تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)



صفاء الدين العراقي
2025-08-18, 01:52 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد فإني كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأيت من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه وكتبت في ذلك شيئا.
ثم لما كنت بالإسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد فذكرت له بعض ما يستحقونه من التجهيل والتضليل. واقتضى ذلك أني كتبت في قعدة بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علقته تلك الساعة، ثم تعقبته بعد ذلك في مجالس إلى أن تم. ولم يكن ذلك من همتي فإن همتي إنما كانت فيما كتبته عليهم في الإلهيات.
وتبين لي أن كثيرا مما ذكروه في المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات، مثل ما ذكروه من تركّب الماهيات من الصفات التي سموها ذاتيات، وما ذكروه من حصر طرق العلم فيما ذكروه من الحدود والأقيسة البرهانيات، بل فيما ذكروه من الحدود التي بها تعرف التصورات، بل ما ذكروه من صور القياس ومواده اليقينيات.
فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق فأذنت في ذلك لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فُتح من باب الرد عليهم يحتمل أضعاف ما علقته تلك الساعة.
أقول: هنا ثلاث وقفات:
الأولى: ما يتعلق بأهمية المنطق عند الشيخ فهو كان دائما يرى أن المنطق لا يحتاج إليه الذكي من الناس لأنه يملك القدرة على التفكير السليم والاستنتاج الصحيح، وأما البليد فلا ينتفع به لعسر مباحثه بالنسبة إليه، ولأن تطلب من البليد أن يحمل الصخور على كاهله أهون عليه من أن يجلس ساعة يفكر ويتأمل.
نعم لا يُنْكَر أن في المنطق ما قد يستفيدُ ببعضه من كان في كفرٍ وضلالٍ وتقليدٍ لمن نشأ بينهم من الجهَّال، كعوامِّ النصارى واليهود والرافضة ونحوهم، فأورثهم المنطقُ تركَ ما عليه أولئك من تلك العقائد... ففي الجملة، ما يحصلُ به لبعض الناس مِن شَحْذِ ذهنٍ أو رجوعٍ عن باطل أو تعبيرٍ عن حقٍّ، فإنما هو لكونه كان في أسوأ حال، لا لما في صناعة المنطق من الكمال. نقض المنطق ص 286.
الثانية: كان الشيخ لفترة من عمره يحسب أن جميع قضايا المنطق صحيحة وإن كانت لا تخلو من حشو وتطويل وكان الذكي لا يحتاج إليه وذلك لما رأى من صدق كثير من قضاياه.
وهذه النظرة للمنطق أعني اعتقاد صحة قضاياه في نفسها قد شاركه فيها كثير من العلماء فقد قال الشيخ: كان كثير من فضلاء المسلمين وعلمائهم يقولون: المنطق كالحساب ونحوه مما لا يعلم به صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوته ولا انتفاؤه. فهذا كلام من رأى ظاهره وما فيه من الكلام على الأمور المفردة لفظا ومعنى ثم على تأليف المفردات وهو القضايا ونقيضها وعكسها المستوي وعكس النقيض ثم على تأليفها بالحد والقياس وعلى مواد القياس وإلا فالتحقيق: أنه مشتمل على أمور فاسدة ودعاوى باطلة كثيرة. نقض المنطق 341.
ولعل سبب هذا أن الضلال الذي فيه إنما ينشأ من القول بلوازم بعض مسائله والتي لا تكاد تظهر إلا لكبار الحذاق، وهذا ما يجعل الكثير من الناس يدرس ويدرّس بعض مختصرات المنطق ولا يتغير حاله ولا يشعر في نفسه أنه مكذب بشيء من الحق الذي كان يعلمه من القرآن والسنة قبل معرفة المنطق وهذا ما أشار إليه الشيخ في موضع آخر حيث قال: ..قد يطعن في هذا من لم يفهم حقيقة المنطق وحقيقة لوازمه، ويظن أنه في نفسه لا يستلزم صحة الإسلام ولا فساده، ولا ثبوت حق ولا انتفاءه، وإنما هو آلة تعصم مراعاتها عن الخطأ في النظر، وليس الأمر كذلك، بل كثير مما ذكروه في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، ويكون من قال بلوازمه ممن قال الله تعالى فيه: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.
والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضوع، وإنما يلتبس على كثير من الناس بسبب ما في ألفاظه من الإجمال والاشتراك والإبهام، فإذا فُسر المراد بتلك الألفاظ انكشفت حقيقة المعاني المعقولة. درء التعارض 1/218.
الثالثة: ذكر الشيخ أنه تبين له لاحقا أن كثيرا من مسائل المنطق هي من أصول ضلال الفلاسفة في باب الإلهيات حينما يتكلمون على الباري سبحانه، وذكر أهم تلك المسائل التي سيدير الكلام عليها وهي:
تركب الماهيات والحقائق الخارجية من الذاتيات.
حصر طرق العلم في الحدود المنطقية والبرهان الأرسطي وأنه لا يُنال المطلوب التصوري إلا بالحد، ولا ينال المطلوب التصديقي إلا بالقياس.
كون الحدود تفيد تصور الأشياء.
ما ذكروه في صور القياس كتفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل وما ذكروه في مواده البرهانية، مثلما ذكروه في مواد البرهان من قبول بعض القضايا التي سموها يقينية واعتقدوها كلية، وليس الأمر كذلك، وردهم لبعض القضايا التي سموها مشهورات ووهميات، مع كونها قد تكون أقوى من كثير من القضايا التي سموها يقينية. درء تعارض العقل والنقل. 7/344.

صفاء الدين العراقي
2025-08-18, 01:55 AM
قال الشيخ: فقلتُ: بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
بنوا المنطق على الكلام في الحد ونوعه والقياس البرهاني ونوعه. قالوا: لأن العلم إما تصور وإما تصديق وكل منهما إمّا بديهي وإما نظري، فإنه من المعلوم أنه ليس الجميع بديهيا، ولا يجوز أن يكون الجميع نظريا لافتقار النظري إلى البديهي فيلزم الدور القبلي أو التسلسل في العلل- التي هي هنا أسباب العلم وهي الأدلة- وهما ممتنعان.
والنظري منهما لا بد له من طريق ينال به فالطريق الذي ينال به التصور هو الحد والطريق الذي ينال به التصديق هو القياس.
فالحد اسم جامع لكل ما يعرِّف التصور وهو القول الشارح فيدخل فيه الحقيقي والرسمي واللفظي، أو هو الحقيقي خاصة فيقرن به الرسمي، واللفظي ليس من هذا الباب، أو الحد اسم للحقيقي والرسمي دون اللفظي، فإن كل نوع من هذه الثلاثة اصطلاح طائفة منهم كما قد بسطته وذكرت أسماءهم في غير هذا الموضع.
والقياس إن كانت مادته يقينية فهو البرهان خاصة، وإن كانت مسلمة فهو الجدلي، وإن كانت مشهورة فهو الخطابي، وإن كانت مخيلة فهو الشعري، وإن كانت مموهة فهو السوفسطائي، ولهذا قد يتداخل البرهاني والخطابي والجدلي، وبعض الناس يجعل الخطابي هو الظني وبعضهم يجعله الإقناعي. ولهم اصطلاحات أخر بعضها موافق لاصطلاح المعلم الأول أرسطو وبعضها مخالف له فإن كثيرا من المصنفين فيه خرجوا في كثير منه عن طريقة معلمهم الأول ولكن ليس المقصود هنا بسط هذا.
ثم الحد إنما يتألف من الصفات الذاتية إن كان حقيقيا وإلا فلا بد من العرضية، وكل منهما إما أن يكون مشتركا بين المحدود وغيره وأما أن يكون مميزا له عن غيره، فالمشترك الذاتي الجنس والمميز الذاتي الفصل والمؤلف منهما النوع، والمشترك العرضي هو العرض العام والمميز العرضى هو الخاصة، وقد يعبر بـ الخاصة عما يعرض لـ النوع وإن لم يكن عاما لأفراده لكن تلك الخاصة لا يحصل بها التمييز كما قد يعبر بـ النوع عن الأنواع الإضافية التي هي بالنسبة إلى ما فوقها نوع وبالنسبة إلى ما تحتها جنس ولكن هذا وأمثاله من جزئيات المنطق التي ليس هنا المقصود الكلام فيها فان للكلام على ما ذكروه في الجنس والنوع مقاما آخر غير ما علق في هذه العجالة، فهذه الكليات الخمس، وبإزاء الكلي الجزئي وهو ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، والكلام في المركب مسبوق بالكلام على المفرد ودلالة اللفظ عليه.
والقياس مؤلف من مقدمتين والمقدمة قضية إما موجبة وإما سالبة وكل منهما إما كلية وإما جزئية فلا بد من الكلام في القضايا وأنواعها وجهاتها.
وقد يستدل عليها بـ نقيضها وبعكسها وبعكس نقيضها فإنها إذا صحت بطل نقيضها وصح عكسها وعكس نقيضها فتكلم في تناقض القضايا وعكسها المستوى وعكس نقيضها.
والقضية إما حملية وإما شرطية متصلة وإما شرطية منفصلة فانقسم القياس باعتبار صورته إلى قياس تداخل وهو الحملي وقياس تلازم وهو الشرطي المتصل وقياس تعاند وهو التقسيم والترديد وهو الشرطي المنفصل هذا باعتبار صورته وباعتبار مادته إلى الأصناف الخمسة المتقدمة.
فلا بد من الكلام في مواد القياس وهي القضايا التي يستدل بها على غيرها وهذا كله في قياس الشمول وأما قياس التمثيل والاستقراء فله حكم آخر فإنهم قالوا الاستدلال بـ الكلي على الجزئي هو قياس الشمول وبـ الجزئي على الكلي هو الاستقراء إما التام إن علم شموله للأفراد وإلا فالناقص والاستدلال بأحد الجزئيين على الآخر هو قياس التمثيل.
مع أنا قد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام على أن كل قياس شمول فانه يعود إلى التمثيل كما أن كل قياس تمثيل فانه يعود إلى شمول وأن جعلهم قياس الشمول يفيد اليقين دون قياس التمثيل خطأ.
وذكرنا تنازع الناس في اسم القياس هل يتناولهما جميعا كما عليه جمهور الناس أو هو حقيقة في التمثيل مجاز في قياس الشمول كما اختاره أبو حامد الغزالي وأبو محمد المقدسي أو بالعكس كما اختاره ابن حزم وغيره من أهل المنطق والكلام على هذا مبسوط في مواضع.
أقول: بيان هذا الفصل وشرحه تجده في كتابي الواضح في المنطق، ومن لم يفهم ما ذكره الشيخ هنا فلا ينفعه قراءة الكتاب فإنه تنتظرنا معمعة يتصدع لها الرأس.

صفاء الدين العراقي
2025-08-18, 04:29 AM
قال: والمقصود هنا ذكر شيء آخر فنقول: الكلام في أربع مقامات مقامين سالبين ومقامين موجبين.
فالأولان:
أحدهما: في قولهم إن التصور المطلوب لا ينال إلا بالحد.
والثاني: إن التصديق المطلوب لا ينال إلا بالقياس.
والآخران: في أن الحد يفيد العلم بالتصورات وأن القياس أو البرهان الموصوف يفيد العلم بالتصديقات
المقام الأول
في قولهم: إن التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالحد والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال لا ريب أن النافي عليه الدليل إذا لم يكن نفيه بديهيا كما أن على المثبت الدليل، فالقضية سواء كانت سلبية أو إيجابية إذا لم تكن بديهية فلا بد لها من دليل وأما السلب بلا علم فهو قول بلا علم فقول القائل: أنه لا تحصل هذه التصورات إلا بالحد قضية سالبة وليست بديهية فمن أين لهم ذلك وإذا كان هذا قولا بلا علم كان في أول ما أسسوه القول بلا علم فكيف يكون القول بلا علم أساسا لميزان العلم ولما يزعمون أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره.
أقول: قال الغزالي في مقاصد الفلاسفة ص 12: وكل ما لا بد في تصوره من طلب فلا ينال إلا بذكر الحد، وكل ما لا بدّ في تصديقه من طلب فلا ينال إلا بالحجة.
ومثله قال في محك النظر ص 6: فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد، والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس. اهـ.
إذا علم هذا فما المقصود أولا بقولهم: التصورات المطلوبة لا تنال إلا بالحد؟
إذا قلنا: المقصود بالتصور هو التام الذي يكون بإدراك تمام الماهية فيكون المعنى: التصورات التامة لا تنال إلا بالحد التام المكون من جنس الشيء وفصله القريبين.
وإذا قلنا: المقصود بالتصور هو مطلق التصور ولو بالخاصة فيكون المعنى:
التصورات لا تنال إلا بالقول الشارح.
فقد قال الغزالي في المقاصد ص 13: فما يؤدي إلى كشف التصورات يسمى حدا أو رسما، وما يفضي إلى العلوم التصديقية يسمى حجة فمنه قياس ومنه استقراء وتمثيل وغيره.
وقال في محك النظر ص 256: قد ذكرنا أن أحد قسمي الإدراك هو المعرفة، أعني العلم بالمفردات، وأن ذلك لا ينال إلا بالحد.... واسم الحد في العادة قد يطلق على هذه الأجوبة الثلاثة على سبيل الاشتراك. اهـ يقصد اللفظي والرسمي والحدي.
وقال كما في مجموع الفتاوى 9/ 266: وهنا تلخيص ذلك فأقول: مقصود الكلام في طرق العلم بالتصورات والتصديقات فالأول كالحد والرسم، والثاني كالقياس بأنواعه من البرهان وغيره وكالتمثيل والاستقراء. وقد يزعمون أن المطلوب من التصورات لا ينال إلا بجنس الحد والمطلوب من التصديقات لا ينال إلا بجنس القياس وقد يسمى جنس القياس بالنسبة كما يسمى جنس القول الشارح حدا وأما البديهي من النوعين فمستغن عن الحد والبرهان. اهـ.
وقد اعترض الشيخ هذه القضية باعتراضات عديدة:
أولها: أين الدليل على قولكم هذا فإن كل قضية موجبة أو سالبة إذا لم تكن بديهية فلا بدّ لها من دليل، وأنتم لم تقيموا عليها دليلا.
والمناطقة وجدوا أن هذه القضية قريبة من البداهة فكل من لا يعرف مفردة من المفردات يسأل عنها قائلا: ما هو كذا؟ فيقال له: هو كذا وكذا. فهذا هو الطريق المعتاد في اقتناص المعرفة.
والشيخ يقول: لا دليل لكم على الحصر فمن أين لكم أن هذه التصورات لا تحصل إلا بالحد.

صفاء الدين العراقي
2025-08-18, 07:01 AM
الثاني: أن يقال الحد يراد به نفس المحدود وليس هذا مرادهم ههنا، ويريدون به القول الدال على ماهية المحدود وهو مرادهم هنا وهو تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال.
فيقال: إذا كان الحد قول الحاد فالحاد إما أن يكون قد عرف المحدود بحد وإما أن يكون عرفه بغير حد، فإن كان الأول فالكلام في [الحاد] الثاني كالكلام في الأول وهو مستلزم للدور القبلي أو التسلسل في الأسباب والعلل وهما ممتنعان باتفاق العقلاء وإن كان عرفه بغير حد بطل سلبهم وهو قولهم أنه لا يعرف إلا بالحد.
أقول: الاعتراض الثاني: إن الحد إما أن يراد به نفس المحدود وحقيقته وإما أن يراد به القول الدال على ماهية المحدود، كالاسم يراد به تارة اللفظ الدال على المسمى، وتارة يراد به عين المسمى، والمراد بالحد هنا القول الدال على ماهية المحدود فهو الذي يكتسب به التصور، وحينئذ يقال: إذا كان الحد هو قول الحاد، والمستمع إنما عرف المحدود بحد المتكلم الحاد فهذا الحاد إما أن يكون هو أيضا قد عرف المحدود بحد غيره له، وإما أن يكون قد عرفه بغير حد، فإن كان عرفه بحد غيره له فيقال فهذا الحاد الثاني كيف عرفه فإن كان بالحاد الأول لزم الدور وإن كان عرفه بحاد ثالث وهو برابع إلى ما لا نهاية لزم التسلسل، وإن عرفه بغير حد بطل قولهم أنه لا يعرف إلا بالحد.
فإن قيل: بل عرفه الحاد بنفس الحد المنعقد في نفسه فهو قبل أن يتكلم به انعقد الحد في نفسه. قلنا: لا يصح لأنه يكون قد عرف الشيء قبل أن يحده وإلا لم يصح حده لأنه يشترط في الحد أن يطابق المحدود عموما وخصوصا ولولا معرفته قبل أن يحده لم تصح معرفته بالمطابقة.

صفاء الدين العراقي
2025-08-18, 02:56 PM
الثالث: أن الأمم جميعهم من أهل العلم والمقالات وأهل العمل والصناعات يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها ويحققون ما يعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد منطقي ولا نجد أحدا من أئمة العلوم يتكلم بهذه الحدود لا أئمة الفقه ولا النحو ولا الطب ولا الحساب ولا أهل الصناعات مع أنهم يتصورون مفردات علمهم فعلم استغناء التصور عن هذه الحدود.
أقول: حاصله أن الناس من الأمم جميعا من أهل العلم والنظر وأهل العمل والصناعة يتعاملون مع ما لا تحصى من المفردات في مجال علمهم وعملهم ويتصورنها جيدا مع أنهم لا يتكلمون بحد منطقي بل أكثر حدود هؤلاء لا تستقيم مع قوانين الحدود المنطقية فعلم استغناء التصور عن الحدود فكيف يصح قولهم: لا ينال التصور إلا بالحد!.

صفاء الدين العراقي
2025-08-18, 03:41 PM
الرابع: أنه إلى الساعة لا يعلم للناس حد مستقيم على أصلهم بل أظهر الأشياء الإنسان وحده بـ الحيوان الناطق عليه الاعتراضات المشهورة وكذلك حد الشمس وأمثال ذلك، حتى أن النحاة لما دخل متأخروهم في الحدود ذكروا لـ الاسم بضعة وعشرين حدا وكلها معترض عليها على أصلهم بل أنهم ذكروا لـ الاسم سبعين حدا لم يصح منها شيء كما ذكر ذلك ابن الأنباري المتأخر، والأصوليون ذكروا لـ القياس بضعة وعشرين حدا وكلها معترض على أصلهم، وعامة الحدود المذكورة في كتب الفلاسفة والأطباء والنحاة والاصوليين والمتكلمة معترضة على أصلهم، وإن قيل بسلامة بعضها كان قليلا بل منتفيا؛ فلو كان تصور الأشياء موقوفا على الحدود لم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئا من هذه الأمور، والتصديق موقوف على التصور فإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق فلا يكون عند بني آدم علم في عامة علومهم وهذا من أعظم السفسطة.
أقول: الحاصل أن الحدود المنطقية التي يزعمون أنه لا تنال التصورات إلا بها، لا يكاد يستقيم منها شيء حتى ما جاء به المناطقة أنفسهم كحد الإنسان بأن حيوان ناطق عليه اعترضات مشهورة في كتبهم وكذلك حد الشمس وغيرها مما معرفته من أظهر الأشياء، وكذلك حدود غيرهم من النحاة والأطباء والفلاسفة وغيرهم معترضة على أصول المنطق؛ فلو كان تصور الأشياء موقوفا على حدودهم لم يكن إلى الساعة قد تصور الناس شيئاّ! فكيف والتصديق موقوف على التصور فإنه إذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق فلا يكون عند بني آدم علم في عامة علومهم وهذا من أعظم السفسطة!
وسيأتي للشيخ نقل عن المناطقة فيما يتعلق بعدم توقف التصديق على التصور التام.

صفاء الدين العراقي
2025-08-18, 04:36 PM
الخامس: إن تصور الماهية إنما يحصل عندهم بالحد الذي هو الحقيقي المؤلف من الذاتيات المشتركة والمميزة وهو المركب من الجنس والفصل وهذا الحد إما متعذر أو متعسر كما قد أقروا بذلك، وحينئذ فلا يكون قد تصور حقيقة من الحقائق دائما أو غالبا وقد تصورت الحقائق فعلم استغناء التصورات عن الحد.
أقول: الماهية والحقيقية إنما تتصور عند المناطقة بالحد الحقيقي المؤلف من الجنس والفصل القريبين، وتحصيل هكذا حد قالوا: إما أنه متعذر على الطاقة البشرية، أو هو عسير جدا، وهذا يعني أن تصور الحقائق لا يحصل للناس إما دائما أو غالبا جدا، مع أن الحقائق قد تصورت وبكثرة فعلم استغناء التصورات عن ذلك الحد.

صفاء الدين العراقي
2025-08-18, 09:41 PM
السادس :أن الحدود الحقيقية عندهم إنما تكون للحقائق المركبة وهي الأنواع التي لها جنس وفصل، وأما ما لا تركيب فيه وهو ما لا يدخل مع غيره تحت جنس كما مثله بعضهم بالعقول فليس له حد وقد عرفوه وهو من التصورات المطلوبة عندهم؛ فعلم استغناء التصورات عن الحد بل إذا أمكن معرفة هذه بلا حد فمعرفة تلك الأنواع أولى لأنها أقرب إلى الحس وأن أشخاصها مشهودة.
وهم يقولون إن التصديق لا يقف على التصور التام الذي يحصل بالحد الحقيقي بل يكفي فيه أدنى تصور ولو بالخاصة وتصور العقول من هذا الباب، وهذا اعتراف منهم بأن جنس التصور لا يقف على الحد الحقيقي، لكن يقولون الموقوف عليه هو تصور الحقيقة أو التصور التام وسنبين إن شاء الله أنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه، وأنا نحن لا نتصور شيئا بجميع لوازمه حتى لا يشذ عنا منها شيء وأنه كلما كان التصور لصفات المتصور أكثر كان التصور أتم.
وأما جعل بعض الصفات داخلة في حقيقة الموصوف وبعضها خارجة فلا يعود إلى أمر حقيقي وإنما يعود ذلك إلى جعل الداخل ما دل عليه اللفظ بالتضمن والخارج اللازم ما دل عليه اللفظ باللزوم فتعود الصفات الداخلة في الماهية إلى ما دخل في مراد المتكلم بلفظه والخارجة اللازمة للماهية إلى ما يلزم مراده بلفظه وهذا أمر يتبع مراد المتكلم فلا يعود إلى حقيقة ثابتة في نفس الأمر للموصوف وقد بسطنا ألفاظهم في غير هذا الموضع وبينا ذلك بيانا مبسوطا يبين أن ما سموه الماهية أمر يعود إلى ما يقدر في الأذهان لا إلى ما يتحقق في الأعيان والمقدر في الأذهان بحسب ما يقدره كل أحد في ذهنه فيمتنع أن تكون الحقائق الموجودة تابعة لذلك.
أقول: حاصل هذا الاعتراض هو: أنهم يقولون إن الحدود الحقيقية إنما تكون للأنواع المركبة من الجنس والفصل، وأما الأنواع البسيطة التي لا تندرج تحت جنس كالعقول السماوية عندهم فلا حد لها وقد عرفوها بلا حد، فعلم استغناء بعض التصورات عن الحد، بل يقال إذا أمكن معرفة هذه بلا حد مع بعدها عن الحس، فلأن يمكن معرفة الأنواع المركبة كالإنسان أولى لأن أفرادها مشهودة بالحس.
ثم تعرض الشيخ لأمر يقول به المناطقة وهو:
أن التصديق بحكم من الأحكام- كالحكم على العقل بأنه بسيط- لا يتوقف على التصور التام، فلا يقال كيف حصل تصديق بذلك الحكم ولم يحصل تصور؛ لأنه يكفي التصور ولو بالخاصة، وأما التصور التام فلا يحصل إلا بالحد التام.
والشيخ يعقب بأمرين:
أن هذا الكلام اعتراف بأن جنس التصور لا يقف على الحد الحقيقي.
أن قولهم بأن التصور التام إنما يكون بالحد التام، لا يصح فإنه ما من تصور إلا وفوقه تصور أتم منه؛ فمن تصور الإنسان بأن حيوان ناطق ضاحك أتم ممن تصوره بأنه حيوان ناطق فقط فكلما كان التصور لصفات المحدود أكثر كان التصور أتم، أما جعلهم بعض الصفات كالنطق داخلة في حقيقة الإنسان وبعضها كالضحك خارجة عن حقيقته فمحض تحكم وإنما هذا الأمر كدلالة اللفظ على المعنى الذي قصده المتكلم فما دخل فيه يدل عليه بالتضمن، وما لم يدخل ولازمه يدل عليه باللزوم، فتلك الصفات التي يجعلونها داخلة في الماهية هي الداخلة في مراد المتكلم بلفظه، وتلك الصفات الخارجة عن الماهية هي اللازمة للماهية، وهذا أمر يتبع مراد المتكلم وقصده ولا يعود إلى صفة ثابتة في نفس الأمر الموصوف. فما سموه بالماهية هو أمر يقدر في الأذهان، يقدره كل واحد بحسب ما في ذهنه ولا يعود إلى أمر حقيقي ثابت، وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة في كلامه.

صفاء الدين العراقي
2025-08-19, 03:48 AM
السابع: أن مستمع الحد يسمع الحد الذي هو مركب من ألفاظ كل منها لفظ دال على معنى فان لم يكن عارفا قبل ذلك بمفردات تلك الألفاظ ودلالتها على معانيها المفردة لم يمكنه فهم الكلام، والعلم بأن اللفظ دال على المعنى وموضوع له مسبوق بتصور المعنى؛ فمن لم يتصور مسمى الخبر والماء والسماء والأرض والأب والأم لم يعرف دلالة اللفظ عليه، وإذا كان متصورا لمسمى اللفظ ومعناه قبل استماعه -وإن لم يعرف دلالة اللفظ عليه- امتنع أن يقال إنه إنما تصوره باستماع اللفظ لأن في ذلك دورا قبليا؛ إذ يستلزم أن يقال لم يتصور المعنى حتى سمع اللفظ وفهمه، ولم يمكن أن يفهم المراد باللفظ حتى يكون قد تصور ذلك المعنى قبل ذلك وهذا كما أنه مذكور في دلالة الأسماء على مسمياتها المفردة فهو بعينه وارد في دلالة الحدود على المحدودات إذ كلاهما إنما يدل على معنى مفرد لكن الحد يفيد تفصيل ما دل عليه الاسم بالاجمال.
وقد يكون فيه عند المنطقين تفصيل صفاته المشتركة والمختصة وإن كان للمتكلمين في الحد طريق آخر إذ لا يحدون إلا بالخاصة المميزة الفاصلة دون المشتركة بل يمنعون من التركيب الذي يوجبه المنطقيون وهو لعمري أقرب إلى المقصود كما سنبينه إن شاء الله تعالى ونبين أن فائدة الحدود التمييز لا التصوير.
وإذا كان المطلوب التمييز فإنما ذاك بالمميز فقط دون المشترك ولأنه كلما كان أوجز وأجمع وأخص كان أحسن كالأسماء فليس الحد في الحقيقة إلا اسما من الأسماء أو اسمين أو ثلاثة كقولك: حيوان ناطق، وكذلك قيل في تعليم آدم الأسماء كلها تعليم حدودها وهي من جنس الحدود المذكورة في قوله تعالى: وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.
أقول: خلاصته أن التصورات لو لم تعلم إلا بالحدود لأفضى ذلك إلى الدور المحال بيانه:
إن الحد هو قول يقوله الحاد، وذلك القول لا يفيد المستمع شيئا إن لم يكن عارفا بمدلولات الألفاظ التي تركب منها الحد، والعلم بأن اللفظ دال على المعنى وموضوع له مسبوق بتصور المعنى، فيمتنع أن يقال إن الحد هو الذي أفاده بسماعه تصور المحدود؛ إذ يستلزم أن يقال: لم يتصور المعنى حتى سمع اللفظ وفهمه، ولم يمكن أن يفهم المراد باللفظ حتى يكون قد تصور ذلك المعنى أي أن التصور موقوف على فهم المعنى، وفهم المعنى موقوف على التصور وهذا دور سواء كان القول المعرِّف مفردا كالخاصة المميزة وهي طريقة المتكلمين إذ لا يعرفون إلا بالمختص بالمحدود، أو بالمركب من العام المشترك والمميز كقولنا: حيوان ناطق وهي طريقة المناطقة وسيأتي تفصيل ذلك.

صفاء الدين العراقي
2025-08-19, 05:11 AM
الثامن: أن الحد إذا كان هو قول الحاد فمعلوم أن تصور المعاني لا يفتقر إلى الألفاظ فان المتكلم قد يتصور معنى ما يقوله بدون لفظ والمستمع قد يمكنه تصور تلك المعاني من غير تخاطب بالكلية فكيف يمكن أن يقال لا تتصور المفردات إلا بالحد الذي هو قول الحاد.
أقول: يقول المناطقة: لا تنال التصورات إلا بالحدود، والحد هو قول الحاد ولفظه، وتصور المعاني لا يفتقر إلى الألفاظ، فإن المتكلم قد يمكنه تصور معنى ما يقوله بدون لفظ، والمستمع قد يمكنه تصور تلك المعاني من غير مخاطِب له أصلا بأن يتصورها بحسه وعقله، فكيف يمكن أن يقال لا تتصور المفردات إلا بالحد الذي هو لفظ الحاد!.

صفاء الدين العراقي
2025-08-19, 05:30 AM
التاسع: أن الموجودات المتصورة إما أن يتصورها الإنسان بحواسه الظاهرة كالطعم واللون والريح والأجسام التي تحمل هذه الصفات، وإما أن يتصورها بمشاعره الباطنة كما تتصور الأمور الحسية الباطنة الوجدية مثل الجوع والشبع والحب والبغض والفرح والحزن واللذة والألم والإرادة والكراهية والعلم والجهل وأمثال ذلك، وكل من الأمرين قد يتصوره معينا وقد يتصوره مطلقا أو عاما، وهذه التصورات جميعها غنية عن الحد ولا يمكنه تصور شيء بدون مشاعره الظاهرة والباطنة وما غاب عنه يعرفه بالقياس والاعتبار بما شاهده.
أقول: تصور المعاني يكون إما بالحس الظاهر وإما بالحس الباطن سواء تصوره جزئيا أو كليا، وهذه التصورات مستغنية عن الحد، ولا يمكن للإنسان تصور شيء بدون مشاعره الظاهرة والباطنة وما غاب عنه يعرفه بالقياس والاعتبار بما شاهده.

صفاء الدين العراقي
2025-08-19, 09:42 PM
العاشر: أنهم يقولون إن للمعترض أن يطعن على حد الحاد بالنقض والمعارضة.
والنقض إما في الطرد وإما في العكس، أما الطرد فهو أنه حيث وجد الحد وجد المحدود فيكون الحد مانعا فإذا بين وجود الحد ولا محدود لم يكن مطردا ولا مانعا بل دخل فيه غيره كما لو قال في حد الإنسان أنه الحيوان.
وأما العكس وهو أن يكون حيث انتفى الحد انتفى المحدود لكون الحد جامعا وإذا لم يكن جامعا انتفى الحد مع بقاء بعض المحدود كما لو قال في حد الإنسان إنه العربي فلا يكون الحد منعكسا، ولو استعمل لفظ الطرد في موضع العكس لكان سائغا.
والمقصود أنه لا بد من اتفاق الحد والمحدود في العموم والخصوص فلا بد أن يكون مطابقا للمحدود لا يدخل فيه ما ليس من المحدود ولا يخرج منه ما هو من المحدود فمتى كان أحدهما أعم كان باطلا بالاتفاق وسمي ذلك نقضا.
فإن النقض يرد على الحد والدليل والقضية الكلية والعلة، لكن الدليل والقضية الكلية لا يجب فيهما الانعكاس إلا بسبب منفصل مثل المتلازمين إذا استدل بأحدهما على الآخر فهنا يكون الدليل مطردا منعكسا وأما الحد فلا بد فيه من الانعكاس.
والعلة إن كانت تامة وجب طردها وإن لم تكن تامة جاز تخلف الحكم عنها لفوات شرط أو وجود مانع ويسمى ذلك تخصيصا ونقضا. أما وجود الحكم بلا علة فيسمى عدم عكس وعدم تاثير ونفس الحكم المتعلق بها ينتفي لا بانتفائها ولا يجب انتفاء نظيره إذا كان له علة أخرى فمجرد عدم الانعكاس لا يدل على فساد العلة إلا إذا وجد الحكم بدون العلة من غير أن تخلفها علة أخرى وهو في الحقيقة وجود نظير الشخص وهو نوعه فهنا تكون العلة عديمة التأثير فتكون باطلة وبهذا يظهر أن عدم التأثير مبطل لها وعدم الانعكاس ليس مبطلا لها.
وهذه كلمات جوامع في هذه الكليات التي يكثر فيها اضطراب الناس.
وأما المعارضة للحد بحد آخر فظاهر.
فإذا كان المستمع للحد يبطله بالنقص تارة وبالمعارضة أخرى ومعلوم أن كليهما لا يمكن إلا بعد تصور المحدود علم أنه يمكن تصور المحدود بدون الحد وهو المطلوب.
أقول: خلاصة ما يريد أن يقوله الشيخ هو: أنهم صرحوا أن الحد يمكن إبطاله إما بالنقض أو بالمعارضة، فالنقض يرد على جامعية الحد ومانعيته، والمعارضة هي المقابلة بحد آخر، ولا يخفى أنه لا يمكن النقض والمعارضة إلا بعد تصور المحدود فعلم أنه يمكن تصور المحدود أولا بدون الحد وهو المطلوب.
وقد استطرد الشيخ وذكر ما يدخله النقض وهو-إضافة للحد- الدليل والقاعدة الكلية والعلة، وذكر ما يتعلق بطرد وعكس كل منها، ولعلنا نجد مناسبة لاحقا ونتحدث عنها بالتفصيل.

صفاء الدين العراقي
2025-08-19, 10:25 PM
الحادي عشر: أن يقال هم معترفون بأن من التصورات ما يكون بديهيا لا يحتاج إلى حد وإلا لزم الدور أو التسلسل.
وحينئذ فيقال كون العلم بديهيا أو نظريا هو من الأمور النسبية الإضافية مثل كون القضية يقينية أو ظنية إذ قد يتيقن زيد ما يظنه عمرو وقد يبده زيد من المعاني ما لا يعرفه غيره إلا بالنظر وقد يكون حسيا لزيد من العلوم ما هو خبري عند عمرو، وإن كان كثير من الناس يحسب أن كون العلم المعين ضروريا أو كسبيا أو بديهيا أو نظريا هو من الأمور اللازمة له بحيث يشترك في ذلك جميع الناس وهذا غلط عظيم وهو مخالف للواقع.
فان من رأى الأمور الموجودة في مكانه وزمانه كانت عنده من الحسيات المشاهدات وهي عند من علمها بالتواتر من المتواترات وقد يكون بعض الناس إنما علمها بخبر ظني فتكون عنده من باب الظنيات فان لم يسمعها فهي عنده من المجهولات وكذلك العقليات فان الناس يتفاوتون في الإدراك تفاوتا لا يكاد ينضبط طرفاه ولبعضهم من العلم البديهي عنده والضروري ما ينفيه غيره أو يشك فيه وهذا بين في التصورات والتصديقات.
وإذا كان ذلك من الأمور النسبية الإضافية أمكن أن يكون بديهيا عند بعض الناس من التصورات ما ليس بديهيا لغيره فلا يحتاج إلى حد وهذا هو الواقع وإذا قيل فمن لم يحصل له تلك المحدودات بالبداهة حصلت له بالحد قيل كثير منهم يجعل هذا حكما عاما في جنس النظريات لجنس الناس وهذا خطا واضح ومن تفطن لما ذكرناه يقال له ذلك الشخص الذي لم يعلمها بالبديهة يمكن أن تصير بديهة له بمثل الأسباب التي حصلت لغيره فلا يجوز أن يقال لا يعلمها إلا بالحدود.

أقول: يريد الشيخ أن يقول: إن التصورات عند المناطقة منها ضرورية لا تحتاج حدا ومنها نظرية تحتاج إليه، فحينئذ يقال: فكون العلم بديهيا أو نظريا هو من الأمور النسبية الإضافية مثل كون القضية يقينية أو ظنية فقد يكون النظري عند رجل بديهيا عند غيره لوصوله إليه بأسبابه كمشاهدة أو تواتر وإذا كان ذلك من الأمور النسبية الإضافية أمكن أن يكون بديهيا عند بعض الناس من التصورات ما ليس بديهيا لغيره فلا يحتاج إلى حد وهذا هو الواقع.
وإذا قيل فمن لم يحصل له تلك المحدودات بالبداهة حصلت له بالحد؟
فيقال له ذلك الشخص الذي لم يعلمها بالبديهة يمكن أن تصير بديهة له بمثل الأسباب التي حصلت لغيره فلا يجوز أن يقال لا يعلمها إلا بالحدود.

صفاء الدين العراقي
2025-08-20, 03:31 AM
المقام الثاني
وهو أنه هل يمكن تصوّر الأشياء بالحدود.
فيقال المحققون من النظار يعلمون أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته وإنما يدعى هذا أهل المنطق اليوناني أتباع أرسطو ومن سلك سبيلهم وحذا حذوهم تقليدا لهم من الإسلاميين وغيرهم فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا.
وإنما دخل هذا في كلام من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة وأوائل المائة السادسة فأما أبو حامد فقد وضع مقدمة منطقية في أول المستصفى وزعم أن من لم يحط بها علما فلا ثقة له بشي من علومه وصنف في ذلك "محك النظر" و"معيار العلم" ودواما اشتدت به ثقته، وأعجب من ذلك أنه وضع كتابا سماه القسطاس المستقيم ونسبه إلى أنه تعليم الأنبياء وإنما تعلمه من ابن سينا وهو تعلمه من كتب أرسطو وهؤلاء الذين تكلموا في الحدود بعد أبى حامد هم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني.
وأما سائر طوائف النظار من جميع الطوائف المعتزلة والأشعرية والكرامية والشيعة وغيرهم ممن صنف في هذا الشأن من اتباع الأئمة الأربعة وغيرهم فعندهم إنما تفيد الحدود التمييز بين المحدود وغيره بل أكثرهم لا يسوغون الحد إلا بما يميز المحدود عن غيره ولا يجوز أن يذكر في الحد ما يعم المحدود وغيره سواء سمي جنسا أو عرضا عاما وإنما يحدون بما يلازم المحدود طردا وعكسا ولا فرق عندهم بين ما يسمى فصلا وخاصة ونحو ذلك مما يتميز به المحدود من غيره.
وهذا مشهور في كتب أهل النظر في مواضع يطول وصفها من كتب المتكلمين من أهل الإثبات وغيرهم كأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر إسحاق وأبي بكر بن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي المعالي الجويني وأبي الميمون النسفي الحنفي وغيرهم وقبلهم أبو علي وأبو هاشم وعبد الجبار وأمثالهم من شيوخ المعتزلة وكذلك ابن النوبخت والموسوي والطوسي وغيرهم من شيوخ الشيعة وكذلك محمد بن الهيصم وغيره من شيوخ الكرامية فإنهم إذا تكلموا في الحد قالوا: إن حد الشيء وحقيقته خاصته التي تميزه.
أقول: بعد أن انتهى الشيخ من الكلام على قولهم: "إنه لا تنال التصورات إلا بالحدود" شرع يتكلم على قضية أخرى وهي: هل أنه أصلا يمكن تصوّر الأشياء بالحدود؟
فقرر قضية ثابتة في معتقده وهي: أن فائدة الحدود التمييز بين المحدود وغيره، وليست فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته. توضيحه:
يقول المناطقة: إن لكل شيء ماهية وحقيقة في الخارج، وهدف الحد التام هو وضع اليد على تلك الحقيقة. مثاله: الإنسان هو: حيوان ناطق أو حيوان ذو نفس ناطقة، هذه هي حقيقته التي خلقه الله عليها فمتى قيل في تعريف الإنسان: حيوان ناطق فقد أصيب كبد الحقيقة، ثم يلزم من معرفة الحقيقة حصول التمييز بين الإنسان وغيره من الكائنات، ولكن لو قيل في تعريف الإنسان: هو الضاحك. فقد حصل التمييز بين الإنسان وبين غيره لأن خاصة الإنسان التي تميزه عن غيره هي الضحك، ولكن لم تقتنص ماهية الإنسان وحقيقته بهذا التعريف، ولهذا كان الحد التام هو الهدف الأسمى للمناطقة. هذا ما قرروه.
أما الشيخ فيقول: كلا، بل الغرض من الحدود كيف كانت هو مجرد التمييز بين المحدود وبين غيره بلفظ وجيز لا تصوير حقيقته وتعريف ماهيته لمن لا يعرفها، وسيكرر الشيخ هذه القضية مرارا وتكرارا في مواضع مختلفة.
ثم ذكر أن هذا الذي قرره ليس هو الذي ابتكره من عنده بل هو مذهب المحققين من النظار والمتكلمين من كل الطوائف الإسلامية، وإنما دخل الفكر الأرسطي لكتب الإسلاميين في أصول الدين وفي أصول الفقه بعد أبي حامد الغزالي في أواخر المائة الخامسة وبداية المائة السادسة من الهجرة، وأن الغزالي ألف مقدمة منطقية ووضعها في بداية كتابه المستصفى في أصول الفقه وادعى أن من لم يحط بها علما فلا ثقة له بشي من علومه وصنف في ذلك "محك النظر" و"معيار العلم" ودواما اشتدت به ثقته، وأعجب من ذلك أنه وضع كتابا سماه "القسطاس المستقيم" ونسبه إلى أنه تعليم الأنبياء وإنما تعلمه من ابن سينا وهو تعلمه من كتب أرسطو، وهؤلاء الذين تكلموا في الحدود بعد أبي حامد هم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني وأما سائر طوائف النظار من جميع الطوائف المعتزلة والأشعرية والكرامية والشيعة وغيرهم ممن صنف في هذا الشأن من اتباع الأئمة الأربعة وغيرهم فعندهم إنما تفيد الحدود التمييز بين المحدود وغيره.

صفاء الدين العراقي
2025-08-20, 04:14 AM
قال أبو القاسم الأنصاري في شرح الإرشاد: "قال إمام الحرمين: القصد من التحديد في اصطلاح المتكلمين التعرض لخاصة الشيء وحقيقة التي يقع بها الفصل بينه وبين غيره". قال الأستاذ: "حد الشيء معناه الذي لأجله كان بالوصف المقصود بالذكر" قال أبو المعالي: "ولو قال قائل حد الشيء معناه واقتصر عليه كان سديد أو قال حد الشيء حقيقته أو خاصته كان حسنا". قال: "فإن قيل: إذا قلتم حد العلم أو حقيقة ما يعلم به فلم تذكروا خاصة العلم لأن العلم يشتمل على مختلفات ومتماثلات لا يجمع جميعها في خاصة واحدة فان المجتمعين في الأخص متماثلان؟ فنقول: إنما غرضنا أن نبين أن المذكور حدا هو خاصة وصف المحدود في مقصود الحد إذ ليس الغرض بالسؤال عن العلم التعرض لتفصيله وإنما الغرض معرفة العلمية بأخص وصف العلم الذي يشترك فيه ما يختلف منه وما يتماثل بما ذكرناه حيث قلنا أنه المعرفة أو ما يعلم به أو التبيين".
وهذا على طريقة الأستاذ ومن رام ذكر حد في قبيل المعلومات فإنما غرضه الوقوف على صفة يشترك فيها القبيل المسئول عنه على وجه يتضح للسائل.
أقول: كان الشيخ قد ذكر أن فائدة الحدود التمييز لا التصوير وأن هذا ما ذكره النظار فشرع ينقل عنهم فبدأ بكتاب الإرشاد في قواعد الاعتقاد للأستاذ أيي المعالي الجويني بشرح تلميذه أبي القاسم الأنصاري وذكر تعريف العلم بأنه المعرفة أو ما يعلم به الشيء أو التبيين، وذكر اعتراضا وهو أنه كيف يعرف العلم وهو مشتمل على معلومات متضادة فكيف تجمعها خاصة واحدة؟ وأجاب بأنه ليس المقصود بالتعريف هو ذكر تفاصيل المعلومات بل ذكر صفة شاملة للجميع وهي المعرفة ونحوها.

صفاء الدين العراقي
2025-08-20, 04:31 AM
قال أبو المعالي: "فان قيل الحد يرجع إلى قول المخبر أو إلى صفة في المحدود؟ قلنا: ما صار إليه كافة الأئمة أن الحد صفة المحدود سكت عنه الواصفون أم نطقوا وهو بمعنى الحقيقة" وقد ذكر القاضي في التقريب أن الحد قول الحاد المنبئ عن الصفة التي تشترك فيها آحاد المحدود ووافق الأصحاب في أن حقيقة الشيء ومعناه راجعان إلى صفة دون قول القائل وإنما بين ذلك في الحد لمشابهته الوصف ومشابهة الحقيقة الصفة ونحن نفصل بين الوصف والصفة" ثم قال القاضي: "من الأشياء ما يحد ومنها ما لا يحد وما من محقق إلا وله حقيقة ومن صار إلى أن الحد يرجع إلى حقيقة المحدود"
يقول: "ما من ذي حقيقة إلا وله حد نفيا كان أو إثباتا والغرض من التحديد التعرض لحقيقة الشيء التي بها يتميز عن غيره والشيء إنما يتميز عن غيره بنفسه وحقيقته لا بقول القائل".
أقول: هل الحد يرجع إلى وصف المتكلم أو إلى صفة الحد وحقيقته سكت عنه الواصفون أم نطقوا؟ قال: الذي صار إليه كافة الأئمة هو أن الحد يرجع إلى صفة الشيء الواقعية وحقيقته، وما من ذي حقيقة إلا وله حد نفيا كان أو إثباتا والغرض من التحديد التعرض لحقيقة الشيء التي بها يتميز عن غيره والشيء إنما يتميز عن غيره بنفسه وحقيقته لا بقول القائل.

صفاء الدين العراقي
2025-08-20, 04:42 AM
ثم قال أبو المعالي: "قال المحققون الاطراد والانعكاس من شرائط الحد وإذا كان الغرض من الحد تمييز المحدود بصفة عما ليس منه فليس يتحقق ذلك إلا مع الاطراد والانعكاس فالطرد هو تحقق المحدود مع تحقق الحد والعكس هو انتفاء المحدود مع انتفاء الحد.
وإذا قيل حد العلم هو العرض لم يطرد ذلك إذ ليس كل عرض علما فهذا نقض الحد ولو قلنا في حد العلم كل معرفة حادثة فهذا لا ينعكس إذ ثبت علم ليس بحادث والسائل عن حد العلم لم يقصد حد ضرب منه تخصيصا وإنما أراد الإحاطة بمعنى سائر العلوم.
وإذا قلنا العلم هو المعرفة فكل معرفة علم وكل علم معرفة وكل ما ليس بعلم فليس بمعرفة وكل ما ليس بمعرفة فليس بعلم وهذه عبارات أربع: عبارتان في النفي وعبارتان في الإثبات ولا تستقيم الحدود دون ذلك".
أقول: إذا ثبت أن الغرض من الحد هو تمييز المحدود فإنما يتحقق ذلك إذا كان جامعا مانعا، مثاله: إذا قيل: حدّ العلم: المعرفة. فهذا حد جامع مانع، بدليل صدق أربع عبارات لا بد منها في كل حد وهي: كل معرفة علم، وكل علم معرفة، وكل ما ليس بعلم فليس بمعرفة، وكل ما ليس بمعرفة فليس بعلم.

صفاء الدين العراقي
2025-08-20, 05:41 AM
قال أبو المعالي: "فان قال قائل: هل يجوز تركيب الحد من وصفين أم لا؟ قلنا: اختلف المتكلمون:.
فذهب كثير منهم إلى أن المركب ليس بحد وشيخنا أبو الحسن يميل إلى ذلك ويقدح في التركيب وليس المراد بمنع التركيب تكليف المسئول أن يأتي في حد ما يسأل عنه بعبارة واحدة إذ المقصود إتحاد المعنى بدون اللفظ والعبارات لا تقصد لأنفسها وليست هي حدودا بل هي منبئة عن الحدود، وقال شيخنا أبو الحسن في حد العلم مع منعه التركيب ":هو ما أوجب كون محله عالما" وهذا يشتمل على كلمات ولم يعد هذا تركيبا فان المقصود بالحد التعرض لصفة واحدة هو إيجاب العلم حكمه وكذلك إذا قيل في حد الجوهر ما قبل العرض فليس مركب وإن ذكر العرض وقبوله إياه ولكن المقصود بالحد التعرض للقبول فقط.
ثم التركيب فيه تقسيم فمنه باطل بالاتفاق ومنه مختلف فيه فالمتفق عليه هو أن يذكر الحاد معنيين يقع الاستقلال بأحدهما وذكر الآخر لغو في مقصود الحد وشرطه وأما المختلف فيه فكما يقول المعتزلة في حد المرئي ما يكون لونا أو متلونا فهم يصححون هذا الحد ولا يرون هذا التركيب قادحا قالوا لأن المقصود من الحد حصر المحدود مع التعرض للحقيقة فإذا قامت الدلالة على أن المتحيز يرى وعلى أن الألوان مرئية ولا يجتمع الألوان والجوهر في حقيقة واحدة إذ الأوصاف الجامعة لها محدودة منها الوجود والحدوث وباطل تحديد المرئي بالموجود أو المحدث إذ يلزم منه رؤية الطعوم والروائح والعلوم ونحوها فإذا لم يمكن الجمع بين الجواهر والألوان في صفة جامعة لها في حكم الرؤية غير منتقضة فلا وجه إلا ذكر الجواهر بخاصتها وذكر الألوان بحقيقتها.
ومعظم المتكلمين على الامتناع من مثل ذلك في الحدود وقالوا المتحيز وكون اللون هيئة حكمان متنافيان فينبغي أن لا يثبت لهما مع تباينهما حكم لا تباين فيه وهو كون المرئي مرئيا".
قال الأستاذ أبو المعالي: "وأحسن طريقة في هذا ما ذكره القاضي فإنه قال: "ما يذكر من معرفة الحدود ينقسم فربما يتأتى ضبط آحاد المحدود بصفة واحدة يشترك فيها جملة الآحاد نحو تحديدنا العلم ب المعرفة والشيئية ب الوجود وربما لا يتأتى ضبط جميع آحاد المحدود في صفة واحدة يشترك جميعها فيها فلو ذكر في حدها صفة جامعة لبطل فإذا كان الأمر كذلك وتأتي ضبط ما يسأل عنه بذكر صفتين يشتمل إحداهما على قبيل من المسئول والأخرى على القبيل الآخر لصح تحديده" قال القاضي: "ولو حقق ذلك لزال فيه الخلاف فان الذي يحد بصفتين لو قيل له أتدعي اجتماع القبلين في صفة واحدة؟ لما ادعاه ولو قيل لمطالبة أتنكر تحقيق الانحصار عند ذكر الصفتين لما وجد سبيلا إلى إنكار ذلك والحد ليس بموجب وإنما هو بيان وكشف وهذا المعنى يتحقق في الصفتين تحققه في الصفة الواحدة فآل الكلام إلى مناقشة في العبارة".
أقول: ذكر مسألة وهي: هل يجوز أن يتركب الحد من وصفين مثل: حيوان ناطق؟ ذهب أكثر المتكلمين إلى منعه، وإليه يميل كلام أبي الحسن الأشعري.
ثم قال: التركيب قسمان: فمنه باطل بالاتفاق ومنه مختلف فيه.
فالمتفق عليه هو أن يذكر الحاد معنيين يقع الاستقلال بأحدهما وذكر الآخر لغو في مقصود الحد وشرطه نحو حيوان ناطق، يحصل التمييز بقولنا: ناطق فقط.
وأما المختلف فيه فكما يقول المعتزلة في حد المرئي: ما يكون لونا أو متلونا. فهم يصححون هذا الحد ولا يرون هذا التركيب قادحا قالوا لأن المقصود من الحد حصر المحدود مع التعرض للحقيقة فإذا قامت الدلالة على أن المتحيز يرى وعلى أن الألوان مرئية ولا يجتمع الألوان والجوهر في حقيقة واحدة فإذا لم يمكن الجمع بين الجواهر والألوان في صفة جامعة لها في حكم الرؤية غير منتقضة فلا وجه إلا ذكر الجواهر بخاصتها وذكر الألوان بحقيقتها.
ومعظم المتكلمين على الامتناع من مثل ذلك في الحدود.
قال الأستاذ أبو المعالي: "وأحسن طريقة في هذا ما ذكره القاضي فإنه قال: "ما يذكر من معرفة الحدود ينقسم: فربما يتأتى ضبط آحاد المحدود بصفة واحدة يشترك فيها جملة الآحاد نحو تحديدنا العلم بالمعرفة وربما لا يتأتى ضبط جميع آحاد المحدود في صفة واحدة فلو ذكر في حدها صفة جامعة لبطل فإذا كان الأمر كذلك وتأتي ضبط ما يسأل عنه بذكر صفتين يشتمل إحداهما على قبيل من المسئول والأخرى على القبيل الآخر لصح تحديده.

صفاء الدين العراقي
2025-08-20, 05:50 AM
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب:"وإن قال لنا قائل: ما حد العلم عندكم قلنا: حده معرفة المعلوم على ما هو به. والدليل على ذلك أن هذا الحد يحصره على معناه ولا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج منه شيء هو فيه، والحد إذا أحاط بالمحدود على هذا السبيل وجب أن يكون حدا ثابتا صحيحا فكلما حد به العلم وغيره وكانت حاله في حصر المحدود وتميزه من غيره وإحاطته به حال ما حددنا به العلم وجب الاعتراف بصحته وقد ثبت أن كل علم تعلق بمعلوم فإنه معرفة له على ما هو به، وكل معرفة بمعلوم فإنها علم به، فوجب توثيق الحد الذي حددنا به العلم وجعلناه تفسيرا لمعنى وصفه بأنه علم".
قلت: فقد بين القاضي أن كل ما أحاط بالمحدود بحيث لا يدخل فيه ما ليس منه ولا يخرج منه ما هو منه كان حدا صحيحا.
أقول: نقل الشيخ عن القاضي أبي الطيب في كتابه تمهيد الدلائل في تعريف العلم: بأنه معرفة المعلوم على ما هو به. وبين القاضي أن كل ما كان جامعا مانعا فهو حد صحيح لحصول التمييز.

صفاء الدين العراقي
2025-08-20, 04:48 PM
وقد ذكر الغزالي في كتابه الكبير في المنطق الذي سماه معيار العلم مذهب المتكلمين هذا بعد أن ذكر استعصاء الحد على طريقة المنطقيين فقال:
الفصل السابع: في استعصاء الحد على القوى البشرية إلا عند غاية التشمير والجهد:
ومن عرف ما ذكرناه من مثارات الاشتباه في الحد عرف أن القوة البشرية لا تقوى على التحفظ عن كل ذلك إلا على الندور وهي كثيرة وأعصاها على الذهن أربعة أمور:
أحدها: أنا شرطنا أن نأخذ الجنس الأقرب ومن أين للطالب أن لا يغفل عنه؟ فيأخذ جنسا يظن أنه أقرب وربما يوجد ما هو أقرب منه فيحد الخمر بأنه مائع مسكر ويذهل عن الشراب الذي هو تحته وهو أقرب منه ويحد الإنسان بأنه جسم ناطق مائت ويغفل عن الحيوان وأمثاله.
الثاني: أنا إذا شرطنا أن تكون الفصول ذاتية كلها واللازم الذي لا يفارق في الوجود والوهم يشتبه بالذاتي غاية الاشتباه ودرك ذلك من أغمض الأمور فمن أين له أن لا يغفل فيأخذ لازما فيورده بدل الفصل ويظن أنه ذاتي.
الثالث: أنا شرطنا أن يأتي بجميع الفصول الذاتية حتى لا يحل بواحد ومن أين يأمن من شذوذ بعضها عنه لا سيما إذا وجد فصلا حصل به التمييز والمساواة في الاسم في الحمل كالجسم ذي النفس الحساس ومساواته لفظ الحيوان مع إغفال المتحرك بالإرادة وهذا من أغمض ما يدرك.
الرابع: أن الفصل مقوم للنوع مقسم للجنس فإذا لم يراع شرط التقسيم أخذ في القسمة فصولا ليست أولية للجنس وهو غير مرضي في الحدود فان الجسم كما أنه ينقسم إلى النامي وغير النامي انقساما بفصل ذاتي فكذلك ينقسم إلى الحساس وغير الحساس والى الناطق وغير الناطق فمهما قيل الجسم ينقسم إلى الناطق وغير الناطق فقد قسم بما ليس هو الفصل القاسم أوليا بل ينبغي أن يقسم أولا إلى النامي وغير النامي ثم النامي ينقسم إلى الحيوان وغير الحيوان ثم الحيوان إلى الناطق وغير الناطق وكذلك الحيوان ينقسم إلى ذي رجلين والى ذي أرجل ولكن هذا التقسيم ليس ل فصول أولية بل ينبغي أن يقسم الحيوان إلى ماش وغير ماش ثم الماشي ينقسم إلى ذي رجلين وذي أرجل إذ الحيوان لم يستعد ل الرجلين والأرجل باعتبار كونه حيوانا بل باعتبار كونه ماشيا واستعد لكونه ماشيا باعتبار كونه حيوانا.
فرعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحد وهي في غاية العسر.
ولذلك لما عسر اكتفى المتكلمون بالتمييز وقالوا أن الحد هو القول الجامع المانع ولم يشترطوا فيه إلا التمييز.
ويلزم عليه الاكتفاء ب الخواص فيقال في حد الفرس أنه الصهال وفي حد الإنسان أنه الضحاك وفي الكلب أنه النباح وذلك في غاية البعد عن غرض التعريف لذات المحدود.
أقول: الغزالي يخالف جمهور المتكلمين فيذهب مذهب أرسطو في صناعة الحد ويقول إن التمكن من صوغ حد تام ينطبق على ما يشترطه المناطقة في غاية العسر لأمور:
1- أنه لا بد عندهم من الجنس الأقرب للمحدود وقد يشتبه على الحاد فيأخذ جنسا أبعد كتعريفه الخمر بأنه: مائع مسكر، وثمة أقرب وهو شراب مسكر.
2- أنه لا بد من الفصل في الحد ولا يصلح بدله الخاصة وهما يشتبهان غاية الاشتباه.
3- أنه لا بد من جميع الفصول في الحد ولا يكفي حد الحيوان مثلا بأن جسم نام حساس. بل لا بد أن يأتي بالمتحرك بالإرادة وإن حصل التمييز التام بالحساس وهذا عسير.
4- أن الفصل كما يقوم النوع يقسم الجنس كالناطق فهو يقوم الإنسان ويحصل حقيقته وهو بنفس الوقت يقسم الجنس الذي هو الحيوان إلى ناطق وغير ناطق كالحمار، فإذا علم هذا فيجب أن يقسم الجنس باعتبار فصوله الأولية لا الفصول البعيدة فان الجسم كما أنه ينقسم إلى النامي وغير النامي انقساما بفصل ذاتي فكذلك ينقسم إلى الحساس وغير الحساس والى الناطق وغير الناطق فمهما قيل الجسم ينقسم إلى الناطق وغير الناطق فقد قسم بما ليس هو الفصل القاسم أوليا بل ينبغي أن يقسم أولا إلى النامي وغير النامي ثم النامي ينقسم إلى الحيوان وغير الحيوان ثم الحيوان إلى الناطق وغير الناطق.

صفاء الدين العراقي
2025-08-20, 08:07 PM
ثم قال: الفن الثاني: في الحدود المفصلة
إعلم أن الأشياء التي يمكن تحديدها لا نهاية لها لأن العلوم التصديقية غير متناهية وهي تابعة للتصورات وأقل ما يشتمل عليه التصديق تصوران وعلى الجملة فكل ما له اسم يمكن تحرير حده ورسمه أو شرح اسمه وإذا لم يكن في الاستقصاء مطمع فالأولى الاقتصار على القوانين المعرِّفة لطريقه وقد حصل ذلك بالفن الأول.
ولكنا أوردنا حدودا مفصلة لفائدتين:
إحداهما: أن تحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه فإن الامتحان والممارسة للشيء يفيد قوة عليه لا محالة.
الثانية: أن يقع الاطلاع على معاني أسماء أطلقها الفلاسفة وقد أوردناها في كتاب تهافت الفلاسفة إذ لم يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم اصطلاحهم وإذا لم نفهم ما أوردناه من اصطلاحهم لا يمكن مناظرتهم
فقد أوردنا ألفاظا أطلقوها في الإلهيات والطبيعات وشيئا قليلا من الرياضيات.
فلتؤخذ هذه الحدود على أنها شرح الاسم فان قام البرهان على أن ما شرحوه هو كما شرحوه اعتقد حدا وإلا اعتقد شرحا للاسم.
كما يقال: حد الجني حيوان هوائي ناطق مشف الجرم من شانه أن يتشكل بأشكال مختلفة. فيكون هذا شرحا للاسم في تفاهم الناس فأما وجود هذا الشيء على هذا الوجه فيعرف بالبرهان فإن دل على وجوده كان حدا بحسب الذات وإن لم يدل عليه بل دل على أن الجني المراد به في الشرع موجود آخر كان هذا شرحا للاسم في تفاهم الناس.
وكما تقول في حد الخلاء أنه بعد يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة قائم لا في مادة من شأنه أن يملأه جسم ويخلو عنه. وربما دل الدليل على أن ذلك محال فيؤخذ على أنه شرح للاسم في إطلاق النظار.
وإنما قدمنا هذه المقدمة ليعلم أن ما نورده من الحدود شرح لما أراده الفلاسفة بالإطلاق لا حكم بأن ما ذكروه كما ذكروه فان ذلك مما يتوقف على ما يوجبه البرهان.
أقول: سيأتي ما يتعلق بذلك في كلام الشيخ أعني الحد بحسب الاسم وبحسب الحقيقة.

صفاء الدين العراقي
2025-08-20, 08:17 PM
قلت: ما ذكره من صعوبة الحد على الشروط التي ذكرها حق لو كان المقصود بالحد تصوير الحدود كما يدعونه وكان ذلك ممكنا لكن ما ذكروه في الحد باطل فإنه يمتنع أن يحصل بمجرد الحد تصور المحدود وما ذكروه من الفرق بين الصفات الذاتية المقومة الداخلة في الماهية والصفات الخارجة اللازمة أمر باطل لا حقيقة له وما أوجبوه من ذكر الصفتين في الحدود هو مما يحظره المتكلمون فيمتنعون منه في الحد والتحقيق أنه لا واجب ولا محظور كما قد بيناه في موضع آخر.
وكل ما يذكرونه من الحدود فانما يفيد التمييز وإذا كان لا يحصل بالحد إلا التمييز فالتمييز قد يحصل بالفصل والخاصة فعلم أن طريقة المتكلمين أسد في تحصيل المقصود الصحيح بالحدود.
وأما قوله: إن ذلك في غاية البعد عن التعريف لذات المحدود. فيقال: وكذلك سائر الحدود هي غير محصلة لتصوير ذات المحدود كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
أقول: يبدأ الشيخ كلامه في الرد على الغزالي والمناطقة بمنع التفريق بين الذاتي والعرضي، وأن الفرق بينهما باطل لا يصح وأن التمييز للمحدود كما يحصل بالفصل يحصل بالخاصة. وسيأتي الكلام على إبطال الفرق بين الذاتي والعرضي مفصلا فلتنتظر فإن ذلك من أهم المطالب.

صفاء الدين العراقي
2025-08-20, 11:07 PM
وما ذكره من الوجوه حجة عليهم.
فإنّ ما ذكره من لزوم أخذ الجنس القريب أمر اصطلاحي وذلك أنه إذا أخذ البعيد كان الفصل يدل على القريب بالتضمن أو الالتزام كدلالة القريب على البعيد فالناطق عندهم يدل على الحيوان والمسكر على الشراب كما يدل الحيوان على الجسم وكما يدل الشراب على المائع سواء جعلوا هذه دلالة تضمن أو التزام فان كانوا يكتفون بمثل هذه الدلالة كان الفصل كافيا وإن كانوا لا يكتفون إلا بما يدل على الذاتيات بالمطابقة لم يكن ذكر الجنس القريب وحده كافيا.
فإذا قال: مائع مسكر. كان لفظ المسكر يدل عل أنه الشراب فان المسكر ههنا أخص عندهم من الشراب ومن المائع وهو فصل كالناطق للإنسان ومعلوم حينئذ أن كل مسكر شراب كما أن كل ناطق حيوان كما أنه إذا قيل في الإنسان جسم ناطق فالناطق عندهم أخص من الجسم ومن الحيوان وهو يدل على الحيوان بالتضمن أو الالتزام ودل لفظ المائع على الجنس البعيد بالمطابقة.
وإذا قال: شراب مسكر دلّ قوله شراب على أنه مائع بالتضمن أو الالتزام عندهم ودل على الجنس القريب بالمطابقة فصار الفرق بينهما أنه تارة يدل على الجنس البعيد بالمطابقة والقريب بالتضمن وتارة بالعكس.
فإذا قالوا الأحسن أن يدل على القريب بالمطابقة لأنه أخص بالمحدود وكلما كان أخص كان أكثر تمييزا قيل ليس في ذلك اختصاص أحد الحدين بتصوير الماهية دون الآخر بل بأنه أتم تمييزا.
وهذا تكلم على المعنى الذي ذكره في حد الخمر بحسب ما قاله فالخمر اسم للمسكر عند الشارع سواء كان مائعا أو جامدا طعاما أو شربا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" فلو كان الخمر جامدة وأكلها كانت خمرا باتفاق المسلمين.
أقول: إن ما ذكروه من وجوب أخذ الجنس القريب في الحد أمر اصطلاحي تواضعي لا علاقة له بتصوير الماهية؛ وذلك أنه إذا حد النوع بالجنس البعيد والفصل؛ فإن الفصل سيدل على الجنس القريب بالالتزام أو التضمن عندهم؛ فيكون قولنا في تعريف الإنسان: جسم ناطق. دال على الحيوانية إذ كل ناطق حيوان؛ فالقريب وإن لم يذكر لفظا في الحد فهو متضمن فيه؛ فإن اكتفوا بهذه الدلالة بطل قولهم بوجوب أخذ الجنس القريب في الحد.
وإن لم يكتفوا بهذه الدلالة وقالوا لا بد من ذكر الذاتيات بالمطابقة تفصيلا لم يكن ذكر الجنس القريب مع الفصل كافيا؛ لأنه إذا قيل في تعريف الإنسان: حيوان ناطق، فلم يذكر في التعريف الجنس البعيد وهو الجسم وهو ذاتي للإنسان، وإنما يدل الحيوان على الجسم بالتضمن أو الالتزام عندهم، فصار الفرق بينهما أنه تارة يدل على الجنس البعيد بالمطابقة والقريب بالتضمن كما في قولنا: جسم ناطق، وتارة يدل على الجنس القريب بالمطابقة وبالبعيد بالتضمن كما في قولنا: حيوان ناطق.
فإذا قالوا الأحسن أن يدل على القريب بالمطابقة لأنه أخص بالمحدود وكلما كان أخص كان أكثر تمييزا.
قيل ليس في ذلك اختصاص أحد الحدين بتصوير الماهية دون الآخر بل بأنه أتم تمييزا.

صفاء الدين العراقي
2025-08-21, 03:46 AM
وأما الوجه الثاني: فقوله ":اللازم الذي لا يفارق في الوجود والوهم يشتبه بالذاتي غاية الاشتباه" كلام صحيح بل ليس بينهما في الحقيقة فرق إلا بمجرد الوضع والاصطلاح كما قد بين في غير هذا الموضع وبين أنهم في هذا الوضع المنطقي والاصطلاح المنطقي فرقوا بين المتماثلين وسووا بين المختلفين.
وهذا وضع مخالف لصريح العقل وهو أصل صناعة الحدود الحقيقية عندهم فتكون صناعة باطلة إذ الفرق بين الحقائق لا يكون بمجرد أمر وضعي بل بما هي عليه الحقائق في نفسها وليس بين ما سموه ذاتيا وما سموه لازما للماهية في الوجود والذهن فرق حقيقي في الخارج وإنما هي فروق اعتبارية تتبع الوضع واختيار الواضع وما يفرضه في ذهنه وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع وذكرنا ألفاظ أئمتهم في هذا الموضع وتفسيرها.
وإن حاصل ما عندهم أن ما يسمونه ماهية هي ما يتصوره الذهن فإن أجزاء الماهية هي تلك الأمور المتصورة فإذا تصور جسما ناميا حساسا متحركا بالإرادة ناطقا أو ضاحكا كان كل جزء من هذه الأجزاء هو المعنى المتصور وكان داخلا في هذا التصور وإن تصور حيوانا ناطقا كان أيضا كل منهما جزءا مما تصوره داخلا فيه وكان ما يلزم هذه الصورة الذهنية مثل كونه حيا وحساسا وناميا هو لازما لهذا المتصور في الذهن فالماهية بمنزلة المدلول عليه بالمطابقة وجزؤها المقوم لها الداخل فيها الذي هو وصف ذاتي لها بمنزلة المدلول عليه التضمن واللازم لها الخارج عنها بمنزلة المدلول عليه بالالتزام ومعلوم أن هذا أمر يتبع ما يتصوره الإنسان سواء كان مطابقا أو غير مطابق ليس هو تابع للحقائق في نفسها.
وأصل غلط هؤلاء أنه اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان فالإنسان إذا حد شيئا كالإنسان مثلا بمن هو جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق كان هذا القول له لفظ ومعنى فكل لفظ من ألفاظه -له معنى من هذه المعاني- جزء هذا الكلام.
أقول: سيأتي قريبا في كلام الشيخ التعرض للذاتي والعرضي.

صفاء الدين العراقي
2025-08-21, 04:05 AM
وأما قوله في الثالث":إنه يشترط جميع الفصول" فهذا كاشتراط الجنس وليس في ذلك ما يفيد تصوير الماهية وأما التمييز فيحصل بدون ذلك وهذا أمر وضعي والمتكلمون قد اتفقوا على أنه لا يجوز الجمع بين وصفين متساويين في العموم والخصوص ضد ما يوجبه هؤلاء فلا يجمع بين فصلين وهذا كما إذا حد الحيوان بأنه جسم نام حساس متحرك بالإرادة فالحساس والمتحرك بالإرادة فصلان والمنطقيون يوجبون ذكرهما والمتكلمون يمنعون من ذكرهما جميعا ويأمرون بالاقتصار على أحدهما.
أقول: ذكر جميع الفصول لن يوصل لتصور الماهية كذكر الجنس معها، وتقدم أن المتكلمين قد اتفقوا على أنه لا يجوز الجمع بين وصفين متساويين كالجمع بين الحساس والمتحرك بالإرادة ويأمرون بالاقتصار على أحدهما ضد ما يوجبه هؤلاء المناطقة وتقدم أن الشيخ يرى التوسط بين الفريقين فلا الذكر واجب ولا الحذف واجب عنده.

صفاء الدين العراقي
2025-08-21, 05:13 AM
أما الوجه الرابع: فإنه من جنس أخذ الجنس البعيد بدل القريب فإن تقسيم الجنس بالفصول الآخرية دون الأولية مثل تقويم النوع بالأجناس الأولية دون الآخرية.
أقول: تقدم أن أخذ الجنس البعيد بدل القريب لا يضر لأن الفصل سيدل على القريب، وكذا الحال هنا فإن تقسيم الجنس بالفصول البعيدة مثل تقويم النوع بالجنس البعيد، فمتى قيل في تقسيم الجسم إلى حيوان وغير حيوان، فقد دل الحيوان على النامي بالتضمن، وهم يشترطون أن يقسم الجسم أولا إلى النامي وغيره، ثم يقسم النامي إلى الحيوان وغيره ونقول إذا قيل: جسم حساس متحرك بالإرادة فقد دل على النامي.

صفاء الدين العراقي
2025-08-21, 05:26 AM
وقوله "رعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحد وهو في غاية العسر" فيقال:
هذه صناعة وضعية اصطلاحية ليست من الأمور الحقيقية العلمية وهي مع ذلك مخالفة لصريح العقل ولما عليه الوجود في مواضع فتكون باطلة ليست من الأوضاع المجردة كوضع أسماء الأعلام فان تلك فيها منفعة وهي لا تخالف عقلا ولا وجودا وأما وضعهم فمخالف لصريح العقل والوجود ولو كان وضعا مجردا لم يكن ميزانا للعلوم والحقائق فان الأمور الحقيقية العلمية لا تختلف باختلاف الأوضاع والاصطلاحات كالمعرفة بصفات الأشياء وحقائقها فالعلم بأن الشيء حي أو عالم أو قادر أو مريد أو متحرك أو ساكن أو حساس أو غير حساس ليس هو من الصناعات الوضعية بل هو من الأمور الحقيقية الفطرية التي فطر الله تعالى عباده عليها كما فطرهم على أنواع الإرادات الصحيحة والحركات المستقيمة.
لاسيما وهؤلاء يقولون: أن المنطق ميزان العلوم العقلية ومراعاته تعصم الذهن عن أن يغلط في فكره كما أن العروض ميزان الشعر والنحو والتصريف ميزان الألفاظ العربية المركبة والمفردة وآلات المواقيت موازين لها.
ولكن ليس الأمر كذلك فان العلوم العقلية تعلم بما فطر الله عليه بني آدم من أسباب الإدراك لا تقف على ميزان وضعي لشخص معين ولا يقلد في العقليات أحد بخلاف العربية فإنها عادة لقوم لا تعرف إلا بالسماع وقوانينها لا تعرف إلا بالاستقراء بخلاف ما به يعرف مقادير المكيلات والموزونات والمذروعات والمعدودات فإنها تفتقر إلى ذلك غالبا لكن تعيين ما به يكال ويوزن بقدر مخصوص أمر عادي كعادة الناس في اللغات.
وقد تنازع علماء المسلمين في مسمى الدرهم والدينار هل هو مقدر بالشرع أو المرجع فيه إلى العرف؟ على قولين أصحهما الثاني وعلى ذلك يبنى النصب الشرعي هل هو مائتا درهم يوزن معين أو مائتا درهم مما يتعامل بها الناس؟ باعتبار تقررها.
وأما ما ذكروه من صناعة الحد فلا ريب أنهم وضعوها وهم معترفون بأن الواضع لها أرسطو وهم يعظمونه بذلك ويقولون لم يسبقه أحد إلى جميع أجزاء المنطق وتنازعوا هل سُبق إلى بعض أجزائه على قولين.
أقول: يهاجم الشيخ المنطق ويعتبره صناعة وضعية اصطلاحية وليست من باب الحقائق العلمية كما أنها قد خالفت ما عليه الواقع والوجود في مواضع فتكون تلك الصناعة باطلة، وقد اتفقوا على أن أرسطو لم يسبقه أحد إلى جمع جميع أجزاء المنطق وتنازعوا هل سبقه أحد إلى بعض أجزائه على قولين.

صفاء الدين العراقي
2025-08-21, 05:39 AM
وأجزاء المنطق ثمانية: ١- المفردات وهى المقولات المعقولة المفردة و ٢- التركيب الأول وهو تركيب القضايا و ٣- التركيب الثاني وهو تركيب القياس من القضايا ثم ٤- البرهاني و ٥- الجدلي و ٦- الخطابي و ٧- الشعري و ٨- السفسطة.
ويسمون الجزء الأول إيساغوجي وقد يقولون أن فرفوريوس هو الذي أدخل ذلك المنطق بعد أرسطو.
وقد يجعلون القياس والبرهان واحدا ويجعلون أجزاءه سبعة ويقولون: هذا قول أرسطو.
والجزء الثاني الذي يشتمل على المقدمات يسمونه هرمينياس ومعناه العبارات.
والثالث الذي يشتمل على القياس المطلق يسمونه انولوطيقيا الأول.
والبرهاني يسمونه انولوطيقا الثاني.
والجدلي يسمونه طوبيقا.
والخطابي يسمونه ديطويقا.
والشعري يسمونه اوقيوطيقا.
والسفسطة يسمونه سوفسطيقا.
وهذه عبارات يونانية فإذا تكلمت بها العرب فإنها تعربها وتقربها إلى لغاتها كسائر ما تكلمت به العرب من الألفاظ المعجمة فلهذا توجد ألفاظها مختلفة.
وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع وعامة الأمم بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم فان أرسطو كان وزيرا للاسكندر بن فيلبس المقدوني وليس هذا ذا القرنين المذكور في القرآن كما يظنه كثير منهم بل هذا كان قبل المسيح بنحو ثلثمائه سنة.
وجماهير العقلاء من جميع الأمم يعرفون الحقائق من غير تعلم منهم بوضع أرسطو وهم إذا تدبروا أنفسهم وجدوا أنفسهم تعلم حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية.
ثم أن هذه الصناعة زعموا أنها تفيد تعريف حقائق الأشياء ولا تعرف إلا بها وكلا هذين غلط ولما راموا ذلك لم يكن بد من أن يفرقوا بين بعض الصفات وبعض إذ جعلوا التصور بما جعلوه ذاتيا فلا بد أن يفرقوا بين ما هو ذاتي عندهم وما ليس كذلك ولا بد أن يرتبوا ذكرها على ترتيب مخصوص إذ لا تذكر على كل ترتيب فكانت الصفات الذاتية مادة الحد الوضعي والترتيب الذي ذكروه هو صورته.
ولما كان ذلك مستلزما للتفريق بين المتماثلين أو المتقاربين كان ممتنعا أو عسرا إذ يفرقون بين صفة وصفة يجعل أحدهما ذاتية دون أخرى مع تساويهما أو تقاربهما ويفرقون بين ترتيب وترتيب بجعل أحدهما معرفا للحقيقة دون الآخر مع تساويهما أو تقاربهما وطلب الفرق بين المتماثلات طلب ما لا حقيقة له فهو ممتنع وإن كان بين المتقاربين كان عسرا فالمطلوب إما متعذرا وإما متعسرا فان كان متعذرا بطل بالكلية وإن كان متعسرا فهو بعد حصوله ليس فيه فائدة زائدة على ما كان يعرف قبل حصوله فصاروا بين أن يمتنع عليهم ما شرطوه أو ينالوه ولا يحصل به ما قصدوه وعلى التقديرين ليس ما وضعوه من الحد طريقا لتصور الحقائق في نفس من لا يتصورها بدون الحد وإن كان الحد قد يفيد من تنبيه المخاطب وتمييز المحدود ما قد تفيده الأسماء كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
أقول: بين أجزاء المنطق المشهورة وذكر أن الناس تعرف حقائق الأشياء بدون الوضع المنطقي وأن المناطقة تكلفوا في صناعة الحد في أمرين:
في التفريق بين الصفات المتماثلة أو المتقاربة فاختاروا بعضها واستبعدوا البعض الآخر.
رتبوا ذكر تلك الصفات على نحو معين وألزموا الناس به وجعلوا الترتيب الذي ابتدعوه هو الموصل إلى تصور الحقيقة دون غيره من التراتيب رغم تساويهما أو تقاربهما.
وكلا الأمرين مخالف للفطرة.

صفاء الدين العراقي
2025-08-21, 06:06 AM
وما ذكروه من الفرق بين الحد وشرح الاسم فتلخيصه أن المحدود المميز عن غيره إذا تصورت حقيقته فقد يكون هو الموجود الخارجي وقد يكون هو المراد الذهني وقد يراد بالحد تمييز ما عناه المتكلم بالاسم وتفهيمه سواء كان ذلك المعنى الذي أراده بالاسم ثابتا في الخارج أو لم يكن وقد يراد به تمييز ما هو موجود في الخارج وهذا شأن كل من فسر كلام متكلم أو شرحه فقد يفسر مراد المتكلم ومقصودة سواء كان مطابقا للخارج أو لم يكن وقد يتبين مع ذلك أنه مطابق.
للأمر الخارج وأنه حق في نفسه.
وإذا كان الكلام غير حق لم يكن مطابقا للخارج فيريد المستمع أن يطابق بينه وبين الواقع فلا يطابقه ولا يوافقه حتى قد يظن الظان أن الشارح أو المستمع لم يفهم مقصود المتكلم لعسرته ولا يكون كذلك بل لأن ما ذكره من الكلام ليس بمطابق للواقع فلا يمكن مطابقته إياه وقد يكون ظن من ظنه مطابقا للخارج إحسانا للظن بالمتكلم ويكون قد ظن أنه لم يفهمه لدقته عليه فلا يكون كذلك.
وقولهم في الحد الحقيقي أنه متعسر وإنه لا يتوقف عليه إلا آحاد الناس هو من هذا الباب فان الحد الحقيقي إذا أريد به ما زعموه فإنه لا حقيقة له في الخارج إذ يريدون به أن الموصوف في نفسه مؤلف من بعض صفاته اللازمة له التي بعضها أعم منه وبعضها مطابق له دون بعض صفاته اللازمة المساوية لتلك العامة في العموم وللمطابقة في المطابقة دون بعض وأن حقيقته هي مركبة من تلك الصفات دون غيرها وأن تلك الحقيقة يصورها الحد دون غيره فهذا ليس بحق.
فدعواهم تأليفه من بعض الصفات اللازمة دون بعض باطلة بل دعواهم أنه مركب من الصفات باطلة ودعواهم له حقيقة ثابتة في الخارج يصورها الحد دون غيره باطلة وإنما الواقع أن المحدود الموصوف الذي ميز بالاسم أو الحد عن غيره قد يكون ثابتا في الخارج وقد يكون ثابتا في نفس المتكلم بالاسم أو الحد وهو يظن ثبوته في الخارج وليس كذلك.
وبهذا يقال الحد يكون تارة بحسب الاسم وتارة بحسب المسمى ويقال الحد يكون تارة بحسب اسم الشيء وتارة بحسب حقيقته وإن كان الحد بحسب الاسم قد يكون مطابقا للخارج لكن المقصود أن الحد تارة يميز بين المراد باللفظ وغير المراد وتارة يميز بين الموجود في الخارج من الأعيان وبين غيره وهذا التمييز إنما يحصل بواسطة ذلك فالتمييز الذي في النفس يجب أن يكون مطابقا للتمييز في الخارج والتمييز الذي يحصل للمستمع هو بواسطة التمييز الذي في نفس المتكلم والله أعلم.
أقول: تقدم بيان الغزالي حول هذا الأمر فقد كان واضحا وهو أنه تارة يعرف الشيء بالنظر لشرح الاسم كما تعرف العقول عند الفلاسفة فهذا شرح لمعناه عندهم وإن كنا نعلم أن هذه العقول العشرة هي خرافة يونانية فليس المقصود بالتعريف عكس الحقيقة الخارجية بل شرح مصطلح يستعمله بعض الناس، وتارة يعرف الشيء بحسب حقيقته التي هو عليها في الخارج كما يعرف المثلث مثلا.

صفاء الدين العراقي
2025-08-21, 05:00 PM
وقد تفطن أبو عبدا لله الرازي بن الخطيب لما عليه أئمة الكلام وقرر في محصله وغيره أن التصورات لا تكون مكتسبة وهذا هو حقيقة قول القائلين أن الحد لا يفيد تصوير المحدود.
لكنه لم يهتد هو وأمثاله إلى ما سبق إليه أئمة الكلام في هذا المقام.
وهذا مقام شريف ينبغي أن يعرف فانه بسبب إهماله دخل الفساد في العقول والأديان على كثير من الناس إذ خلطوا ما ذكره أهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جاءت به الرسل التي عند المسلمين واليهود والنصارى بل وسائر العلوم كالطب والنحو وغير ذلك.
وصاروا يعظمون أمر الحدود ويدعون أنهم هم المحققون لذلك وأن ما يذكره غيرهم من الحدود إنما هي لفظية لا تفيد تعريف الماهية والحقيقة بخلاف حدودهم ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهائلة وليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان وإتعاب الأذهان وكثرة الهذيان ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان وشغل النفوس بما لا ينفعها بل قد يضلها عما لا بد لها منه وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب وإن ادعوا أنه أصل المعرفة والتحقيق.
وهذا من توابع الكلام الذي كان السلف ينهون عنه وإن كان الذي نهوا عنه خيرا من هذا وأحسن إذ هو كلام في أدلة وأحكام ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون أن يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين كما دخل في ذلك متأخروهم الذين يظنون ذلك من التحقيق وإنما هو زيغ عن سواء الطريق.
ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها لا تفيد الإنسان علما لم يكن عنده وإنما تفيده كثرة كلام سموهم أهل الكلام
وهذا - لعمرى - في الحدود التي ليس فيها باطل فأما حدود المنطقيين التي يدعون أنهم يصورون بها الحقائق فإنها باطلة يجمعون بها بين المختلفين ويفرقون بين المتماثلين.
أقول: يقول الشيخ ويؤكد غير ما مرة: إن الحدود لا تفيد معرفة المحدود لمن لم يكن عرفه من قبل، وهنا يقول إن الرازي قد تفطن لما عليه أئمة الكلام وقرر في كتبه أن التصورات لا تكون مكتسبة بالحدود وهذا هو ما نقوله.
وننقل كلام الرازي في الأربعين في أصول الدين في المسألة الأربعين في ضبط المقدمات التي يمكن الرجوع إليها في إثبات المطالب العقلية وهي خاتمة الكتاب ج 2 ص 312 وما بعدها قال:
العلم إما تصور و إما تصديق. و التصورات إما أن يقال: إنها بأسرها مكتسبة، و هو باطل. لأنه يفضي إلى الدور أو التسلسل.
و اما أن تكون كلها بديهية- و هو الذي أقول به- و إما أن يكون بعضها بديهيا و بعضها كسبيا. و الذي يدل على ما اخترته: هو أن التصور الذي يطلب اكتسابه. إن لم يكن مشعورا به أصلا، كان الذهن غافلا عنه، فيمتنع طلبه. و إن كان مشعورا به، كان تصوره حاضرا.
ثم قال: أما القدماء. فقد احتجوا على قولهم: بأنا نجد من أنفسنا أنا نطلب تصور حقائق الأشياء. كقولنا: ما الملك؟ وما الروح؟ و ذلك يدل على أن التصورات قد تكون مكتسبة.
واعلم: أن الجواب عنه مبني على مقدمة وهى: أنه لا يمكننا أن نتصور شيئا، إلا ما ندركه بإحدى الحواس الخمس، أو نجده من النفس، كالألم واللذة والفرح والغضب، أو ما يركبه العقل والخيال من أحد هذه الأمور كشجر من ياقوت، و بحر من زئبق.
اذا عرفت هذا، فنقول: قول القائل: ما الملك؟ وما الروح؟ معناه: أنك تشير بهذا اللفظ إلى هذه [الصور] الحاضرة فى الذهن، فكان هذا الاستفهام فى تعيين المراد بهذا اللفظ.
وأما التصديقات فلا شك أنها قسمان: بعضها بديهية، وبعضها كسبية. ولا شك أن المكتسب إنما يكتسب من تركيب البديهيات. اهـ.

صفاء الدين العراقي
2025-08-21, 10:38 PM
ونحن نبين أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق وأن حدود أهل المنطق التي يسمونها حقيقية تفسد العقل والدليل على ذلك وجوه:
أحدها: أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه فإنه إذا قال حد الإنسان مثلا أنه الحيوان الناطق أو الضاحك فهذه قضية خبرية ومجرد دعوى خلية عن حجة فإما أن يكون المستمع لها عالما بصدقها بدون هذا القول وأما أن لا يكون فان كان عالما بذلك ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد وإن لم يكن عالما بصدقه بمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم كيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله فقد تبين أنه على التقديرين ليس الحد هو الذي يفيده معرفة المحدود.
فإن قيل: الحد ليس هو الجملة الخبرية وإنما هو مجرد قولك حيوان ناطق وهذا مفرد لا جملة وهذا السؤال وارد على أحد اصطلاحيهم فإنهم تارة يجعلون الحد هو الجملة كما يقول الغزالي وغيره وتارة يجعلون الحد هو المفرد المقيّد كالاسم وهو الذي يسمونه التركيب التقييدي كما يذكر ذلك الرازي ونحوه.
قيل التكلم بالمفرد لا يفيد ولا يكون جوابا للسائل سواء كان موصوفا مركبا تركيبا تقييديا أو لم يكن كذلك.
ولهذا لما مر بعض العرب بمؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله بالنصب قال: فعل ماذا.
فإذا قيل: ما هذا قيل طعام فهذا خبر مبتدأ محذوف باتفاق الناس تقديره هذا طعام كقوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وقوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} إلى قوله: {قل الله} وكقوله: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} أي هم ثلاثة وهم خمسة وهم سبعة.
ومنه قوله تعالى: {وقل الحق من ربكم} أي هذا الحق من ربكم ليس كما يظنه بعض الجهال أي قل القول الحق فان هذا لو أريد لنصب لفظ الحق والمراد إثبات أن القرآن حق ولهذا قال: {الحق من ربكم} ليس المراد ههنا بقول حق مطلق بل هذا المعنى مذكور في قوله: {وإذا قلتم فاعدلوا} وقوله: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق .
ثم إذا قدر أن الحد هو المفرد فالمفرادات أسماء وغاية السائل أن يتصور مسماها لكن من أين له إذا تصور مسماها أن هذا المسمى هو المسئول عنه وأن هذا المسمى هو حقيقة المحدود؟.
فان قيل يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك أو غير ذلك بل تصور إنسان.
قيل فحينئذ يكون هذا كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه وهو دلالة الاسم على مسماه كما لو قيل الإنسان وهذا يحقق ما قلناه من أن دلالة الحد كدلالة الاسم وهذا هو قول أهل الصواب الذين يقولون الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال وحينئذ فيقال أن لا نزاع بين العقلاء أن مجرد الاسم لا يوجب تصوير المسمى لمن لم يتصوره بدون ذلك وإنما الاسم يفيد الدلالة عليه والإشارة إليه.
أقول: أول الوجوه التي تدل على أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق هي: أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه فقوله مثلا: حد الإنسان حيوان ناطق قضية خبرية ومجرد دعوى خلية عن حجة فإما أن يكون المستمع لها عالما بصدقها بدون هذا القول أو لا فإن كان الأول ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد. وإن كان الثاني عنده فمجرد قول الخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم، كيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله؟ فتبين على التقديرين أن الحد لا يفيد معرفة الحدود.
فإن قيل: هذا الاعتراض إنما يرد على أحد اصطلاحي المناطقة وهو الذي يجعل الحد قضية خبرية كما يقوله الغزالي وغيره ولا يرد على من يجعل الحد هو المفرد المقيّد كالاسم وهو الذي يسمونه التركيب التقييدي كما يذكر ذلك الرازي ونحوه، وهذا هو المشهور.
قلنا: التكلم بالمفرد لا يفيد ولا يكون جوابا لسائل ما الإنسان؟
فإن قيل: بل يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك المسئول عنه مثلا أو غيره.
قلنا: فحينئذ يكون كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه وهو دلالة الاسم على مسماه كقولنا: كتاب، باب، شجرة، وهذا تحقيق ما قلناه: من أن دلالة الحد كدلالة الاسم، ومجرد الاسم لا يوجب تصور المسمى لمن لم يتصوره قبل ذلك بلا نزاع فكذلك الحد، وسيأتي مزيد بيان حول هذا.

صفاء الدين العراقي
2025-08-21, 11:56 PM
ولهذا قالوا: إن المقصود باللغات ليس هو دلالة اللفظ المفرد على معناه وذلك لأن اللفظ المفرد لا يعرف دلالته على المعنى إن لم يعرف أنه موضوع له ولا يعرف أنه موضوع له حتى يتصور اللفظ والمعنى فلو كان المقصود بالوضع استفادة معاني الألفاظ المفردة لزم الدور.
وإذا لم يكن المقصود من الأسماء تصوير معانيها المفردة ودلالة الحد كدلالة الاسم لم يكن المقصود من الحد تصوير معناه المفرد وإذا كان دلالة الاسم على مسماه مسبوقا بتصور مسماه وجب أن تكون دلالة الحد على المحدود مسبوقا بتصور المحدود وإذا كان كل من المحدود والمسمى متصورا بدون الاسم والحد وكان تصور المسمى والمحدود مشتركا في دلالة الحد والاسم على معناه امتنع أن تتصور المحدودات بمجرد الحدود كما يمتنع تصور المسميات بمجرد الأسماء وهذا هو المطلوب.
ولهذا كان من المتفق عليه بين جميع أهل الأرض أن الكلام المفيد لا يكون إلا جملة تامة كاسمين أو فعل واسم.
هذا مما اعترف به المنطقيون وقسموا الألفاظ إلى اسم وكلمة وحرف يسمى أداة وقالوا المراد ب الكلمة ما يريده النحاة بلفظ الفعل لكنهم مع هذا يناقضون ويجعلون ما هو اسم عند النحاة حرفا في اصطلاحهم فالضمائر ضمائر الرفع والنصب والجر والمتصلة والمنفصلة مثل قولك رأيته ومر بي فإن هذه أسماء ويسميها النحاة الأسماء المضمرة والمنطقيون يقولون أنها في لغة اليونان من باب الحروف ويسمونها الخوالف كأنها خلف عن الأسماء الظاهرة.
فأما الاسم المفرد فلا يكون كلاما مفيدا عند أحد من أهل الأرض بل ولا أهل السماء وإن كان وحده كان معه غيره مضمرا أو كان المقصود به تنبيها أو إشارة كما يقصد بالأصوات التي لم توضع لمعنى لا أنه يقصد به المعاني التي تقصد بالكلام.
ولهذا عد الناس من البدع ما يفعله بعض النساك من ذكر اسم الله وحده بدون تأليف كلام فان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله" رواه أبو حاتم في صحيحه وقال: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" رواه مالك وغيره.
وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أمته ذكر الله تعالى بالجمل التامة مثل "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" "أفضل الكلام بعد القرآن: أربع وهي من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" رواه مسلم وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأن أقول سبحان الله والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" وأمثال ذلك.
فظن طائفة من الناس أن ذكر الاسم المفرد مشروع بل ظنه بعضهم أفضل في حق الخاصة من قول لا إله إلا الله ونحوها وظن بعضهم أن ذكر الاسم المضمر وهو (هو) هو أفضل من ذكر الاسم المظهر.
وأخرجهم الشيطان إلى أن يقولوا لفظا لا يفيد إيمانا ولا هدى بل دخلوا بذلك في مذهب أهل الزندقة والإلحاد أهل وحده الوجود الذين يجعلون وجود المخلوقات وجود الخالق ويقول احدهم ليس إلا الله والله فقط ونحو ذلك.
وربما احتج بعضهم عليه بقوله تعالى: {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} وظنوا أنه مأمور بان يقول الاسم مفردا وإنما هو جواب الاستفهام حيث قال: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} قال الله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله} أي الله انزل الكتاب الذي جاء به موسى.
وإذا عرف أن مجرد الإسم ومجرد الحد لا يفيد ما يفيده الكلام بحال علم أن الحد خبر مبتدإ محذوف لتكون جملة تامة.
ثم قد بينا فساد قولهم سواء جعل الحد مفردا كالأسماء أو مركبا كالجمل وأنه على التقديرين لا يفيد تصوير المسمى وهو المطلوب.
أقول: يقول العلماء إن المقصود باللغات ليس هو دلالة اللفظ المفرد على معناه.
وذلك لأن اللفظ المفرد لا يعرف دلالته على المعنى إن لم يعرف أنه موضوع له ولا يعرف أنه موضوع له حتى يتصور اللفظ والمعنى فلو كان المقصود بالوضع استفادة معاني الألفاظ المفردة لزم الدور.
فإذا قيل خبز، مثلا لم يكن المقصود بهذه اللفظة أن يصور معنى الخبز لم لمن يراه بل التنبيه على معناها وإخطارها في الذهن لمن يعرفه.
وإذا لم يكن المقصود من الأسماء تصوير معانيها المفردة، وكانت دلالة الحد كدلالة الاسم، إذا لم يكن المقصود من الحد تصوير معناه المفرد.
وإذا كان دلالة الاسم على مسماه مسبوقا بتصور مسماه، وجب أن تكون دلالة الحد على المحدود مسبوقا بتصور المحدود فيمتنع أن تتصور المحدودات بمجرد الحدود كما يمتنع تصور المسميات بمجرد الأسماء وهذا هو المطلوب.
وإذا عرف أن مجرد الإسم ومجرد الحد لا يفيد ما يفيده الكلام المفيد بحال علم أن الحد خبر مبتدإ محذوف لتكون جملة تامة.
ثم إنا قد بينا فساد قولهم سواء جعل الحد مركبا كالجمل-وهو الصحيح- أو مفردا كالاسم وأنه على التقديرين لا يفيد تصوير المسمى وهو المطلوب.

صفاء الدين العراقي
2025-08-22, 02:52 AM
الثاني: أنهم يقولون الحد لا يمنع ولا يقوم عليه دليل وإنما يمكن إبطاله بالنقض والمعارضة بخلاف القياس فإنه يمكن فيه الممانعة والمعارضة.
فيقال: إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد امتنع أن يعرف المستمع المحدود به إذا جوز عليه الخطأ فإنه إذا لم يعرف صحة الحد إلا بقوله وقوله محتمل للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله.
ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية ويجعلون العلم بالمفرد أصلا للعلم بالمركب ويجعلون العمدة في ذلك على الحد الذي هو قول الحاد بلا دليل وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي يحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب ثم يعيبون على من يعتمد في الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم ولا ريب أن مجرد خبر الواحد الذي لا دليل على صدقة لا يفيد العلم لكن هذا بعينه قولهم في الحد وإنه خبر واحد لا دليل على صدقه بل ولا يمكن عندهم إقامة دليل على صدقه فلم يكن الحد مفيدا لتصور المحدود.
ولكن إن كان المستمع قد تصور المحدود قبل هذا أو تصوره معه أو بعده بدون الحد وعلم أن ذلك حده علم صدقه في حده وحينئذ فلا يكون الحد أفاد التصوير وهذا بين.
وتلخيصه أن المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد وصدق قوله لا يعلم بمجرد الخبر فلا يعلم المحدود بالحد.
ومن قال أنا أريد بالحد المفرد لم يكن قوله مفيدا لشيء أصلا فإن التكلم بالاسم المفرد لا المستمع شيئا بل إن كان تصور المحدود بدون هذا اللفظ كان قد تصوره بدون هذا اللفظ المفرد وإن لم يكن تصوره لا قبله ولا بعده.
أقول: يقولون إن الحد لا يمنع ولا يقام عليه دليل بل ينقض أو يعارض فقط، فحينئذ نقول: إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد امتنع أن يعرف المستمع المحدود به إذا جوز عليه الخطأ فإنه إذا لم يعرف صحة الحد إلا بقوله وقوله محتمل للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بمجرد قوله.

صفاء الدين العراقي
2025-08-22, 04:06 AM
الثالث: أن يقال لو كان الحدُّ مفيدا لتصوّر المحدود لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد، فإنه دليل التصور وطريقه وكاشفه، فمن الممتنع أن نعلم صحة المعرَّف المحدود قبل العلم بصحة المعرِّف.
والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود إذ الحد خبر عن مخبَرٍ [عنه] هو المحدود، فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل تصور المخبَر عنه من غير تقليد للمخبِر وقَبولِ قوله فيما يشترك في العلم به المخبَر والمخبِر ليس هو من باب الأخبار عن الأمور الغائبة.
أقول: يريد أن يقول الشيخ لو كان الحد يفيد التصور فإن ذلك لن يحصل إلا بعد العلم بصحة الحد نفسه، والعلم بصحة الحد نفسه لا يحصل إلا بعد تصور المحدود، اللهم إلا إذا قلّدَ الحاد في أمر ليس هو من باب الأخبار الغائبة بل فيما يشترك في العلم به الحاد والمستمع للحد.