المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الردّ اللائق على صاحب كتاب : غوث التائق في معرفة حقيقة الياسق



أبو شعيب
2009-02-20, 09:33 AM
بسم الله الرحمن الرحيم ،

سأبدأ بحول الله تعالى وقوته بتفنيد كتاب "غوث التائق في معرفة حقيقة الياسق" ، وأرجو ممن يريد المشاركة في الحوار أن يلتزم بآدابه ، ويبتعد عن الألفاظ البذيئة وعن فحش الكلام الذي لا يليق بمسلم ..

وأرجو من المعترض أن يتكلم بعلم ، وإن كان جاهلاً فليصمت .. وجزاكم الله خيراً .

----------------------------------------------

لقد اختصر صاحبنا كلام ابن كثير - رحمه الله - ثم بنى عليه ردّه وهو مختصر ، وإنني أرى أن الأحسن له أن يورده كاملاً بتمامه ، خاصة وأن تتمته ليست طويلة ، ولا تعدو سطوراً قليلة ، وها أنا ذا أورد كلام ابن كثير كلّه كما جاء في [تفسير القرآن العظيم : 3/131]:

قوله : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } : ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم ، المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر وعدل ، إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات ، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات ، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان ، الذي وضع لهم اليَساق ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى ، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا ، يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ومن فعل ذلك منهم فهو كافر ، يجب قتاله ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير
في هذا القبس ، يذكر ابن كثير ما يلي :

1- أن إنكار الله تعالى هو على من خرج عن حكمه إلى حكم غيره .
2- مثّل ابن كثير لهذا الخروج بقوله : "كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات ، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم" .. وقوله : "وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان" .

فكما يُرى ، فابن كثير يتكلم هنا عمّن يحكم بمنهج وضعي ، وليس من كان أصل منهجه القرآن والسنة ثم هو عدل لهواه عن حكم الله في واقعة معيّنة ، ولهذا لم يأت على ذكرهم .. ولم يأت حتى الآن على ذكر الاعتقاد .

3- ثم ذكر حقيقة الياسق ، وسآتي على ذلك بالشرح لاحقاً - إن شاء الله - .

4- ثم قال : "ومن فعل ذلك منهم فهو كافر ، يجب قتاله" .. السؤال : من هو هذا الكافر الذي يجب قتاله ؟ .. هل هم أهل الياسق فقط ؟ أم من ذكرهم ابتداء في قوله : "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم" ؟ .. هذا أيضاً مما سنأتي عليه لاحقاً بالشرح - إن شاء الله - .

5- متى يمتنع القتال ويتوقف ؟ .. يقول : "حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير" .. ونلاحظ هنا أن الرجوع إلى حكم الله ورسوله (ص) إنما هو بتحكيمه في القليل والكثير .. فعند تحكيم الكتاب والسنة في جميع الشأن ، عندها يمتنع القتال وتنتفي علّته .

----------------------------------------------

أما صاحبنا ، صاحب كتاب : غوث اللائق ، فإن له كلاماً آخر ، إذ قال في هامش [2]:


وصف ابن كثير أحكام الياسق بـ (الشرع) يتضح معناه بوصف السبكي : [الطبقات : 1/329]: (ووضع لهم شرعاً اخترعه وديناً ابتدعه) ، وهذا بعينه ما تهدف إليه آية : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } فقوله : (ديناً ابتدعه) دليل على استحلالهم لهذه الأحكام الجاهلية بجعلها ديناً من عند الله ، وهذا كفر
فأولاً .. الدين هو بمعنى الطريقة والعادة والمنهج ..

جاء في موقع شبكة الإسلام :


بسم الله الرحمن الرحيم

ما تعريف الدين لغة وشرعا وهل الديمقراطية والاشتراكية دين مثلا؟

وفقكم الله وسدد خطاكم ، وشكراً.

الفتوى :

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فالدين لفظ جاء في لغة العرب على معان متعددة ، منها الطريقة والمذهب والملة والعادة والشأن ، كما تقول العرب في الريح : " عادت هيفُ لأديانها " ، ويقولون : ما زال ذلك ديني وديدني ، ومنها الجزاء والمكافأة يقال : دانه بدينه ديناً أي جازاه ، ويقال : كما تدين تُدان ، أي : كما تجازي تُجازى بفعلك ، وبحسب ما عملت . ومنها سيرة الملك ومملكته . ومنه قول زهير بن أبي سلمى :
لئن حللت بجو في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فَدَكُ

يريد موضع طاعة عمرو وسيرته .

ومنها : السياسة ، والديان السائس ، ومنه قول ذي الإصبع :

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني

ومعنى ديَّاني سائسي .

ومنها: الطاعة والعبودية والخضوع تحت سلطان آخر والائتمار بأمره .

يقال : (دنتهم فدانوا) أي : قهرتهم فأطاعوا ، ومنه الحديث : " أريد من قريش كلمة تدين لهم بها العرب " أي تطيعهم وتخضع لهم .

ومعنى الدين في الشرع وفي استخدام القرآن للفظة الدين ، لا يخرج عن المعنى اللغوي .

فمن ذلك قول الله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [يوسف:40].
فدين الله هنا هو الخضوع له ، والانقياد لحكمه وأمره ونهيه .

وقوله تعالى : (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه) [يوسف:76].

وقوله تعالى عن فرعون : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26].

فكلمة دينكم تعني ملتكم ، وتعني كذلك نظامكم وقوانينكم وتقاليدكم التي تسيرون عليها في الدولة .

فدين الملك سياسته ، وقانونه ، وشريعته ، ونظامه .

وقول الله تعالى : (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:4] . يوم الجزاء والحساب والمكافأة .

وبعد هذا نقول : من اتخذ الديمقراطية أو الاشتراكية أو أي نظام أو فكر غير الإسلام عقيدة يعتقدها ، ونظاماً يلتزمه ، وسلطة يخضع لها وينطلق عن أمرها ونهيها ، فقد دان بدين غير دين الإسلام ، ورضي عقيدة غير عقيدة الإسلام .

والله أعلم .
فلا يُشترط لكلمة الدين أو الشريعة أن تكون مما يُتعبد بها ، حتى تحصرهما في هذا المعنى !!!

ولا يُشترط استحلالهم لأحكام الياسق قلبياً حتى تكون شريعة متبعة ، أو منهجاً مُطاعاً منقاداً له ، خاصة وأن ابن كثير لم يذكر الاعتقاد البتة في كلامه الآنف .

قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره :

وقوله تعالى : {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يوسف بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : {لكل جعلنا منكم شرعة} قال : سبيلاً . وحدثنا أبو سعيد ، حدثنا وكيع عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : {ومنهاجاً} قال : وسنة . كذا روى العوفي عن ابن عباس : {شرعة ومنهاجاً} : سبيلاً وسنة . وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وأبي إسحاق السبيعي ؛ أنهم قالوا في قوله : {شرعة ومنهاجاً} : أي سبيلاً وسنة . وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد ، وعطاء الخراساني عكسه {شرعة ومنهاجاً} أي : سنة وسبيلاً . والأول أنسب ؛ فإن الشرعة وهي الشريعة أيضاً هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ، ومنه يقال : شرع في كذا ، أي ابتدأ فيه ، كذا الشريعة ، وهي ما يشرع فيها إلى الماء . أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل ، والسنن والطرائق .

فتفسير قوله : {شرعة ومنهاجاً} بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس ، والله أعلم .
ثم قال معلقّاً على كلام ابن كثير في قوله : "يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله" في هامش رقم [3]:

التقديم هنا يعني : التفضيل ، وهو عمل في القلب يكفر صاحبه (=كفر قلبي) . ولا تعني كلمة (التقديم) هنا مجرد التقديم الظاهري بالحكم بغير حكم الله ، وإلا للزم منه أن يكون الذي يحكم بغير حكم الله -ولو في قضية واحدة!- مقدماً لحكمه على حكم الله ، فيلزم دخوله في هذا الإجماع وتكفيره بذلك! وهذا باطل قطعاً ، ويؤيد ما قررت أن ابن كثير ذكر "التقديم" في [البداية والنهاية : 13/119] مقروناً بالتحاكم إلى الياسق ، فدل أنهما متغايران ، إذ لو كان التقديم يعني مجرد التحاكم ، لكان تكراراً ليس له معنى! ، وعليه : فهذا التكفير خاص بالتتار وبمن حذا حذوهم في تقديم (=تفضيل) الحكم بغير شرع الله
فأقول : دعنا أولاً نفهم كلام ابن كثير - رحمه الله - كما ينبغي ، حتى لا نفتري عليه .

فهو قال أولاً : "فصارت في بنيه شرعًا متبعًا".. فمنهجهم في الحكم هو الياسق ، وهو ما يتبعونه .. ولم يأت هنا على ذكر الاستحلال القلبي أو المعتقد ..

ثم قال : "يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله (ص)".. فانظروا رعاكم الله إلى ذلك وتأملوه .

فابن كثير لم يقل إنهم يقدمون الياسق على كتاب الله ، هكذا بإطلاق ، بل قال : "يقدمونه على الحكم بكتاب الله" .. فدل ذلك على أنهم يقدمون الحكم بالياسق على الحكم بالقرآن .. والحكم فعل على الجوارح ، ولم يذكر ابن كثير الاستحلال هنا أيضاً .

أما صاحب هذا الكتاب ، فإنه أورد شبهة يدلل بها على أن ابن كثير - رحمه الله - عنى بذلك التقديم الاستحلال أو التفضيل القلبي ، فقال :

ولا تعني كلمة (التقديم) هنا مجرد التقديم الظاهري بالحكم بغير حكم الله ، وإلا للزم منه أن يكون الذي يحكم بغير حكم الله -ولو في قضية واحدة!- مقدماً لحكمه على حكم الله ، فيلزم دخوله في هذا الإجماع وتكفيره بذلك! وهذا باطل قطعاً
أقول : لو أنك تأملت كلام ابن كثير جيداً لعلمت المقصود ، بإذن الله .

فهو تكلم عن شرع متبع ، واصطلاحات وضعية ، ولم يتكلم عن حكم مخالف في واقعة ما .. ودليل ذلك ذكرته آنفاً في النقطة الثانية ، فلتُراجع .

وجاء في سياق تفسيره لهذه الآية قوله :

وقوله : {ولا تتبع أهواءهم} : أي آراءهم التي اصطلحوا عليها ، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله
فسياق التفسير يبيّن أنه يتكلم عن الاصطلاحات والآراء الوضعية التي أبطلوا بها أصل حكم الله تعالى .. وليس من خالف في واقعة أو واقعتين لهوى في نفسه ، مع بقاء أصل الحكم لله تعالى .

فمعنى كلام ابن كثير حينئذ هو أنه من جعل حكمه المخالف لشرع الله تعالى شرعاً متبعاً ، وسنة ومنهجاً ، يسير عليه الناس ، وأبطل به أصل العمل بحكم الله ، فهذا هو الكافر ..

ويدل على هذا قوله : "ومن فعل ذلك منهم فهو كافر ، يجب قتاله ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير"

فانظروا إلى ذلك .. علّة قتاله هو كفره ، ويمتنع القتال حتى يرجع إلى حكم الله فيحكم به ..

هل قال : حتى يعتقد أن حكم الله هو الأصلح ؟ .. هل ذكر الاعتقاد بشيء ؟؟

فلو كان التقديم هنا بمعنى التفضيل القلبي ، لما كان لذكر الرجوع إلى حكم الله والحكم به معنى ، ما دامت علة الكفر والقتال قائمة ، وهي التفضيل القلبي !

يتبع إن شاء الله ...

أبو شعيب
2009-02-20, 10:48 AM
وقوله :

ويؤيد ما قررت أن ابن كثير ذكر "التقديم" في [البداية والنهاية : 13/119] مقروناً بالتحاكم إلى الياسق ، فدل أنهما متغايران ، إذ لو كان التقديم يعني مجرد التحاكم ، لكان تكراراً ليس له معنى! ، وعليه : فهذا التكفير خاص بالتتار وبمن حذا حذوهم في تقديم (=تفضيل) الحكم بغير شرع الله
أما كلام ابن كثير المذكور ، فهو :

فمن ترك الشرع المحكم المنـزل على محمد بن عبدالله ، خاتم الأنبياء ، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين .

قال الله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } [ المائدة: 50 ] ، وقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } صدق الله العظيم [ النساء: 65 ].
ذكر ابن كثير أولاً أن التحاكم إلى غير شريعة الله كفر ، ولم يذكر الاعتقاد هاهنا .. بل جعل مجرّد التحاكم كفراً .

ثم أكّد هذا الحكم فيمن تحاكم إلى الياسا .. ولم يذكر فيه الاعتقاد أيضاً ..

أما قول صاحبنا : "إذ لو كان التقديم يعني مجرد التحاكم ، لكان تكراراً ليس له معنى!" ..

التقديم هنا بمعنى الاختيار والتصدير .. فلا ضير أن نقول : قدّم هذا الرجل الياسا وتحاكم إليها .. بما يعني : صدّرها وجعل الأسبقية لها في التحاكم ..

مثل أن أقول : قدّمت هذا الكتاب على الآخر وقرأته .. أي : بدأت بقراءته واخترتها قبل الكتاب الآخر .

فمن قدّم الياسا وجعلها أوّل مرجع للحكم قبل الكتاب والسنة ، وتحاكم إليها ، فهو كافر .. هذا هو معنى التقديم .. وهذا التقديم يكون بالفعل ..

وقد يسأل سائل : كيف يكون هذا التقديم حادثاً في ذلك الزمان ؟ .. فيقال : إن التتار لم تكن تلزم أحداً بالتحاكم إلى الياسق ، بل كانت هناك محاكم تحكم بالياسق ومحاكم تحكم بالشريعة ، كما هو مدوّن في كتب التاريخ .. فمن قدّم التحاكم إلى الياسق على التحاكم إلى شريعة الله ، فهذا كافر .. وفي هذا الزمان تكلم ابن كثير - رحمه الله - ، عن أناس اختاروا طوعاً التحاكم إلى غير شريعة الله تعالى ..

فالتقديم هنا لا يدل على التفضيل القلبي .. ودليل ذلك أن ابن كثير - رحمه الله - جعل التحاكم مجرداً كفراً في صدر كلامه .. فلا يقول أحد إنه عنى التقديم ولم يعن التحاكم !!

ثم قال صاحبنا :

أن هذا الاعتقاد (=اعتقاد الترجيح أو التفضيل) قد تخلف مع مرور الوقت في ذرية التتر وغيرهم ممن حكموا بالياسق ، فحكموا به على سبيل الوراثة والعادة ، فعقيدة التقديم عُرفت -فيمن عاصروا بعض أهل العلم- بتصريحهم المعلن ، وأما من لم يعرف عنه هذا التفضيل ، فإن العلماء لم يكفروه ، بل اعتدوا بإمامته ونفاذ أحكامه الموافقة للشريعة ، مثل الملك التركي بيبرس ، قال ابن تغري [النجوم الزاهرة : 7/182]: (كان الملك الظاهر رحمه الله يسير على قاعدة ملوك التتار وغالب أحكام جنكزخان من أمر اليسق)
فأقول : إن روايات التاريخ مطعون في صحتها ، فأثبت لنا بالسند المتصل أن هذا وقع .. أما أن تأتي برواية مجاهيل ، فهذا غير مقبول .

وثانياً : على فرض صحة هذه الرواية ، دعنا نرَ كيف كان يحكم بيبرس بالياسق !!

فقد قال ابن تغري في [النجوم الزاهرة : 7/182] ، مبيّناً هيئة حكم بيبرس أمور الملك ، بعد ذكره لحكم بيبرس بالياسق بأسطر قليلة :

قلت : والملك الظاهر هذا هو الذي ابتدأ في دولته بأرباب الوظائف من الأمراء والأجناد ، وإن كان بعضها قبله فلم تكن على هذه الصيغة أبداً ، وأمثل لذلك مثلاً فيقاس عليه ، وهو أن الدوادار كان قديماً لا يباشره إلا متعمم يحمل الدواة ويحفظها . وأمير مجلس هو الذي كان يحرس مجلس قعود السلطان وفرشه . والحاجب هو البواب الآن ، لكونه يحجب الناس عن الدخول ، وقس على هذا . فجاء الملك الظاهر جدد جماعة كثيرة من الأمراء والجند ورتبهم في وظائف : كالدوادار والخازندار وأمير آخور والسلاخور والسقاة والجمدارية والحجاب ورؤوس النوب وأمير سلاح وأمير مجلس وأمير شكار .

فأما موضوع أمير سلاح في أيام الملك الظاهر فهو الذي كان يتحدث على السلاح دارية ، ويناول السلطان آلة الحرب والسلاح في يوم القتال وغيره ، مثل يوم الأضحى وما أشبهه . ولم يكن إذ ذاك في هذه المرتبة - أعني الجلوس رأس ميسرة السلطان - ، وإنما هذا الجلوس كان إذ ذاك مختصاً بأطابك . ثم بعده في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون برأس نوبة الأمراء كما سيأتي ذكره في محله . وتأييد ذلك يأتي في أول ترجمة الملك الظاهر برقوق ، فإن برقوق نقل أمير سلاح قطلوبغا الكوكائي إلى حجوبية الحجاب .

وأمير مجلس كان موضوعها في الدولة الظاهرية بيبرس التحدث على الأطباء والكحالين والمجبرين ، وكانت وظيفة جليلة أكبر قدراً من أمير سلاح .

وأما الدوادارية فكانت وظيفة سافلة . كان الذي يليها أولاً غير جندي ، وكانت نوعاً من أنواع المباشرة ، فجعلها الملك الظاهر بيبرس على هذه الهيئة ، غير أنه كان الذي يليها أمير عشرة . ومعنى دوادار باللغة العجمية : ماسك الدواة ، فإن لفظة دار بالعجمي : ماسك ، لا ما يفهمه عوام المصريين أن دار هي الدار التي يسكن فيها ، كما يقولون في حق الزمام : زمام الآدر ، وصوابه زمام دار . وأول من أحدث هذه الوظيفة ملوك السلجوقية . والجمدار ، الجمي هي البقجة باللغة العجمية ، ودار تقدم الكلام عليه ، فكأنه قال : ماسك البقجة التي للقماش . وقس على هذا في كل لفظ يكون فيه دار من الوظائف .

وأما رأس نوبة فهي عظيمة عند التتار ، ويسمون الذي يليها يسوول بتفخيم السين . والملك الظاهر أول من أحدثها في مملكة مصر .

والأمير آخور أيضاً وظيفة عظيمة ، والمغول تسمي الذي يليها آق طشي . وأمير آخور لفظ مركب من فارسي وعربي ، فأمير معروف وآخور هو اسم المذود بالعجمي ، فكأنه يقول : أمير المذود الذي يأكل فيه الفرس . وكذلك السلاخوري وغيره مما أحدثه الملك الظاهر أيضاً .

وأما الحجوبية فوظيفة جليلة في الدولة التركية ، وليس هي الوظيفة التي كان يليها حجبة الخلفاء ، فأولئك كانوا حجبة يحجبون الناس عن الدخول على الخليفة ، ليس من شأنهم الحكم بين الناس والأمر والنهي ، وهي مما جدده الملك الظاهر بيبرس ، لكنها عظمت في دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون حتى عادلت النيابة . وأما ما عدا ذلك من الوظائف فأحدثها الملك الناصر محمد بن قلاوون كما سيأتي بيانه في تراجمه الثلاث من هذا الكتاب ، بعد أن جدد والده الملك المنصور قلاوون وظائف أخر كما سيأتي ذكره أيضاً في ترجمته على ما شرطناه في هذا الكتاب من أن كل من أحدث شيئاً عزيناه له .
فكما يُرى ، فإن حكمه بالياسق كان في الأمور الإدارية والوظائف الحكومية ، وليس في الحدود والأحكام الشرعية التعبدية !! ومن قال بذلك عليه الدليل ، ولا يفتري على التاريخ دون بيّنة .

يتبع إن شاء الله ..

خزانة الأدب
2009-02-20, 11:50 AM
فكما يُرى ، فإن حكمه بالياسق كان في الأمور الإدارية والوظائف الحكومية ، وليس في الحدود والأحكام الشرعية التعبدية !! ومن قال بذلك عليه الدليل ، ولا يفتري على التاريخ دون بيّنة .

غير صحيح بارك الله فيك، إذ لا علاقة لهذه الأمور الإدارية والوظائف الحكومية بشريعة الياسق، ولو جاء الكلام على المسألتين متتالياً. وقد وُصف الياسق أعلاه بأنه (خليط من الإسلام واليهودية والنصرانية ... إلخ)، فتفسيره بالأمور الإدارية غير مستقيم.

وكذلك قولك:


إن روايات التاريخ مطعون في صحتها ، فأثبت لنا بالسند المتصل أن هذا وقع .. أما أن تأتي برواية مجاهيل ، فهذا غير مقبول
لا داعي أيها الأخ الفاضل إلى تكذيب التاريخ والمؤرخين بهذه الطريقة الشمولية، ثم تعود بعد بضعة أسطر إلى نقل أقوالهم ورواياتهم!

والقصد هو تحرير ردّك على الرجل، وإلا فإن المردود عليه يحتال بالحيل المعروفة المكرورة لتسويغ نبذ الشريعة.
بارك الله فيك

الإمام الدهلوي
2009-02-20, 01:43 PM
أخي الكريم خزانة الأدب وفقك الله تعالى
--------------------------
صحيح أن الياسق كان عبارة عن خليط من أحكام شتى أُخـذت من شريعة الإسلام واليهودية والنصرانية ولكن ليس معنى هذا أنه لا يوجد فيه أحكام وضعها التتار من عند أنفسهم .. بل هذا الأمر معلوم كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره .
والذي يقرأ في وصف المؤرخين لأحكام الياسق يجد أنه كان يوجد به بعض الاحكام والتشريعات هي أشبه بالقوانين الإدارية والأمور التنظيمية .. ومن هذه الأحكام على سبيل المثال ( نظـام البـريد ) الذي ذكره المقريزي رحمه الله في كتابه الخطط .
وهذا النظام هو عبارة عن أن السلطان ألـزم بإقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته بسرعة .. وقـد كان هذا النظام معمول به حتى أُلغي في أخر العهد العباسي فكان من العوامل التي ساعدت على ضعف مقاومة التتار .
والله أعلم .

أبو شعيب
2009-02-20, 02:16 PM
الأخ (خزانة الأدب) ،

وفيكم بارك الله ، وجزاك الله خيراً على الإفادة ..

تقول :

غير صحيح بارك الله فيك، إذ لا علاقة لهذه الأمور الإدارية والوظائف الحكومية بشريعة الياسق، ولو جاء الكلام على المسألتين متتالياً. وقد وُصف الياسق أعلاه بأنه (خليط من الإسلام واليهودية والنصرانية ... إلخ)، فتفسيره بالأمور الإدارية غير مستقيم.
التاريخ لم يذكر كل ما في الياسق ، وكما ذكر الأخ (الإمام الدهلوي) فإن المقريزي بيّن بعض الأمور الإدارية التي كانت موجودة في الياسق ، فقال في [المواعظ والاعتبار : 2/421]:

ومنعهم من تفخيم الألفاظ ووضع الألقاب ، وإنما يخاطب السلطان ومن دونه ويُدعى باسمه فقط ، وألزم القائم بعده بعرض العساكر وأسلحتها إذا أرادوا الخروج ، قد قصر في شيء مما يحتاج إليه عند عرضه أياه عاقبه . وألزم نساء العساكر بالقيام بما على الرطال من السخرِ والكلفِ في مدّة غيبتهم في القتال ، وجعل على العساكر إذا قدمت من القتال كلفة يقومون بها للسلطان ويؤدونها إليه . وألزمهم عند رأس كلّ سنة بعرض سائر بناتهم الأبكار على السلطان ليختار منهنّ لنفسه وأولاده .

ورتب لعساكره أمراء ، وجعلهم أمراء ألوف ، وأمراء مئين ، وأمراء عشراوات . وشرَّع أن أكبر الأمراء إذا أذنب وبعث إليه الملك أخس من عنده حتى يعاقبه فإنه يُلقي نفسه إلى الأرض بين يدي الرسول وهو ذليل خاضع ، حتى يمضي فيه ما أمر به الملك من العقوبة ، ولو كانت بذهاب نفسه . وألزمهم أن لا يتردد الأمراء لغير الملك ، فمن تردد منهم لغير الملك قتل ، ومن تغير عن موضعه الذي يُرسم له بغير إذن قُتِل . وألزم السلطان بقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته بسرعة
وغير ذلك مما لم يدوّنه التاريخ ، وإنما ورد عند المقريزي مختصراً ..

أما قولك :

لا داعي أيها الأخ الفاضل إلى تكذيب التاريخ والمؤرخين بهذه الطريقة الشمولية، ثم تعود بعد بضعة أسطر إلى نقل أقوالهم ورواياتهم!
بارك الله فيك .. إن كان في صدر كلامي إطلاق ، فما بعده يقيّده بأنني أقبل الروايات بالسند المتصل ..

فابن تغري جاء بعد الظاهر بيبرس بثلاثة قرون ، فلا يُمكن أن يكون هو صاحب هذه الرواية .. وفي كتبه من القيل والقال والروايات عن المجاهيل الكثير .. فلا يُمكن أن نقبل رواية إلا بالسند المتصل ..

أما استدلالي بقوله في حكم بيبرس في الإدارة ، فإنما هو لمقابلة الدليل بجنسه .. فإن التزمنا بأخذ الروايات المنقطعة وافترضنا صحتها ، فيلزمنا كذلك أخذ ما ذكره ابن تغري من نفس جنس هذه الروايات الغير مسندة .

بارك الله فيك وجزاك الله خيراً .

-------------

الأخ (الإمام الدهلوي) ،

جزاك الله خيراً على التنبيه .

خزانة الأدب
2009-02-20, 03:41 PM
الأخ الكريم
لا أزال أرى أنه لا يستقيم أن تقول ما حاصله (الأخبار التي يرويها فلان باطلة إلا ما يصلح لغرضي)، ولا أن تقول (كلام فلان حجة عليك مع أنه غير ثقة عندي)؛ لأن الغرض من التاريخ هو تحرير الحوادث على الوجه الصحيح، ولا يجوز أن تفسر ما فعله بيبرس إلا بشيء صح عندك أنه فعله، أما أن تقول: التاريخ أساطير، وقد ورد في تلك الأساطير أن بيبرس فعل كذا، وهذا هو التفسير الصحيح للياسق، فهذا تناقض.
وأعتقد أننا صرنا نشارك أهل الأهواء في احتقار تاريخنا.
وعلى كل حال لا يوجد ما يدل على أن هذه الأمور الإدارية هي المقصودة بقول المؤرخ (وغالب أحكام جنكزخان من أمر اليسق)، لأنها ليست (أحكاماً) ولا خاصة بجنكيزخان، وإنما هو اجتهاد منك لا أظن أنك مسبوق إليه.
مع تقديري لشخصك الكريم.

أبو شعيب
2009-02-20, 04:26 PM
أخي الفاضل ،


لا أزال أرى أنه لا يستقيم أن تقول ما حاصله (الأخبار التي يرويها فلان باطلة إلا ما يصلح لغرضي)
لم أقل هذا ، وليتك تراجع ما قلته .. بل غاية ما قلته هو أن الأخبار الغير مسندة لا تصلح متكأ ، وهذا معلوم عند الجميع .

أما استدلالي بروايات المؤرخين غير المسندة ، فهو بعد افتراض صحة ما رُوي .. وقد ذكرت ذلك من قبل .

فإن أنا افترضت أن ما نقله ابن تغري صحيحاً ، فلا غضاضة أن أورد بقية نقله مفترضاً أيضاً صحته .


ولا يجوز أن تفسر ما فعله بيبرس إلا بشيء صح عندك أنه فعله
لم يصحّ عندي أنه حكم بالياسق ، خاصة وأنه لم يذكر ذلك من رواة التاريخ إلا واحد (فيما وقفت عليه) .. وإن افترضت صحة تلك الرواية ، فهي محمولة على كونه حكم في الأمور الإدارية لا غير .. وهذا من إحسان الظن بالمسلمين أولاً ، وثانياً لم يرد في التاريخ كنه حكمه بالياسق على وجه التفصيل ..

فالدليل محتمل .. فقد يُحتمل أن يكون حكم بالياسق في الإدارة ، ويُحتمل أن يكون في الأمور التعبدية .. والدليل إن تطرق إليه الاحتمال ، سقط به الاستدلال .


وعلى كل حال لا يوجد ما يدل على أن هذه الأمور الإدارية هي المقصودة بقول المؤرخ (وغالب أحكام جنكزخان من أمر اليسق)، لأنها ليست (أحكاماً) ولا خاصة بجنكيزخان، وإنما هو اجتهاد منك لا أظن أنك مسبوق إليه.
كل أمر وكل نظام هو حُكم .. أما كونها ليست خاصة بجنكيز خان ، فأنت ترى من نقلي عن ابن تغري أنّ بيبرس استحدث أموراً لم تكن من قبل ، أخذها عن المغول .. فهي خاصة بالمغول .. وأنت ترى كذلك أن في الياسق أمور إدارية مختص بها العسكر ، فقد يكون بيبرس أخذها وطبّقها .

أما أنه لا يوجد ما يدلّ على أن هذه الأمور الإدارية هي المقصودة .. فأقول : لا يوجد ما يقطع لها ، ولا ما يقطع للأمور التعبدية .. فالعبارة مجملة ، تحتمل هذا وذاك .. فمن قال بأحد الاحتمالين عليه الدليل القطعي .. وإن لم يأت به ، فاستدلاله ساقط .

فلا يُمكن لحكومة تحكم المسلمين بشريعة الطاغوت ، ولا يهبّ أحد من علماء المسلمين في بيان حالها وواقعها ويذكر شناعتها ..

ففي الياسق من الكفر العظيم والظلم الشنيع ما يأباه أصاغر المسلمين ، فهل تقول إن بيبرس كان يحكم بهذا الكفر ؟ وإن كان يحكم به ، لماذا لم يتكلم في ذلك علماء التاريخ ولم يشنعوا أو يستنكروا ؟؟ .. بل حتى لو كان يحكم بباقي أحكام الياسق التي تجعل عقوبة كل عاص القتل ، فلماذا لم يأت على ذلك أحد من علماء التاريخ ، ولم يستشنعه أحد ؟؟ .. أم أن حكم الياسق راق لهم لدرجة وافقوا فيه بيبرس ؟

دعني أرك ما في الياسق من كفر وظلم يستشنعه بشدة أصغر المسلمين ، ذكره المقريزي في [المواعظ والاعتبار : 2/421] وبالسند المتصل :

وأخبرني العبد الصالح الداعي إلى الله تعالى ، أبو هاشم أحمد بن البرهان ، رحمه الله : أنه رأى نسخة من الياسة بخزانة المدرسة المستنصرية ببغداد ، ومن جملة ما شرعه جنكزخان في الياسه أن : من زنى قُتِلَ ، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن . ومن لاط قُتِلَ ، ومن تعمَّد الكذب ، أو سحر ، أو تجسس على أحد ، أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان ، وأعان أحدهما على الآخر ، قُتِل . ومن بال في الماء أو على الرماد قُتِل . ومن أعطي بضاعة فخسر فيها فإنه يُقتل بعد الثالثة . ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قُتِل . ومن وجد عبداً هارباً ، أو أسيراً قد هرب ، ولم يردّه على من كان في يده قُتِل . وأنْ الحيوان تُكتَّف قوائمه ، ويشقُّ بطنه ، ويُمرس قلبه ، إلى أن يموت ، ثم يؤكل لحمه . وأنَّ من ذبح حيواناً كذبيحة المسلمين ذُبح . ومن وقع حمله ، أو قوسه ، أو شيء من متاعه ، وهو يكرّ أو يفرّ في حالة القتال ، وكان وراءه أحد ، فإنه ينـزل ويناول صاحبه ما سقط منه ، فإن لم ينزل ولم يناوله قُتِل . وشرط أن لا يكون على أحد من ولد عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - مؤنة ولا كلفة ، وأن لا يكون على أحد من الفقراء ، ولا القراء ، ولا الفقهاء ، ولا الأطباء ، ولا من عداهم من أرباب العلوم وأصحاب العبادة والزهد والمؤذنين ومغسلي الأموات كلفة ولا مؤنة ، وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى ، وجعل ذلك كله قربة إلى الله تعالى ، وألزم قومه أن لا يأكل أحد من يد أحد حتى يأكل المناول منه أوّلاً ، ولو أنه أمير ، ومن يناوله أسير . وألزمهم أن لا يتخصص أحد بأكل شيء وغيره يراه ، بل يُشركه معه ي أكله . وألزمهم ألا يتميز أحد منهم بالشبع على أصحابه ، ولا يتخطى أحد ناراً ولا مائدة ولا الطبق الذي يؤكل عليه ، وأنّ من مرّ بقوم وهم يأكلون فله أن ينزل ويأكل معهم من غير إذنهم ، وليس لأحد منعه . وألزمهم أن يُدخِلَ أحد منهم يده في الماء ، ولكنه يتناول الماء بشيء يغترفه به ، ومنعهم من غسل ثيابهم بل يلبسونها حتى تبلى ، ومنه أن يُقال لشيء أنه نجس ، وقال : جميع الأشياء طاهرة ، ولم يفرق بين طاهر ونجس .
وكان بيبرس يحكم بأكثر هذا ، ولا يُذكر في التاريخ شيء ، ولا يًشنع عليه .. ولا يستدل لذلك إلا بعبارة موهمة مختصرة ، دون سند متصل ، تجعل بيبرس من أظلم وأفجر ، بل وأكفر خلق الله .. والله المستعان

أبو شعيب
2009-02-20, 06:28 PM
أودّ أن أنبّه إلى أمر ، وهو أن كلام ابن كثير - رحمه الله - في [البداية والنهاية : 13/139] إذ يقول :

وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الانبياء -عليهم الصلاة والسلام- ، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبدالله ، خاتم الانبياء ؛ وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين
فإني لم أجعل قوله هذا في التحاكم عُمدة ردّي على صاحب الكتاب .. فإن لي أقوالاً في التحاكم معروفة ، وإنّي أقيّد هذا النص الذي ذكره ابن كثير بشروط ، وليس هو على إطلاقه ..

ولكنني أتيت بهذا النص للرد على صاحب الكتاب في زعمه أن التقديم هو بمعنى الاستحلال أو التفضيل القلبي .. فوجب التنبيه .

-----------------

صاحبنا يريد أن يثبت في كتابه أن ابن كثير كان يتكلم في تفسيره لآية : {أفحكم الجاهلية يبغون} .. عن الذي يحكم كحكم التتار ، باعتقاد صحة ما هو عليه ..

فأقول : مجرّد الاعتقاد كفر .. سواء أحكم به أم لم يحكم .. فلا معنى لذكر الحكم به إذن .. كما قال ابن القيم - رحمه الله - في [مدارج السالكين : 1/336] :

ومنهم من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً ، وهو قول عكرمة . وهو تأويل مرجوح ، فإن نفس جحوده كفر ، سواء حكم أو لم يحكم
فيُقال له .. إن نفس اعتقاد التتار في ياسقهم كفر ، سواء أحكموا به أم لم يحكموا .. فعلام ذكرك لاعتقادهم الكفري ؟

وابن كثير لم يأت على الاعتقاد ، وما فتئ يقول : "يحكمون" ، و"يحكم" .. ولم يتطرق إلى الاعتقاد ..

وقوله : "ومن فعل ذلك منهم فهو كافر ، يجب قتاله ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير " .. يبيّن بجلاء أن علّة تكفيرهم وقتالهم هي تحكيمهم لغير ما أنزل الله ، إذ أن علّة قتالهم هي تحكيم غيره ..

وقد تكلمت بإسهاب في هذا آنفاً ، فليُراجع .

أما باقي حديثه في كتابه فلا شأن لي به ، إنما كان شأني في تأويل كلام ابن كثير .

والحمد لله رب العالمين .

الإمام الدهلوي
2009-02-20, 06:58 PM
إخواني الكرام سوف أنقل لكم بعض أحكام ( اليـاسـق ) الذي كان يحكم به التتار في زمانهم .
يقول الإمام أحمد بن علي القلقشندي رحمه الله عند بيانه لأحوال التتار : ( الجملة الثانية في عقيدة جنكزخان
وأتباعه في الديانة إلى أن أسلم من أسلم منهم وما جرت عليه عادتهم في الآداب وحالهم في طاعة ملوكهم .
أما عقيدتهم : فقد قال الصاحب علاء الدين بن عطاء ملك الجويني: إن الظاهر من عموم مذاهبهم الإدانة بوحدانية الله تعالى ، وأنه خلق السموات والأرض ، وأنه يحيي ويميت ، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع ، وأنه على كل شيء قدير، وأن منهم من دان باليهودية ، ومنهم من دان بالنصرانية ، ومنهم من اطرح الجميع ، ومنهم من تقرب بالأصنام .. قال : ومن عادة بني جنكزخان أن كل من انتحل منهم مذهباً لم ينكره الآخر عليه ؛ ثم الذي كان عليه جنكزخان في التدين وجرى عليه أعقابه بعده الجري على منهاج ياسة التي قررها ، وهي قوانين خمنها من عقله وقررها من ذهنه ، رتب فيها أحكاماً وحدد فيها حدوداً بما وافق القليل منها الشريعة المحمدية ، وأكثرها مخالف لذلك سماها الياسة الكبرى ، وقد اكتتبها وأمر أن تجعل في خزانته تتوارث عنه في أعقابه وأن يتعلمها صغار أهل بيته .
منها أن من زنى قتل، ومن أعان أحد خصمين على الآخر قتل، ومن بال في الماء قتل، ومن أعطي بضاعة فخسر ثم أعطي ثانياً فخسر ثم أعطي ثالثاً فخسر قتل، ومن وقع حمله أو قوسه فمر عليه غيره ولم ينزل لمساعدته قتل، ومن وجد أسيراً أو هارباً أو عبداً ولم يرده قتل، ومن أطعم أسير قوم أو سقاه أو كساه بغير إذنهم قتل ، إلى غير ذلك من الأمور التي رتبها مما هم دائنون به إلى الآن ، وربما دان به من تحلى بحلية الإسلام من ملوكهم .
ومن معتقدهم في ذبح الحيوان أن تلف قوائمه ويشق جوفه ويدخل أحدهم يده إلى قلبه فيمرسه بيده حتى يموت أو يخرج قلبه. ومن ذبح ذبحة المسلمين ذبح.
وأما عاداتهم في الأدب فكان من طريق جنكزخان أن يعظم رؤساء كل ملة ويتخذ تعظيمهم وسيلة إلى الله تعالى؛ ومن حال التتر في الجملة إسقاط المؤن والكلف عن العلويين وعن الفقهاء والفقراء والزهاد والمؤذنين والأطباء وأرباب العلوم على اختلافهم ومن جرى هذا المجرى .
ومن آدابهم المستعملة أن لا يأكل أحد من يد أحد طعاماً حتى يأكل المطعم منه ولو كان المطعم أميراً والآكل أسيراً، ولا يختص أحد بالأكل وحده بل يطعم كل من وقع بصره عليه، ولا يمتاز أمير بالشبع من الزاد دون أصحابه بل يقسمونه بالسوية، ولا يخطوا أحدٌ موقد نار ولا طبقاً رآه، ومن اجتاز بقوم يأكلون فله أن يجلس إليهم ويأكل معهم من غير إذن . وأن لا يدخل أحدٌ يده إلى الماء بل يأخذ منه ملء فيه ويغسل يديه ووجهه، ولا يبول أحدٌ على الرماد . ويقال إنهم كانوا لا يرون غسل ثيابهم البتة، ولا يميزون بين طاهر ونجس .
ومن طرائقهم أنهم لا يتعصبون لمذهب، وأن لا يتعرضوا لمال ميت أصلاً، ولو ملء الأرض، ولا يدخلونه خزانة السلطان.
ومن عاداتهم أنهم لا يفخمون الألفاظ ، ولا يعظمون في الألقاب حتى يقال في مراسيم السلطان القان بكذا من غير مزيد ألقاب.
وأما حالهم في طاعة ملوكهم فإنهم من أعظم الأمم طاعة لسلاطينهم ، لا لمال ولا لجاه بل ذلك دأب لهم حتى إنه إذا كان أمير في غاية من القوة والعظمة وبينه وبين السلطان كما بين المشرق والمغرب متى أذنب ذنباً يوجب عقوبة وبعث السلطان إليه من أخس أصحابه من يأخذه بما يجب عليه ألقى نفسه بين يدي الرسول ذليلاً ليأخذه بموجب ذنبه ، ولو كان فيه القتل .
ومن طريق أمرائهم أنه لا يتردد أمير إلى باب أمير آخر، ولا يتغير عن موضعه المعين له . فإن فعل ذلك عوقب أو قتل، وإذا عرضوا آلات الحرب على أمرائهم وفوا في العرض حتى بالخيط والإبرة، ورعاياهم قائمون بما يلزمون به من جهة السلطان طيبةً به نفوسهم ، وإن غاب أحد من الرجال قام النساء بما عليهم ) إهـ صبح الأعشى للعلامة أبو العباس القلقشندي .

خزانة الأدب
2009-02-20, 07:38 PM
لا أرى فائدة من مزيد الأخذ والردّ، وحسبي أن ألفت نظرك - من موقع المحبّ لك - إلى التعارض بين وصفك للتاريخ بالأساطير، وبين استشهادك بهذه (الأساطير) بعينها!

المؤرخ يقول: كان بيبرس يسير على الياسق، فتقول أنت: أساطير!
ثم تقول: المؤرخ نفسه ذكر من أخبار بيبرس كذا وكذا، وإذن فقد كان يسير على القسم الإداري من الياسق!
فما زدتَ - في نهاية المطاف - على تصحيح وتوجيه الخبر الذي وصفته بالأساطير!

وتقول: هذه من الياسق، وتطالبني (بالدليل القطعي وإلا فاستدلالي ساقط)!
وقد كنتُ أظن أن المدَّعي هو المطالَب بالدليل!

والتناقض الآخر، وهو أعظم:
غاية ما قلته هو أن الأخبار الغير مسندة لا تصلح متكأ ، وهذا معلوم عند الجميع. أما استدلالي بروايات المؤرخين غير المسندة ، فهو بعد افتراض صحة ما رُوي
أنك تطالب الناس - في أخبار بيبرس - بأسانيد متصلة يرويها الثقات عن الثقات وتخلو من الشذوذ والعلل (وهذا لازم كلامك)، ثم لا تطبّق ذلك على نفسك! إذ لا يوجد في كلامك أي إشارة إلى أسانيد الأخبار التي استشهدت بها!
وأنت تأذن لنفسك أن (تفترض صحة ما رُوي)، ولا تقبل ذلك من الناس!
ليس لك أن تفترض صحة ما قرَّرت أنه أساطير، ما دام أنك تشترط هذه الشروط وترى أن الأخبار غير المسندة لا تصلح متّكأ!
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

الإمام الدهلوي
2009-02-20, 08:39 PM
يقول الإستاذ " محمد حسين شمس الدين " مُحقق كتاب " النجوم الزاهرة " معلقاً على قول ابن تغري رحمه الله : " كان الملك الظاهر رحمه الله يسير على قاعدة ملوك التتار وغالب أحكام جنكزخان من أمر اليسق " إهـ .
قال الأستاذ محمد حسين في الحاشية : ( لعل في عبارة المؤلف هنا بعض التجاوز والمبالغة ، إذ أن " الياسة " كانت تمثل الشريعة المغولية الوثنية ، ويقابلها تعاليم الإسلام التي اتبعها فيما بعد القسم الأكبر من مغول آسيا وبلاد فارس . وقد أشرنا إلى الخلاف الذي قام حول هذا الأمر بين هولاكو وابن عمه بركة خان .
ونرجح أن يكون المراد هو اتباع دولة المماليك الأولى ، ابتداءً من سلطنة الظاهر بيبرس ، لبعض تعاليم الياسة في شعائر المملكة وترتيب الوظائف ، أو في بعض أحكام الياسة التي تتفق مع الشريعة المحمدية .
وإشارة ابن إياس في بدائع الزهور إلى هذا هذا الأمر أكثر وضوحاً ودقـة ، قال : " وفيها – أي سنة 663 هــ " أراد الملك الظاهر أن يسلك في مماليكه طريقة ملوك التتار في شعائرالمملكة ، من أرباب الوظائف ، ففعل ما أمكنه من ذلك ، ورتب أشياء لم تكن قبل ذلك بمصر " بدائع الزهور1/323 " . ويشير ابن فضل الله العمري إلى موقف المماليك المتسامح من " الياسة " في ذلك العصر بقوله : " وأما الياسة ، وأحوالها كثيرة ، فمنها ما يوافق الشريعة المحمدية ... وليعلم أن هذا الرجل – أي جنكزخان – لم يقف على سيرة ملوك ولا طالع كتاباً ، وجميع ما ينسب إليه من ذلك صادر عن قوة ذهنه وحسّه ، واستدراك الأصلح من قبل نفسه . مسالك الأبصار : 2/30 المقدمة ... ) إنتهى بحرفه كلام الأستاذ محمد حسين شمس الدين من حاشية كتاب النجوم الزاهرة (7/163 )

أبو شعيب
2009-02-20, 09:48 PM
الأخ (خزانة الأدب) ،

جزاك الله خيراً .. لعلّك تراجع ما قُلتُه ، فلعلّ هناك سوء فهم .. لأنني حتى ما استشهدت به من ذي السند المنقطع لم أكن أجزم بصحته .

تقول لي كيف ؟ .. أقول لك تأمل كلامي مجدداً ، فليس عندي ما أزيده .

وبارك الله فيك

----------

الأخ (الإمام الدهلوي) ،

جزاك الله خيراً كثيراً وكثّر من أمثالك .. لقد جئت بها .. ووافق كلام الأستاذ محمد حسين ما قلتُه تماماً ، والحمد لله رب العالمين

خزانة الأدب
2009-02-21, 01:41 AM
أخي الفاضل:
إذا لم يترجح عندك أن النص صحيح، فلا معنى لاستشهادك به!

وأما أصل الموضوع فإليك هذه النصوص من الشاملة، وهي تشهد لكلام ابن تغري بردى، وتدل على أن كلامه ليس أساطير:

ص 452 من المجلد الثانى من فتاوى الأزهر
هذا، وقد ذكر المقريزى فى خططه أن السياسة كلمة مغولية أصلها"ياسة" وأصل نشأتها أن جنكيز خان التترى لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة ، قرر قواعد وعقوبات فى كتاب سماه "ياسة" وجعله شريعة لقومه وتدوول من بعده ، وكان لا يدين بدين ولما انتشر ملك أولاده وأسر عدد منهم فى الدفاع عن دولتهم وبيعوا فكان منهم دولة المماليك بمصر، ولشدة مهابة الأمراء للمغول وياستهم حافظوا على تنفيذ هذه "الياسة" فوكلوا إلى قاضى الشريعة العبادات والأحوال الشخصية ، وأما هم وعاداتهم فكانت على مقتضى الياسة ونصبوا الحاجب ليقضى بينهم فيما اختلفوا فيه ، وجعلوا إليه النظر فى قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف فى أمور الإقطاعيات ، فشرعوا فى الديوان ما لم يأذن به الله . . . إلى أن قال : هذا وكان الوازع الديني موجودا، فلما قلَّ الحياء وضعف الدين طغت السياسة وأحكامها وانزوى الدين وأهله ، ج 2 ص 359

وقال الصفدي في الوافي:
أرقطاي الأمير الكبير سيف الدين المعروف بالحاج أرقطاي هو من مماليك الأشرف وفي أيام السلطان الملك الناصر جعل جمداراً، وكان هو والأمير سيف الدين أوتامش نائب الكرك بينهما أخوّة وهما في لسان الترك واللسان القبجاقي فصيحان. وكانا يُرجع إليهما في الياسة التي هي بين الأتراك.

ولخص المقريزي الياسة في الخطط، فلم يذكر ما يدل على أن ما نُسب إلى بيبرس من الترتيبات الإدارية مأخوذ منها:
وأخبرني العبد الصالح الداعي إلى الله تعالى، أبو هاشم أحمد بن البرهان، رحمه الله: أنه رأى نسخة من الياسة بخزانة المدرسة المستنصرية ببغداد، ومن جملة ما شرعه جنكزخان في الياسه أن: من زنى قُتِلَ، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن. ومن لاط قُتِلَ، ومن تعمَّد الكذب أو سحر أو تجسس على أحد، أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان وأعان أحدهما على الآخر قُتِل. ومن بال في الماء أو على الرماد قُتِل. ومن أعطي بضاعة فخسر فيها فإنه يُقتل بعد الثالثة. ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قُتِل ومن وجد عبداً هارباً أو أسيراً قد هرب ولم يردّه على من كان في يده قُتِل. وأنْ الحيوان تُكتَّف قوائمه ويشقُّ بطنه ويُمرس قلبه إلى أن يموت ثم يؤكل لحمه. وأنَّ من ذبح حيواناً كذبيحة المسلمين ذُبح. ومن وقع حمله أو قوسه أو شيء من متاعه وهو يكرّ أو يفرّ في حالة القتال وكان وراءه أحد، فإنه ينزل ويناول صاحبه ما سقط منه، فإن لم ينزل ولم يناوله قُتِل. وشرط أن لا يكون على أحد من ولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مؤنة ولا كلفة، وأن لا يكون على أحد من الفقراء ولا القراء ولا الفقهاء ولا الأطباء ولا من عداهم من أرباب العلوم وأصحاب العبادة والزهد والمؤذنين ومغسلي الأموات كلفة ولا مؤنة، وشرط تعظيم جميع الملل من غير تعصب لملة على أخرى، وجعل ذلك كله قربة إلى الله تعالى، وألزم قومه أن لا يأكل أحد من يد أحد حتى يأكل المناول منه أوّلاً، ولو أنه أمير، ومن يناوله أسير. وألزمهم أن لا يتخصص أحد بأكل شيء وغيره يراه، بل يُشركه معه ي أكله. وألزمهم أ، لا يتميز أحد منهم بالشبع على أصحابه، ولا يتخطى أحد ناراً ولا مائدة ولا الطبق الذي يؤكل عليه، وأنّ من مرّ بقوم وهم يأكلون فله أن ينزل ويأكل معهم من غير إذنهم، وليس لأحد منعه. وألزمهم أن يُدخِلَ أحد منهم يده في الماء، ولكنه يتناول الماء بشيء يغترفه به، ومنعهم من غسل ثيابهم بل يلبسونها حتى تبلى، ومنه أن يُقال لشيء أنه نجس، وقال: جميع الأشياء طاهرة، ولم يفرق بين طاهر ونجس. وألزمهم أن لا يتعصبوا لشيء من المذاهب، ومنعهم من تفخيم الألفاظ ووضع الألقاب، وإنما يخاطب السلطان ومن دونه ويُدعى باسمه فقط، وألزم القائم بعده بعرض العساكر وأسلحتها إذا أرادوا الخروج قد قصر في شيء مما يحتاج إليه عند عرضه أياه عاقبه. وألزم نساء العساكر بالقيام بما على الرطال من السخرِ والكلفِ في مدّة غيبتهم في القتال، وجعل على العساكر إذا قدمت من القتال كلفة يقومون بها للسلطان ويؤدونها إليه. وألزمهم عند رأس كلّ سنة بعرض سائر بناتهم الأبكار على السلطان ليختار منهنّ لنفسه وأولاده.
ورتب لعساكره أمراء وجعلهم أمراء ألوف وأمراء مئين وأمراء عشراوات، وشرَّع أن أكبر الأمراء إذا أذنب وبعث إليه الملك أخس من عنده حتى يعاقبه فإنه يُلقي نفسه إلى الأرض بين يدي الرسول وهو ذليل خاضع، حتى يمضي فيه ما أمر به الملك من العقوبة، ولو كانت بذهاب نفسه. وألزمهم أن لا يتردد الأمراء لغير الملك، فمن تردد منهم لغير الملك قتل، ومن تغير عن موضعه الذي يُرسم له بغير إذن قُتِل. وألزم السلطان بقامة البريد حتى يعرف أخبار مملكته بسرعة، وجعل حكم الياسه لولده جقتاي بن جنكز خان، فلما مات التزم من بعده من أولاده وأتباعهم حكم الياسه، كالتزام أوّل المسلمين حكم القرآن، وجعلوا ذلك ديناً لم يعرف عن أحد منهم خالفته بوجه.

وقال:
ثم كانت لقطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت، وهُزِم التتار وأسر منهم خلقاً كثيراً صاروا بمصر والشام، ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملؤوا مصر والشام، وخطب للملك بركة بن يوشي بن جنكز خان على منابر مصر والشام والحرمين، فغصت أرض مصر والشام بطوائف المغل، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم، هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد مُلئت قلوبهم رعباً من جنكز خان وبنيه، واتمزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم، وكانوا إنما ربّوا بدار الإسلام ولقِّنوا القرآن وعرفوا أحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء، وفوّضوا القاضي القضاى كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وناطوبه أمر الأوقاف والأيتام، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية، كتداعي الزوجين وأرباب الديون ونحو ذلك، واحتاجوا في ذات أنفسهم إلى الرجوع لعادة جنكز خان والاقتداء بحكم الياسة، نصبوا الحاجب ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه من عوايدهم، والأخذ على يد قويهم، وانصاف الضعيف منه على مقتضى ما في الياسة، وجعلوا إليه من ذلك النظر في قضايا الدواوين السلطانية عند الاختلاف في أمور الإقطاعات، لينفذ ما استقرّت عليه أوضاع الديوان وقواعد الحساب، وكانت من أجلّ القواعد وأفضلها حتى تحكم القبط في الأموال وخراج الأراضي، فشرّعوا في الديوان ما لم يأذن به الله تعالى، ليصير لهم ذلك سبيلاً إلى أكل مال الله تعالى بغير حقه، وكان مع ذلك يحتاج الحاجب إلى مراجعة النائب أو السلطان في معظم الأمور.

الواحدي
2009-02-22, 10:33 PM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
سؤال:
هل "الياسق" و"الياسة" مترادافان؟ أم بينهما فرق أو فروق؟
جزاكم الله خيرًا.

الإمام الدهلوي
2009-02-22, 11:20 PM
أخي الكريم الواحدي وفقك الله تعالى
-----------------------
( ياسا ) أو ( ياسه ) أو ( يساق ) أو ( يَسَق ) كلمة تركية ( مغولية ) تستخدم كعلم على قانون التتار الذي وضعه زعيمهم الأول ( جنكيز خان ) .. وأصل الكلمة يعبر بها عن وضع قانون للمعاملة . ولما كان أكثر العقوبات المنصوص عليها في ( الياسق ) القتل صار مِن معانيها القتل أو الموت .. ثم أدخل أهلُ مصر عليها السين فصارت ( سياسة ) .
وراجع في التوسع حول هذا الأمـر مـا كتبه حول ( الياسق عند التتار وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية منه ) في كتابه الرائع ( الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه ) .
الكتاب موجود على هذا الرابط :
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=23099

الواحدي
2009-02-23, 12:09 AM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
الفاضل "الإمام الدهلوي"، جزاك الله خيرا على مبادرتك بالجواب.
_ ألا ترى أنّ تقرير كون أصل كلمة "سياسة" هو "الياسة" فيه شيء من التعسُّف إزاء حقائق اللغة ومعطيات التاريخ؟
_ ألا ترى أنه لمعرفة حقيقة "الياسق" و"الياسة" لا يكفي الاعتماد على المصادر التاريخية العربية وحدها، بل لا بد من الرجوع إلى المصادر الفارسية والمغولية والروسية؟
ولك منّي أخلص الدعاء.

عدنان البخاري
2009-02-23, 06:53 AM
ألا ترى أنّ تقرير كون أصل كلمة "سياسة" هو "الياسة" فيه شيء من التعسُّف إزاء حقائق اللغة ومعطيات التاريخ؟
/// أحسنت، وقد عجبت كثيرًا من جعل الياسق أوالياسه أصلًا لمادة السياسة؟!
/// فالكلمة معروفة في لسان العرب ونظمهم واستعمالهم، من (ساس.. يسوس.. سياسة..)، وانظرها في كتب اللُّغة كلِّها، بل في حديث البخاري وغيره: (إنَّ بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء... الحديث).
/// فقد تكلُّم العرب بالكلمة قبل أن يخلق الله جنكيز ويازقه.
/// ثمَّ إنَّ السياسة الاصطلاحيَّة تعبِّر عن المعنى اللُّغوي، بخلاف الياسق، الذي هو كتاب يحتاجه من يسوس الناس، فأين هذا من ذاك!

عدنان البخاري
2009-02-23, 06:57 AM
/// فقد تكلُّم العرب بالكلمة قبل أن يخلق الله جنكيز ويازقه.

..
للإفادة : اليازق أو اليوزق - بألف ممالة و زاي - في التُّركيَّة القديمة والحديثة، (والتَّتر جنسٌ من التُّرك) =معناه: المكتوب. هذا أصل معناه اللُّغوي.
/// وأمَّا الاصطلاحي فلا يخفى عليكم؛ إذ هو الدستور الوضعي للتَّتر.
http://majles.alukah.net/showpost.php?p=191370&postcount=105

الإمام الدهلوي
2009-02-23, 11:09 AM
أخي الواحدي وفقك الله تعالى
-------------------
قولك : ( ألا ترى أنّ تقرير كون أصل كلمة "سياسة" هو "الياسة" فيه شيء من التعسُّف إزاء حقائق اللغة ومعطيات التاريخ؟
_ ألا ترى أنه لمعرفة حقيقة "الياسق" و"الياسة" لا يكفي الاعتماد على المصادر التاريخية العربية وحدها، بل لا بد من الرجوع إلى المصادر الفارسية ) إهـ .
أقـول : ليس المقصود هو تقرير المعنى اللغوي لكلمة ( سياسة ) فهذا المصطلح كان معروف عند العرب قبل أن تطأ أقدام التتار بلاد الإسلام كما أوضح ذلك الشيخ عندنان وفقه الله تعالى .
وإنمـا المقصود هو أن أهل مصر حرفوا لفظة ( ياسة ) وزادوا بأولها سيناً فقالوا : سياسة ، وأدخلوا الألف واللام فصارت تطلق كلمة (السياسة ) على ( ياسة ) الذي هو اسم من أسماء قانون التتار فظن من لا علم عنده أن ( ياسة ) هي كلمة عربية وهي ليس كذلك .
فهذا ما قاله الإمام المقريزي رحمه الله في كتابه ( الخطط ) والشيخ أحمد شاكر رحمه الله في كتابه ( حكم الجاهلية ) .
والله أعلم .

خزانة الأدب
2009-02-24, 01:56 AM
وإنمـا المقصود هو أن أهل مصر حرفوا لفظة ( ياسة ) وزادوا بأولها سيناً فقالوا : سياسة ، وأدخلوا الألف واللام فصارت تطلق كلمة (السياسة ) على ( ياسة ) الذي هو اسم من أسماء قانون التتار فظن من لا علم عنده أن ( ياسة ) هي كلمة عربية وهي ليس كذلك . فهذا ما قاله الإمام المقريزي رحمه الله في كتابه ( الخطط ) والشيخ أحمد شاكر رحمه الله في كتابه ( حكم الجاهلية ) . والله أعلم .
الشيخ أحمد شاكر رحمه الله كان يتكلم على لفظة (السياسة) المعروفة، فقال إن الناس يظنونها عربية وليست كذلك، بل هي تحريف للياسة المغولية، وأحال على المقريزي.

وبالمناسبة: اسم (اليازجي) مشتقّ من هذه المادة (ياز + جي)، ومعناه بالتركية (الكاتب).

عدنان البخاري
2009-02-24, 02:02 AM
/// بارك الله فيك.. إن ثبت هذا فما زلت أعجب من متابعة الشيخ أحمد شاكر للمقريزي في مثل هذا!

خزانة الأدب
2009-02-24, 02:36 AM
كلام المقريزي مستقيم، وهاهو بتمامه:
... وكانت أحكام الحُجَّاب أوّلاً يُقال لها حكم السياسة، وهي لفظة شيطانية لا يعرف أكثر أهل زماننا اليوم أصلها، ويتساهلون في التلفظ بها ويقولون: هذا الأمر مما لا يمشي في الأحكام الشرعية، وإنما هو من حكم السياسة، ويحسبونه هيناً، وهو عند الله عظيم، وسأ بين معنى ذلك، وهو فصل عزيز.
اعلم أن الناس في زمننا، بل ومنذ عهد الدولة التركية بديار مصر والشام، يرون أن الأحكام على قسمين: حكم الشرع، وحكم السياسة. ولهذه الجملة شرح، فالشريعة هي ما شرّع الله تعالى من الدين وأمر به، كالصلاة والصيام والحج وسائر أعمال البرّ، واشتُقَّ الشرع من شاطىء البحر، وذلك أن الموضع الذي على شاطىء البحر تشرع فيه الدواب، وتسميه العرب الشريعة، فيقولون للإبل إذا وردت شريعة الماء وشربت: قد شرع فلان إبله، وشرّعها، بتشديد الراء إذا أوردها شرية لماء، والشريعة والشراع والشرعة، المواضع التي ينحدر الماء فيها. ويقال: شرّع الدين يشرّعُهُ شرعاً بمعنى سنّه. قال الله تعالى: " شرّع لكم من الدين ما وصى به نوحاً " الشورى 13 ويقال: ساس الأمر سياسة، بمعنى قام به. وهو سائسٌ من قومٍ ساسةٌ وسوس، وسوّسه القوم. جعلوه يسوسهم، والسوس الطبع والخلق، فيقال: الفصاحة من سوسِهِ الكرمُ من سوسِه، أي من طبعِهِ. فهذا أصل وضع السياسة في اللغة. ثم رُسمت بأنها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال.
والسياسة نوعان: سياسة عادلة تُخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الأحكام الشرعية، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتبا متعدّدة. والنوع الآخر سياسة ظالمة، فالشريعة تحرّمها وليس ما يقوله أهل زماننا في شيء من هذا، وإنما هي كلمة مُغْليَّة، أصلها ياسه، فحرّفها أهل مصل وزادوا بأولها سيناً فقالوا سياسة، وأدخلوا عليها الألف واللام فظن من لا علم عنده أنها كلمة عربية، وما الأمر فيها إلاّ ما قلت لك.
واسمع الان كيف نشت هذه الكلمة حتى انتشرت بمصر والشام. وذلك أن جنكز خان القائم بدولة التتر في بلاد الشرق، لما غلب الملك أونك خان وصارت له دولة، قرّر قواعد وعقوبت أثبتها في كتاب، سمّاه ياسه، ومن الناس من يسميه يسق، والأصل في اسمه ياسه، ولما تمم وضعه كتب ذلك نقشاً في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه فالتموه بعد حتى قطع الله دابرهم. وكان جنكز خان لا يتدين بشيء من أديان أهل الأرض، كما تعرف هذا إن كنت أشرفت على أخباره، فصار الياسه حكماً بتَّاً بقي في أعقابه لا يخرجون عن شيء من حكمه.

فهو يقول: السياسة كلمة عربية معروفة، ولكن الكلمة التي يستعملها أهل عصره في مقابل الشريعة ليست هي الكلمة العربية، وإنما هي الكلمة المغولية بعد تحريفها.
ويظهر أن الشيخ أحمد شاكر رحمه الله لم يفطن إلى هذا الفرق الدقيق.

أبو شعيب
2009-02-24, 06:23 AM
السلام عليكم ،

جاء في [النجوم الزاهرة : 2/205]:

قلت : هو صاحب " التورا " و " اليسق " ، وقد أوضحنا أمره في غير هذا الكتاب ، وذكرنا أصله واعتقاد التتار فيه ، وأشياء كثيرة . والتورا باللغة التركية هو المذهب ، واليسق هو الترتيب . وأصل كلمة اليسق : سي يسا ، وهو لفظ مركب من أعجمي وتركي ، ومعناه : التراتيب الثلاث ، لأن " سي " بالعجمي في العدد ثلاثة ، و " يسا " بالتركي : الترتيب ؛ وعلى هذا مشت التتار من يومه إلى يومنا هذا ، وانتشر ذلك في سائر الممالك حتى ممالك مصر والشام ، وصاروا يقولون : " سي يسا " ، فثقلت عليهم فقالوا : " سياسة " على تحاريف أولاد العرب في اللغات الأعجمية .

الإمام الدهلوي
2009-02-24, 11:17 AM
الأخوة الكرام وفقكم الله تعالى
-----------------
لقـد رجعت إلى بعض المصادر ذات الصلة بالألفاظ العجمية المعربة فوجدت هذا الكلام المفيد جداً .
يقول العلامة الخفاجي رحمه الله تعالى : ( السياسة قيل هو معرب ( سـه يسـا ) وهي لفظة مركبة أولاهما أعجمية ، والأخرى تركية ، فسـه بالفارسية ثلاثة ، ويسـا بالمغلية الترتيب ، فكأنه قال التراتيب الثلاثة ، وسببه على ما في النجوم الزاهرة أن جنكيزخان ملك المغل قسم ممالكه بين أولاده الثلاثة وأوصاهم بوصايا أن لا يخرجوا عنها فجعلوها قانوناً وسموها بذلك ثم غيروا فقالوا سياسة وهذا غلظ فاحش فإنها لفظة عربية متصرفة تكلموا بها قبل خلق جنكيزخان وعليه جميع أهل اللغة
قال الحماسي : فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة ننصف ) إهـ شفاء العليل فيما في كـلام العـرب مـن الدخيل (121) للعلامة شهاب الدين الجفاجي .

عدنان البخاري
2009-02-24, 11:44 AM
/// بارك الله فيك.. وينبغي عدم إغفال أنَّ الكلمة مستعملةٌ كما تقدَّم ذكره من كلام الخفاجي قبل أن يخلق جنكيز خان وأبناؤه ويازقه!
ولا أدري كيف أنَّ الكلمة (سياسة) ليست عربيَّة الأصل والمنشأ وقد تكلَّمت بها العرب قبل جنكيز والمغل؟ إذ السياسة الملكيَّة للرعيَّة هي رعاية الرعيَّة وتصريف شؤونهم، وهذا هو المعنى العربيُّ المطابق للسياسة الحالية ولو بطرفٍ، فأين هذا من ادِّعاء كون أصل الكلمة فارسية مغولية معرَّبة!!
/// قال الكميت الأسدي (وهو مخضرم جاهليٌّ - إسلاميٌّ):

وَيَلعَنُ فَذَّ أُمَّتِهِ جِهَارَاً /// /// /// إِذَا سَاسَ البَرِيَّةَ والخَلِيعَا
بِمَرضِيِّ السِّيَاسَةِ هَاشِمِيٍّ /// /// /// يَكُونُ حَيَاً لأُمَّتِهِ رَبِيعَا
وَليثاً فِي المَشَاهِدِ غَيرَ نِكسٍ /// /// /// لِتَقوِيمِ البَرِيَّةِ مُستَطِيعَا
/// وقال جرير الخطفي:

ساسَ الخِلافَةَ حينَ قامَ بِحَقِّها /// /// /// وَحَمى الذِمارَ فَما يُضاعُ ذِمارُ
/// ولو أردنا الاستطراد في مثل هذا لطال الكلام، مع أنِّي أراه من البدهيَّات التي لا ينبغي متابعة الغلط فيها.

الإمام الدهلوي
2009-02-24, 02:28 PM
الشيخ عدنان وفقك الله تعالى
------------------
الأمر كما قلت فكلمة ( الساسية ) هي عربية الأصل والمنشأ .. ومن قال بأن هذه الكلمة أصلها ليس عربي ! .. فقوله لا شك أنه خطأ لا يتـابـع عليه .. وبالله التوفيق .

الإمام الدهلوي
2009-03-30, 06:52 PM
هــذه المشاركة سوف تكون حـول الشبهة التي سبق الرد عليها وهـي قولهم : أن بعض سلاطين المماليك كانوا يحكمون بقانون ( الياسق التتري ) ومـع هــذا لم يكفرهم علماء السلف !! ؟
وقـد قلنا سابقاً أن هذا الزعم عاري عن الدليل الصحيح ، وأن بنود الياسق التي كان يتبعها بعض سلاطين المماليك هي من تلك النوع الترتيبي التنظيمي ، ولست من البنود التشريعات القضائية التعبدية كما ذكر محقق كتاب ( النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ) الأستاذ محمد حسين شمس الدين .
فالقول بـأن مـن حكم بـ ( الياسق ) مـن التتار فهو كافر ، ومـن حكم بنفس ( الياسق ) مـن المماليك ليس بكافر .. هـو في حقيقته تفريق باطل .. بل علماء السلف كان موقفهم صريح من كل من حكم بالياسق ، ولذلك حكموا على الطاغية تيمورلُنك بالكفر الأكبر عندما اتبع ( نظام حكم الياسق ) رغم أنه كان يدعي الإسلام
وسوف أنقل لكم ما جاء في كتاب : (( التشريع الوضعي في ضوء العقيدة الإسلامية )) لصاحبه محمد بن حجر القرني ، وهوكتاب مقدم إلى جامعة أم القرى لنيل درجة الماجستير .
وهــذا نص كلامه
يقول صاحب كتاب " التشريع الوضعي في ضوء العقيدة الإسلامية " : ( ومن الأمثلة التي توضح وتؤيد أن اعتماد التشريع الوضعي كفر بمجرده - ما كان من شان تيمورلُنك - فإنه كان قد أعلن إسلامه ، وأظهر شعائر الإسلام في بلاده ، ومن ذلك أنه بعث برسالة إلى بعض الحكام يعاتبه فيها على عدم إقامة المساجد وعدم المحافظة على الصلوات ، قال فيها : " إن ولاتك على مذهب سيء ، وليس لديهم أي مسجد ، ولا يحرصون على إقامة الجمعة وصلاة الجماعة مطلقاً ، وإنهم لا يقيمون الفرائض والسنن ، وإذا خرج شخص يؤذن للصلاة يلحقون به الأذى ، وا أسفاه على لقب الرئاسة الذي نلته " ، وكان مكرماً لعلماء الدين حريصاً على تشييد المساجد والمدارس في سمرقند وأصفهان وتبريز ، لكنه كان يعتمد تشريع جنكيز خـان " الياسا " ويجعله أصلاً في تدبير مملكته . ولأجل هذا أفتى العلماء بكفره ، وفيما يلي أقوالهم :
قال السخاوي رحمه الله في سياق كلامه عن تيمورلنك : ( يعتمد قواعد جنكز خان ويجعلها أصلاً ، ولذلك أفتى جمع جم بكفره ، مع أن شعائر الإسلام في بلاده ظاهرة ) إهـ الضوء اللامع (3/49).
وقال ابن عربشاه رحمه الله : ( كان معتقداً للقواعد الجنكز خانية ، وهي كفروع الفقه في الملة الإسلامية ، وممشياً لها على الطريقة المحمدية ... ومن هذه الجهة أفتى كل من مولانا وشيخنا حافظ الدين البزازي رحمه الله ومولانا وسيدنا وشيخنا علاء الدين محمد البخازي أبقاه الله وغيرهما من العلماء الاعلام وأئمة الإسلام بكفر تيمورلنك ، وبكفر من يقدم القواعد الجنكزخانية على الشريعة الإسلامية ) إهـ عجائب المقدور في نوائب تيمور(455).
وقال الشوكاني رحمه الله وهو يتكلم عن جنكز خان وياسقه والتزام المتملم بعد به : " فلزم طريقته الملعونة وتدبيره المشؤوم المتملك بعده من أولاد ، ثم المتملك بعدهم من ولد ولده ... ثم اقتفى هذه الطريقة القبيحة والتدبير الكفري تيمورلنك فإنه كان لا يعمل في تدبير ملكه بغير كتاب الياسا ) إهـ
وهــذا الكلام من هؤلاء العلماء آت على مقتضى القاعدة العامة المتقررة في نصوص الشريعة ، والتي عبّر عنها الشيخ محمد الشنقيطي رحمه الله بقوله : " من هدي القرآن للتي هي أقوم : أن كل من اتبع تشريعاً غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم ، محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه : فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح مخرج عن الملة الإسلامية ) إهــ كتاب التشريع الوضعي في ضوء الشريعة الإسلامية (376 )
فهــذا كلام واضح في كفر من حكم بالياسق .. فهل يعقل أن يحكم العلماء على تيمورلنك بالكفر ولا يحكموا على سلاطين المماليك بالكفر مع أن كلاهما قد حكم بالياسق كما يزعم القوم !!!!! ..... سبحانك هذا بهتان عظيم .

أبو الفداء
2009-04-02, 12:53 PM
فابن كثير لم يقل إنهم يقدمون الياسق على كتاب الله ، هكذا بإطلاق ، بل قال : "يقدمونه على الحكم بكتاب الله" .. فدل ذلك على أنهم يقدمون الحكم بالياسق على الحكم بالقرآن .. والحكم فعل على الجوارح ، ولم يذكر ابن كثير الاستحلال هنا أيضاً .

بارك الله فيك.. أنا لم أقف على كلام المردود عليه، ولكن لي ملاحظات على كلامك وفقك الله..
فما أجملته هنا قد يلزمك تفصيله حتى يتبين لنا على أي وجه تحمل كلام ابن كثير رحمه الله..
أخي، التقديم والتفضيل بمعنًى، فإذا خُير الإنسان بين شيئين، وقدم أحدهما على الآخر، فهو ولا ريب مفضل لما قدمه واختاره على ما تركه!! فالتقديم هنا في كلام ابن كثير رحمه الله مناط تكفير ولا شك، لا يلزم معه ذكر استحلال ولا اعتقاد! إذ كيف يقال لرجل: أمامك محكمة شرعية ومحكمة وضعية، فأيهما تختار، فيقول أختار الوضعية، يقدم الوضعية على الشرعية وهو يعلم، كيف يقال لهذا أنه لا يكفر من مجرد هذا الفعل؟ بل يكفر ولا شك، لأن فعله هذا دال على الاستحلال عنده (إلا أن يكون مكرها، على تفصيل في ذلك)، وآيته هنا تقديمه وتفضيله لحكم الطاغوت على حكم الله! فكلمة تقديم هنا لا يحتاج معها إلى أن يقول مثلا (معتقدا أن الياسق أفضل من شرع الله)، حتى يُفهم أنه يفضل الياسق (اعتقادا) على القرءان وحكمه، إذ المعنى المكفر مفهوم هنا بالاقتضاء!
فتفريقك - وفقك الله - في الكلام الآنف اقتباسه بين قول القائل "يقدمونه على كتاب الله" وقوله "يقدمونه على الحكم بكتاب الله" تفريق عجيب لا وجه له، لأن اللازم واحد والمقتضى واحد لمن تأمل!! المقتضى أن أحكام ذلك القانون عنده مقدمة على أحكام القرءان! فمن هكذا دينه - تقديم الحكم بالياسق على الحكم بالقرءان - فلا حظ له من الإسلام ولا مراء!! ففعل الجوارح الذي هو التقديم، قرينة على التفضيل القلبي واضحة لا تحتاج إلى بيان ولا إلى ذكر استحلال ولا غيره!


فمن ترك الشرع المحكم المنـزل على محمد بن عبدالله ، خاتم الأنبياء ، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين .

قلت الكلام هنا واضح من ابن كثير رحمه الله: من كان من فعله ترك الكتاب والسنة اختيارا، والعدول عنهما إلى قانون آخر وهو مختار عالم بذلك، مقدما لما اختاره على ما تركه وهو يعلم أن المتروك هو حكم الله، فهذا لا مرية في كفره!!


ذكر ابن كثير أولاً أن التحاكم إلى غير شريعة الله كفر ، ولم يذكر الاعتقاد هاهنا .. بل جعل مجرّد التحاكم كفراً .

قلت كما أسلفت فإن لفظة (مقدِّما) لا يفهم منها إلا الاستحلال وتفضيل ما سوى شرعة الله عليها!! وهذا هو مناط الكفر بهذا الفعل هنا، فلا يحتاج الاعتقاد إلى أن يُذكر تفصيلا!


فمعنى كلام ابن كثير حينئذ هو أنه من جعل حكمه المخالف لشرع الله تعالى شرعاً متبعاً ، وسنة ومنهجاً ، يسير عليه الناس ، وأبطل به أصل العمل بحكم الله ، فهذا هو الكافر ..

قلت أحسن الله إليك، هذه هي.. وفقك الله.. ولكن هل يُتصور أن يفعل هذا الفعل من لا يستحله ولا يرى به بأسا؟ أعني من يقول، دعوا عنكم أحكام القرءان والسنة، وخذوا هذا في مكانها، هل هذا يحتاج إلى أن ننظر هل عنده استحلال أم لا؟ بل مقتضى هذا القول أو الفعل الاستحلال ولا شك!

أبو شعيب
2009-04-04, 07:51 AM
السلام عليكم ،

بارك الله فيك أخي أبا الفداء ، ولي ملاحظات على ما تفضلتم به .

قولك :

أخي، التقديم والتفضيل بمعنًى، فإذا خُير الإنسان بين شيئين، وقدم أحدهما على الآخر، فهو ولا ريب مفضل لما قدمه واختاره على ما تركه!! فالتقديم هنا في كلام ابن كثير رحمه الله مناط تكفير ولا شك، لا يلزم معه ذكر استحلال ولا اعتقاد! إذ كيف يقال لرجل: أمامك محكمة شرعية ومحكمة وضعية، فأيهما تختار، فيقول أختار الوضعية، يقدم الوضعية على الشرعية وهو يعلم، كيف يقال لهذا أنه لا يكفر من مجرد هذا الفعل؟ بل يكفر ولا شك، لأن فعله هذا دال على الاستحلال عنده (إلا أن يكون مكرها، على تفصيل في ذلك)، وآيته هنا تقديمه وتفضيله لحكم الطاغوت على حكم الله! فكلمة تقديم هنا لا يحتاج معها إلى أن يقول مثلا (معتقدا أن الياسق أفضل من شرع الله)، حتى يُفهم أنه يفضل الياسق (اعتقادا) على القرءان وحكمه، إذ المعنى المكفر مفهوم هنا بالاقتضاء!
ألا ترى معي - بارك الله فيك - أن كلامك فيه إطلاق غير سديد ؟

فكون الرجل يقدّم شيئاً على شيء ، لا يعني ذلك ضرورة تفضيله واستحسانه قلبياً . ومثال ذلك :

رجل خُيّر بين الزواج الشرعي الحلال من امرأة عفيفة طاهرة ، وبين الزنى بعاهرة نجسة ، فاختار الزنى لأنه لا يتحمل تبعات ومسؤوليات الزواج ، مع إقراره أن الخير والصلاح والفلاح كله في طاعة أمر الله تعالى في الزواج ، وأن الزنى ما هو إلا شر وإثم ، وهو مستحق للعقوبة ، راكب للحرام .

فهل نقول عن مثل هذا أنه كافر ؟ .. فهو قد قدّم الزنى على النكاح الشرعي .

فإن قلت لي لا ، فأقول : فكيف حكمت على الرجل بالاستحلال ثم الكفر بمجرد تقديمه لحكم الطاغوت على حكم الله ؟

ثم أسألك : أليس حكم الطاغوت هو كل حكم مضاد لحكم الله تعالى ؟ .. فمن حكم بهواه في واقعة ما ، وهو يعلم أنه آثم مذنب ، لماذا لا يكفر وهو قد قدّم الحكم بالطاغوت (في هذه الواقعة) على الحكم بكتاب الله ؟

نعم ، التقديم بالفعل هو كفر عملي ، ولكنه لا يستلزم ضرورة قيام الاستحسان في القلب .. وهكذا الحال في سائر المعاصي .


فتفريقك - وفقك الله - في الكلام الآنف اقتباسه بين قول القائل "يقدمونه على كتاب الله" وقوله "يقدمونه على الحكم بكتاب الله" تفريق عجيب لا وجه له، لأن اللازم واحد والمقتضى واحد لمن تأمل!! المقتضى أن أحكام ذلك القانون عنده مقدمة على أحكام القرءان! فمن هكذا دينه - تقديم الحكم بالياسق على الحكم بالقرءان - فلا حظ له من الإسلام ولا مراء!! ففعل الجوارح الذي هو التقديم، قرينة على التفضيل القلبي واضحة لا تحتاج إلى بيان ولا إلى ذكر استحلال ولا غيره!
أقول في ذلك ما قلتُ آنفاً .. إلا أنني أزيد أن قوله : "يقدمونه على كتاب الله" يوهم أنهم يفضلون الياسق على كتاب الله ، وهذا لا شك أنه كفر .. ولكن قوله : "يقدمونه على الحكم بكتاب الله" يفيد أن التقديم هنا هو في العمل بالكتاب ، لا في اعتقاد أفضلية الكتاب .

فإن كان الحال كذلك ، علمنا أن من خالف الكتاب بعمله ، واتبع هواه ، فقد وقع في كفر عمليّ ، إن استلزم كفراً قلبياً كفر .

وابن كثير - رحمه الله - لم يذكر الاستحلال والتفضيل القلبي البتة في كلامه ، ولكنه نوّه إلى مسألة هامّة وهي أن هذا الفعل المخالف لكتاب الله ، إن كان شرعاً مسلوكاً ، ومنهجاً متبعاً ، فإن صاحبه يكفر ولا بد ، وهذا ناجم عن مسألة أصولية عند أهل السنة والجماعة في تارك جنس العمل .

فمن ترك شيئاً من العمل الواجب ، فهو آثم ، ومن جعل ترك هذا العمل أصلاً يعمل به ويتحاكم إليه ، فهذا كافر .

فهؤلاء الذين حكموا بالعادات الجاهلية وبالياسق جعلوا هذه الأحكام هي الأصل المتبع والمردود إليه الأمر عند النزاع ، فعندها يكونون كفاراً بإبطلاهم لأصل العمل بشريعة الله تعالى . ولا ضير حينها أن نقول : إن إبطال أصل الحكم هو دليل على الاستحلال .. لأن الكفر العملي الأكبر يستلزم كفراً في القلب ولا بد .

فالاستحلال هنا هو لازم للكفر العملي الأكبر ، وليس هو علّة بذاته يُستدل لها ..

ومثال ذلك ناكح امرأة أبيه .. فحيث أن النكاح هو استحلال للفرج ، فلا يُنظر حينها إلى معتقد هذا الرجل ، ولا يُقال : هل أنت معتقد حلّ هذه المرأة أم حرمتها .. لأن فعله بحد ذاته كفر ، وهو تحليل الحرام ، بغض النظر عن اعتقاده ، وهذا يلزم منه أحد الأحوال القلبية الكفرية ، كاستهزاء بشريعة الله أو استهانة بأمر الله .. وغير ذلك مما قد لا نحيط به علماً .

فعند الحكم على الفعل بالكفر ، لا نعلل له باستلزامه لكفر القلب ، بل يكفي أن نثبت أن فعله كفر أكبر .

فعندئذ لا أرى قولك إن هذا دليل على الاستحلال القلبي منضبطاً .. بل الأولى أن تقول : إن فعله في نفس الأمر كفر ، وهو علّة التكفير هنا ، وهذا الكفر يستلزم كفر القلب .


قلت الكلام هنا واضح من ابن كثير رحمه الله: من كان من فعله ترك الكتاب والسنة اختيارا، والعدول عنهما إلى قانون آخر وهو مختار عالم بذلك، مقدما لما اختاره على ما تركه وهو يعلم أن المتروك هو حكم الله، فهذا لا مرية في كفره!!
وما يفرق حينها من يحكم في قضية معينة بهواه ، مع إقراره بالإثم .. وبين من يحكم بقانون ؟ .. فكلاهما قدّم حكم الطاغوت على حكم الله !

وما يفرق من يقدّم طاعة المخلوق على طاعة الخالق ؟ .. لماذا لا نقول : هذا يستلزم أنه يحب المخلوق أشد من حبه لله !!


قلت أحسن الله إليك، هذه هي.. وفقك الله.. ولكن هل يُتصور أن يفعل هذا الفعل من لا يستحله ولا يرى به بأسا؟ أعني من يقول، دعوا عنكم أحكام القرءان والسنة، وخذوا هذا في مكانها، هل هذا يحتاج إلى أن ننظر هل عنده استحلال أم لا؟ بل مقتضى هذا القول أو الفعل الاستحلال ولا شك!
هذا الفعل أيها الفاضل يستلزم كفر القلب ، ولكنه (أي الفعل) كفر في ذاته بإبطال أصل حكم الله .. ومناط الكفر حينئذ هو نفس الفعل لا غير .

هذا ، والله أعلم

أبو الفداء
2009-04-04, 09:32 AM
بارك الله فيك..
صدقت، ففي كلامي الآنف توجيه لكلام ابن كثير رحمه الله ربما يكون قد اعتراه - كما تفضلتَ - شيء من العجلة وضعف التحرير..
وقولي أن التقديم يلزم منه التفضيل إنما أريد به ما فهمته من كلام ابن كثير هنا.. وإلا فصحيح أنه قد يكون التقديم مع اعتقاد حرمة ذلك واعتقاد أنه يأثم به، كمن يختار الفعل الحرام إذا خير بينه وبين الحلال وهو يعلم أنه يفعل الحرام وأنه آثم بذلك.. فلا يكون هذا الاختيار والتقديم استحلالا، هذا أتفق عليه معك..
دعني أحرر الكلام بعض الشيء.. فالمسألة دقيقة ولا يجوز فيها سوء التحرير..
وبداية فالذي يظهر لي أننا نتفق على أن الوقوع في هذا الفعل، فعل الحكم بغير حكم الله، لا يلزم منه الاستحلال ومن ثم لا يلزم منه الكفر! وهذا أظننا نتفق على أنه مذهب ابن كثير أيضا، رحمه الله..
فعندما يخرج منه رحمه الله هذا الكلام:

فمن ترك الشرع المحكم المنـزل على محمد بن عبدالله ، خاتم الأنبياء ، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين

فكيف نوجهه توجيها صحيحا؟ هل كلمة (تحاكم) هذه على إطلاقها، بحيث تدخل فيها سائر حالات التحاكم وصوره بلا تفصيل؟ فإن كانت تحتمل، فكذا قوله رحمه الله (ترك) و(قدمها عليه) يحتمل! فهو يحتمل أن يكون مراده بالترك والتقديم ما يقع على علم واستحلال، ويحتمل ألا يكون كذلك..
فهو يقرر أن من فعل ذلك الفعل فقد كفر.. فإن قلت أن ابن كثير رحمه الله لا يشترط الاستحلال لكفر من فعل هذا الفعل (مطلق التحاكم للياسا)، وأن هذا يدل عليه عدم ذكره للاعتقاد في هذه العبارة، فقد ألبسته رحمه الله إطلاقا لا يقول به! فماذا نفهم إذا؟
قد يكون التارك للشرع المقدم للحكم الوضعي هذا عاصيا، مع علمه بأن هذا لا يحل، أو مع جهله أصلا بأن هذا الذي قدمه قانون وضعي والذي تركه هو حكم الله!! فهل يكون مجرد فعله كفرا ولكنه لا يكفر به لوجود عوارض الأهلية؟ كلا! وإلا لقلنا أن كل تارك لأمر من أوامر الله، متبعا لأمر غيره سبحانه = قد وقع في فعل الكفر ولكنه لا يُكفر حتى تقام عليه الحجة!!
وهذا تحريره أن نتفق على أن كل معصية - فيما عدا ما اتفق على أنه كفر ناقل من الملة - هي من أفعال الكفر الأصغر لا الأكبر، ما لم يقع في القلب استحلال لها..
فإذا اتفقنا على هذا، وكان تحكيم الياسا من الأفعال التي يحتمل أن تكون معصية ويحتمل أن تكون كفرا أكبر، وجب إذا سبر وتقسيم تلك الأحوال وبيان مناط التكفير فيها حتى نتصور على أيها يحسن توجيه كلام ابن كثير على وفق ما يقول به أهل السنة..
فقد يكون الفعل:
/// تشريعا يحدثه ولي الأمر ابتداءا، يضعه في مكان حكم الله فيجعله سنة متبعة من حيث الأصل.. فهذا الفعل كفر أكبر، وفاعله قد يكون جاهلا أو متأولا، فلا يٌكفر حتى تقام عليه الحجة، كما هي ضوابط تكفير المعين عند أهل السنة..
/// تشريعا متبعا في بلد من البلدان، والمحتكم إليه في آحاد من الحالات أو في كل أحواله يعلم أنه خلاف شرع الله، فإن كان راضيا بذلك مفضلا له على حكم الله، أو مساويا له بحكم الله، فقد كفر بذلك (وهو الاستحلال) وإلا فهو عاص آثم.
/// فعلا مستقلا عن القوانين المشروعة في بلد من البلدان، يفعله الناس فيما بينهم، يخالفون به شرع الله، فإن استحلوه كفروا وإلا فعصيان!
ولا أتصور أنه قد توجد صورة رابعة..
فإن أردنا توجيه كلام ابن كثير رحمه الله هنا، ووجدناه لا يذكر الاستحلال ولا الاعتقاد، توجه بنا الفهم إلى الحالة الأولى، التي يكون فيها فعل الترك والتقديم كفرا أكبر، وهي حالة السن والتشريع..
فإن أردت أن الفعل في نفسه كفر، أقررت لك بذلك، وهو ما أجمع عليه السلف، ولكن هل يكفر به فاعله أم لا، فهذا مآله إلى النظر في تحقق الشروط وانتفاء الموانع..
والذي ظهر لي من لفظه رحمه الله، سيما أنه يتكلم عن الياسا والتي كانت في زمانه شرعة جديدة مستحدثة وضعها واضعوها وفرضوها على المسلمين، وكان هؤلاء الواضعون هم أولو السلطان عليه في زمانه رحمه الله، أنه يقصد بالتقديم هنا ما يلزم منه وجود الاستحلال القلبي، فهو يتكلم عن قوم أسقطوا شرع الله ووضعوا هذا القانون الدنس في مكانه وهم يعلمون، وهم مستحلون.. ولهذا لم يجد حاجة للتفريق بين كفر الفعل وكفر الفاعل أو لبيان مسألة الاعتقاد والاستحلال ونحو ذلك..
وإلا فمن الممكن حمل الكلام على العموم وعلى أنه إنما يتكلم عن الفعل فقط، فعل تشريع قانون مناقض لحكم الله، وهو ما قد يكون فيه استحلال وقد لا يكون، وهو ما أجمع السلف على أنه فعل كفري، ولكن الأول عندي أظهر، والله أعلم.


فهؤلاء الذين حكموا بالعادات الجاهلية وبالياسق جعلوا هذه الأحكام هي الأصل المتبع والمردود إليه الأمر عند النزاع ، فعندها يكونون كفاراً بإبطلاهم لأصل العمل بشريعة الله تعالى . ولا ضير حينها أن نقول : إن إبطال أصل الحكم هو دليل على الاستحلال .. لأن الكفر العملي الأكبر يستلزم كفراً في القلب ولا بد .

قلت إذا فلا خلاف بيننا أخي الفاضل ولله الحمد!
وأستأذنك - وفقك الله - في إغلاق الموضوع لأن الإشراف قد اتفقت كلمته على منع الخوض في هذه القضية (قضية الحكم بالقوانين الوضعية) على صفحات المجلس..
والله الموفق.