سليمان الخراشي
2007-05-29, 08:04 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
لعل بعض طلبة العلم قد قرأ قول شيخ الإسلام عن الشهرستاني صاحب كتاب " الملل والنِحل " في رده على الرافضي ، قال :
"أما قوله إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية. فليس كذلك، بل يميل كثيراً إلى أشياء من أمورهم، بل يذكر أحياناً أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية منهم ويوجهه ولذا اتهمه الناس بأنه من الإسماعيلية، وإن لم يكن الأمر كذلك، وقد ذكر من التهمه شواهد من كلامه وسيرته، وقد يقال: هو مع الشيعة بوجه، ومع أصحاب الأشعري بوجه... وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم...". ( منهاج السنة 6/306) .
ومن قرأ كتاب " الملل والنِحل " لا يتبين له بوضوح ماذكره شيخ الإسلام .
وقد وجدتُ الأخ الكريم محمد بن ناصر السحيباني – وفقه الله – قد حقق هذه المسألة في رسالته للماجستير : " منهج الشهرستاني في كتابه الملل والنِحل – عرض وتقويم " ، فأحببتُ نقله للإخوة الكرام :
ذكر المبحث الرابع : ( اتهامه بالميل إلى الفلاسفة الباطنية ) : ونقل عمن نسبه .
ثم قال ( ص 82-83) :المطلب الثاني : ميله إلى الفلاسفة ونصرة مذاهبهم والذب عنها.
أولاً: المؤلف –كما سبق- اشتغل بعلم الكلام والفلسفة وما يتعلق بهما، ووجه نشاطه، وأفرغ جهده في ذلك، تعلماً وتحصيلاً، ومن ثم تعليماً وتلقيناً للناس، مع إهمال العلوم الشرعية –التي اشتغل بتحصيلها في أول عمره كما يظهر من أقواله- سواء تحصيلاً أو تعليماً. ومؤلفاته شاهدة بذلك – كما سبق ذكرها-؛ إذ تكاد تخلو من مؤلف في العلوم الشرعية، إذا ما استثنينا علم التفسير، الذي لم يسلم من ذلك ، بل تضمن مسائل وأصولاً باطنية- كما سيأتي بيانه.
ثانياً: حديث المؤلف عن الفلاسفة: فقد توسع في الحديث عنهم، وفصّل القول في جوانب من آرائهم وحكمهم، وكذلك سعى في إظهارهم بصورة مقبولة وحسنة أمام الناس، وذلك بإضفاء صبغة التوحيد، والإيمان بوجود الله عز وجل عليهم؛ إذ تحدث عنهم بصورة الموحدين المقرين بالله عز وجل كما في كتابه الملل والنحل وهذا خلاف ما عرف واشتهر عنهم من الوثنية والشرك والإلحاد.
ثالثاً: إن كثرة إطلاع المؤلف، وكثرة حديثه عنهم والخوض في آرائهم فيه دلالة على الميل إليهم أو الاستئناس بذكرهم، وخاصة إذا كان على الصورة السابقة.
إضافة إلى موافقته –كغيره من المتكلمين- للفلاسفة في بعض المسائل والآراء، بل إن المنهج الذي سار عليه في مؤلفاته ومناقشته مستمد من أولئك، وهو تقديم الجانب العقلي على الجانب الشرعي في المسائل والآراء التي يوردها.
إلا أن ذلك لا يعني أن المؤلف أصبح كأحدهم أو من في حكمهم، فهو مع تأثره بهم إلا أنه انتقد أكثر آرائهم ورد عليهم في مواضع من كتبه، فهو لم يخرج عن كونه أحد المتكلمين من الأشاعرة " .
ثم قال ( ص 86-87) :
" إن المتأمل في كتاب الملل والنحل والمستعرض لما تضمنه يلحظ في ثنايا عرض المؤلف بعض الأفكار التي تشعر بميله إلى بعض مبادئ وأفكار الرافضة، ومن جملة ذلك ما يلي:
1-حديثه عن الخلافات التي وقعت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله بعد ذكره ما حصل في عهد علي -رضي الله عنه- وقد خصه بذلك دون الخلفاء الثلاثة: "وفي الجملة كان علي –رضي الله عنه- مع الحق والحق معه" وذكرها أيضاً في موضع آخر.
2-إطراؤه بعض أئمة آل البيت، ومبالغته في ذلك: كمحمد بن الحنفية، وجعفر الصادق في غير موضع، ووصفهما بصفات أعلى من صفات البشرية.
3-ميله للقول بالوصية والإمامة، وأن بعضها مستقر، وبعضها مستودع، في أكثر من موضع،
4-قوله بمسألة النور الخفي، وتقريرها بمنحى باطني.
5-إطراؤه الشديد وثناؤه على آباء الرسول صلى الله عليه وسلم وخاصة عبدالمطلب، وغير ذلك.
إن المتأمل في تلك المواضع يلحظ تأثر المؤلف بالتشيع، والتأثر محصور في ميله إلى بعض أفكار الرافضة في آل البيت؛ من محبتهم والغلو فيهم، حيث حكى بعض ما قاله أولئك الرافضة عن آل البيت، المتضمن الغلو فيهم، ورفعهم فوق مرتبتهم ومنـزلتهم البشرية.
وقد يقول قائل: إن هذه الإشارات والأمثلة يسيرة، ولا تدل دلالة صريحة وقطعية على ميل المؤلف إلى الفكر الباطني أو التأثر به.
فيجاب بأن هذا الالتماس حسن ومقبول، لو لم تقم أدلة غير تلك، بيد أن هناك شواهد وأدلة أخرى تؤكد هذا الاتهام وتوثقه، وهي ما أورده في كتابه "مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار"، حيث تضمن –معظمه- أفكاراً باطنية وآراء رافضية، أكثر وضوحاً وصراحة مما جاء في كتاب الملل؛ مما يؤكد تأثر المؤلف وجنوحه إلى الأفكار والمبادئ الباطنية. وهذا ما سيتضح فيما يلي إن شاء الله ".
ثم قال بعد استعراضه الكتاب (ص 99 ) :
" فمن خلال استعراض الكتاب نجد الأدلة الواضحة، والبراهين الظاهرة الدالة على تأثر المؤلف التأثر الواضح، والميل الظاهر إلى طائفة الرافضة، حيث حشد المؤلف في التفسير أقوالاً كثيرة جداً، وآراء كثيرة مما تقول به وتعتقده تلك الطائفة.
فالتفسير تضمن جانبين:
الأول: التفسير الظاهر وهو ما ذكره المفسرون من أهل السنة على اختلافهم، وهذا الجانب يذكر فيه ما يتعلق بالآية من حيث اللغة، والنحو، والتفسير، والمعاني.
الثاني: التفسير الباطني ومعظمه منسوب إلى آل البيت –كما زعم- حيث ضمنه أقوالاً كثيرة لأهل الرفض والتشيع، وهذا الجانب يذكر فيه الأسرار والمعاني المتعلقة بالآية. ويأتي هذا التفسير عقب التفسير الظاهر للآية دائماً، حيث يختم المؤلف حديثه عن الآية المفسرة بذكر تلك الأسرار ".
ثم قال ( ص 100- 114 ) :
" ثانيا- أمثلة لما تضمنه الكتاب من الآراء والمسائل الباطنية : ومن جملة الآراء والمسائل التي تضمنها الكتاب ما يلي:
أولاً: قوله بوجود مصحف علي كما تزعم الرافضة.
أولاً: دعوى أن علياً هو أولى الصحابة بجمع القرآن.
ثانياً: لمز الصحابة رضوان الله عليهم خاصة، وأهل السنة عامة.
رابعاً: أثار شبهات حول جمع القرآن وكتابته وذلك بإيراد الروايات الضعيفة في ذلك، ومنها:
أ*-ما روي عن عثمان أنه قال: إن فيه لحنا وستقيمه العرب.
ب- ما روي عن ابن عباس قوله: إن الكاتب كتبه وهو ناعس.
خامساً: تأول حفظ الله تعالى للقرآن تأويلاً باطلاً.
سادساً: ذكر دعوى خطيرة وهي: عدم استبعاد وجود نسختين للقرآن لا تختلفان اختلاف التضاد، وكلاهما كلام الله –عز وجل-. قياساً على التوراة والإنجيل على حد زعمه ودعواه.
ثانياً: زعمه اختصاص آل البيت بشيء من العلوم
ثالثاً: قوله بالوصية والإمامة.
رابعاً: القول بتقديم علي –رضي الله عنه- على غيره من الصحابة، وأنه أحق بالإمامة منهم.
خامساً: تفسيره للآيات تفسيراً باطنيا.
ومما يؤيد وجود النـزعة الباطنية لدى المؤلف –إضافة إلى ما في هذا الكتاب- الأمور التالية:
1-تضمن كتابه "مجلس الخلق والأمر" علامات باطنية، حسب ما يذكره محمد تقي دانش كما في قوله: "وفي أيدينا الآن مجلس من هذه المجالس، ويقال: أنها كانت مثار ضجة حتى إنها كانت تثير دواراً في الرأس "حركة باطنية في الفكر" وإثارتها هذه الحركة –كما يذكرون- بسبب ظهور علامات باطنية إسماعيلية فيها...".
2-تفسيره سورة يوسف كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في قوله: "وقد قيل: إنه صنف تفسيره سورة يوسف على مذهب الإسماعيلية: ملاحدة الشيعة، وإما ملاحدة الباطنية المنسوبين إلى الصوفية".
3-صلته الوثيقة بأعيان وكبار الشيعة، فكما سبق كان من المقربين لنقيب ترمذ أبي القاسم، وقد أهدى إليه كتابيه "الملل والنحل" و"مصارعة الفلاسفة".
4-وجود بعض الأفكار في كتابه الملل والنحل، كما سبقت الإشارة إليها.
5-ما تقدم من أقوال بعض المعاصرين له، والعلماء؛ من اتهامه بذلك.
6-هذا ما يتصل بما يؤيد صحة تلك التهمة الموجهة إلى المؤلف.
ومع ذلك كله فقد ورد في بعض كتبه ما يعارض ما ذكر ويناقضه، كما سيتضح فيما يأتي ".
ثم ذكر ما يُعارض التهمة السابقة ، ومنه ( ص 116 – 122 ) :
" -موقف المؤلف من الرافضة:
تعرض المؤلف في كتابه نهاية الإقدام إلى بعض آراء الرافضة وأبطل معظم ما ذكره عنهم ورد عليهم، مما يدل على عدم ميل المؤلف إلى شيء من آرائهم وأفكارهم، وخاصة فيما يتعلق بالإمامة، والقول بتعيين إمامة علي بالنص، كما سيأتي بيانه.
1-بيانه براءة أئمة أهل البيت –وخاصة جعفر الصادق- من خصائص مذاهب الشيعة وحماقاتهم.
2-نقد المؤلف بعض عقائدهم، وبين معارضتها، ومخالفتها لما ثبت في الكتاب والسنة وكذلك العقل: كالطعن في الصحابة، وغيبة المهدي، وغير ذلك.
3-بيانه أنهم وقعوا في غلو وتقصير فيما يجب لله تعالى من حقوق وصفات، بل وأن غلاتهم اقتبسوا آراءهم وأفكارهم من أديان ومذاهب باطلة.
4-بيان حيرتهم في أصل المسائل وأعظمها –لديهم- وهي "الإمامة" فهم، مختلفون ومتحيرون في سوقها وخاصة بعد جعفر الصادق.
5-بيان اختلافهم الشديد وتفرقهم في أصول المسائل حتى أصبحوا –كما يذكر- ما بين معتزلة وعيدية أو تفضيلية، وإخبارية: مشبهة أو سلفية. ثم قال عقب ذلك: "ومن ضل في الطريق وتاه، لم يبال الله في أي واد أهلكه".
هذا ما يتعلق بالإمامية، أما سائر فرق الشيعة الأخرى، فهي لا تقل عما ذكره عن الإمامية، إذ إن عباراته قاسية، وأوصافه لبعضهم جارحة، بل نص على أن تشويش الدين ، وفتنة الناس مقصورة على الباطنية منهم، كما في قوله "لقد كان في كل أمة من الأمم قوم مثل الإباحية والزنادقة، والقرامطة، كان تشويش ذلك الدين منهم، وفتنة الناس مقصورة عليهم"، وذكر أن من ألقاب الإسماعيلية: الباطنية، والقرامطة والمزدكية.
وقد بيّن المؤلف في كتابه الملل بطلان عقائد الباطنية وانتقد آراءها، وذكر أنها تخالف الاثنتين والسبعين فرقة.
-كلام المؤلف في الصحابة رضي الله عنهم:
تقدم بعض أقوال المؤلف التي تبين أنه أنكر على الشيعة موقفهم من الصحابة من الطعن فيهم، والقدح في عدالتهم. واستنكر أن يستجيز ذو دين الطعن فيهم، ونسبة الكفر إليهم، ورد على ما أثاروه من شبهات نحوهم، وبين أنها افتراءات وترهات لا يصلح أن تُشحن بها الكتب، أو يجري بها القلم، حيث قال: "واعلم أنه لا شبه في المسألة إلا ما ذكرناه. وما تذكره الإمامية من سوء القول في الصحابة -رضي الله عنهم- وافتراء الأحاديث على الرسول، فكل ذلك ترهات لا يصلح أن تشحن بها الكتب، أو يجري بها القلم"، بل ذكر أن ما روي عن الصحابة مما يقدح في عدالتهم، ويطعن فيهم؛ إنما هو كذب وافتراء عليهم، من قبل الرافضة، ونبّه القارئ إلى تدبر النقل والتأكد في ذلك.
-كلام المؤلف في القرآن الكريم:
تحدث المؤلف في كتابه نهاية الإقدام عن القرآن وذكر أنه الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم. وبين إعجازه سواء من حيث لفظه أو معناه، فمن حيث اللفظ: بلاغته، ونظمه، وفصاحته، والتحدي بالإتيان بمثله بل بسورة من مثله. ومن حيث المعنى: فما اشتمل عليه القرآن من غرائب الحكم، وبدائع المعاني، دليل على إعجازه. ومع توسعه في الحديث عن القرآن فلم يتضمن أي إشارة مما ذكره في التفسير عن مصحف علي أو ما أثير حول جمع القرآن مما يقدح فيه، ونحو ذلك " .
ثم قال ( ص 123-124) :
" الخلاصة: وأخيراً بعد دراسة ما يتعلق بالتهمة الموجهة إلى المؤلف من الميل إلى الباطنية من كلا الجانبين –أي ما يؤيدها أو يعارضها- نخلص من ذلك بالقول: إن حال المؤلف تجاه ما ذكره لا يخلو من:
1-وجود التناقض والاضطراب في مواقفه وآرائه، وعدم استقراره على مذهب أو رأي معين ؛ فيذكر في كتاب ما يناقض ما ذكره في كتاب آخر، ونحو ذلك. وهذه سمة معظم المتكلمين والمتفلسفين.
2-أن ما كتبه المؤلف في التفسير لم يكن عن اعتقاد وتصديق وإنما مداهنة وتزلفاً للرافضة، ولعله لأحد كبارهم وهو نقيب ترمذ الذي أهدى له كتابه الملل والنحل –كما سبق بيانه- وهذا الوجه أشار إليه شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- بقوله: "وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة، إما بباطنه، وإما مداهنة لهم، فإن هذا الكتاب –كتاب الملل والنحل- صنف لرئيس من رؤسائهم، وكانت له ولاية ديوانية، وكان للشهرستاني مقصود في استعطافه له. وكذلك صنف له كتاب "المصارعة" بينه وبين ابن سينا لميله إلى التشيع والفلسفة، وأحسن أحواله أن يكون من الشيعة، إن لم يكن من الإسماعيلية، أعني المصنف له، ولهذا تحامل فيه للشيعة تحاملاً بيناً...".
3-رجوع المؤلف واستقراره على أحد المذهبين. ولا يمكن معرفة أي المذهبين إلا بمعرفة المتأخر من الكتب. وكما سبق فكتاب الملل لا إشكال فيه، فهو متقدم تأليفاً على كتابي: "نهاية الإقدام"، و"مفاتيح الأسرار"، بدليل الإحالة عليه في كلا الكتابين.
أما التفسير ونهاية الإقدام فلم أطلع على ما يدل على المتقدم منهما، ولذا لا يمكن الجزم في هذا الأمر.
إلا أنه قد يلتمس بعض أوجه الاحتمالات التي قد تدل على تأخير كتاب "نهاية الإقدام" عن كتاب "مفاتيح الأسرار" تأليفاً. ومن تلك الأوجه:
أ*-أن المؤلف في أول كتاب نهاية الإقدام –كما تقدم - أنشد:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائـر
على ذقن أو قارعاً سن نـادم
فالبيتان تضمنا ما يدل على تطوفه على المعاهد كلها، وندمه على ما مضى من عمره، ولعل من جملة تلك المعاهد التي طاف بها "الباطنية" التي كان لها أثر ظاهر في بعض كتبه ؛ كالتفسير.
ب - أن المؤلف كان مقرباً لدى نقيب ترمذ –وهو رافضي- الذي ألف له كتابي الملل والمصارعة. ولا يستبعد أن يتبع الكتابين بكتاب مفاتيح الأسرار سواء كان ببادرة منه، أو بطلب من ذلك النقيب.
أما نهاية الإقدام، فقد كتبه بعد بُعده عن ذلك النقيب، في آخر عمره بعد تطوافه بالمعاهد كلها وإعلان حيرته وندمه على ما سلف من عمره.
هذه هي الأوجه المحتملة لحال المؤلف، ولا يمكن القطع بأحدها والأخذ به؛ إذ لا دليل على ذلك -فيما أعلم- إلا أن الاحتمال الثالث هو أقوى الاحتمالات وأرجحها - فيما ظهر لي- لما تقدم بيانه والله أعلم ".
لعل بعض طلبة العلم قد قرأ قول شيخ الإسلام عن الشهرستاني صاحب كتاب " الملل والنِحل " في رده على الرافضي ، قال :
"أما قوله إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية. فليس كذلك، بل يميل كثيراً إلى أشياء من أمورهم، بل يذكر أحياناً أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية منهم ويوجهه ولذا اتهمه الناس بأنه من الإسماعيلية، وإن لم يكن الأمر كذلك، وقد ذكر من التهمه شواهد من كلامه وسيرته، وقد يقال: هو مع الشيعة بوجه، ومع أصحاب الأشعري بوجه... وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم...". ( منهاج السنة 6/306) .
ومن قرأ كتاب " الملل والنِحل " لا يتبين له بوضوح ماذكره شيخ الإسلام .
وقد وجدتُ الأخ الكريم محمد بن ناصر السحيباني – وفقه الله – قد حقق هذه المسألة في رسالته للماجستير : " منهج الشهرستاني في كتابه الملل والنِحل – عرض وتقويم " ، فأحببتُ نقله للإخوة الكرام :
ذكر المبحث الرابع : ( اتهامه بالميل إلى الفلاسفة الباطنية ) : ونقل عمن نسبه .
ثم قال ( ص 82-83) :المطلب الثاني : ميله إلى الفلاسفة ونصرة مذاهبهم والذب عنها.
أولاً: المؤلف –كما سبق- اشتغل بعلم الكلام والفلسفة وما يتعلق بهما، ووجه نشاطه، وأفرغ جهده في ذلك، تعلماً وتحصيلاً، ومن ثم تعليماً وتلقيناً للناس، مع إهمال العلوم الشرعية –التي اشتغل بتحصيلها في أول عمره كما يظهر من أقواله- سواء تحصيلاً أو تعليماً. ومؤلفاته شاهدة بذلك – كما سبق ذكرها-؛ إذ تكاد تخلو من مؤلف في العلوم الشرعية، إذا ما استثنينا علم التفسير، الذي لم يسلم من ذلك ، بل تضمن مسائل وأصولاً باطنية- كما سيأتي بيانه.
ثانياً: حديث المؤلف عن الفلاسفة: فقد توسع في الحديث عنهم، وفصّل القول في جوانب من آرائهم وحكمهم، وكذلك سعى في إظهارهم بصورة مقبولة وحسنة أمام الناس، وذلك بإضفاء صبغة التوحيد، والإيمان بوجود الله عز وجل عليهم؛ إذ تحدث عنهم بصورة الموحدين المقرين بالله عز وجل كما في كتابه الملل والنحل وهذا خلاف ما عرف واشتهر عنهم من الوثنية والشرك والإلحاد.
ثالثاً: إن كثرة إطلاع المؤلف، وكثرة حديثه عنهم والخوض في آرائهم فيه دلالة على الميل إليهم أو الاستئناس بذكرهم، وخاصة إذا كان على الصورة السابقة.
إضافة إلى موافقته –كغيره من المتكلمين- للفلاسفة في بعض المسائل والآراء، بل إن المنهج الذي سار عليه في مؤلفاته ومناقشته مستمد من أولئك، وهو تقديم الجانب العقلي على الجانب الشرعي في المسائل والآراء التي يوردها.
إلا أن ذلك لا يعني أن المؤلف أصبح كأحدهم أو من في حكمهم، فهو مع تأثره بهم إلا أنه انتقد أكثر آرائهم ورد عليهم في مواضع من كتبه، فهو لم يخرج عن كونه أحد المتكلمين من الأشاعرة " .
ثم قال ( ص 86-87) :
" إن المتأمل في كتاب الملل والنحل والمستعرض لما تضمنه يلحظ في ثنايا عرض المؤلف بعض الأفكار التي تشعر بميله إلى بعض مبادئ وأفكار الرافضة، ومن جملة ذلك ما يلي:
1-حديثه عن الخلافات التي وقعت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوله بعد ذكره ما حصل في عهد علي -رضي الله عنه- وقد خصه بذلك دون الخلفاء الثلاثة: "وفي الجملة كان علي –رضي الله عنه- مع الحق والحق معه" وذكرها أيضاً في موضع آخر.
2-إطراؤه بعض أئمة آل البيت، ومبالغته في ذلك: كمحمد بن الحنفية، وجعفر الصادق في غير موضع، ووصفهما بصفات أعلى من صفات البشرية.
3-ميله للقول بالوصية والإمامة، وأن بعضها مستقر، وبعضها مستودع، في أكثر من موضع،
4-قوله بمسألة النور الخفي، وتقريرها بمنحى باطني.
5-إطراؤه الشديد وثناؤه على آباء الرسول صلى الله عليه وسلم وخاصة عبدالمطلب، وغير ذلك.
إن المتأمل في تلك المواضع يلحظ تأثر المؤلف بالتشيع، والتأثر محصور في ميله إلى بعض أفكار الرافضة في آل البيت؛ من محبتهم والغلو فيهم، حيث حكى بعض ما قاله أولئك الرافضة عن آل البيت، المتضمن الغلو فيهم، ورفعهم فوق مرتبتهم ومنـزلتهم البشرية.
وقد يقول قائل: إن هذه الإشارات والأمثلة يسيرة، ولا تدل دلالة صريحة وقطعية على ميل المؤلف إلى الفكر الباطني أو التأثر به.
فيجاب بأن هذا الالتماس حسن ومقبول، لو لم تقم أدلة غير تلك، بيد أن هناك شواهد وأدلة أخرى تؤكد هذا الاتهام وتوثقه، وهي ما أورده في كتابه "مفاتيح الأسرار ومصابيح الأبرار"، حيث تضمن –معظمه- أفكاراً باطنية وآراء رافضية، أكثر وضوحاً وصراحة مما جاء في كتاب الملل؛ مما يؤكد تأثر المؤلف وجنوحه إلى الأفكار والمبادئ الباطنية. وهذا ما سيتضح فيما يلي إن شاء الله ".
ثم قال بعد استعراضه الكتاب (ص 99 ) :
" فمن خلال استعراض الكتاب نجد الأدلة الواضحة، والبراهين الظاهرة الدالة على تأثر المؤلف التأثر الواضح، والميل الظاهر إلى طائفة الرافضة، حيث حشد المؤلف في التفسير أقوالاً كثيرة جداً، وآراء كثيرة مما تقول به وتعتقده تلك الطائفة.
فالتفسير تضمن جانبين:
الأول: التفسير الظاهر وهو ما ذكره المفسرون من أهل السنة على اختلافهم، وهذا الجانب يذكر فيه ما يتعلق بالآية من حيث اللغة، والنحو، والتفسير، والمعاني.
الثاني: التفسير الباطني ومعظمه منسوب إلى آل البيت –كما زعم- حيث ضمنه أقوالاً كثيرة لأهل الرفض والتشيع، وهذا الجانب يذكر فيه الأسرار والمعاني المتعلقة بالآية. ويأتي هذا التفسير عقب التفسير الظاهر للآية دائماً، حيث يختم المؤلف حديثه عن الآية المفسرة بذكر تلك الأسرار ".
ثم قال ( ص 100- 114 ) :
" ثانيا- أمثلة لما تضمنه الكتاب من الآراء والمسائل الباطنية : ومن جملة الآراء والمسائل التي تضمنها الكتاب ما يلي:
أولاً: قوله بوجود مصحف علي كما تزعم الرافضة.
أولاً: دعوى أن علياً هو أولى الصحابة بجمع القرآن.
ثانياً: لمز الصحابة رضوان الله عليهم خاصة، وأهل السنة عامة.
رابعاً: أثار شبهات حول جمع القرآن وكتابته وذلك بإيراد الروايات الضعيفة في ذلك، ومنها:
أ*-ما روي عن عثمان أنه قال: إن فيه لحنا وستقيمه العرب.
ب- ما روي عن ابن عباس قوله: إن الكاتب كتبه وهو ناعس.
خامساً: تأول حفظ الله تعالى للقرآن تأويلاً باطلاً.
سادساً: ذكر دعوى خطيرة وهي: عدم استبعاد وجود نسختين للقرآن لا تختلفان اختلاف التضاد، وكلاهما كلام الله –عز وجل-. قياساً على التوراة والإنجيل على حد زعمه ودعواه.
ثانياً: زعمه اختصاص آل البيت بشيء من العلوم
ثالثاً: قوله بالوصية والإمامة.
رابعاً: القول بتقديم علي –رضي الله عنه- على غيره من الصحابة، وأنه أحق بالإمامة منهم.
خامساً: تفسيره للآيات تفسيراً باطنيا.
ومما يؤيد وجود النـزعة الباطنية لدى المؤلف –إضافة إلى ما في هذا الكتاب- الأمور التالية:
1-تضمن كتابه "مجلس الخلق والأمر" علامات باطنية، حسب ما يذكره محمد تقي دانش كما في قوله: "وفي أيدينا الآن مجلس من هذه المجالس، ويقال: أنها كانت مثار ضجة حتى إنها كانت تثير دواراً في الرأس "حركة باطنية في الفكر" وإثارتها هذه الحركة –كما يذكرون- بسبب ظهور علامات باطنية إسماعيلية فيها...".
2-تفسيره سورة يوسف كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في قوله: "وقد قيل: إنه صنف تفسيره سورة يوسف على مذهب الإسماعيلية: ملاحدة الشيعة، وإما ملاحدة الباطنية المنسوبين إلى الصوفية".
3-صلته الوثيقة بأعيان وكبار الشيعة، فكما سبق كان من المقربين لنقيب ترمذ أبي القاسم، وقد أهدى إليه كتابيه "الملل والنحل" و"مصارعة الفلاسفة".
4-وجود بعض الأفكار في كتابه الملل والنحل، كما سبقت الإشارة إليها.
5-ما تقدم من أقوال بعض المعاصرين له، والعلماء؛ من اتهامه بذلك.
6-هذا ما يتصل بما يؤيد صحة تلك التهمة الموجهة إلى المؤلف.
ومع ذلك كله فقد ورد في بعض كتبه ما يعارض ما ذكر ويناقضه، كما سيتضح فيما يأتي ".
ثم ذكر ما يُعارض التهمة السابقة ، ومنه ( ص 116 – 122 ) :
" -موقف المؤلف من الرافضة:
تعرض المؤلف في كتابه نهاية الإقدام إلى بعض آراء الرافضة وأبطل معظم ما ذكره عنهم ورد عليهم، مما يدل على عدم ميل المؤلف إلى شيء من آرائهم وأفكارهم، وخاصة فيما يتعلق بالإمامة، والقول بتعيين إمامة علي بالنص، كما سيأتي بيانه.
1-بيانه براءة أئمة أهل البيت –وخاصة جعفر الصادق- من خصائص مذاهب الشيعة وحماقاتهم.
2-نقد المؤلف بعض عقائدهم، وبين معارضتها، ومخالفتها لما ثبت في الكتاب والسنة وكذلك العقل: كالطعن في الصحابة، وغيبة المهدي، وغير ذلك.
3-بيانه أنهم وقعوا في غلو وتقصير فيما يجب لله تعالى من حقوق وصفات، بل وأن غلاتهم اقتبسوا آراءهم وأفكارهم من أديان ومذاهب باطلة.
4-بيان حيرتهم في أصل المسائل وأعظمها –لديهم- وهي "الإمامة" فهم، مختلفون ومتحيرون في سوقها وخاصة بعد جعفر الصادق.
5-بيان اختلافهم الشديد وتفرقهم في أصول المسائل حتى أصبحوا –كما يذكر- ما بين معتزلة وعيدية أو تفضيلية، وإخبارية: مشبهة أو سلفية. ثم قال عقب ذلك: "ومن ضل في الطريق وتاه، لم يبال الله في أي واد أهلكه".
هذا ما يتعلق بالإمامية، أما سائر فرق الشيعة الأخرى، فهي لا تقل عما ذكره عن الإمامية، إذ إن عباراته قاسية، وأوصافه لبعضهم جارحة، بل نص على أن تشويش الدين ، وفتنة الناس مقصورة على الباطنية منهم، كما في قوله "لقد كان في كل أمة من الأمم قوم مثل الإباحية والزنادقة، والقرامطة، كان تشويش ذلك الدين منهم، وفتنة الناس مقصورة عليهم"، وذكر أن من ألقاب الإسماعيلية: الباطنية، والقرامطة والمزدكية.
وقد بيّن المؤلف في كتابه الملل بطلان عقائد الباطنية وانتقد آراءها، وذكر أنها تخالف الاثنتين والسبعين فرقة.
-كلام المؤلف في الصحابة رضي الله عنهم:
تقدم بعض أقوال المؤلف التي تبين أنه أنكر على الشيعة موقفهم من الصحابة من الطعن فيهم، والقدح في عدالتهم. واستنكر أن يستجيز ذو دين الطعن فيهم، ونسبة الكفر إليهم، ورد على ما أثاروه من شبهات نحوهم، وبين أنها افتراءات وترهات لا يصلح أن تُشحن بها الكتب، أو يجري بها القلم، حيث قال: "واعلم أنه لا شبه في المسألة إلا ما ذكرناه. وما تذكره الإمامية من سوء القول في الصحابة -رضي الله عنهم- وافتراء الأحاديث على الرسول، فكل ذلك ترهات لا يصلح أن تشحن بها الكتب، أو يجري بها القلم"، بل ذكر أن ما روي عن الصحابة مما يقدح في عدالتهم، ويطعن فيهم؛ إنما هو كذب وافتراء عليهم، من قبل الرافضة، ونبّه القارئ إلى تدبر النقل والتأكد في ذلك.
-كلام المؤلف في القرآن الكريم:
تحدث المؤلف في كتابه نهاية الإقدام عن القرآن وذكر أنه الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم. وبين إعجازه سواء من حيث لفظه أو معناه، فمن حيث اللفظ: بلاغته، ونظمه، وفصاحته، والتحدي بالإتيان بمثله بل بسورة من مثله. ومن حيث المعنى: فما اشتمل عليه القرآن من غرائب الحكم، وبدائع المعاني، دليل على إعجازه. ومع توسعه في الحديث عن القرآن فلم يتضمن أي إشارة مما ذكره في التفسير عن مصحف علي أو ما أثير حول جمع القرآن مما يقدح فيه، ونحو ذلك " .
ثم قال ( ص 123-124) :
" الخلاصة: وأخيراً بعد دراسة ما يتعلق بالتهمة الموجهة إلى المؤلف من الميل إلى الباطنية من كلا الجانبين –أي ما يؤيدها أو يعارضها- نخلص من ذلك بالقول: إن حال المؤلف تجاه ما ذكره لا يخلو من:
1-وجود التناقض والاضطراب في مواقفه وآرائه، وعدم استقراره على مذهب أو رأي معين ؛ فيذكر في كتاب ما يناقض ما ذكره في كتاب آخر، ونحو ذلك. وهذه سمة معظم المتكلمين والمتفلسفين.
2-أن ما كتبه المؤلف في التفسير لم يكن عن اعتقاد وتصديق وإنما مداهنة وتزلفاً للرافضة، ولعله لأحد كبارهم وهو نقيب ترمذ الذي أهدى له كتابه الملل والنحل –كما سبق بيانه- وهذا الوجه أشار إليه شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- بقوله: "وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة، إما بباطنه، وإما مداهنة لهم، فإن هذا الكتاب –كتاب الملل والنحل- صنف لرئيس من رؤسائهم، وكانت له ولاية ديوانية، وكان للشهرستاني مقصود في استعطافه له. وكذلك صنف له كتاب "المصارعة" بينه وبين ابن سينا لميله إلى التشيع والفلسفة، وأحسن أحواله أن يكون من الشيعة، إن لم يكن من الإسماعيلية، أعني المصنف له، ولهذا تحامل فيه للشيعة تحاملاً بيناً...".
3-رجوع المؤلف واستقراره على أحد المذهبين. ولا يمكن معرفة أي المذهبين إلا بمعرفة المتأخر من الكتب. وكما سبق فكتاب الملل لا إشكال فيه، فهو متقدم تأليفاً على كتابي: "نهاية الإقدام"، و"مفاتيح الأسرار"، بدليل الإحالة عليه في كلا الكتابين.
أما التفسير ونهاية الإقدام فلم أطلع على ما يدل على المتقدم منهما، ولذا لا يمكن الجزم في هذا الأمر.
إلا أنه قد يلتمس بعض أوجه الاحتمالات التي قد تدل على تأخير كتاب "نهاية الإقدام" عن كتاب "مفاتيح الأسرار" تأليفاً. ومن تلك الأوجه:
أ*-أن المؤلف في أول كتاب نهاية الإقدام –كما تقدم - أنشد:
لقد طفت في تلك المعاهد كلها
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائـر
على ذقن أو قارعاً سن نـادم
فالبيتان تضمنا ما يدل على تطوفه على المعاهد كلها، وندمه على ما مضى من عمره، ولعل من جملة تلك المعاهد التي طاف بها "الباطنية" التي كان لها أثر ظاهر في بعض كتبه ؛ كالتفسير.
ب - أن المؤلف كان مقرباً لدى نقيب ترمذ –وهو رافضي- الذي ألف له كتابي الملل والمصارعة. ولا يستبعد أن يتبع الكتابين بكتاب مفاتيح الأسرار سواء كان ببادرة منه، أو بطلب من ذلك النقيب.
أما نهاية الإقدام، فقد كتبه بعد بُعده عن ذلك النقيب، في آخر عمره بعد تطوافه بالمعاهد كلها وإعلان حيرته وندمه على ما سلف من عمره.
هذه هي الأوجه المحتملة لحال المؤلف، ولا يمكن القطع بأحدها والأخذ به؛ إذ لا دليل على ذلك -فيما أعلم- إلا أن الاحتمال الثالث هو أقوى الاحتمالات وأرجحها - فيما ظهر لي- لما تقدم بيانه والله أعلم ".