سعيد عبد الله
2025-08-27, 12:15 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127
[مسألة المحلل والمحلل له]
قال أبو بكر حدثنا الفضل بن دكين عن سفيان عن أبي قيس عن هزيل عن عبد الله قال: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّلَ والمحلَّلَ له»
قال أبو بكر حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر قال: قال عمر: «لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما»
قال أبو بكر حدثنا ابن علية عن خالد الحذاء عن أبي معشر عن رجل عن ابن عمر، قال: «لعن الله المحلل والمحلل له»
والراوى عن ابن عمر مجهول
قال أبو بكر حدثنا ابن نمير عن مجالد عن عامر عن الحارث بن عبد الله عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المحلل والمحلل له»
وفيه مجالد وهو ضعيف والحارث الأعور وقد اتهموه بالكذب
قال أبو بكر حدثنا عائذ بن حبيب عن أشعث عن ابن سيرين قال: "لعن الله المحلل والمحلل له" وهذا عن ابن سيرين وقد روى عنه خلافه
قال أبو بكر: ذكر أن أبا حنيفة قال: إذا تزوجها ليحللها فرغب فيها فلا بأس أن يمسكها
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له ولم يرو عنه أنه لعن المحللة لأنه ليس بيد المرأة فرقة ولو كان بيدها لكانت ملعونة مرتين مرة بنكاحها من تُحِلُّ به نفسَها ومرة بنكاحها زوجها الأول بعد أن أحلت نفسها. وأجمع أهل العلم على أن المرأة لا تملك أن تحلل نفسها لأنها ليس بيدها طلاق ولا خلع ولا يملك أن يحللها السلطان ولا القاضى لأن الفرقة إلى الزوج دونهما ولا يحلها إلا زوج صحيح النكاح. وتحليلها نفسها أن تنكح رجلا نكاحا صحيحا فتمكنه من نفسها ثم تفارقه بلا فرقة يحدثها الرجل. ولولا ذلك لما عجزت امرأة تريد أن ترجع لمطلقها ثلاثا أن تنكح رجلا نكاحا صحيحا وهو ينوى إمساكها فتمكنه من نفسها مساء ثم تخلعه صباحا ثم تعود إلى زوجها الأول وهذا قول قرامطة نجد الوهابية عليهم من الله ما يستحقون. وإذا نكحت المرأة نكاحا مختلفا فى صحته فرفع إلى سلطان لا يرى إجازته فأبطله لم يحلها الوطء فى هذا النكاح المفسوخ للزوج الأول وهذا قول عامة أهل العلم ولولا ذلك لنكحت المرأة بلا ولى على مذهب أبى حنيفة أو بلا شهود على مذهب مالك ثم تمكن الزوج من نفسها ثم ترفع أمرها إلى قاض لا يصحح النكاح بغير ولى وشهود فيفسخ النكاح ثم تعود إلى الزوج الأول.
ثم اختلف أهل العلم فى المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى نكاح التحليل المنهى عنه.
فقال بعض أهل العلم التحليل المنهى عنه أن ينكحها وهو يريد إحلالها لزوجها الأول فإن نكحها وهذه نيته فنكاحه باطل ولا تحل لزوجها الأول وسواء شرطوا ذلك عليه فى العقد أو أضمره فى نفسه. ثم قالوا: ولكن لو نكحها وهو ينوى طلاقها دون إحلالها فدخل بها ثم طلقها فالنكاح جائز وتحل لزوجها الأول. وأما نية المرأة فلا عبرة بها وممن هذا قوله مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبى عبيد وهو قول الحسن البصرى وجابر بن زيد أبى الشعثاء وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعى وقتادة وحماد.
وقال غيرهم نكاح التحليل المنهى عنه أن يشرط فى العقد أنه إنما نكحها ليحلها ولا نكاح بينهما إذا أحلها وهذا محرم وباطل لأنه نكاح إلى أجل ويشبه نكاح المتعة. فأما إذا نكحها وهو يريد إحلالها فأضمره فى نفسه ولم يشرط ذلك فى العقد فنكاحه صحيح وإذا طلقها حلت لزوجها الأول وإذا رغب فيها بعد النكاح فأمسكها لنفسه فله ذلك ولا تملك أن تفارقه بطلاق ولا خلع لأن ذلك بيده دونها. وحجتهم فى ذلك أن نية التحليل دون الشرط غير لازمة ألا ترى أنه قد ينكحها ليحلها ويفارقها ثم تعجبه فيمسكها لنفسه ولا يلزمه أن يفارقها وليس تصنع النية دون القول شيئا؟ ومما احتجوا به أيضا أنهم اجتمعوا على أنه إذا نكحها وهو ينوى طلاقها فالنكاح جائز وله أن يمسكها لنفسه ومتى طلقها حلت للزوج الأول وليس بين نية الطلاق ونية التحليل كبير فرق. وومن قال بهذا الشافعى والليث بن سعد وأبو ثور وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير والحكم بن عتيبة ومحمد بن سيرين ومجاهد ويحيى بن سعيد وربيعة شيخى مالك وهو رواية عن أبى حنيفة وأبى يوسف. ويروى مرسلا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وزعم أبو ثور أن فاعل ذلك محتسبا مأجور لإدخاله السرور على أخيه المسلم.
واحتج الشافعى بأن الله تبارك وتعالى قد تجاوز لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم عما حدثت به القلوب ولا تعدو نية التحليل أن تكون من حديث القلب المنهى عنه. فإن قال قائل فأنت تزعم أن النية تفرق بين صلاة الفريضة والنافلة وصوم الفريضة والنافلة والوضوء والتبرد بالماء فلم زعمت أن النية تعمل ههنا ولا تعمل هناك؟ قيل له - إن شاء الله - فرق ما بينهما أن العملين إذا اشتبها فلا بد من النية للتفريق بينهما والنية ههنا هى العمل المقصود وليس ما يريده ويقصده بالعمل. ألا ترى أنه لو نوى أن يصلى نافلة ركعتين ثم أراد أن تجزئه عن صلاة الفجر لم تجزئه ولكنه لو نوى صلاة الفجر وأضمر الرياء فى قلبه أجزأته مع الإثم والرياء محبط لأجر العمل. وأما العقود فإن أهل العلم مجمعون أن العقود المباحة تختلف عن العقود المحرمة فى المعنى دون النية ولولا ذلك لما عجز أحد عن أن يزنى ويأكل الربا ويبيع الحرام إذا نوى بذلك ما ينويه النكاح حلالا والبائع حلالا. ولكن النكاح يخالف الزنا فى أن المنكوحة لا تملك أن تفارق والزانية تملك أن تفارق ويخالف البيع الربا فى أن البيع لازم لا يملك البائع أن يعود فى المبيع إذا أعطاه المشترى الثمن وأما الربا فهو من قرض يملك المقرض أن يعود فيه فكان حراما عليه أن يأخذ عليه أجرا لأنه لم يقطع ملكه عنه.
وقال آخرون إذا نكحها ونيته أن يحلها فلا تحل بهذا النكاحِ والوطءِ فيه للزوج الأول ولكن إذا رغب فى إمساكها جاز له أن يمسكها وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد المشهور عنهم وهو يشبه قول عطاء بن أبى رباح والحكم بن عتيبة. وهذا عندى أضعف الأقوال كلها لأن النكاح بنية التحليل دون الشرط لا يعدو أن يكون صحيحا فيحل له إمساكها إن شاء وإذا طلقها حلت للزوج الأول أو يكون باطلا فلا يكون له أن يمسكها ولا تحل للزوج الأول. فأما أن يكون النكاح مرة حلالا جائزا إذا أمسكها لنفسه ومرة حراما باطلا إذا طلقها فلم يحل لها أن تنكح الزوج الأول فهذا تَحَكُّمٌ لا يجوز والله أعلم.
فأما ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّلَ والمحلَّلَ له» فإن أهل المقالة الأولى احتجوا به على أن النكاح بنية التحليل باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلل ولم يفرق بين من نيته التحليل ومن اشترطوا عليه فى العقد أنه متى أحلها فلا نكاح بينهما.
وقال أهل المقالة الثانية: أرأيتم لو أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجها آخر يريد إحلالها والمرأة والزوج الأول لا يعلمان ثم طلقها بعد أن دخل بها فلما انقضت عدتها تزوجها الزوج الأول أيكون الزوج الأول وهو المُحَلَّل له ملعونا؟ قالوا: لا لأنه لا يعلم أن هذا نكح على التحليل ولم يشترط ذلك عليه وإنما يكون ملعونا إذا أتى برجل لينكحها فاشترط عليه أنك متى أحللتها فلا نكاح بينكما فيكون حينئذ داخلا فى اللعنة. قيل لهم: لئن جاز لكم أن تجعلوا المُحَلَّل له ملعونا إذا اشترط غير ملعون إذا لم يشترط ليجوزن لغيركم أن يجعل المُحَلِّل كذلك. وقالوا: لمَّا جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اللعنة بين المُحَلِّل والمُحَلَّل له علمنا أن المُحَلِّل من شرط فى العقد أن نكاحه إلى أن يحلها لأن المُحَلَّل له لا يستحق اللعنة إلا إذا استحلها من بعد هذا النكاح. فإن قالوا: فلعل المحَلَّل له قد علم أن المُحَلِّل قد نكح على التحليل فلذلك لما رجع إلى المرأة بعده استحق اللعنة. قيل لهم: وكيف يعلم أنه نكح على التحليل وهو قد أضمر ذلك فى قلبه ولم يظهره حين العقد وهذا من علم الغيب الذى لا يعلمه إلا الله. قالوا: فلعل المحَلِّل كان يتكلم بهذا قبل النكاح. قيل لهم: أرأيتم لو أن رجل أراد نكاح مطلقة ثلاثا وإمساكها لنفسه وقد علم أنها محبة لزوجها الأول كارهة لنكاح غيره فخدعها ووعدها أنه إذا نكحها فارقها لتحل للأول ولم يشترط ذلك فى العقد لئلا يبطل فلما ملك عقدة نكاحها أمسكها لنفسه وهى كارهة أيحل له ذلك ويكون هذا نكاحا صحيحا وإذا طلقها حلت للأول؟ قالوا: نعم لأنا لا ننظر إلى الوعد المتقدم العقد ولكن ننظر إلى النية ساعة العقد فإذا كذبها ثم نكحها وهو ينوى إمساكها فقد أساء بكذبه وله أن يمسكها وإذا طلقها حلت للأول. قيل لهم: فليس المحلّل له ههنا بملعون فيبغى أن لا يكون المحلِّل بغير شرط كذلك. قالوا: فلعله أقر بأنه نكح على التحليل بعد النكاح قبل أن يطلقها أو بعد ما طلقها. قيل لهم أرأيتم لو أن رجلا نكح مطلقة ثلاثا فلما نكحها قال كنت قد نويت التحليل فما تقولون فى ذلك؟ قالوا: فى إقراره أمران إقرار ببطلان النكاح لأنه تحليل فنلزمه بذلك لأن الفرقة بيده ودعوى براءته من صداقها وأنها لا تحل لزوجها الأول فلا تُقبَل دعواه عليها إلا ببينة فيغرم لها صداقها كاملا وتحل للزوج الأول وسواء كان إقراره قبل الطلاق أو بعده ولولا ذلك لما عجز رجل نكح مطلقة ثلاثا ثم حدث بينهما شر فطلقها وأراد أن يمنعها من زوجها الأول إلا قال كنت قد نكحتها محللا فلا تستطيع أن ترجع إلى الأول.
وأما ما روى من قول عمر: «لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما» فالقول فيه كالقول فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل لعل أهل المقالة الثانية أفرح بهذا من أهل المقالة الأولى لإجماعهم أن المُحَلِّل إذا أضمر ذلك فى نفسه فإنه لا سبيل إلى عقوبته لأن الحدود والعقوبات التى يقيمها الأمراء على الناس إنما هى على ما أظهره الناس بألسنتهم وجوارحهم فأما ما فى قلوبهم فلا يعلمه إلا الله. فلما توعد عمر المُحَلِّل والمُحَلَّل له بالرجم دل ذلك على أنه على من أظهر التحليل بأن أتى برجل ليحل له مطلقته ثلاثا واشترط عليه أنه إذا نكحها فدخل بها فلا نكاح بينهما. وعامة أهل العلم يقولون إن المُحَلِّل لو شرط ذلك ففُسِخ نكاحه فليس عليه الرجم لأنه نكاح مختلف فيه بل قد صححه بعض أهل العلم وأبطلوا الشرط فجعلوا له أن يمسكها وهذا قول لا يقول به عامة أهل العلم.
قال أبو بكر حدثنا يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن معمر عن الزهري عن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل أن ابن عمر سئل عن تحليل المرأة لزوجها قال: «ذلك السفاح، لو أدرككم عمر لنكلكم»
فاحتج أهل المقالة الأولى بأن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما جعل تحليل المرأة لزوجها سفاحا ولم يسأل أهو بشرط أم بالنية دون الشرط.
واحتج أهل المقالة الثانية بأن عبد الله بن عمر ذكر النكال ولا يكون النكال إلا على من أظهر التحليل واشترطه فأما من أضمره ولم يشترطه فلا نكال عليه لأنه لا علم للسلطان بما فى قلوب الناس ثم قد روى عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الله بن شريك العامري قال: سمعت ابن عمر يُسأل عن رجل طلق ابنة عم له ثم رغب فيها وندم فأراد أن يتزوجها رجل يحلها له. فقال ابن عمر: «كلاهما زان، وإن مكثا كذا وكذا، وذكر عشرين سنة، أو نحو ذلك إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحلها له»
فكان فى هذه الرواية أن المطَلِّقَ ثلاثا أراد أن يأتى برجل يشترط عليه التحليل وهذا باطل عند الشافعى ومن قال بقوله.
وقد روى عن عمر بن الخطاب مرسلا مثلُ قول الشافعى.
قال سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا يونس بن عبيد عن ابن سيرين أن رجلا من أهل المدينة طلق امرأته ثلاثا وندم وبلغ ذلك منه ما شاء الله، فقيل له: انظر رجلا يحلها لك، وكان في المدينة رجل من أهل البادية له حسب أُقْحِمَ إلى المدينة، وكان محتاجا ليس له شيء يتوارى به إلا رقعتين , رقعة يواري بها فرجه، ورقعة يواري بها دبره، فأرسلوا إليه، فقالوا له: هل لك أن نزوجك امرأة فتدخل عليها، فتكشف عنها خمارها ثم تطلقها ونجعل لك على ذلك جعلا؟ قال: نعم. فزوجوه فدخل عليها، وهو شاب صحيح الحسب، فلما دخل على المرأة فأصابها فأعجبها، فقالت له: أعندك خير؟ قال: نعم، هو حيث تحبين، جعله الله فداءها، قالت: فانظر لا تطلقني بشيء، فإن عمر لن يكرهك على طلاقي: فلما أصبح لم يكد أن يفتح الباب حتى كادوا أن يكسروه، فلما دخلوا عليه، قالوا: طلق، قال: الأمر إلى فلانة، قال: فقالوا لها: قولي له أن يطلقك، قالت: إني أكره أن لا يزال يُدخَلُ علي، فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب فأخبروه، فقال له: «إن طلقتها لأفعلن بك» ورفع يديه وقال: «اللهم أنت رزقت ذا الرقعتين إذ بخل عليه عمر»
قال الشافعى أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن سيف بن سليمان عن مجاهد قال طلق رجل من قريش امرأة له فبتها فمر بشيخ وابن له من الأعراب في السوق قدما بتجارة لهما فقال للفتى هل فيك من خير؟ ثم مضى عنه ثم كر عليه فكمثلها ثم مضى عنه ثم كر عليه فكمثلها. قال نعم: قال فأرني يدك فانطلق به فأخبره الخبر وأمره بنكاحها فنكحها فبات معها فلما أصبح استأذن فأذن له فإذا هو قد ولاها الدبر فقالت: والله لئن طلقني لا أنكحك أبدا فذكر ذلك لعمر فدعاه فقال لو نكحتها لفعلت بك كذا وكذا وتوعده ودعا زوجها فقال الزمها
وهذا الخبر وإن كان مرسلا فمراسيل ابن سيرين من أصح المراسيل ويشده أيضا مرسل مجاهد.
قال ابن عبد البر: "فمراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي عندهم صحاح" (التمهيد 1/30)
قال سعيد حدثنا محمد بن بسيط البصري قال: سألت بكر بن عبد الله المزني عن رجل يطلق امرأته البتة قال: "لعن الحال، والمحلل له، أولئك كانوا يسمون في الجاهلية التيس المستعار"
ولا يكون مستعارا إلا إذا كان ذلك بأمر الزوج المُطَلِّقِ وشرطه عليه.
روى عبد الرزاق عن الثوري ومعمر عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس قال: "سأله رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا؟" قال: «إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا» قال: "كيف ترى في رجل يحلها له؟" قال: «من يخادع الله يخدعه»
وهذا يحتمل أن يكون كقول مالك ومن قال إن نية التحليل تبطل النكاح أو يكون كقول من أبطل النية ما لم يصاحبها عمل وذلك أن الرجل المطَلِّق ههنا هو الذى يأتى بالمحلل فدل ذلك على أنه اشترط عليه التحليل. ألا ترى أنه لو أتى برجل ينكحها لتحل للأول والمرأة تظن ذلك والرجل الناكح لا يريد إلا إمساكها لنفسه فإن له ذلك ولا يضر نكاحَه كذبُه على الزوجِ الأولِ والمرأةِ ولا تملك المرأة أن تفارقه لترجع لزوجها الأول؟ فلما كانت النية لا تصنع شيئا ولا يلزم الزوج شىء بالنية دون القول كان نكاحه صحيحا إن شاء أمسك وإن شاء طلق.
قال سحنون فى المدونة: "ابن وهب: وأخبرني رجال من أهل العلم منهم ابن لهيعة والليث عن محمد بن عبد الرحمن المرادي أنه سمع أبا مرزوق التجيبي يقول: إن رجلا طلق امرأته ثلاثا ثم ندما وكان لهما جار فأراد أن يحلل بينهما بغير علمهما، قال: فلقيت عثمان بن عفان وهو راكب على فرسه، فقلت: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فقف علي فقال: إني على عجل فاركب ورائي، ففعل ثم قص عليه الأمر فقال له عثمان لا إلا بنكاح رغبة غير هذا السنة"
وهذا منقطع بين أبى مرزوق وعثمان بن عفان رضى الله عنه ومحمد بن عبد الرحمن هذا ليس بالمعروف برواية الحديث والله أعلم. ثم هم جميعا يخالفونه لأنهم يقولون: إذا نكحها وهو ينوى طلاقها فالنكاح جائز وإذا طلقها بعد أن وطئها حلت للأول. ومن نكح وهو ينوى الطلاق فلم ينكح نكاح رغبة وهذا مما لا يختلف فيه عاقلان. فما الفرق بين نية الطلاق ونية التحليل؟ ولقد جهد ابن تيمية الحرانى فى التفريق بينها فلم يقدر. وكان أصحاب مالك يجيزون للمطلقة ثلاثا إذا أرادت الرجوع للزوج الأول أن تتزوج رجلا مطلاقا معروفا بكثرة الطلاق لأن النكاح بنية الطلاق صحيح بزعمهم فإذا نوى التحليل بطل. وليت شعرى وكيف يبطل بنية التحليل وهو متى نكحها فوطئها فقد حلت للأول إذا فارقها نوى ذلك أم لم ينوه؟ فإن قالوا: إن المحلل نوى فراقها بعد الوطء. قيل لهم: والمطلاق نوى طلاقها بعد أن يطأها. مع أنه لا يعجز أحد أراد أن يحلل امرأة لزوجها أن ينكحها ليستمتع بها وهو ينوى طلاقها فتحل بذلك للزوج الأول فى قولهم جميعا.
نقل ابن أبى زيد عن مالك قوله: "وإذا قال لها الأول: تزوجى فلانا، فإنه مطلاق ودعى فلانا لم يضره ذلك، ما لم يعلم الآخر ذلك ولا وعد عليه" (النوادر والزيادات 4/582)
قال ابن أبى زيد: "قال فى كتاب ابن حبيب: ويفسخ بطلقة بائنة بالقضاء إن كان بإقرار منه، ولو ثبت عليه أنه أقر بذلك قبل النكاح فليس بنكاح، ولو تزوجها بذلك زوجها الأول، فسخ ذلك بغير طلاق إذا علم بذلك، وإن لم يعلم فإثمها على من علم ذلك ما بقيا" (النوادر والزيادات 4/582)
قول مالك هذا قول محال لأنه قد كلف الزوج الآخر بعلم ما فى قلب الناكح وذلك أن هذا الناكح لو أقر بالتحليل لم يلزم الزوج الأول أن يصدقه لأنه لعله يدعى عليه ليمنعه من نكاحها ولما علم مالك أن قوله من المحال جعل إثمهما على الناكح المبطن نية التحليل.
ومما يدل على فساد هذا القول والله أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يسألوا رجلا نكح مطلقة ثلاثا فدخل بها ثم فارقها عن نيته ولو كانت نية التحليل تبطل النكاح لسألوه ودينوه وأعلموه أنها إن عادت إلى زوجها الأول فإن إثمهما عليه ما بقيا. وزعم ابن تيمية أن الصحابة لم يردوا امرأة إلى زوجها بنكاح التحليل. فيقال له: ما تعنى بنكاح التحليل؟ أهو أن يأتوا برجل ينكح المرأة ليحللها ثم لا نكاح بينهما وتعود إلى زوجها؟ فهذا باطل عند الشافعى وعندك. وإن كنت تعنى أن ينكح الرجل امرأة وهو ينوى تحليلها فكيف يمنع الصحابة ذلك والنية فى القلب ولا علم لهم بما فى قلوب الناس بل فى تركهم السؤال عن نية الناكح وتديينه دليل والله أعلم أن النية لا تضر. فزعم ابن تيمية أنه لا يأخذ بالنية لأن أحدا لا يقر البتة أنه نكح للتحليل ولكنه يأخذ بالقرائن والظن والإزكان فإذا ظن برجل أنه نكح ونيته أن يحلها لزوجها حكم عليه بالظن وأبطل نكاحه ولم يقبل قوله وهذا سفه وجهل وخروج عن قول أهل العلم جميعا والحنابلة يقولون إن الرجل لو خدع المرأة وأهلها فوعدهم أن يحلها ثم يفارقها فأنكحوه دون شرط وهو ينوى إمساكها فالنكاح جائز وله أن يمسكها ولا تملك أن تفارقه. ومالك يدينه ويجعل القول قوله لأن علم ما فى قلوب الناس من الغيب الذى استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه وقد نهى الله تبارك وتعالى عن التجسس وسوء الظن ولا معنى لقول يخالف كلام الله تبارك وتعالى وما عليه عامة أهل العلم. وزعم ابن تيمية أن الصحابة لم يسألوا الناكحين عن نياتهم لأنه لم يكن على عهدهم من ينكح على التحليل وهذا كذب ومكابرة ألا ترى أن ابن عمر وابن عباس قد سئلا عمن يريد أن يحلل مطلقته ثلاثا؟ ألا ترى أن بكر بن عبد الله المزنى قال إنهم كانوا يسمونه التيس المستعار وقد عاصر كثيرا من الصحابة وروى عنهم؟
وقال ابن تيمية إن من أخذ بقول من صحح نكاح التحليل بالنية دون الشرط وعاد إلى امرأته فإن له أن يمسكها وتحل له لأنه أخذ بقول كثير من أهل العلم وأتباعه فى زماننا لا يقولون بهذا. بل قال ابن تيمية بأشنع من هذا قال لو أن رجلا عمل بالسريجية فطلق امرأته ألفا وهو يظن أن الطلاق لم يقع فلا طلاق عليه لأنه معذور.
روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: المحلل عامدا هل عليه عقوبة؟" قال: "ما علمته، وإني لأرى أن يعاقب" قال: "وكلٌ إن تمالئوا على ذلك مسيئون وإن أعظموا الصداق"
وقد روى عنه ما يخالف ذلك: روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: إنسان نكح امرأة محللا عامدا، ثم رغب فيها، فأمسكها" قال: "لا بأس بذلك"
عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه: "أنه كان لا يرى بالتحليل بأسا، إذا لم يعلم أحد الزوجين" وهذا يوافق قول الشافعى
عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه، وعن جابر عن الشعبي قال: "لا بأس إذا لم يأمر به الزوج" وجابر الجعفى متهم بالكذب
قال أبو بكر حدثنا غندر عن شعبة قال: سألت الحكم وحمادا عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها؟ فقال الحكم: "يمسكها" وقال حماد: "أحب إلي أن يفارقها"
قال أبو بكر حدثنا أبو داود عن حبيب عن عمرو عن جابر بن زيد في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها وهو لا يعلم. قال: "لا يصلح ذلك، إذا كان تزوجها ليحلها" وهذا قول مالك
قال أبو بكر حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار أنه سئل عن رجل طلق امرأته فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحلها له فقال: "لا" ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل ذلك فقال: «لا حتى ينكحها مرتقبا لنفسه، حتى يتزوجها مرتقبا لنفسه، فإذا فعل ذلك لم تحل له حتى تذوق العسيلة»
هذا مرسل وعامة أهل العلم على خلافه لأنهم يصححون النكاح إذا نوى الناكح الطلاق دون التحليل وهذا لم ينكح مرتقبا لنفسه.
قال أبو بكر حدثنا معاذ قال: حدثنا عباد بن منصور قال: جاء رجل إلى الحسن فقال: "إن رجلا من قومي طلق امرأته ثلاثا، فندم وندمت فأردت أن أنطلق فأتزوجها وأصدقها صداقا ثم أدخل بها كما يدخل الرجل بامرأته ثم أطلقها حتى تحل لزوجها" قال: فقال له الحسن: "اتق الله يا فتى ولا تكونن مسمار نار لحدود الله"
قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127
[مسألة المحلل والمحلل له]
قال أبو بكر حدثنا الفضل بن دكين عن سفيان عن أبي قيس عن هزيل عن عبد الله قال: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّلَ والمحلَّلَ له»
قال أبو بكر حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر قال: قال عمر: «لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما»
قال أبو بكر حدثنا ابن علية عن خالد الحذاء عن أبي معشر عن رجل عن ابن عمر، قال: «لعن الله المحلل والمحلل له»
والراوى عن ابن عمر مجهول
قال أبو بكر حدثنا ابن نمير عن مجالد عن عامر عن الحارث بن عبد الله عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المحلل والمحلل له»
وفيه مجالد وهو ضعيف والحارث الأعور وقد اتهموه بالكذب
قال أبو بكر حدثنا عائذ بن حبيب عن أشعث عن ابن سيرين قال: "لعن الله المحلل والمحلل له" وهذا عن ابن سيرين وقد روى عنه خلافه
قال أبو بكر: ذكر أن أبا حنيفة قال: إذا تزوجها ليحللها فرغب فيها فلا بأس أن يمسكها
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن المحلل والمحلل له ولم يرو عنه أنه لعن المحللة لأنه ليس بيد المرأة فرقة ولو كان بيدها لكانت ملعونة مرتين مرة بنكاحها من تُحِلُّ به نفسَها ومرة بنكاحها زوجها الأول بعد أن أحلت نفسها. وأجمع أهل العلم على أن المرأة لا تملك أن تحلل نفسها لأنها ليس بيدها طلاق ولا خلع ولا يملك أن يحللها السلطان ولا القاضى لأن الفرقة إلى الزوج دونهما ولا يحلها إلا زوج صحيح النكاح. وتحليلها نفسها أن تنكح رجلا نكاحا صحيحا فتمكنه من نفسها ثم تفارقه بلا فرقة يحدثها الرجل. ولولا ذلك لما عجزت امرأة تريد أن ترجع لمطلقها ثلاثا أن تنكح رجلا نكاحا صحيحا وهو ينوى إمساكها فتمكنه من نفسها مساء ثم تخلعه صباحا ثم تعود إلى زوجها الأول وهذا قول قرامطة نجد الوهابية عليهم من الله ما يستحقون. وإذا نكحت المرأة نكاحا مختلفا فى صحته فرفع إلى سلطان لا يرى إجازته فأبطله لم يحلها الوطء فى هذا النكاح المفسوخ للزوج الأول وهذا قول عامة أهل العلم ولولا ذلك لنكحت المرأة بلا ولى على مذهب أبى حنيفة أو بلا شهود على مذهب مالك ثم تمكن الزوج من نفسها ثم ترفع أمرها إلى قاض لا يصحح النكاح بغير ولى وشهود فيفسخ النكاح ثم تعود إلى الزوج الأول.
ثم اختلف أهل العلم فى المحلل الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى نكاح التحليل المنهى عنه.
فقال بعض أهل العلم التحليل المنهى عنه أن ينكحها وهو يريد إحلالها لزوجها الأول فإن نكحها وهذه نيته فنكاحه باطل ولا تحل لزوجها الأول وسواء شرطوا ذلك عليه فى العقد أو أضمره فى نفسه. ثم قالوا: ولكن لو نكحها وهو ينوى طلاقها دون إحلالها فدخل بها ثم طلقها فالنكاح جائز وتحل لزوجها الأول. وأما نية المرأة فلا عبرة بها وممن هذا قوله مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبى عبيد وهو قول الحسن البصرى وجابر بن زيد أبى الشعثاء وعمرو بن دينار وإبراهيم النخعى وقتادة وحماد.
وقال غيرهم نكاح التحليل المنهى عنه أن يشرط فى العقد أنه إنما نكحها ليحلها ولا نكاح بينهما إذا أحلها وهذا محرم وباطل لأنه نكاح إلى أجل ويشبه نكاح المتعة. فأما إذا نكحها وهو يريد إحلالها فأضمره فى نفسه ولم يشرط ذلك فى العقد فنكاحه صحيح وإذا طلقها حلت لزوجها الأول وإذا رغب فيها بعد النكاح فأمسكها لنفسه فله ذلك ولا تملك أن تفارقه بطلاق ولا خلع لأن ذلك بيده دونها. وحجتهم فى ذلك أن نية التحليل دون الشرط غير لازمة ألا ترى أنه قد ينكحها ليحلها ويفارقها ثم تعجبه فيمسكها لنفسه ولا يلزمه أن يفارقها وليس تصنع النية دون القول شيئا؟ ومما احتجوا به أيضا أنهم اجتمعوا على أنه إذا نكحها وهو ينوى طلاقها فالنكاح جائز وله أن يمسكها لنفسه ومتى طلقها حلت للزوج الأول وليس بين نية الطلاق ونية التحليل كبير فرق. وومن قال بهذا الشافعى والليث بن سعد وأبو ثور وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير والحكم بن عتيبة ومحمد بن سيرين ومجاهد ويحيى بن سعيد وربيعة شيخى مالك وهو رواية عن أبى حنيفة وأبى يوسف. ويروى مرسلا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وزعم أبو ثور أن فاعل ذلك محتسبا مأجور لإدخاله السرور على أخيه المسلم.
واحتج الشافعى بأن الله تبارك وتعالى قد تجاوز لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم عما حدثت به القلوب ولا تعدو نية التحليل أن تكون من حديث القلب المنهى عنه. فإن قال قائل فأنت تزعم أن النية تفرق بين صلاة الفريضة والنافلة وصوم الفريضة والنافلة والوضوء والتبرد بالماء فلم زعمت أن النية تعمل ههنا ولا تعمل هناك؟ قيل له - إن شاء الله - فرق ما بينهما أن العملين إذا اشتبها فلا بد من النية للتفريق بينهما والنية ههنا هى العمل المقصود وليس ما يريده ويقصده بالعمل. ألا ترى أنه لو نوى أن يصلى نافلة ركعتين ثم أراد أن تجزئه عن صلاة الفجر لم تجزئه ولكنه لو نوى صلاة الفجر وأضمر الرياء فى قلبه أجزأته مع الإثم والرياء محبط لأجر العمل. وأما العقود فإن أهل العلم مجمعون أن العقود المباحة تختلف عن العقود المحرمة فى المعنى دون النية ولولا ذلك لما عجز أحد عن أن يزنى ويأكل الربا ويبيع الحرام إذا نوى بذلك ما ينويه النكاح حلالا والبائع حلالا. ولكن النكاح يخالف الزنا فى أن المنكوحة لا تملك أن تفارق والزانية تملك أن تفارق ويخالف البيع الربا فى أن البيع لازم لا يملك البائع أن يعود فى المبيع إذا أعطاه المشترى الثمن وأما الربا فهو من قرض يملك المقرض أن يعود فيه فكان حراما عليه أن يأخذ عليه أجرا لأنه لم يقطع ملكه عنه.
وقال آخرون إذا نكحها ونيته أن يحلها فلا تحل بهذا النكاحِ والوطءِ فيه للزوج الأول ولكن إذا رغب فى إمساكها جاز له أن يمسكها وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد المشهور عنهم وهو يشبه قول عطاء بن أبى رباح والحكم بن عتيبة. وهذا عندى أضعف الأقوال كلها لأن النكاح بنية التحليل دون الشرط لا يعدو أن يكون صحيحا فيحل له إمساكها إن شاء وإذا طلقها حلت للزوج الأول أو يكون باطلا فلا يكون له أن يمسكها ولا تحل للزوج الأول. فأما أن يكون النكاح مرة حلالا جائزا إذا أمسكها لنفسه ومرة حراما باطلا إذا طلقها فلم يحل لها أن تنكح الزوج الأول فهذا تَحَكُّمٌ لا يجوز والله أعلم.
فأما ما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّلَ والمحلَّلَ له» فإن أهل المقالة الأولى احتجوا به على أن النكاح بنية التحليل باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلل ولم يفرق بين من نيته التحليل ومن اشترطوا عليه فى العقد أنه متى أحلها فلا نكاح بينهما.
وقال أهل المقالة الثانية: أرأيتم لو أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجها آخر يريد إحلالها والمرأة والزوج الأول لا يعلمان ثم طلقها بعد أن دخل بها فلما انقضت عدتها تزوجها الزوج الأول أيكون الزوج الأول وهو المُحَلَّل له ملعونا؟ قالوا: لا لأنه لا يعلم أن هذا نكح على التحليل ولم يشترط ذلك عليه وإنما يكون ملعونا إذا أتى برجل لينكحها فاشترط عليه أنك متى أحللتها فلا نكاح بينكما فيكون حينئذ داخلا فى اللعنة. قيل لهم: لئن جاز لكم أن تجعلوا المُحَلَّل له ملعونا إذا اشترط غير ملعون إذا لم يشترط ليجوزن لغيركم أن يجعل المُحَلِّل كذلك. وقالوا: لمَّا جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اللعنة بين المُحَلِّل والمُحَلَّل له علمنا أن المُحَلِّل من شرط فى العقد أن نكاحه إلى أن يحلها لأن المُحَلَّل له لا يستحق اللعنة إلا إذا استحلها من بعد هذا النكاح. فإن قالوا: فلعل المحَلَّل له قد علم أن المُحَلِّل قد نكح على التحليل فلذلك لما رجع إلى المرأة بعده استحق اللعنة. قيل لهم: وكيف يعلم أنه نكح على التحليل وهو قد أضمر ذلك فى قلبه ولم يظهره حين العقد وهذا من علم الغيب الذى لا يعلمه إلا الله. قالوا: فلعل المحَلِّل كان يتكلم بهذا قبل النكاح. قيل لهم: أرأيتم لو أن رجل أراد نكاح مطلقة ثلاثا وإمساكها لنفسه وقد علم أنها محبة لزوجها الأول كارهة لنكاح غيره فخدعها ووعدها أنه إذا نكحها فارقها لتحل للأول ولم يشترط ذلك فى العقد لئلا يبطل فلما ملك عقدة نكاحها أمسكها لنفسه وهى كارهة أيحل له ذلك ويكون هذا نكاحا صحيحا وإذا طلقها حلت للأول؟ قالوا: نعم لأنا لا ننظر إلى الوعد المتقدم العقد ولكن ننظر إلى النية ساعة العقد فإذا كذبها ثم نكحها وهو ينوى إمساكها فقد أساء بكذبه وله أن يمسكها وإذا طلقها حلت للأول. قيل لهم: فليس المحلّل له ههنا بملعون فيبغى أن لا يكون المحلِّل بغير شرط كذلك. قالوا: فلعله أقر بأنه نكح على التحليل بعد النكاح قبل أن يطلقها أو بعد ما طلقها. قيل لهم أرأيتم لو أن رجلا نكح مطلقة ثلاثا فلما نكحها قال كنت قد نويت التحليل فما تقولون فى ذلك؟ قالوا: فى إقراره أمران إقرار ببطلان النكاح لأنه تحليل فنلزمه بذلك لأن الفرقة بيده ودعوى براءته من صداقها وأنها لا تحل لزوجها الأول فلا تُقبَل دعواه عليها إلا ببينة فيغرم لها صداقها كاملا وتحل للزوج الأول وسواء كان إقراره قبل الطلاق أو بعده ولولا ذلك لما عجز رجل نكح مطلقة ثلاثا ثم حدث بينهما شر فطلقها وأراد أن يمنعها من زوجها الأول إلا قال كنت قد نكحتها محللا فلا تستطيع أن ترجع إلى الأول.
وأما ما روى من قول عمر: «لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما» فالقول فيه كالقول فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل لعل أهل المقالة الثانية أفرح بهذا من أهل المقالة الأولى لإجماعهم أن المُحَلِّل إذا أضمر ذلك فى نفسه فإنه لا سبيل إلى عقوبته لأن الحدود والعقوبات التى يقيمها الأمراء على الناس إنما هى على ما أظهره الناس بألسنتهم وجوارحهم فأما ما فى قلوبهم فلا يعلمه إلا الله. فلما توعد عمر المُحَلِّل والمُحَلَّل له بالرجم دل ذلك على أنه على من أظهر التحليل بأن أتى برجل ليحل له مطلقته ثلاثا واشترط عليه أنه إذا نكحها فدخل بها فلا نكاح بينهما. وعامة أهل العلم يقولون إن المُحَلِّل لو شرط ذلك ففُسِخ نكاحه فليس عليه الرجم لأنه نكاح مختلف فيه بل قد صححه بعض أهل العلم وأبطلوا الشرط فجعلوا له أن يمسكها وهذا قول لا يقول به عامة أهل العلم.
قال أبو بكر حدثنا يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن معمر عن الزهري عن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل أن ابن عمر سئل عن تحليل المرأة لزوجها قال: «ذلك السفاح، لو أدرككم عمر لنكلكم»
فاحتج أهل المقالة الأولى بأن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما جعل تحليل المرأة لزوجها سفاحا ولم يسأل أهو بشرط أم بالنية دون الشرط.
واحتج أهل المقالة الثانية بأن عبد الله بن عمر ذكر النكال ولا يكون النكال إلا على من أظهر التحليل واشترطه فأما من أضمره ولم يشترطه فلا نكال عليه لأنه لا علم للسلطان بما فى قلوب الناس ثم قد روى عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الله بن شريك العامري قال: سمعت ابن عمر يُسأل عن رجل طلق ابنة عم له ثم رغب فيها وندم فأراد أن يتزوجها رجل يحلها له. فقال ابن عمر: «كلاهما زان، وإن مكثا كذا وكذا، وذكر عشرين سنة، أو نحو ذلك إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحلها له»
فكان فى هذه الرواية أن المطَلِّقَ ثلاثا أراد أن يأتى برجل يشترط عليه التحليل وهذا باطل عند الشافعى ومن قال بقوله.
وقد روى عن عمر بن الخطاب مرسلا مثلُ قول الشافعى.
قال سعيد بن منصور حدثنا هشيم حدثنا يونس بن عبيد عن ابن سيرين أن رجلا من أهل المدينة طلق امرأته ثلاثا وندم وبلغ ذلك منه ما شاء الله، فقيل له: انظر رجلا يحلها لك، وكان في المدينة رجل من أهل البادية له حسب أُقْحِمَ إلى المدينة، وكان محتاجا ليس له شيء يتوارى به إلا رقعتين , رقعة يواري بها فرجه، ورقعة يواري بها دبره، فأرسلوا إليه، فقالوا له: هل لك أن نزوجك امرأة فتدخل عليها، فتكشف عنها خمارها ثم تطلقها ونجعل لك على ذلك جعلا؟ قال: نعم. فزوجوه فدخل عليها، وهو شاب صحيح الحسب، فلما دخل على المرأة فأصابها فأعجبها، فقالت له: أعندك خير؟ قال: نعم، هو حيث تحبين، جعله الله فداءها، قالت: فانظر لا تطلقني بشيء، فإن عمر لن يكرهك على طلاقي: فلما أصبح لم يكد أن يفتح الباب حتى كادوا أن يكسروه، فلما دخلوا عليه، قالوا: طلق، قال: الأمر إلى فلانة، قال: فقالوا لها: قولي له أن يطلقك، قالت: إني أكره أن لا يزال يُدخَلُ علي، فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب فأخبروه، فقال له: «إن طلقتها لأفعلن بك» ورفع يديه وقال: «اللهم أنت رزقت ذا الرقعتين إذ بخل عليه عمر»
قال الشافعى أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن سيف بن سليمان عن مجاهد قال طلق رجل من قريش امرأة له فبتها فمر بشيخ وابن له من الأعراب في السوق قدما بتجارة لهما فقال للفتى هل فيك من خير؟ ثم مضى عنه ثم كر عليه فكمثلها ثم مضى عنه ثم كر عليه فكمثلها. قال نعم: قال فأرني يدك فانطلق به فأخبره الخبر وأمره بنكاحها فنكحها فبات معها فلما أصبح استأذن فأذن له فإذا هو قد ولاها الدبر فقالت: والله لئن طلقني لا أنكحك أبدا فذكر ذلك لعمر فدعاه فقال لو نكحتها لفعلت بك كذا وكذا وتوعده ودعا زوجها فقال الزمها
وهذا الخبر وإن كان مرسلا فمراسيل ابن سيرين من أصح المراسيل ويشده أيضا مرسل مجاهد.
قال ابن عبد البر: "فمراسيل سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي عندهم صحاح" (التمهيد 1/30)
قال سعيد حدثنا محمد بن بسيط البصري قال: سألت بكر بن عبد الله المزني عن رجل يطلق امرأته البتة قال: "لعن الحال، والمحلل له، أولئك كانوا يسمون في الجاهلية التيس المستعار"
ولا يكون مستعارا إلا إذا كان ذلك بأمر الزوج المُطَلِّقِ وشرطه عليه.
روى عبد الرزاق عن الثوري ومعمر عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس قال: "سأله رجل فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا؟" قال: «إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا» قال: "كيف ترى في رجل يحلها له؟" قال: «من يخادع الله يخدعه»
وهذا يحتمل أن يكون كقول مالك ومن قال إن نية التحليل تبطل النكاح أو يكون كقول من أبطل النية ما لم يصاحبها عمل وذلك أن الرجل المطَلِّق ههنا هو الذى يأتى بالمحلل فدل ذلك على أنه اشترط عليه التحليل. ألا ترى أنه لو أتى برجل ينكحها لتحل للأول والمرأة تظن ذلك والرجل الناكح لا يريد إلا إمساكها لنفسه فإن له ذلك ولا يضر نكاحَه كذبُه على الزوجِ الأولِ والمرأةِ ولا تملك المرأة أن تفارقه لترجع لزوجها الأول؟ فلما كانت النية لا تصنع شيئا ولا يلزم الزوج شىء بالنية دون القول كان نكاحه صحيحا إن شاء أمسك وإن شاء طلق.
قال سحنون فى المدونة: "ابن وهب: وأخبرني رجال من أهل العلم منهم ابن لهيعة والليث عن محمد بن عبد الرحمن المرادي أنه سمع أبا مرزوق التجيبي يقول: إن رجلا طلق امرأته ثلاثا ثم ندما وكان لهما جار فأراد أن يحلل بينهما بغير علمهما، قال: فلقيت عثمان بن عفان وهو راكب على فرسه، فقلت: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فقف علي فقال: إني على عجل فاركب ورائي، ففعل ثم قص عليه الأمر فقال له عثمان لا إلا بنكاح رغبة غير هذا السنة"
وهذا منقطع بين أبى مرزوق وعثمان بن عفان رضى الله عنه ومحمد بن عبد الرحمن هذا ليس بالمعروف برواية الحديث والله أعلم. ثم هم جميعا يخالفونه لأنهم يقولون: إذا نكحها وهو ينوى طلاقها فالنكاح جائز وإذا طلقها بعد أن وطئها حلت للأول. ومن نكح وهو ينوى الطلاق فلم ينكح نكاح رغبة وهذا مما لا يختلف فيه عاقلان. فما الفرق بين نية الطلاق ونية التحليل؟ ولقد جهد ابن تيمية الحرانى فى التفريق بينها فلم يقدر. وكان أصحاب مالك يجيزون للمطلقة ثلاثا إذا أرادت الرجوع للزوج الأول أن تتزوج رجلا مطلاقا معروفا بكثرة الطلاق لأن النكاح بنية الطلاق صحيح بزعمهم فإذا نوى التحليل بطل. وليت شعرى وكيف يبطل بنية التحليل وهو متى نكحها فوطئها فقد حلت للأول إذا فارقها نوى ذلك أم لم ينوه؟ فإن قالوا: إن المحلل نوى فراقها بعد الوطء. قيل لهم: والمطلاق نوى طلاقها بعد أن يطأها. مع أنه لا يعجز أحد أراد أن يحلل امرأة لزوجها أن ينكحها ليستمتع بها وهو ينوى طلاقها فتحل بذلك للزوج الأول فى قولهم جميعا.
نقل ابن أبى زيد عن مالك قوله: "وإذا قال لها الأول: تزوجى فلانا، فإنه مطلاق ودعى فلانا لم يضره ذلك، ما لم يعلم الآخر ذلك ولا وعد عليه" (النوادر والزيادات 4/582)
قال ابن أبى زيد: "قال فى كتاب ابن حبيب: ويفسخ بطلقة بائنة بالقضاء إن كان بإقرار منه، ولو ثبت عليه أنه أقر بذلك قبل النكاح فليس بنكاح، ولو تزوجها بذلك زوجها الأول، فسخ ذلك بغير طلاق إذا علم بذلك، وإن لم يعلم فإثمها على من علم ذلك ما بقيا" (النوادر والزيادات 4/582)
قول مالك هذا قول محال لأنه قد كلف الزوج الآخر بعلم ما فى قلب الناكح وذلك أن هذا الناكح لو أقر بالتحليل لم يلزم الزوج الأول أن يصدقه لأنه لعله يدعى عليه ليمنعه من نكاحها ولما علم مالك أن قوله من المحال جعل إثمهما على الناكح المبطن نية التحليل.
ومما يدل على فساد هذا القول والله أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يسألوا رجلا نكح مطلقة ثلاثا فدخل بها ثم فارقها عن نيته ولو كانت نية التحليل تبطل النكاح لسألوه ودينوه وأعلموه أنها إن عادت إلى زوجها الأول فإن إثمهما عليه ما بقيا. وزعم ابن تيمية أن الصحابة لم يردوا امرأة إلى زوجها بنكاح التحليل. فيقال له: ما تعنى بنكاح التحليل؟ أهو أن يأتوا برجل ينكح المرأة ليحللها ثم لا نكاح بينهما وتعود إلى زوجها؟ فهذا باطل عند الشافعى وعندك. وإن كنت تعنى أن ينكح الرجل امرأة وهو ينوى تحليلها فكيف يمنع الصحابة ذلك والنية فى القلب ولا علم لهم بما فى قلوب الناس بل فى تركهم السؤال عن نية الناكح وتديينه دليل والله أعلم أن النية لا تضر. فزعم ابن تيمية أنه لا يأخذ بالنية لأن أحدا لا يقر البتة أنه نكح للتحليل ولكنه يأخذ بالقرائن والظن والإزكان فإذا ظن برجل أنه نكح ونيته أن يحلها لزوجها حكم عليه بالظن وأبطل نكاحه ولم يقبل قوله وهذا سفه وجهل وخروج عن قول أهل العلم جميعا والحنابلة يقولون إن الرجل لو خدع المرأة وأهلها فوعدهم أن يحلها ثم يفارقها فأنكحوه دون شرط وهو ينوى إمساكها فالنكاح جائز وله أن يمسكها ولا تملك أن تفارقه. ومالك يدينه ويجعل القول قوله لأن علم ما فى قلوب الناس من الغيب الذى استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه وقد نهى الله تبارك وتعالى عن التجسس وسوء الظن ولا معنى لقول يخالف كلام الله تبارك وتعالى وما عليه عامة أهل العلم. وزعم ابن تيمية أن الصحابة لم يسألوا الناكحين عن نياتهم لأنه لم يكن على عهدهم من ينكح على التحليل وهذا كذب ومكابرة ألا ترى أن ابن عمر وابن عباس قد سئلا عمن يريد أن يحلل مطلقته ثلاثا؟ ألا ترى أن بكر بن عبد الله المزنى قال إنهم كانوا يسمونه التيس المستعار وقد عاصر كثيرا من الصحابة وروى عنهم؟
وقال ابن تيمية إن من أخذ بقول من صحح نكاح التحليل بالنية دون الشرط وعاد إلى امرأته فإن له أن يمسكها وتحل له لأنه أخذ بقول كثير من أهل العلم وأتباعه فى زماننا لا يقولون بهذا. بل قال ابن تيمية بأشنع من هذا قال لو أن رجلا عمل بالسريجية فطلق امرأته ألفا وهو يظن أن الطلاق لم يقع فلا طلاق عليه لأنه معذور.
روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: المحلل عامدا هل عليه عقوبة؟" قال: "ما علمته، وإني لأرى أن يعاقب" قال: "وكلٌ إن تمالئوا على ذلك مسيئون وإن أعظموا الصداق"
وقد روى عنه ما يخالف ذلك: روى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: إنسان نكح امرأة محللا عامدا، ثم رغب فيها، فأمسكها" قال: "لا بأس بذلك"
عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه: "أنه كان لا يرى بالتحليل بأسا، إذا لم يعلم أحد الزوجين" وهذا يوافق قول الشافعى
عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه، وعن جابر عن الشعبي قال: "لا بأس إذا لم يأمر به الزوج" وجابر الجعفى متهم بالكذب
قال أبو بكر حدثنا غندر عن شعبة قال: سألت الحكم وحمادا عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها؟ فقال الحكم: "يمسكها" وقال حماد: "أحب إلي أن يفارقها"
قال أبو بكر حدثنا أبو داود عن حبيب عن عمرو عن جابر بن زيد في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها وهو لا يعلم. قال: "لا يصلح ذلك، إذا كان تزوجها ليحلها" وهذا قول مالك
قال أبو بكر حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار أنه سئل عن رجل طلق امرأته فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحلها له فقال: "لا" ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مثل ذلك فقال: «لا حتى ينكحها مرتقبا لنفسه، حتى يتزوجها مرتقبا لنفسه، فإذا فعل ذلك لم تحل له حتى تذوق العسيلة»
هذا مرسل وعامة أهل العلم على خلافه لأنهم يصححون النكاح إذا نوى الناكح الطلاق دون التحليل وهذا لم ينكح مرتقبا لنفسه.
قال أبو بكر حدثنا معاذ قال: حدثنا عباد بن منصور قال: جاء رجل إلى الحسن فقال: "إن رجلا من قومي طلق امرأته ثلاثا، فندم وندمت فأردت أن أنطلق فأتزوجها وأصدقها صداقا ثم أدخل بها كما يدخل الرجل بامرأته ثم أطلقها حتى تحل لزوجها" قال: فقال له الحسن: "اتق الله يا فتى ولا تكونن مسمار نار لحدود الله"