن هذه الزيادة ليست عند محمد بن سيرين: ما رواه ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية عن ابن عون قال: (كانوا يسألون محمدًا عن الخضاب بالسواد، فقال: لا أعلم به بأسًا) ([81]). وهذا إسناد مسلسل بالأئمة الحفاظ الأثبات. فكيف يقول محمد بن سيرين بأنه لا يعلم بالخضاب بالسواد بأسًا، وهو يروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن شيب رأس أبي قحافة ولحيته: «غيروهما وجنبوه السواد»؟!
وقد قال ابن رجب في شرح العلل: (قاعدة: في تضعيف حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه) ([82])، وقد ذكر عن أحمد وأكثر الحفاظ أنهم كانوا يعلون الأحاديث بمثل هذا.
وعلى هذا، فهشام بن حسان معروف بالتدليس، ولم يصرح بالسماع في هذه الرواية التي فيها هذه الزيادة، وهذا وحده كاف في تضعيفها، فكيف وقد ثبت عن محمد بن سيرين ما يعارضها ؟! كما لم يتابع أحد محمد بن سلمة الحراني على روايتها، لا عن هشام بن حسان، ولا عن محمد بن سيرين، ولا عن أنس بن مالك([83])، وهذا كاف للحكم على هذه الزيادة في حديث محمد بن سيرين بأنها منكرة.
نعم، رواه سعد بن إسحاق عن أنس مرفوعًا: «غيروا الشيب، ولا تقربوا السواد»([84]). وقد تفرد بروايته ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن سعد، به. وفيه ثلاث علل:
أ ) ضعف عبدالله بن لَهِيعة([85]).
ب) وعنعنته وهو مشهور بالتدليس([86])، وقد ذكره ابن حجر في المرتبة الخامسة، وهي أضعف المراتب، وهم من جمعوا مع ضعفهم التدليس، فلا يقبل ما صرحوا فيه بالسماع حتى يتابعوا إن كان ضعفهم خفيفًا([87]).
ج) وتفرده بهذا الإسناد وهذا اللفظ، وهو من مناكيره فلا يصلح متابعًا لمنكر مثله، ولا يتقوى أحدهما بالآخر.
3- الشاهد الثالث: ما رواه عبدالرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق من حديث أسماء بنت أبي بكر، وفيه : «وجنبوه السواد»([88]). وقد رواه الحفاظ عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر الصديق في قصة إسلام أبي قحافة عام الفتح، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: «غيروا هذا من شعره»([89])، أي الشيب، وليس فيه: «وجنبوه السواد».
وقد رواه عبدالرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق، به. وزاد في روايته: «وجنبوه السواد» وتفرد بهذه الزيادة، وليست هي عند ابن هشام في "مختصر السيرة" ، ولا عند ثقات أصحاب محمد بن إسحاق. والمحاربي قال عنه الحافظ في التقريب: "لا بأس به وكان يدلس"([90])، وقد رواه معنعنًا، فهي زيادة منكرة.
4 - الشاهد الرابع : حديث عباد بن عباد عن معمر عن الزهري، رفعه :
أنا أبا بكر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيه يوم الفتح وهو أبيض الرأس واللحية، كأن رأسه ولحيته ثغامة بيضاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا تركت الشيخ حتى أكون أنا آتيه»، ثم قال: «اخضبوه، وجنبوه السواد»([91]).
وهذا حديث مرسل، وفيه علة أيضًا، فقد رواه عبدالرزاق في الجامع([92]) عن الزهري مرسلاً مطولاً، وفيه: "وأمر بأن يغيروا شعره"، وليس فيه زيادة «اخضبوه وجنبوه السواد» ؟!
فثبت أن هذه الزيادة ليست في جامع معمر - رواية عبدالرزاق - وأنها من أوهام عباد بن عباد الراوي عن معمر، فإنه وإن كان ثقة إلا أنه يهم أحيانًا، حتى قال فيه أبو حاتم: (لا بأس به، قيل له: يُحتج بحديثه؟ قال:لا)([93]). ولهذا اعتذر ابن حجر عن تخريج البخاري له بقوله: "ليس له في البخاري سوى حديثين أحدهما في الصلاة بمتابعة شعبة وغيره، والثاني في الاعتصام بمتابعة إسماعيل بن زكريا) ([94]).
كما لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة شيئًا عن معمر بن راشد([95]).
ومما يؤكد عدم صحة هذه الزيادة عن معمر عن الزهري: ما ثبت عن الزهري نفسه أنه كان يصبغ بالسواد ولا يرى به بأسًا كما رواه معمر عنه([96]).
بل إن هذا اللفظ الذي رواه عباد بن عباد عن معمر عن الزهري مرسلاً، مطابق للفظ حديث معمر عن ليث بن أبي سليم عن أبي الزبير عن جابر، قال: (أتي بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح كأن رأسه ثغامة بيضاء . . . ) ([97]). فالظاهر أنه خلط بين حديث معمر عن ليث الذي فيه هذا اللفظ، وحديث معمر عن الزهري مرسلاً الذي ليس فيه سوى قوله (وأمر بأن يغيروا شعره). فثبت بذلك أنه من أوهامه، وأنه لا أصل له عن الزهري بهذه الزيادة ، ولم يتابع عليها من حديث الزهري، ولهذا عزاها في كنـز العمال إلى الحارث وحده([98]). ويحتمل أن الوهم من معمر نفسه، فقد ضعف الأئمة رواية أهل البصرة عنه - وعباد بصري - لكونه كان يحدث من حفظه فيخلط، بخلاف روايته في اليمن حيث كان يراجع كتبه([99]).
· وعليه فزيادة لفظ: «واجتنبوا السواد» لا تثبت: لا من حديث جابر بن عبدالله؛ إذ نفاها أبو الزبير نفسه، ولا من حديث أبي هريرة؛ وقد أوردها ابن عدي في مناكير ابن أبي رواد، ولا من حديث أنس، ولا من حديث أسماء، وأن الصحيح المحفوظ من حديث أبي هريرة وجابر وأسماء الأمر بتغيير الشيب وصبغه مطلقًا، دون استثناء السواد.
· وقد روى نافع بن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً: «غيروا، ولا تشبهوا باليهود»([100])، وكان نافع يصبغ بالسواد([101]). فحمل الحديث على عمومه.
· كما روى ابن جريج عن الزهري مرسلاً، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «غيروا بالأصباغ»، قال ابن شهاب: «وأحبها إليَّ أحلكها»([102]).
ورواه معمر عن الزهري قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأصباغ». فأحلكها أحب إلينا، يعني أسودها([103]). والزهري هو راوي حديث أبي هريرة: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»([104]). وكان الزهري يصبغ بالسواد([105]).
فقد حمل الزهري الأمر بالصبغ على عمومه، ولم يستثن السواد من الأصباغ، بل كان يستحبه ويقدمه عليها، وهذا يرجح عدم صحة الاستثناء الوارد في حديث أبي هريرة - كما في رواية ابن أبي رواد المنكرة - وكذا عدم ثبوت هذا الاستثناء عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظر الزهري، وإلا لما خالفه.
فـي نقد أحاديث الخضاب بالسواد
الحمد لله رب العالمين، وصل اللهمَّ وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعـــد :
فهذه دراسة حديثية نقدية للأحاديث الواردة في تحريم الخضاب بالسواد، خاصة حديث ابن عباس مرفوعًا : «يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة» ؛ إذ هو من الأحاديث القليلة التي اختلف فيها نظر الأئمة إلى حد التناقض: بين من يحكم له بالصحة على شرط الشيخين، ومن يحكم عليه بالوضع !!
وقد اقتضت دراسة هذا الحديث دراسة شواهده الواردة في هذا الباب، خاصة ما جاء في حديث جابر في صحيح مسلم في قصة أبي قحافة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «جنبوه السواد»، وغيره من الروايات التي يمكن ادعاء صلاحيتها في الشواهد.
فجاءت الدراسة شاملة لكل الأحاديث الواردة في هذا الموضوع، وهي: حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة، وحديث أنس، وحديث أسماء بنت أبي بكر.
والله الموفق للصواب.
* * *
· حديث ابن عباس: «يكون قوم في آخر الزمان، يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة»([1]).
دراسة الإسنـاد:
اختلف الأئمة في الحكم على هذا الحديث اختلافًا شديدًا إلى حد التناقض؛ فقد أورده ابن الجوزي في "الموضوعات"([2])، وأورده الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة"، وقال: (قال القزويني: موضوع)([3])، ولم يتعقبه الشوكاني ولا المحقق الشيخ المعلمي بشيء.
وقد صححه الضياء المقدسي في "المختارة"([4])، وقال الحافظ ابن حجر: (إسناده قوي) ([5]). وهو كما قال، إلا أن له علة؛ قال ابن الجوزي: (هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتهم به عبدالكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري). واستدرك عليه الحافظ ابن حجر فقال: (أخطأ في ذلك؛ فإن الحديث من رواية عبدالكريم الجزري الثقة المخرج له في الصحيح) ([6])، وهو الظاهر، وإن كانت أكثر الروايات قد ذكرت عبدالكريم مهملاً غير منسوب، وقد قال الذهبي: (وقد مات هو - أي ابن أبي المخارق - وعبدالكريم الجزري الحافظ في عام سبعة وعشرين ومائة، واشتركا في الرواية عن سعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وروى عنهما الثوري، وابن جريج، ومالك، فقد يشتبهان في بعض الروايات) ([7]).
وعبيد الله بن عمرو الرقي الراوي عن عبدالكريم اشتهر بالرواية عن الجزري وأكثر عنه، وعُرف به([8])، فالأصل أنه إذا روى عن عبدالكريم مهملاً أن يكون المقصود هو الجزري لا البصري، وإن كان قد روى أيضًا عن البصريين من طبقة ابن أبي المخارق كما في ترجمته([9]).
إلا أنه يشكل على استدراك الحافظ أن الطبراني رواه في الأوسط من طريق هشام الدستوائي، عن عبدالكريم أبي أمية، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعًا: «يكون في آخر الزمان قوم يسودون أشعارهم، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة»([10]).
وعبدالكريم أبو أمية ابن أبي المُخارق، ضعيف من السادسة([11]).
فالحديث ضعيف، إلا أنه يفيد أن لقول ابن الجوزي وجهًا من أن المهمل هو أبو أمية.
فثبت بهذا الإسناد البصري أن عبدالكريم بن أبي المخارق البصري يروي هذا الحديث، وهشام الدستوائي ثقة حافظ، وقد روى عن عبدالكريم بن أبي المخارق([12])، ولم يعرف بالرواية عن عبدالكريم الجزري، كما أن عبدالكريم بن أبي المخارق يروي عن مجاهد([13]).
فثبت بذلك وجهة ما ذكره ابن الجوزي من أن عبدالكريم هو ابن أبي المخارق، وقد نظرت في رواية عبيدالله بن عمرو الرقي، فإذا عامة الروايات عند تذكر عبدالكريم مهملاً؛ كذا رواه أحمد، وابن سعد، والموصلي، وأبو داود، والنسائي([14])، والطبراني، والبيهقي.
وإنما جاء منسوبًا في رواية الطحاوي والبغوي، والظاهر من سياق رواية البغوي أن نسبته استظهار من أحد رواة الإسناد؛ إذ قال: (عن عبدالكريم هو الجزري) فالظاهر أن من نسبه استظهر ذلك؛ لكون الراوي عنه هو عبيدالله بن عمرو لا أنه منسوب في أصل الرواية، إلا أن عبيد الله يروي عن البصريين أيضًا.
ومما يؤيد هذه الرواية عن مجاهد ما رواه معمر في "جامعه"([15])، عن خلاد بن عبدالرحمن ، عن مجاهد، قال: «يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد، لا ينظر الله إليهم». مما يؤكد أن للحديث أصلاً عن مجاهد ، كما جاء في رواية هشام، إلا أن الصواب وقفه على مجاهد، كما رواه خلاد بن عبدالرحمن، لا وصله ورفعه عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما رواه عبدالكريم بن أبي المخارق فوهم على مجاهد، ولزم الجادة لكثرة ما يرويه مجاهد عن ابن عباس، فظن هذا الحديث منها ؟! كما وهم مرة أخرى فرواه عن ابن جبير عن ابن عباس تارة موقوفًا وتارة مرفوعًا ؟! ([16]).
وهذا اضطراب من ابن أبي المخارق فيما يبدو؛ فتارة يرويه عن مجاهد عن ابن عباس، كما رواه عنه هشام. وتارة يرويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، كما رواه عبيدالله بن عمرو.
ثم على فرض صحة ما رجحه ابن حجر من أن عبدالكريم هو الجزري، فإن هذا لا يقضي للحديث بالصحة؛ للتالي:
1- أن الجزري وإن كان ثقة ، إلا أنه متكلم فيه، فقد قال عنه يحيى بن معين: "عبدالكريم عن عطاء رديء"([17]).
وقال عنه يعقوب بن شيبة: "إلى الضعف ما هو، وهو صدوق ثقة"([18]).
وقال عنه أبو أحمد الحاكم: "ليس بالحافظ عندهم"([19]).
وقال فيه ابن حبان: "كان صدوقًا، ولكنه كان ينفرد عن الثقات بالأشياء المناكير، فلا يعجبني الاحتجاج بما انفرد به من الأخبار، وإن اعتبر معتبر بما وافق الثقات من حديثه فلا ضير، وهو ممن أستخير الله فيه"([20]).
وقال عنه ابن عدي: "أحاديثه عن عطاء رديئة". وقال أيضًا: "لعبدالكريم أحاديث صالحة مستقيمة يرويها عن قوم ثقات، وإذا روى عنه الثقات فحديثه مستقيم"([21]).
وهذه الأقوال تقتضي التحري فيما انفرد به من الأخبار؛ إذ ربما حكم الأئمة على حديث الثقة المتفق على توثيقه بأنه منكر، إذا تفرد به ولم يتابع عليه عن إمام من الأئمة الذين جمع الحفاظ حديثهم؛ كقتادة والزهري وسعيد بن جبير([22]). فمن باب أولى إذا كان الثقة متكلمًا فيه كالجزري، وقد تفرد بهذا الحديث عن كل أصحاب سعيد بن جبير، ثم عن كل أصحاب ابن عباس!! وابن حبان وإن كان متساهلاً في توثيق المجاهيل لقاعدته التي التزم بها في تعريف العدل، فإنه في جرح المعروفين - من الرواة والعلماء المشاهير - ذو نظر بالغ ونقد ثاقب([23]).
وقد وافقه على تضعيف الجزري مطلقًا أو مقيدًا: يحيى بن معين، ويعقوب بن شيبة، وأبو أحمد الحاكم، وابن عدي، فلم يتفرد ابن حبان في حكمه هذا ، وإن كان أكثرهم تشددًا. وكل ذلك كاف للحكم على الحديث بأنه منكر، وإن كان قوي الإسناد؛ إذ ليس كل ما صح سندًا صح متنًا.
2- أن عبيد الله بن عمرو الرقي الراوي عن عبدالكريم ثقة ربما أخطأ([24])، وقد قال عنه ابن حجر: "ثقة فقيه ربما وهم"([25])، ولم يتابع على روايته عن عبدالكريم، ولا عن سعيد بن جبير، ولا عن ابن عباس، ولا عن أحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم !!
وقد قال أبو بكر البرديجي الحافظ: (إن المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة، أو عن التابعين عن الصحابة، لا يعرف ذلك الحديث - وهو متن الحديث - إلا من طريق الذي رواه، فيكون منكرًا).
قال ابن رجب بعد عبارة البرديجي : (ذكر هذا الكلام في سياق ما إذا انفرد شعبة أو سعيد بن أبي عروبة أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا كالتصريح بأن كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يعرف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبدالله بن دينار) ([26]).
فإذا كان هذا حال ما انفرد به أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج عن قتادة عن أنس في نظر البرديجي، فكيف بما انفرد به عبيد الله بن عمرو عن عبدالكريم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ؟!! لا شك بأنه أحق باسم المنكر.
3- أنه رواه تارة مرفوعًا وتارة موقوفًا، وقد رواه ابن الجوزي في الموضوعات بإسناد صحيح عن عبدالجبار بن عاصم عن عبيدالله بن عمرو به، موقوفًا على ابن عباس لم يرفعه([27]). وعبدالجبار ثقة باتفاق([28]). وقد أراد ابن الجوزي إعلاله بذلك.
وقد قال الحافظ ابن حجر: "وإسناده قوي، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه"([29]). وهذه علة توهن الحديث عند بعض الأئمة قديمًا، فإن منهم من يعل المرفوع بالموقوف والمسند بالمرسل مطلقًا([30]). وهذا الاختلاف هو من عبيدالله بن عمرو فيما يبدو.
وأما قول الحافظ ابن حجر: "وعلى تقدير ترجيح وقفه فمثله لا يقال بالرأي، فحكمه الرفع"([31]) - فغير مسلم له فيه ؛ إذ الحديث منكر من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس، فلا يثبت مرفوعًا ولا موقوفًا ولا مقطوعًا.
وإنما يثبت عن مجاهد مقطوعًا عليه.
ثم على فرض صحة وقفه على ابن جبير أو ابن عباس، فلا يبعد أن يكون قد بلغه عن أهل الكتاب، فقد جاء عن الزهري قال: "مكتوب في التوراة: ملعون من غيرها بالسواد. يعني اللحية"([32]). ومثله ما ثبت عن مجاهد قال: "يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد لا ينظر الله إليهم"، أو قال: "لا خلاق لهم"([33])، لا يقال بأن له حكم الرفع بدعوى أن مثله لا يقال بالرأي؛ إذ احتمال أخذه عن أهل الكتاب وارد كما جاء عن الزهري، وإلا لرفعه مجاهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يسنده إلى من سمعه منه، أما أن يرسله ولا يرفعه فلا يكون لمثله حكم الرفع؛ لشيوع الأخذ عن أهل الكتاب في ذلك العصر، ولا يبعد أن يكون عبدالكريم الجزري - وهو من تلاميذ مجاهد - قد سمعه من مجاهد([34])، فوهم على سعيد بن جبير أو دلسه عنه.
4- أن كل من روى هذا الحديث رواه بالعنعنة في كل طبقات الإسناد، لم يصرح فيه بالسماع، فقد رواه الناس عن عبيدالله بن عمرو، عن عبدالكريم، عن سعيد، عن ابن عباس معنعنًا، ولم أقف على رواية واحدة فيها تصريح بالسماع مع كثرة الرواة عن عبيدالله بن عمرو، مما يثير الشك في احتمال وقوع التدليس في الإسناد، وعبدالكريم الجزري ذكره ابن أبي حاتم في "المراسيل" وروى عن علي بن المديني قوله عنه: إنه لم يسمع من البراء([35]).
والبراء هو ابن زيد البصري، ابن بنت أنس بن مالك، ولم يرو عنه سوى عبدالكريم الجزري([36]).
وهذا وصم له بالتدليس من علي بن المديني؛ إذ إن الجزري أدرك أنس بن مالك ورآه([37]). فالظاهر أنه عاصر وأدرك حفيده البراء بن زيد من باب أولي، فتكون روايته عنه حينئذ من باب التدليس، إذ لم يثبت له منه سماع كما نص على ذلك ابن المديني.
وقد قال المحقق المعلمي: "إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة، فإنهم يتطلبون له علة ؛ فإذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا، حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست قادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر، فمن ذلك إعلاله بأن راويه لم يصرح بالسماع، هذا مع أن الراوي غير مدلس)([38]). ثم ذكر أمثلة من تصرف البخاري وابن المديني وأبي حاتم في الإعلال بعدم التصريح بالسماع، مع أن الراوي لم يعرف بالتدليس.
فكيف إذا كان الراوي قد وُصم بالتدليس كالجزري وإن لم يذكر في المدلسين؛ إذ لم يشتهر به ولم يكثر منه.
وعلى كل حال، فإن العنعنة في حديث منكر نحو هذا الحديث توهن من قوته، على فرض أنه ليس في رجاله مدلس؛ إذ عدها بعض أهل الحديث من قبيل المنقطع، وإن كان الجمهور على خلاف([39]).
5- أن أيوب السختياني سأل سعيد بن جبير عن صبغ اللحية بالوسمة، فقال: "يعمد أحدكم إلى نور جعله الله في وجهه فيطفئه".
رواه عبدالرزاق قال: أخبرنا معمر، عن أيوب ، قال: سمعت سعيد بن جبير([40]).
وهذا إسناد مسلسل بالأئمة الحفاظ الأثبات، فلو كان الحديث الذي رواه عبدالكريم عن سعيد بن جبير محفوظًا عن ابن جبير، لما عدل سعيد عن الاحتجاج به - حين سأله أيوب عن صبغ اللحية بالسواد - إلى قوله : "يعمد أحدكم إلى نور.."، ولذكر له حديث : «يكون قوم آخر الزمان..»؛ لما فيه من الوعيد الشديد الدال على حرمة هذا الفعل، وأنه من الكبائر.
وقد رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن حماد بن زيد، عن أيوب، سمعت سعيد بن جبير وسئل عن الخضاب بالوسمة فكرهه، فقال: يكسو الله العبد في وجهه النور ثم يطفئه بالسواد([41]).
6 - أن محمد بن الحنفية سئل عن الخضاب بالوسمة فقال: "هي خضابنا أهل البيت". وكان هو يختضب بالسواد([42]).
وبعيد أن يروى ذلك عن أهل البيت - وابن عباس فقيههم - لو كان حديث عبدالكريم عن سعيد عن ابن عباس محفوظًا عنه.
وقد ثبت عن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - أنهما كانا يصبغان بالسواد([43]). وهذا يؤكد صحة ما جاء عن ابن الحنفية، من نسبته الخضاب بالسواد إلى أهل البيت. وكذا كان علي بن عبدالله بن عباس يخضب لحيته بالسواد([44]).
فكيف يتواطأ أهل البيت على فعل ما فيه مثل هذا الوعيد الشديد، وراويه هو ابن عباس فقيه أهل البيت ثم لا ينهاهم ولا يخبرهم بهذا الوعيد وهو بين ظهرانيهم؟!
فاجتمع في حديث ابن عباس هذا ست علل إسنادية، هـي:
أ ) تفرد راويه في روايته عن إمام كبير وهو سعيد بن جبير، مع كثرة أصحابه الذين حفظوا حديثه ورووا عنه.
ب) وعدم وجود متابع له عن ابن عباس مع كثرة أصحابه الذين رووا عنه، ولا شاهد له عن أحد من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ج ) وضعف في راوي الحديث عبدالكريم الجزري، خاصة فيما انفرد به من المناكير عن الرواة المشاهير، وهذا الحديث أحدها؛ إذ لا يُروى ولا يعرف هذا الحديث لا عن سعيد بن جبير، ولا عن ابن عباس ، ولا عن أحد من الصحابة الآخرين عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طريق عبدالكريم ، بل ولم يروه عن عبدالكريم إلا عبيد الله بن عمرو الرقي، فيما وقفت عليه من الروايات، وهذا أشد أنواع المنكر نكارة، حيث لا يعرف من حديث أحد من الصحابة إلا عن ابن عباس، ولا يعرف من حديث أحد من التابعين إلا عن سعيد بن جبير، ولا يعرف من حديث أحد من أتباع التابعين إلا عن عبدالكريم الجزري، ولا يرويه أحد من أتباعه إلا عبيدالله بن عمرو([45]) !! وهذا كله على فرض أن عبدالكريم هو الجزري كما يرى الحافظ ابن حجر، لا عبدالكريم البصري الضعيف كما يراه ابن الجوزي.
د ) كما لم يُصرح فيه بالسماع في أي من طبقات الإسناد في جميع روايات هذا الحديث، مع وصم ابن المديني لعبدالكريم بالتدليس في روايته عن البراء بن زيد البصري مع عدم سماعه منه.
هـ) الاختلاف على راويه وقفًا ورفعًا، مع ما قيل فيه بأنه ربما وهم، مما يثير الشك في ضبطه لهذا الحديث.
و ) تردد الاسم المهمل بين عبدالكريم الجزري الثقة، والبصري الضعيف، دون قيام دليل قاطع على أيهما الراوي لهذا الحديث ، مما يورث الشك في صحته. هذا على فرض عدم وجود دليل خارجي يرجح أحدهما، فكيف وقد روى هشام الدستوائي ما يرجح أنه عن عبدالكريم بن أبي المخارق البصري ؟!
ز ) كما أنه يعارض ما جاء عن أهل البيت - وابن عباس فقيههم - من أن خضابهم السواد ، وقد ثبت ذلك عن الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، ونسبه إلى أهل البيت.
وكذلك في الحديث علتان في المتن توجبان التوقف فيه :
الأولى : أنه يعارض ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين :
· قال: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»([46]). وفـي رواية: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى»([47]). فأمر بالتغيير مطلقًا ولم يستثن شيئًا من الأصباغ. وقد كان هذا الأمر بالخضاب وصبغ الشيب متأخرًا، كما قال الطحاوي: "في هذه الآثار إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن اليهود والنصارى كانوا لا يخضبون ، فعقلنا بذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان في البدء على مثل ما كانوا عليه؛ لما قد ذكرناه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيما لم يؤمر فيه بشيء يحب موافقة أهل الكتاب على ما هم عليه منه ؛ فكان صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى أحدث الله عز وجل له في شريعتهما يخالف ذلك من الخضاب ؛ فأمر به، وبخلاف ما عليه اليهود والنصارى من تركه، وعقلنا بذلك أن جميع ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في الأمر باستعمال الخضاب متأخر عن ذلك) ([48]).
ويؤكده أن راوي هذا الحديث هو أبو هريرة، وهو متأخر الإسلام؛ إذ هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر، في السنة السابعة من الهجرة([49]).
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الصحابة بصبغ الشيب ومخالفة أهل الكتاب الذين لا يصبغون، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يبين لهم ما الصبغ الجائز من الصبغ الممنوع، ومعلوم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالصبغ وتغيير الشيب مطلقًا، وهذا بإطلاقه يشمل جميع أنواع الصبغ بما فيها الوسمة وهي السواد. ولا يقال بأن هذا التعارض بين حديث ابن عباس هذا وحديث أبي هريرة يزول بحديث جابر مرفوعًا: «غيروا، وجنبوه السواد»، بدعوى أن هذا يقيد حديث أبي هريرة ويوافق حديث ابن عباس؛ إذ هذا الحديث إنما قاله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في حق أبي قحافة عندما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأن رأسه ثغامة(*) بيضاء.
· فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد»([50])، وفـي رواية: «غيروا هذا بشيء»([51])، وفـي رواية : «غيروا، أو اخضبوا»([52])، وفـي رواية: «غيروه، وجنبوه السواد»([53]).
فلا يقوى مثل هذا الحديث - الذي هو حادثة عين - على تخصيص عموم حديث أبي هريرة لو صح، فكيف وقد اضطرب راويه - وهو أبو الزبير المكي - في روايته؛ فتارة يقول: «غيروا هذا بشيء» مطلقًا، وتارة يقول: «غيروه وجنبوه السواد»، وقد رواه عنه بالإطلاق دون لفظ: «وجنبوه السواد»:
1 - زهير بن معاوية أبو خيثمة؛ كما عند مسلم وأحمد. وقد صرح زهير بالسماع من أبي الزبير عند أحمد، وفـي روايته: (قال زهير: قلت لأبي الزبير: أقال جنبوه السواد؟ قال: لا)، وكذا رواه علي بن الجعد في مسنده، وأبو داود الطيالسي([54]).
2- عزرة بن ثابت كما عند النسائي بإسناد صحيح، عن أبي الزبير، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن أبي قحافة: «غيروا أو اخضبوا».
وكذا رواه الحاكم من طريق عزرة بلفظ : «اخضبوا لحيته»([55]).
وقد رواه عن أبي الزبير بزيادة : «وجنبوه السواد» كل من :
1- ابن جريج: كما عند مسلم إلا أنه لم يصرح فيه بالسماع، ولم أقف على تصريح بالسماع له من أبي الزبير في جميع المصادر التي روته من طريق ابن جريج، بل رواه عنه معنعنًا وهو مشهور بالتدليس، وقد أورد مسلم روايته في المتابعات بعد رواية زهير بن معاوية([56]).
2- ليث بن أبي سليم: كما عند أحمد، وابن ماجه، ومعمر في الجامع، وابن أبي شيبة. إلا أن ليثًا شديد الضعف مع صلاحه وصدقه في نفسه([57])، وقد أجمل فيه الحافظ ابن حجر القول فقال: "صدوق اختلط جدًا، ولم يتميز حديثه فترك"([58]). وقد وهم الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى - فظن ليثًا هذا هو ابن سعد، وهو لا يروي عن أبي الزبير إلا ما كان قد سمع من جابر، ولهذا صححه الشيخ الألباني([59]). والصحيح أن الراوي هو ليث بن أبي سليم المتروك([60]).
3- الأجلح بن عبدالله عن أبي الزبير عن جابر: كما عند الموصلي والطبراني([61])، وقال: (لم يروه عن الأجلح إلا شريك). وفيه علل:
أ ) ضعف الأجلح([62]).
ب) وضعف في شريك بن عبدالله([63]).
ج ) عنعنة شريك وهو مدلس([64]).
4- أيوب عن أبي الزبير عن جابر:
كذا رواه أبو عوانة([65])، عن أحمد بن إبراهيم، عن عبدالرحمن بن المبارك، عن عبدالوارث بن سعيد، عن أيوب، عن أبي الزبير، به؛ كما رواه ابن جريج.
وهو غريب جدًا من هذا الطريق، فلم أقف عليه من حديث أيوب - مع إمامته وكثرة الرواة عنه - إلا عند أبي عوانة، ولم أجد من تابع أحمد بن إبراهيم على روايته عن عبدالرحمن بن المبارك، ولا من تابعه على روايته عن عبدالوارث بن سعيد، ولا عن أيوب ؟!! وليس أحمد بن إبراهيم ممن يحتمل منه مثل هذا التفرد عن هؤلاء الأئمة.
وعلى كل، فليس فيه تصريح بالسماع بين أبي الزبير عن جابر، بل ثبت عنه أنه لم يسمع من جابر زيادة (وجنبوه السواد).
فإذا كان الأمر كذلك فالراجح عن أبي الزبير هو ما رواه عنه أبو خيثمة زهيربن معاوية وعزرة بن ثابت، وكلاهما ثقة ثبت، وقد صرح زهير بالسماع من أبي الزبير وقد سأله عن الزيادة : «وجنبوه السواد» فأنكرها ونفاها؛ فثبت بذلك أن رواية ابن جريج في صحيح مسلم مدلسة، وقد تكون بلغته عن ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، فدلسها ابن جريج عن أبي الزبير ، أو يكون أبو الزبير إنما يرويها عن جابر بالعنعنة تدليسًا، فلما أوقفه زهير وسأله عن سماعه لهذه اللفظة نفاها، ولعله لهذا السبب قدم مسلم رواية زهير، ثم أورد رواية ابن جريج بعدها في المتابعات.
وعلى كل، فالصحيح عن أبي الزبير ما رواه زهير وعزرة، وهي الرواية الموافقة لحديث أبي هريرة في الصحيحين بلفظ الإطلاق، وأما الزيادة : «وجنبوه السواد» فلا تثبت عن أبي الزبير عن جابر، وقد نص أبو الزبير نفسه أنها ليست من حديثه، وهذا وحده كاف في إثبات بطلانها وعدم صحتها، وإن كانت في صحيح مسلم.
ثم إنه على فرض صحتها عنه فقد تكلم الأئمة في أبي الزبير، واشترطوا لقبول حديثه تصريحه بالسماع لكونه معروفًا بالتدليس، ولم يصرح ههنا بالسماع في كل الروايات عنه([66]).
وعليه، ففي حديث ابن جريج عن أبي الزبير في صحيح مسلم علل، هي:
1- عنعنة ابن جريج عن أبي الزبير، وهو مدلس لا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالسماع([67]).
2- تفرد ابن وهب المصري في رواية هذا الحديث عن ابن جريج؛ إذ كل من رواه من طريق ابن جريج إنما رواه عن ابن وهب عنه، وقد تكلم يحيى بن معين في روايته عن ابن جريج، وقال: (ليس بذاك في ابن جريج، وكان يستصغره) ([68]).
3- عنعنة أبي الزبير عن جابر، ولم يصرح بالسماع وهو مدلس.
4- الاختلاف على أبي الزبير في لفظ هذا الحديث.
5- نفي أبي الزبير نفسه زيادة لفظ : «وجنبوه السواد»، وهي أقوى هذه العلل، وهي التي كشفت تدليس ابن جريج لهذا الحديث عن أبي الزبير، وأنه لم يسمعه منه، أو سمعه منه دون هذه الزيادة ودلسها عنه؛ ولهذا أوردها مسلم في المتابعات، وتجنب أحمد روايتها من حديث ابن جريج، وأخرج رواية زهير التي فيها تصريح أبي الزبير بنفي هذه الزيادة.
· دراسة شواهد حديث جابر : «وجنبوه السواد» :
1 - حديث عبدالعزيز بن أبي رواد، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة مرفوعًا:
«غيروا الشيب ، ولا تشبهوا باليهود، واجتنبوا السواد»([69]).
وهو من مناكير ابن أبي رواد، وقد أورده ابن عدي في "الكامل" على أنه منها([70]). وعبدالعزيز متكلم فيه؛ قال عنه علي بن الجنيد : "كان ضعيفًا وأحاديثه منكرات" ([71]). وقال ابن حبان: "يحدث على الوهم والحسبان، فسقط الاحتجاج به"([72]).
وقد انفرد ابن أبي رواد بهذه الزيادة: «واجتنبوا السواد»؛ إذ لم يتابعه على روايتها أحد ممن روى هذا الحديث عن أبي هريرة، كما لم أجد من تابعه على روايته هذا الحديث عن محمد بن زياد، فثبت صحة صنيع ابن عدي حين أورد هذا الحديث من مناكيره فمثله لا يكون شاهدًا؛ إذ المنكر أبدًا منكر.
وقد روى الطبراني من طريق أبي غسان النميري، عن أبي سفيان المديني، عن داود بن فراهيج، عن أبي هريرة قصة أبي قحافة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم عن شيبه: «غيروه، وجنبوا السواد»([73])، وقال : "لم يروه عن داود إلا أبو سفيان".
وداود ضعفه شعبة بن الحجاج، ويحيى بن معين في إحدى الروايتين عنه. وقال تارة: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: صدوق([74]).
فاجتمع في هذا الحديث :
1- جهالة في أبي غسان النميري ، الراوي عن أبي سفيان.
2- وتفرده بهذا الإسناد.
3- وضعف في داود بن فراهيج.
4- وعدم متابعة أحد من أصحاب أبي هريرة مع كثرتهم له في روايته هذا الحديث من قصة أبي قحافة؛ فالحديث منكر.
2- حديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - لما جيء بأبي قحافة إليه عام الفتح - : «غيروهما - أي رأسه ولحيته - وجنبوه السواد»([75]).
وهشام بن حسان مدلس، وقد جعله ابن حجر في المرتبة الثالثة في المدلسين([76])، وهم من أكثروا من التدليس، فلم يحتج الأئمة إلا بما صرحوا فيه بالسماع([77]).
ولم يصرح هشام بالسماع في جميع الروايات عنه، بل رواه معنعنًا. وقد رواه هكذا: (سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شاب إلا يسيرًا، ولكن أبا بكر وعمر بعده خضبا بالحناء والكتم.
قال : وجاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة، يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «غيروهما، وجنبوه السواد».
والجزء الأول من الحديث ثابت عن أنس في الصحيحين من طرق كثيرة، منها: حديث ثابت أن أنسًا سئل: خضب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: "لم يبلغ شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يخضب . . . ولكن أبا بكر كان يخضب بالحناء، وكان عمر يخضب بالحناء) ([78]).
كما رواه عاصم الأحول وأيوب السختياني كلاهما عن محمد بن سيرين([79])، بنحو حديث ثابت عن أنس. وكذلك رواه عبدالله بن إدريس وروح بن عبادة، كلاهما عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين، ولفظه: (سئل أنس بن مالك: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إنه لم يكن رأى من الشيب إلا - كأنه يقلّله - وقد خضب أبو بكر وعمر بالحناء والكتم) ([80]). فلم يذكر أحد ممن رواه عن هشام بن حسان، ولا ممن رواه عن ابن سيرين، ولا ممن رواه عن أنس، الزيادة التي جاءت في آخره وهي: (قال: وجاء أبو بكر بأبيه . . . إلخ) مما يثير الشك في صحتها، والظاهر أن هشام بن حسان روى الجزء الأول عن ابن سيرين عن أنس، ثم ذكر الزيادة في آخره وفصلها عن أول الحديث؛ ولهذا قال الراوي عنه - وهو محمد بن سلمة الحراني - في آخره : (قال: وجاء أبو بكر بأبيه . . . إلخ). وهذا يشعر بأن هذه الزيادة ليست متصلة بالحديث، ويبدو أن هشام بن حسان أو الراوي عنه قد دلسها، والمقصود بقول الراوي : (قال: وجاء . . . إلخ) هو هشام بن حسان.
ومما يؤكد أن هذه الزيادة ليست عند محمد بن سيرين: ما رواه ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية عن ابن عون قال: (كانوا يسألون محمدًا عن الخضاب بالسواد، فقال: لا أعلم به بأسًا) ([81]). وهذا إسناد مسلسل بالأئمة الحفاظ الأثبات. فكيف يقول محمد بن سيرين بأنه لا يعلم بالخضاب بالسواد بأسًا، وهو يروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن شيب رأس أبي قحافة ولحيته: «غيروهما وجنبوه السواد»؟!
وقد قال ابن رجب في شرح العلل: (قاعدة: في تضعيف حديث الراوي إذا روى ما يخالف رأيه) ([82])، وقد ذكر عن أحمد وأكثر الحفاظ أنهم كانوا يعلون الأحاديث بمثل هذا.
وعلى هذا، فهشام بن حسان معروف بالتدليس، ولم يصرح بالسماع في هذه الرواية التي فيها هذه الزيادة، وهذا وحده كاف في تضعيفها، فكيف وقد ثبت عن محمد بن سيرين ما يعارضها ؟! كما لم يتابع أحد محمد بن سلمة الحراني على روايتها، لا عن هشام بن حسان، ولا عن محمد بن سيرين، ولا عن أنس بن مالك([83])، وهذا كاف للحكم على هذه الزيادة في حديث محمد بن سيرين بأنها منكرة.
نعم، رواه سعد بن إسحاق عن أنس مرفوعًا: «غيروا الشيب، ولا تقربوا السواد»([84]). وقد تفرد بروايته ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن سعد، به. وفيه ثلاث علل:
أ ) ضعف عبدالله بن لَهِيعة([85]).
ب) وعنعنته وهو مشهور بالتدليس([86])، وقد ذكره ابن حجر في المرتبة الخامسة، وهي أضعف المراتب، وهم من جمعوا مع ضعفهم التدليس، فلا يقبل ما صرحوا فيه بالسماع حتى يتابعوا إن كان ضعفهم خفيفًا([87]).
ج) وتفرده بهذا الإسناد وهذا اللفظ، وهو من مناكيره فلا يصلح متابعًا لمنكر مثله، ولا يتقوى أحدهما بالآخر.
3- الشاهد الثالث: ما رواه عبدالرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق من حديث أسماء بنت أبي بكر، وفيه : «وجنبوه السواد»([88]). وقد رواه الحفاظ عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر الصديق في قصة إسلام أبي قحافة عام الفتح، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: «غيروا هذا من شعره»([89])، أي الشيب، وليس فيه: «وجنبوه السواد».
وقد رواه عبدالرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق، به. وزاد في روايته: «وجنبوه السواد» وتفرد بهذه الزيادة، وليست هي عند ابن هشام في "مختصر السيرة" ، ولا عند ثقات أصحاب محمد بن إسحاق. والمحاربي قال عنه الحافظ في التقريب: "لا بأس به وكان يدلس"([90])، وقد رواه معنعنًا، فهي زيادة منكرة.
4 - الشاهد الرابع : حديث عباد بن عباد عن معمر عن الزهري، رفعه :
أنا أبا بكر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيه يوم الفتح وهو أبيض الرأس واللحية، كأن رأسه ولحيته ثغامة بيضاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا تركت الشيخ حتى أكون أنا آتيه»، ثم قال: «اخضبوه، وجنبوه السواد»([91]).
وهذا حديث مرسل، وفيه علة أيضًا، فقد رواه عبدالرزاق في الجامع([92]) عن الزهري مرسلاً مطولاً، وفيه: "وأمر بأن يغيروا شعره"، وليس فيه زيادة «اخضبوه وجنبوه السواد» ؟!
فثبت أن هذه الزيادة ليست في جامع معمر - رواية عبدالرزاق - وأنها من أوهام عباد بن عباد الراوي عن معمر، فإنه وإن كان ثقة إلا أنه يهم أحيانًا، حتى قال فيه أبو حاتم: (لا بأس به، قيل له: يُحتج بحديثه؟ قال:لا)([93]). ولهذا اعتذر ابن حجر عن تخريج البخاري له بقوله: "ليس له في البخاري سوى حديثين أحدهما في الصلاة بمتابعة شعبة وغيره، والثاني في الاعتصام بمتابعة إسماعيل بن زكريا) ([94]).
كما لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة شيئًا عن معمر بن راشد([95]).
ومما يؤكد عدم صحة هذه الزيادة عن معمر عن الزهري: ما ثبت عن الزهري نفسه أنه كان يصبغ بالسواد ولا يرى به بأسًا كما رواه معمر عنه([96]).
بل إن هذا اللفظ الذي رواه عباد بن عباد عن معمر عن الزهري مرسلاً، مطابق للفظ حديث معمر عن ليث بن أبي سليم عن أبي الزبير عن جابر، قال: (أتي بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح كأن رأسه ثغامة بيضاء . . . ) ([97]). فالظاهر أنه خلط بين حديث معمر عن ليث الذي فيه هذا اللفظ، وحديث معمر عن الزهري مرسلاً الذي ليس فيه سوى قوله (وأمر بأن يغيروا شعره). فثبت بذلك أنه من أوهامه، وأنه لا أصل له عن الزهري بهذه الزيادة ، ولم يتابع عليها من حديث الزهري، ولهذا عزاها في كنـز العمال إلى الحارث وحده([98]). ويحتمل أن الوهم من معمر نفسه، فقد ضعف الأئمة رواية أهل البصرة عنه - وعباد بصري - لكونه كان يحدث من حفظه فيخلط، بخلاف روايته في اليمن حيث كان يراجع كتبه([99]).
· وعليه فزيادة لفظ: «واجتنبوا السواد» لا تثبت: لا من حديث جابر بن عبدالله؛ إذ نفاها أبو الزبير نفسه، ولا من حديث أبي هريرة؛ وقد أوردها ابن عدي في مناكير ابن أبي رواد، ولا من حديث أنس، ولا من حديث أسماء، وأن الصحيح المحفوظ من حديث أبي هريرة وجابر وأسماء الأمر بتغيير الشيب وصبغه مطلقًا، دون استثناء السواد.
· وقد روى نافع بن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً: «غيروا، ولا تشبهوا باليهود»([100])، وكان نافع يصبغ بالسواد([101]). فحمل الحديث على عمومه.
· كما روى ابن جريج عن الزهري مرسلاً، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «غيروا بالأصباغ»، قال ابن شهاب: «وأحبها إليَّ أحلكها»([102]).
ورواه معمر عن الزهري قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأصباغ». فأحلكها أحب إلينا، يعني أسودها([103]). والزهري هو راوي حديث أبي هريرة: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»([104]). وكان الزهري يصبغ بالسواد([105]).
فقد حمل الزهري الأمر بالصبغ على عمومه، ولم يستثن السواد من الأصباغ، بل كان يستحبه ويقدمه عليها، وهذا يرجح عدم صحة الاستثناء الوارد في حديث أبي هريرة - كما في رواية ابن أبي رواد المنكرة - وكذا عدم ثبوت هذا الاستثناء عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظر الزهري، وإلا لما خالفه.