ابو وليد البحيرى
2019-09-27, 05:06 PM
تطبيقات عقود التحوط في المصارف
الإسلامية وأحكامها الشرعية
د. فضل عبدالكريم محمد البشير
ملخص البحث:
يعد موضوع التحوط وإدارة المخاطر المصرفية من الموضوعات التي تحظى باهتمام كبير من إدارات المصارف بشقيها التقليدية والإسلامية على حدٍ سواء. ومما يضفي بعداً جديداً لهذا الاهتمام التوسع الكبير في أسواق المال، والانهيارات البنكية التي حدثت في الآونة الأخيرة. يهدف هذا البحث إلى دراسة وتحليل تطبيقات عقود التحوط في المصارف الإسلامية وأحكامها الشرعية؛ في ضوء تباين الاجتهادات الفقهية المعاصرة حول مشروعية هذه العقود ومدى موافقتها لأحكام الشريعة الإسلامية, واختلاف الرؤى حول تطويرها وضبطها للإفادة منها في تطبيقات المصارف الإسلامية. ويتناول البحث بالدراسة والتحليل مفهوم التحوط وعقوده في أسواق المال التقليدية, ووجه الاختلاف بين هذه العقود وصناديق التحوط، والارتباط بين التحوط والخطر. كما يتناول بالتحليل والدراسة بعضاً من تطبيقات عقود التحوط في المصارف الإسلامية وأحكامها الشرعية، كضمان الطرف الثالث لرأس المال أو له وللربح معاً، والتبرع بالضمان من أحد العاقدين، واستعمال بيع العربون للحماية, وغيرها من العقود. ويؤمل في البحث الوصول إلى نتائج تسهم مع غيرها من الدراسات في تجلية هذا الموضوع وبيانه، بغية الوصول إلى اجتهادات فقهية معاصرة تحظى بقبول فقهي واسع حول تطبيقات هذه العقود في المؤسسات المالية الإسلامية.
الكلمات الدالة: عقود التحوط, صناديق التحوط، المصارف الإسلامية، مبادلة الأرباح بين البنوك، ضمان الطرف الثالث.
Abstract
Hedge and risk management are hot topics for , both conventional and Islamic banks, especially in light of the large expansion in the money markets and banks http://imgcache.alukah.net/imgcache/broken.giflapses that occurred. It adds a new dimension to this interest in the expansion of capital markets and banking in that have occurred recently. This research examines the hedging instruments and contracts in Islamic banks and their corresponding shariah (Islamic law) rules, in the light of contemporary jurisprudence debates about the legality of these contracts.. This research deals with the study and analysis of hedge concept and its contracts in the traditional capital markets, the difference between these contracts and hedge funds, the link between the hedging and risk. It also addresses the analysis and study of some hedge contracts in Islamic banks and contracts of legitimate applications, third-party capital and profit guarantee ensuring a guarantee of the two contracting parties, sale and use of deposit protection, and other contracts. This research has the intention to add a contribution to other studies and shed light on this subject in order to reach a contemporary jurisprudence acceptance about these in the Islamic financial institutions.
Key words: hedge contracts, hedge funds, Islamic banks, swap profits between banks, guarantee the third party.
المقدمة:
يعد الإنهيار الذي حدث لبنك بيرنجز Barings Merchant bank البريطاني من أشهر الإنهيارات البنكية التي حدثت في العقدين الماضيين ([1]) نتيجة لاستخدام عقود التحوط التي ظل يتعامل بها أحد العاملين في البنك -يدعى نك ليسون- بين سنغافورة وطوكيو في 20 يناير 1995م، حيث قام بشراء 11 ألف عقد آجل من مؤشر نيكاي، وبعد ثلاثة أيام من عملية الشراء سقط المؤشر1000 نقطة([2]). وبدلاً من قيامه باتخاذ اجراءات التحوط من هبوط الأسعار قام بشراء 5500 عقد آجل في شهر، فكانت الخسائر الإجمالية حوالي 1.4 مليار دولار أمريكي([3]).
وفي ذات السياق تعرضت مؤسسة سوميتومو كورب اليابانية إلى خسارة قدرها 2.6 مليار دولار بسبب التعامل في عقود خيارات النحاس التي كان يقوم بها ياسو هاماناكا. كما تعرض صندوق أمارانث للتحوط التي كان يقوم بها بريان هنتر وفريقه قبل انهيار الصندوق إلى خسائر بلغت ستة مليارات دولار في 2006م([4]).
وليست تلك الانهيارات المالية ببعيدة عن أزمة الإثنين الأسود التي حلت بالأسواق المالية في الولايات المتحدة الأمريكية في التاسع عشر من شهر أكتوبر عام 1987، حيث اندفع المستثمرون في بورصة نيويورك إلى بيع أسهمهم متسببين في هبوط مؤشر داو جونز (Dow Jones industrial Average) بمقدار 58%، وبلغت الخسائر 800 مليون دولار شكلت 26% من مجموع الخسائر الكلية العالمية)[5](. وسرعان ما انتشر هذا الذعر في بورصة وول ستريت إلى باقي بورصات العالم، وسادت الفوضى في أسواق المال العالمية.
وعلى مستوى العالم العربي حدثت أزمة سوق المناخ في الكويت في عام 1982م بسبب التوسع الكبير في العقود الآجلة، والارتفاع الكبير غير المبرر لأسعار الأسهم مقارنة بقيمها الدفترية، إضافة إلى غياب رقابة الدولة. وكان عجز مجموعة من المستثمرين عن سداد عقودهم الآجلة هي الشرارة التي أشعلت فتيل الأزمة، فكانت سبباً في هبوط أسعار الأسهم بشكل كبير، وبالتالي أصبحت معظم الشيكات الآجلة غير قابلة للسداد.
مما دفع الحكومة الكويتية لاتخاذ العديد من القرارات العاجلة وكان من بينها إغلاق السوق.
وعلى الرغم من التفسيرات المختلفة والمتباينة لانهيارات البنوك والأسواق المالية، فإن أكثرها ترجيحاً أن عقود التحوط هي اللاعب الرئيسي في هذه الانهيارات، وأن سوء الإدارة يأتي في المرتبة الثانية([6]). ومما يزيد من قوة ورجاحة هذا التفسير الإحصاءآت الرسمية المنشورة بهذا الخصوص؛ التي تؤكد أن المجازفة هي الغالبة على عقود التحوط، وأن 97% من إجمالي هذه العقود يستخدم في المضاربات على الأسعار، بينما تقتصر أغراض التحوط على أقل من 3%([7]). وقد لخص تلك التعاملات الكاتب النمساوي الأمريكي المشهور بيتر دراكر حين قال: إنهم زعموا أنها أدوات علمية، في حين أنها لم تكن أكثر علمية من أدوات القمار التي يجري التعامل عليها في مونت كارلو، ولاس فيجاس([8]). كما أكد تلك المعاني المليادير ذائع الصيت ورجل الأعمال المشهور؛ جورج سورس حين قال: إن كثيراً من أدوات المشتقات لا تخدم غرضاً معيناً سوى تسهيل المضاربة على وجه الخصوص([9]).
وكما تتحوط البنوك التقليدية لأجل حماية أصولها من تقلبات الأسعار؛ وطمعاً في تحقيق مكاسب مالية، فإن المصارف الإسلامية تتحوط هي الأخرى من هذه التقلبات، ولكن بشكلٍ مختلفٍ؛ ووفق منهجيةٍ تتناسب مع طبيعة عملها، باستخدام عدد من العقود منها: السَّلَم بسعر السوق وقت التسليم، وخيار الشرط،, والتبرع بالضمان من أحد العاقدين, وضمان الطرف الثالث لرأس المال أو له وللربح معاً، وغيرها, ونظرًا لتعدد وجهات النظر واختلافها حول هذه العقود، تسعى الورقة إلى عرض وتحليل ومناقشة تطبيقات عقود التحوط في المصارف الإسلامية, أملا في الوصول إلى نتائج تسهم في تجلية وبيان هذا الموضوع، ومحاولة إبراز دور عقود التحوط في معالجة المخاطر المالية في المصارف الإسلامية.
أولا: مفهوم التحوط وعقوده في أسواق المال:
التحوُّط في اللغة: هو الحفِظ والتعهَّد بجلْب ما ينفع، ودفعِ ما يضرّ. وتحوَّط في الأمر: احتاط وحذِر, وحَوَّطَ الشيءَ حفِظه، فالحاءُ والواوُ والطَّاءُ كلمَةٌ واحِدَةٌ، وهو الشَّيءُ يُطِيفُ بالشَّيءِ([10]).
والتحوط في المفهوم المالي هو الإجراءات التي تُتَّخذ لحماية المال من التقلب غير المتوقع، وغير المرغوب للعاقد، وهو ما يُعرف حالياً بالخطر المالي (financial risk)([11]). وهناك العديد من الأدوات المالية التي تؤدي إلى تحقيق هذا الهدف، من ذلك: وثائق التأمين، العقود الآجلة، المقايضة، الخيارات.
1 /1 مفهوم التحوط وصناديق التحوط:
يتبادر إلى الذهن من أول وهلة أن هناك علاقة بين مفهوم التحوط وصناديق التحوط، والواقع ليس كذلك، فمفهوم التحوط ينحصر في الإجراءآت التي تتخذ لحماية الأصول من تقلبات الأسعار، في حين أن صناديق التحوط عبارة عن صناديق استثمارية تستغل الفرص من خلال المراهنة على عدم كفاءة وفعالية أسواق الأسهم والعملات والسندات والسلع([12]).
استحدثت صناديق التحوط في عام 1949م من قبل صحافي وعالم اجتماع يدعى الفرد وينسلو جونز أثناء إعداده لمقالة حول أحدث الوسائل المستخدمة في تحليل أداء الأسواق المالية والتنبؤ بتطوراتها لحساب مجلة فورتشن، حيث تمكن من جمع 100 ألف دولار أمريكي، ليبدأ ما يطلق عليه اليوم بصندوق التحوط. وكانت خططه تقوم على المتاجرة في الأسهم بناءً على مركزين ماليين: طويل الأجل، وقصير الأجل. ففي المركز الأول يقوم بشراء الأسهم التي يتوقع أن ترتفع ويحتفظ بها إلى أن يتمكن من بيعها، وفي المركز الثاني قصير الأجل -أو ما يسمى بالبيع على المكشوف- فيقوم ببيع الأسهم التي يتوقع أن تنخفض ليعيد شراءها لاحقًا مع استخدام الاقتراض للاستثمار في أدوات مالية تدر عائداً أعلى من سعر فائدة الاقتراض.
ومع أن مسمى هذه الصناديق يوحي بأنها تهدف إلى تقليل المخاطر، لكنها في الواقع تهدف إلى تحقيق أقصى ربح ممكن. ففلسفة الصندوق تقوم على ضمان تحقيق ربح للمستثمرين بصرف النظر عما يحدث في الأسواق من تقلبات. كما أنها تعتمد على الاستثمارات الكبيرة؛ لذلك فهي عالية المخاطر، وسريعة الحركة.
ويعد جورج سورس أول من أعطى هذه الصناديق سمعة عالمية, عندما أرغم الجنيه الاسترليني على الانسحاب من علاقة منظومة العملات الأوروبية، وربح من ذلك نحو مليار جنيه استرليني, خسر أغلبها لاحقاً. ويبلغ إجمالي عدد صناديق التحوط في العالم أكثر من 10 آلاف صندوق, بإجمالي استثمارات قدرها 1.3 تريليون دولار([13]).
وهذه الصناديق ليست حكراً على التعاملات المالية التقليدية، فهناك صناديق تحوط إسلامية، فقد أطلق أول صندوق تحوط إسلامي من قبل شركة المستثمر الدولي في عام 1997م، وهو صندوق الخوارزمي بادارة اكسا روزنبرغ، ويعد صندوق الفنار الذي عرضته شركة سيدكو في المملكة العربية السعودية, هو صندوق التحوط الإسلامي الثاني([14])، إلا أن هذه الصناديق ما تزال في حاجة إلى مزيد من التطوير والتحسين وزيادة أصولها المالية. كما أنها بحاجة إلى تأصيل فقهي يقارب بين وجهات النظر المختلفة حول أهدافها وطريقة عملها، خاصة وأنها كانت وما تزال مثار حوار عميق طيلة عدة سنوات في دوائر المؤتمرات والندوات الإسلامية، وفي أوساط المهتمين بالتمويل الإسلامي
2/1 عقود التحوط في أسواق المال:
يقسم بعض الباحثين أهم فروع المشتقات المالية إلى ستة أقسام حتى وقتنا الحاضر الحاضر[**]،-فربما تظهر في المستقبل أقسام أخرى،- وهي: عقود الاختيارات (options)، العقود المستقبلية (futures)، العقود الآجلة Forward Currency Contracts،عقود المبادلات (Swaps،عقود إعادة الشراء، وعقود أسعار الفائدة. وتعد العقود الأربعة الأولى من أكثر العقود التي يركز عليها الباحثون عند تناولهم للمشتقات المالية، وهي تعد الأكثر تداولاً في الأسواق المالية العالمية.
والمشتقات المالية هي عقود تتوقف قيمتها من الأوراق المالية محل التعاقد, أو من السلع أومؤشرات الأسعار، ويمكن استخدامها للتحوط أو المضاربة ([15]). ويصنف المتعاملون فيها إلى ثلاث فئات، هي: فئة المتحوطين، وفئة التجار، وشريحة المضاربين([16]). والفرق بين هذه الفئات أن المتحوطين يقومون بنقل المخاطر إلى غيرهم، بينما يتحمل المضاربون المخاطرة([17]). فعقود المستقبليات (futures) هى تعاقدات مستقبلية تلزم الأطراف المتعاقدة على تسليم أو استلام سلع أو عملات أجنبية أو أوراق مالية بسعر متفق عليه في تاريخ محدد بغرض التحوط، وتجنب مخاطر تقلب الأسعار. ومن أنواعها - العقود المستقبلية على السلع، والعقود المستقبلية على أسعار الصرف. كما أن عقود الاختيارات (options) تمثل اتفاقًا للمتاجرة على زمن مستقبل متفق عليه بسعر محدد يعرف بسعر التنفيذ، وهو اتفاق يعطى الحق لأحد الطرفين في بيع وشراء عدد معين من الأوراق المالية من الطرف الآخر بسعر متفق عليه مقدماً لحماية نفسه من مخاطر انخفاض القيمة السوقية لأوراق مالية يمتلكها، ومن أنواعها خيار البيع، وخيار الشراء.
أما العقود الآجلة (Forward Currency Contracts) فهي العقود التي يلتزم فيها البائع أن يسَّلَم المشتري السلعة محل التعاقد في تاريخ لاحق بسعر يتفق عليه وقت التعاقد، يطلق عليه سعر التنفيذ([18]). في حين تمثل المبادلات
(Swaps) التزاماً تعاقدياً بين طرفين يتضمن مبادلة نوع معين من التدفق النقدي أو أصل معين يمتلكه أحد الطرفين مقابل تدفق أو أصل يمتلكه الطرف الآخر بالسعر الحالي، وبموجب شروط يتفق عليها عند التعاقد، على أن يتم تبادل الأصل محل التعاقد في تاريخ لاحق. وتستخدم المبادلات بغرض الوقاية من المخاطر السعرية في فترات مختلفة وتخفيض تكلفة التمويل. ومن أنواعها مبادلات الفائدة Interest Rate Swaps، ومبادلة العملات Currency Swaps.
هناك شبه واختلاف بين العقود المستقبلية والخيارات، فمن أوجه الشبه بينهما أن كلاهما من الأدوات التي تستخدم في التحوط، وتحقق للمتعاملين فيهما قدراً من المكاسب، أو نسبة من الخسارة. ومن أوجه الاختلاف بينهما أن التعاقد في العقود المستقبلية يكون على سلعة حقيقية مؤجلة التسليم، وأن السعر الذي جرى عليه التعاقد هو سعر هذه السلعة. في حين يجري التعاقد في عقود الخيار على أساس الحق في الاختيار بعيداً عن قيمة السلعة. إضافة إلى أن مقدار الربح والخسارة المتوقعة في الخيار تعتبر قليلة جداً، وهي قيمة الخيار، في حين أن مقدار الربح أو الخسارة في العقود المستقبلية يكون كبيراً.
3/1 الهدف من عقود التحوط:
تهدف عقود التحوط للحد من المخاطر المالية، وحماية الأصول من تقلبات الأسعار، وبالطبع لايمكن أن تلغي هذه العقود المخاطر المالية، ولكن يمكن أن تقلل منها، لذلك تجد أن هناك علاقةً وارتباطاً بين التحوط والخطر. فالخطر في اللغة هو الإشراف على الهلاك وخوف التلف. يُقال هذا أمر خطر، أي متردِّد بين أن يوجد وأن لا يوجد([19]). والخطر في الاصطلاح له تعريفات كثيرة تدور جلها حول الحالة التي تلازم الشخص عند اتخاذ القرارات؛ وتترتب عليها حالة من الشك أو الخوف، أو عدم التأكد من نتائج تلك القرارات
([20]).
أما الخطر في المفهوم المالي فهو ضرر مباشر متوقع للنشاط المرتبط بوحدة اقتصادية، بسبب وقوع أحداث اقتصادية، أو طبيعية أو سياسية، أو بفعل بشري. وفي حالة حدوثه تنتج خسائر مؤثرة، قد تؤدِّي إلى عدم استمرارية الوحدة الاقتصادية في النشاط الممارس، وخروجها من السوق([21]). لذلك فإن فالسيطرة على المخاطر أمر مطلوب، ومتطلب سابق، ينبغي أخذه في الاعتبار عند الشروع في علمية الاستثمار. تنقسم المخاطر التي تواجِه المصارف بشقيها التقليدية والإسلامية إلى نوعين: مخاطر مالية، ومخاطر غير مالية([22]). فالمخاطر المالية هي عبارة عن الخسائر المحتملة في الأسواق، وتُصنَّف إلى ثلاثة أقسام هي:
مخاطر السوق، وتحدث نتيجةً للتحوُّلات التي تطرأ على الأسعار، أو تغير في السياسات على مستوى الاقتصاد الكلي. ومن تلك المخاطر، مخاطر أسعار الفائدة، ومخاطر أسعار الصرف، ومخاطر التسعير.
المخاطر الائتمانية، وتنشأ عن عجز العميل، أو عدم رغبته في الوفاء بما عليه من التزامات تجاه المصرف، إما لعجز سببه التعثر أو الإفلاس، أو مماطلة متعمدة مقصودة. وعندئذ يلجأ البنك إلى التصرف في الضمان باعتباره ملاذاً آمناً.
مخاطر السيولة، وتنشأ نتيجة لعجز البنك في مواجهة احتياجات عملائه من السيولة في الأجل القصير. أو في حالة قصور التدفقات النقدية الداخلة عن مقابلة التدفقات النقدية الخارجة.
أما المخاطر غير المالية، (مخاطر الأعمال)، فتحدث نتيجةً للأعمال التي تمارسها المصارف، كمخاطر التشغيل، والمخاطر القانونية، والمخاطر السياسية، ومخاطر عدم الالتزام. لذلك تتجه المصارف بشقيها التقليدية والإسلامية للتحوط من هذه المخاطر باستخدام عدد من الأدوات كل حسب منهجيته في العمل.
ثانيا: تطبيقات عقود التحوط في المصارف الإسلامية وأحكامها الشرعية:
تعمل المصارف الإسلامية في بيئة تنافسية مع المصارف التقليدية ومع مثيلاتها الإسلامية، لذلك لابد أن تأخذ في الاعتبار كل ما يمكنها من السيطرة على المخاطر والتحوط من تقلبات الأسعار، وهي تسعى لاستخدام عقود التحوط؛ ولكن بطرق مختلفة تراعي خصوصيتها وطبيعة عملها والتزامها بأحكام الشريعة الإسلامية. وهناك عدد من أدوات التحوط تستخدمها المصارف الإسلامية، -وهي لاشك تختلف كثيرا عن أدوات التحوط التقليدية- من هذه العقود ما يلي:
2/1التحوط باستخدام خيار الشرط:
الخيار اسم مشتق من الاختيار، والاختيار هو الاصطفاء والانتقاء لخير الأمرين([23]). ويعني في المفهوم الفقهي أن يكون لأحد المتعاقدين، أو كليهما حق إمضاء العقد أو فسخه. والخيارات كثيرة ومتعددة، وأكثرها استخداماً في العقود، هي: خيار الشرط، وخيار الرؤية، وخيار العيب.
فخيار الشرط هو ما يثبت لأحد العاقدين أو لغيرهما من الحق في إمضاء العقد أو فسخه، بناء على اشتراط ذلك له، ومثاله: كأن يقول زيد لعمر بعتك هذا المحل بكذا، على أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، ويقبل المشتري ذلك. وقد يشترط المشتري ذلك ويقبل البائع([24])*.وقد يشترط الخيار لشخص آخر غير العاقدين، فيشترطه البائع أو المشتري؛ كأن يقول البائع أو المشتري: بعت الكتاب بكذا، أو اشتريت بكذا، على أن يكون لفلان الخيار في إمضاء العقد، أو فسخه في ثلاثة أيام ويقبل الآخر([25]).
وتعد عقود الخيارات التقليدية من أدوات الاستثمار المستحدثة في الأسواق المالية التي يستخدمها المستثمرون؛ ليس بهدف تحقيق الربح فقط، وإنما كوسيلة للتحوط من مخاطر تغير أسعار الأوراق المالية، وأسعار العملات الأجنبية -ويمكن التمييز بين نوعين من الاختيار هما: الاختيار الأمريكي، والاختيار الأوربي-([26](، اللذين لا يختلفان إلا في فترة التنفيذ، ففي الخيار الأمريكي تتم في أي وقت خلال الفترة التي تمتد منذ ابرام الاتفاق حتى التاريخ المحدد لانتهائه، أما في الخيار الأوربي، فإن التنفيذ لا يتم إلا في التاريخ المحدد لانتهائه-, ويعدها المستثمرون طريقة لتعظيم أرباحهم بأقصر الطرق وأسرعها من خلال المضاربة على فروق الأسعار. فيحقق المضارب ربحًا نتيجة شراء حق الشراء إذا ما تحققت توقعاته وهي ارتفاع سعر الأصل في السوق بأكثر من سعر التنفيذ. كما أنها تستخدم لأغراض التحوط، وهنا يكون المتعامل صاحب مركز مكشوف من العملة التي يرغب في حق شرائها, أو التي التزم بحق بيعها على دفعات مستقبلية خشية ارتفاع أسعارها.
إضافة إلى ذلك تستخدم عقود الخيارات في المجالات الاستثمارية، فحق الشراء أداة استثمارية بديلة عن حيازة أصل مؤقت بانتظار توقع ارتفاع السعر في وقت استحقاق عقد الخيار وإمكانية الشراء والاستثمار بالسعر الأقل وهو سعر التنفيذ، لهذا فان المتعامل المستثمر يمتلك المقدرة اللازمة لتنفيذ شراء الأصل الفعلي.
2/1/1 أوجه الاختلاف بين خيارات السوق والخيار الشرعي:
على الرغم من التقارب في المسمى بين خيارات السوق، والخيار الشرعي، فهناك اختلافات كبيرة بينهما، تتمثل في النقاط التالية:
الاختيار في أسواق المال عبارة عن عقد مستقل عن عقد البيع، يشتري فيه المستثمر حقاً يخوله البيع أو الشراء.
(ب) الخيار في الفقه الإسلامي هو عبارة عن حق فسخ العقد، بسبب مفضي إلى ذلك، إذن فهو تبع للبيع نفسه، وليس مستقلاً، وهو ليس له ثمن، ولا يجوز بيعه عند الفقهاء. ففي الخيار الشرعي محل العقد موجود ومتحقق، أما في الاختيار السوقي؛ فمحل العقد ليس موجوداً، وإنما الموجود هو السهم أو السلعة ولهما عقداً آخر.
(ج) الخيار السوقي طويل المدة، فيمكن أن يكون لعدة سنوات، بينما الخيار الفقهي محدد بفترة قصيرة حولها اختلاف بين الفقهاء، ولكن الأرجح أنها ثلاثة أيام.
(د) الخيار السوقي يمكن تداوله وبيعه غالباً ممن لا يملك السلعة أو السهم التي تكون ملكاً للآخر، بينما الخيار الشرعي لا يمكن بيعه، كما أنه تبع للعقد ومتعلق به.
وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته السابعة في مدينة جدة في عام 1992م تحريم عقود الخيارات بموجب قراره رقم (65/6/7)، ومن أبرز الأدلة التي استند إليها القرار على التحريم: تعارض عقود الخيار الشرطية مع قصد الشارع لتحقيق العدل: فعدم العدل في هذه العقود يكمن في إعطاء أحد العاقدين فرصةً واسعةً لأن يحقق أرباحاً على حساب المتعاقد الآخر، كذلك فإن اعتبار الشروط المرافقة لعقود الخيارات من الشروط الفاسدة التي تضم كل شرط لا يقتضيه العقد، أو يكون فيه منفعة لأحد العاقدين لا يوجبها العقد. كما أن البيوع الآجلة تنطوي على بيع الإنسان ما ليس عنده؛ فالذي يشتري حق خيار شراء الأسهم لن يكون بحاجة إلى امتلاك الأسهم, وكل ما يحتاجه هو أن يكون له رصيد معين في حسابه لدى السمسار([27]). وقد برر المجمع قراره بأن كان المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعةً، ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه، وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداء فلا يجوز تداولها.
وقد خالف بعض الباحثين قرار المجع في التبرير وفي الحيثيات التي استند عليها، مع اتفاقهم مع القرار في حرمة تلك العقود([28]), وذلك استناداً إلى أن بيع الأسهم بالثمن المتفق عليه في الموعد المحدد لا يحدث في بيع الخيار، بل إن الوسيط في السوق يقوم بالتسوية ويدفع للرابح ربحه دون بيع أو شراء أو تسليم أو تسَّلَم. وعلى فرض وقوع بيع حقيقي بايجاب وقبول من المشتري وتسليم الأسهم ودفع الثمن، وهو فرض غير واقع، فإنه سيكون نتيجة مواعدة من الجانبين، وليست من جانب واحد، لأن أحد العاقدين قد وعد بشراء السهم بالثمن المتفق عليه، ووعد الآخر ببيعها له بهذه الشروط.
وهناك من يرى من الباحثين في الاقتصاد الإسلامي إمكانية تطوير عقود الخيار وضبطها بأحكام الشريعة الإسلامية، قياسًا على بيع العربون والتأمين، والالتزام والكفالة، والحقوق المعنوية([29])، استناداً إلى الاختلاف في معنى المال. فمن قال: إن الحقوق المعنوية أموالاً أجاز بيعها, ومن قال: بأن المال يشمل الأعيان فقط، منع بيع هذه الحقوق، لأنها ليست أعياناً، وهذا هو رأي معظم فقهاء الحنفية. أما جمهور الفقهاء فهم مع الرأي الأول الذي يعتبر هذه الحقوق أموالاً، وبالتالي يجوز بيعها([30])
.
وقد اقترح محمد القري بعض الضوابط الاحترازية لتفادي عنصر المقامرة في عقود الخيارات بشكل خاص منها ([31]):
أن تتعامل المؤسسة مع مالكي الأسهم الحقيقيين، وأن تودع الأسهم لدى المؤسسة عند بداية العقد أو ما يثبت وجودها وملكيتها.
أن يمارس أسلوب الخيار الأوروبي فقط، أي ينفذ الخيار في آخر يوم من مدته, وذلك لتقليل فرص الاستفادة من التقلبات اليومية.
أن تنتهي مدة الخيار مع بداية أول ساعة في آخر يوم من أيام العقد، وذلك لتلافي الارتفاع بسبب تزايد الطلبات.
وفي الواقع تستخدم خيارات البيع والشراء في أسواق المال التقليدية بشكل كبير لتحقيق عدة أغراض، فهي تستخدم كبديل لعمليات البيع على المكشوف، فالمضارب الذي يتوقع انخفاض السعر يمكن أن يبيع على المكشوف، أو أن يشستري خيار بيع، حيث إنه يشتري الأسهم بسعر التعاقد محققاً الفرق بين السعرين، كما أنها تستخدم بغرض المضاربة من المستثمرين الذين يتوقعون انخفاض أسعار الأوراق المالية محل التعاقد عند نهاية تاريخ صلاحية هذه الخيارات.
كما أن عقود الخيار المزدوجة التي تجمع بين خيار البيع، وخيار الشراء، وبمقتضاها يصبح حامل هذه العقود أن يكون مشترياً للأوراق المالية محل التعاقد أو بائعا لها، فإذا ارتفعت أسعار السوق خلال فترة العقد كان مشترياً، وإذا انخفضت كان بائعاً، إضافة إلى ذلك تستخدم هذه الخيارات في عقود الفائدة، وعقود أسعار الصرف، وعقود المؤشرات([32]).
وتطبق المصارف الإسلامية خيار الشرط للتحوط من المخاطر بشكل واضح في الوعد بصرف العملات، وفي صيغة المرابحة للآمر بالشراء، ومثال تطبيقه في صيغة المرابحة أن يشتري المصرف الإسلامي السلع بشرط ثبوت الخيار له مدةً محددةً، كأن يشترط الخيار لمدة أسبوعٍ أو أسبوعين أو أكثر من ذلك.
وعلى قول جمهور الفقهاء؛ فإن خيار الشرط يثبت للمتعاقدين. وعلى الراجح أيضاً من أقوال الفقهاء؛ فإن تحديد مدة خيار الشرط ترجع لاتفاق المتعاقدين، وعليه يمكن للمصرف الإسلامي أن يشتري مع خيار الشرط المحدد بمدة معينة، فإن باع السلعة فبها ونعمت، وإن لم يبع فسخ العقد مع البائع ولم يلحق به ضرر([33]), ومثال ذلك: أن يشتري البنك منزلاً ويبيعه بالتقسيط على عميله الذي يعمل موظفًا في شركة ما، فيقوم البنك بتوقيع اتفاقية رغبة في الشراء مع المالك الحقيقي للمنزل لمدة عشرين يوماً، بحيث يلتزم المالك بعدم بيع البيت خلال هذه المدة حتى يتسنى للبنك حفظ ماله في حال عزوف الموظف عن توقيع العقد، ومن ثم يتحوط البنك من نكول عميله وصرفه النظر عن شراء العقار.
وقد جوز الفقهاء هذه المعاملة، فقد جاء في "المبسوط" للسرخسي([34])باب البيع والشراء: "رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ اشْتَرَاهَا الْآمِرُ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَخَافَ الْمَأْمُورُ إنْ اشْتَرَاهَا أَنْ لَا يَرْغَبَ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا قَالَ: يَشْتَرِي الدَّارَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِيهَا وَيَقْبِضُهَا ثُمَّ يَأْتِيهِ الْآمِرُ فَيَقُولُ لَهُ قَدْ أَخَذْتهَا مِنْك بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَيَقُولُ الْمَأْمُورُ هِيَ لَك بِذَلِكَ ولابد أن يقبضها على أصل محمد.
فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ فلا حاجة لهذا الشرط لجواز التصرف في العقار قبل القبض عندهما، والمشتري بشرط الخيار يتمكن من التصرف في المشترى، بالاتفاق وإن اختلفوا أنه هل يملكه مع شرط الخيار أم لا، فإنما قال الآمر يبدأ ليتمكن من التصرف في المشترى، فيقول أخذت منك بألف ومائة لأن المأمور له لو بدأ قال بعتها منك، ربما لا يرغب الآمر في شرائها ويسقط خيار المأمور بذلك فكان الاحتياط في أن يبدأ الآمر حتى إذا قال المأمور هي لك بذلك تم البيع بينهما، وإن لم يَرْغَبْ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا يُمَكِّنُ الْمَأْمُورَ مِنْ رَدِّهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ بِذَلِكَ".
وقال ابن القيم وهو يذكر أن هناك بعض الحيل المباحة التي تجعل الإنسان يصل إلى حقه بلا مخالفة للشرع، قال: "المثال الحادي بعد المائة: رجل قال لغيره: اشتر هذه الدار أو هذه السلعة من فلان بكذا وكذا، وأنا أربحك فيها كذا وكذا، فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر، فلا يريدها، ولا يتمكن من الرد. فالحيلةُ أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام أو أكثر ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت، فإن أخذها منه، وإلا تمكّن من ردها على البائع بالخيار ([35]).
وجاء في قرارات "الهيئة الشرعية لبنك البلاد" (الضابط 12): "يجوز للبنك في عقد المرابحة عند شرائه للسلعة من البائع الأول أن يأخذها بخيار الشرط –خشية عدول العميل– ثم يعرضها للآمر بالشراء خلال مدة الخيار ولا يعد عرضها فسخا لذلك الخيار، فإن رغبها الآمر بالشراء وإلا ردها البنك إلى البائع الأول".
كذلك يمكن للبنك استخدام الخيار في الوعد بالصرف، حيث يحق لصاحب الخيار (الموعود) الحق –دون الإلتزام– أن يصرف أموالاً بفئات عملة معينة بعملة أخرى بمعدل سعر صرف موافق عليه مسبقاً وبتاريخ محدد، وذلك بناء على وعد من مانح الخيار (الواعد). ومثال ذلك إذا أتفق شخصان على بيع عشرة آلاف ريـال سعودي بما يعادلها من الجنيه السوداني بالسعر الحاضر؛ على أن يتم التسليم والاستلام بعد شهرين.
وكما هو معلوم، فإن المواعدة على الصرف محل خلاف بين أهل العلم قديماً وحديثاً
فالذي عليه الاتفاق أن المواعدة إن كانت ملزمة للطرفين، فإنها تدخل في عموم النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، فهي غير جائزة، حيث إن من شروط الصرف تقابض البدلين في مجلس العقد، وأن يخلو عقد الصرف من الأجل، وإذا كانت غير ملزمة للطرفين فهي جائزة([36]). فإذا تواعد شخصان مثلاَ على المصارفة بعد سنة مثلاً، واتفقا على أن يتم التقابض عندما يحل الأجل، ثم عقدا عقداً جديداً عند حلول الأجل، وتم التسليم والاستلام, فالاتفاق صحيح والعقد جائز. وممن قال بجوازها الإمام الشافعي في كتابه الأم "إذا تواعد الرجلان الصرف، فلا بأس أن يشتري الرجلان الفضة ثم يقرانها عند أحدهما حتى يتبايعاها ويصنعا بها ما شاء([37])*."ويفهم من هذا أنهما إذا تواعدا على عقد، فإنه يجوز التواعد، ثم بعد ذلك يجريان عقد البيع على الموعود بتبايعه، فالتواعد على العقد بيعاً أو غيره ليس بيعاً ولا نكاحاً. يقول ابن حزم "والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز؛ تبايعا بعد ذلك؛ أو لم يتبايعا لأن التواعد ليس بيعاً"([38]).
يتبع
الإسلامية وأحكامها الشرعية
د. فضل عبدالكريم محمد البشير
ملخص البحث:
يعد موضوع التحوط وإدارة المخاطر المصرفية من الموضوعات التي تحظى باهتمام كبير من إدارات المصارف بشقيها التقليدية والإسلامية على حدٍ سواء. ومما يضفي بعداً جديداً لهذا الاهتمام التوسع الكبير في أسواق المال، والانهيارات البنكية التي حدثت في الآونة الأخيرة. يهدف هذا البحث إلى دراسة وتحليل تطبيقات عقود التحوط في المصارف الإسلامية وأحكامها الشرعية؛ في ضوء تباين الاجتهادات الفقهية المعاصرة حول مشروعية هذه العقود ومدى موافقتها لأحكام الشريعة الإسلامية, واختلاف الرؤى حول تطويرها وضبطها للإفادة منها في تطبيقات المصارف الإسلامية. ويتناول البحث بالدراسة والتحليل مفهوم التحوط وعقوده في أسواق المال التقليدية, ووجه الاختلاف بين هذه العقود وصناديق التحوط، والارتباط بين التحوط والخطر. كما يتناول بالتحليل والدراسة بعضاً من تطبيقات عقود التحوط في المصارف الإسلامية وأحكامها الشرعية، كضمان الطرف الثالث لرأس المال أو له وللربح معاً، والتبرع بالضمان من أحد العاقدين، واستعمال بيع العربون للحماية, وغيرها من العقود. ويؤمل في البحث الوصول إلى نتائج تسهم مع غيرها من الدراسات في تجلية هذا الموضوع وبيانه، بغية الوصول إلى اجتهادات فقهية معاصرة تحظى بقبول فقهي واسع حول تطبيقات هذه العقود في المؤسسات المالية الإسلامية.
الكلمات الدالة: عقود التحوط, صناديق التحوط، المصارف الإسلامية، مبادلة الأرباح بين البنوك، ضمان الطرف الثالث.
Abstract
Hedge and risk management are hot topics for , both conventional and Islamic banks, especially in light of the large expansion in the money markets and banks http://imgcache.alukah.net/imgcache/broken.giflapses that occurred. It adds a new dimension to this interest in the expansion of capital markets and banking in that have occurred recently. This research examines the hedging instruments and contracts in Islamic banks and their corresponding shariah (Islamic law) rules, in the light of contemporary jurisprudence debates about the legality of these contracts.. This research deals with the study and analysis of hedge concept and its contracts in the traditional capital markets, the difference between these contracts and hedge funds, the link between the hedging and risk. It also addresses the analysis and study of some hedge contracts in Islamic banks and contracts of legitimate applications, third-party capital and profit guarantee ensuring a guarantee of the two contracting parties, sale and use of deposit protection, and other contracts. This research has the intention to add a contribution to other studies and shed light on this subject in order to reach a contemporary jurisprudence acceptance about these in the Islamic financial institutions.
Key words: hedge contracts, hedge funds, Islamic banks, swap profits between banks, guarantee the third party.
المقدمة:
يعد الإنهيار الذي حدث لبنك بيرنجز Barings Merchant bank البريطاني من أشهر الإنهيارات البنكية التي حدثت في العقدين الماضيين ([1]) نتيجة لاستخدام عقود التحوط التي ظل يتعامل بها أحد العاملين في البنك -يدعى نك ليسون- بين سنغافورة وطوكيو في 20 يناير 1995م، حيث قام بشراء 11 ألف عقد آجل من مؤشر نيكاي، وبعد ثلاثة أيام من عملية الشراء سقط المؤشر1000 نقطة([2]). وبدلاً من قيامه باتخاذ اجراءات التحوط من هبوط الأسعار قام بشراء 5500 عقد آجل في شهر، فكانت الخسائر الإجمالية حوالي 1.4 مليار دولار أمريكي([3]).
وفي ذات السياق تعرضت مؤسسة سوميتومو كورب اليابانية إلى خسارة قدرها 2.6 مليار دولار بسبب التعامل في عقود خيارات النحاس التي كان يقوم بها ياسو هاماناكا. كما تعرض صندوق أمارانث للتحوط التي كان يقوم بها بريان هنتر وفريقه قبل انهيار الصندوق إلى خسائر بلغت ستة مليارات دولار في 2006م([4]).
وليست تلك الانهيارات المالية ببعيدة عن أزمة الإثنين الأسود التي حلت بالأسواق المالية في الولايات المتحدة الأمريكية في التاسع عشر من شهر أكتوبر عام 1987، حيث اندفع المستثمرون في بورصة نيويورك إلى بيع أسهمهم متسببين في هبوط مؤشر داو جونز (Dow Jones industrial Average) بمقدار 58%، وبلغت الخسائر 800 مليون دولار شكلت 26% من مجموع الخسائر الكلية العالمية)[5](. وسرعان ما انتشر هذا الذعر في بورصة وول ستريت إلى باقي بورصات العالم، وسادت الفوضى في أسواق المال العالمية.
وعلى مستوى العالم العربي حدثت أزمة سوق المناخ في الكويت في عام 1982م بسبب التوسع الكبير في العقود الآجلة، والارتفاع الكبير غير المبرر لأسعار الأسهم مقارنة بقيمها الدفترية، إضافة إلى غياب رقابة الدولة. وكان عجز مجموعة من المستثمرين عن سداد عقودهم الآجلة هي الشرارة التي أشعلت فتيل الأزمة، فكانت سبباً في هبوط أسعار الأسهم بشكل كبير، وبالتالي أصبحت معظم الشيكات الآجلة غير قابلة للسداد.
مما دفع الحكومة الكويتية لاتخاذ العديد من القرارات العاجلة وكان من بينها إغلاق السوق.
وعلى الرغم من التفسيرات المختلفة والمتباينة لانهيارات البنوك والأسواق المالية، فإن أكثرها ترجيحاً أن عقود التحوط هي اللاعب الرئيسي في هذه الانهيارات، وأن سوء الإدارة يأتي في المرتبة الثانية([6]). ومما يزيد من قوة ورجاحة هذا التفسير الإحصاءآت الرسمية المنشورة بهذا الخصوص؛ التي تؤكد أن المجازفة هي الغالبة على عقود التحوط، وأن 97% من إجمالي هذه العقود يستخدم في المضاربات على الأسعار، بينما تقتصر أغراض التحوط على أقل من 3%([7]). وقد لخص تلك التعاملات الكاتب النمساوي الأمريكي المشهور بيتر دراكر حين قال: إنهم زعموا أنها أدوات علمية، في حين أنها لم تكن أكثر علمية من أدوات القمار التي يجري التعامل عليها في مونت كارلو، ولاس فيجاس([8]). كما أكد تلك المعاني المليادير ذائع الصيت ورجل الأعمال المشهور؛ جورج سورس حين قال: إن كثيراً من أدوات المشتقات لا تخدم غرضاً معيناً سوى تسهيل المضاربة على وجه الخصوص([9]).
وكما تتحوط البنوك التقليدية لأجل حماية أصولها من تقلبات الأسعار؛ وطمعاً في تحقيق مكاسب مالية، فإن المصارف الإسلامية تتحوط هي الأخرى من هذه التقلبات، ولكن بشكلٍ مختلفٍ؛ ووفق منهجيةٍ تتناسب مع طبيعة عملها، باستخدام عدد من العقود منها: السَّلَم بسعر السوق وقت التسليم، وخيار الشرط،, والتبرع بالضمان من أحد العاقدين, وضمان الطرف الثالث لرأس المال أو له وللربح معاً، وغيرها, ونظرًا لتعدد وجهات النظر واختلافها حول هذه العقود، تسعى الورقة إلى عرض وتحليل ومناقشة تطبيقات عقود التحوط في المصارف الإسلامية, أملا في الوصول إلى نتائج تسهم في تجلية وبيان هذا الموضوع، ومحاولة إبراز دور عقود التحوط في معالجة المخاطر المالية في المصارف الإسلامية.
أولا: مفهوم التحوط وعقوده في أسواق المال:
التحوُّط في اللغة: هو الحفِظ والتعهَّد بجلْب ما ينفع، ودفعِ ما يضرّ. وتحوَّط في الأمر: احتاط وحذِر, وحَوَّطَ الشيءَ حفِظه، فالحاءُ والواوُ والطَّاءُ كلمَةٌ واحِدَةٌ، وهو الشَّيءُ يُطِيفُ بالشَّيءِ([10]).
والتحوط في المفهوم المالي هو الإجراءات التي تُتَّخذ لحماية المال من التقلب غير المتوقع، وغير المرغوب للعاقد، وهو ما يُعرف حالياً بالخطر المالي (financial risk)([11]). وهناك العديد من الأدوات المالية التي تؤدي إلى تحقيق هذا الهدف، من ذلك: وثائق التأمين، العقود الآجلة، المقايضة، الخيارات.
1 /1 مفهوم التحوط وصناديق التحوط:
يتبادر إلى الذهن من أول وهلة أن هناك علاقة بين مفهوم التحوط وصناديق التحوط، والواقع ليس كذلك، فمفهوم التحوط ينحصر في الإجراءآت التي تتخذ لحماية الأصول من تقلبات الأسعار، في حين أن صناديق التحوط عبارة عن صناديق استثمارية تستغل الفرص من خلال المراهنة على عدم كفاءة وفعالية أسواق الأسهم والعملات والسندات والسلع([12]).
استحدثت صناديق التحوط في عام 1949م من قبل صحافي وعالم اجتماع يدعى الفرد وينسلو جونز أثناء إعداده لمقالة حول أحدث الوسائل المستخدمة في تحليل أداء الأسواق المالية والتنبؤ بتطوراتها لحساب مجلة فورتشن، حيث تمكن من جمع 100 ألف دولار أمريكي، ليبدأ ما يطلق عليه اليوم بصندوق التحوط. وكانت خططه تقوم على المتاجرة في الأسهم بناءً على مركزين ماليين: طويل الأجل، وقصير الأجل. ففي المركز الأول يقوم بشراء الأسهم التي يتوقع أن ترتفع ويحتفظ بها إلى أن يتمكن من بيعها، وفي المركز الثاني قصير الأجل -أو ما يسمى بالبيع على المكشوف- فيقوم ببيع الأسهم التي يتوقع أن تنخفض ليعيد شراءها لاحقًا مع استخدام الاقتراض للاستثمار في أدوات مالية تدر عائداً أعلى من سعر فائدة الاقتراض.
ومع أن مسمى هذه الصناديق يوحي بأنها تهدف إلى تقليل المخاطر، لكنها في الواقع تهدف إلى تحقيق أقصى ربح ممكن. ففلسفة الصندوق تقوم على ضمان تحقيق ربح للمستثمرين بصرف النظر عما يحدث في الأسواق من تقلبات. كما أنها تعتمد على الاستثمارات الكبيرة؛ لذلك فهي عالية المخاطر، وسريعة الحركة.
ويعد جورج سورس أول من أعطى هذه الصناديق سمعة عالمية, عندما أرغم الجنيه الاسترليني على الانسحاب من علاقة منظومة العملات الأوروبية، وربح من ذلك نحو مليار جنيه استرليني, خسر أغلبها لاحقاً. ويبلغ إجمالي عدد صناديق التحوط في العالم أكثر من 10 آلاف صندوق, بإجمالي استثمارات قدرها 1.3 تريليون دولار([13]).
وهذه الصناديق ليست حكراً على التعاملات المالية التقليدية، فهناك صناديق تحوط إسلامية، فقد أطلق أول صندوق تحوط إسلامي من قبل شركة المستثمر الدولي في عام 1997م، وهو صندوق الخوارزمي بادارة اكسا روزنبرغ، ويعد صندوق الفنار الذي عرضته شركة سيدكو في المملكة العربية السعودية, هو صندوق التحوط الإسلامي الثاني([14])، إلا أن هذه الصناديق ما تزال في حاجة إلى مزيد من التطوير والتحسين وزيادة أصولها المالية. كما أنها بحاجة إلى تأصيل فقهي يقارب بين وجهات النظر المختلفة حول أهدافها وطريقة عملها، خاصة وأنها كانت وما تزال مثار حوار عميق طيلة عدة سنوات في دوائر المؤتمرات والندوات الإسلامية، وفي أوساط المهتمين بالتمويل الإسلامي
2/1 عقود التحوط في أسواق المال:
يقسم بعض الباحثين أهم فروع المشتقات المالية إلى ستة أقسام حتى وقتنا الحاضر الحاضر[**]،-فربما تظهر في المستقبل أقسام أخرى،- وهي: عقود الاختيارات (options)، العقود المستقبلية (futures)، العقود الآجلة Forward Currency Contracts،عقود المبادلات (Swaps،عقود إعادة الشراء، وعقود أسعار الفائدة. وتعد العقود الأربعة الأولى من أكثر العقود التي يركز عليها الباحثون عند تناولهم للمشتقات المالية، وهي تعد الأكثر تداولاً في الأسواق المالية العالمية.
والمشتقات المالية هي عقود تتوقف قيمتها من الأوراق المالية محل التعاقد, أو من السلع أومؤشرات الأسعار، ويمكن استخدامها للتحوط أو المضاربة ([15]). ويصنف المتعاملون فيها إلى ثلاث فئات، هي: فئة المتحوطين، وفئة التجار، وشريحة المضاربين([16]). والفرق بين هذه الفئات أن المتحوطين يقومون بنقل المخاطر إلى غيرهم، بينما يتحمل المضاربون المخاطرة([17]). فعقود المستقبليات (futures) هى تعاقدات مستقبلية تلزم الأطراف المتعاقدة على تسليم أو استلام سلع أو عملات أجنبية أو أوراق مالية بسعر متفق عليه في تاريخ محدد بغرض التحوط، وتجنب مخاطر تقلب الأسعار. ومن أنواعها - العقود المستقبلية على السلع، والعقود المستقبلية على أسعار الصرف. كما أن عقود الاختيارات (options) تمثل اتفاقًا للمتاجرة على زمن مستقبل متفق عليه بسعر محدد يعرف بسعر التنفيذ، وهو اتفاق يعطى الحق لأحد الطرفين في بيع وشراء عدد معين من الأوراق المالية من الطرف الآخر بسعر متفق عليه مقدماً لحماية نفسه من مخاطر انخفاض القيمة السوقية لأوراق مالية يمتلكها، ومن أنواعها خيار البيع، وخيار الشراء.
أما العقود الآجلة (Forward Currency Contracts) فهي العقود التي يلتزم فيها البائع أن يسَّلَم المشتري السلعة محل التعاقد في تاريخ لاحق بسعر يتفق عليه وقت التعاقد، يطلق عليه سعر التنفيذ([18]). في حين تمثل المبادلات
(Swaps) التزاماً تعاقدياً بين طرفين يتضمن مبادلة نوع معين من التدفق النقدي أو أصل معين يمتلكه أحد الطرفين مقابل تدفق أو أصل يمتلكه الطرف الآخر بالسعر الحالي، وبموجب شروط يتفق عليها عند التعاقد، على أن يتم تبادل الأصل محل التعاقد في تاريخ لاحق. وتستخدم المبادلات بغرض الوقاية من المخاطر السعرية في فترات مختلفة وتخفيض تكلفة التمويل. ومن أنواعها مبادلات الفائدة Interest Rate Swaps، ومبادلة العملات Currency Swaps.
هناك شبه واختلاف بين العقود المستقبلية والخيارات، فمن أوجه الشبه بينهما أن كلاهما من الأدوات التي تستخدم في التحوط، وتحقق للمتعاملين فيهما قدراً من المكاسب، أو نسبة من الخسارة. ومن أوجه الاختلاف بينهما أن التعاقد في العقود المستقبلية يكون على سلعة حقيقية مؤجلة التسليم، وأن السعر الذي جرى عليه التعاقد هو سعر هذه السلعة. في حين يجري التعاقد في عقود الخيار على أساس الحق في الاختيار بعيداً عن قيمة السلعة. إضافة إلى أن مقدار الربح والخسارة المتوقعة في الخيار تعتبر قليلة جداً، وهي قيمة الخيار، في حين أن مقدار الربح أو الخسارة في العقود المستقبلية يكون كبيراً.
3/1 الهدف من عقود التحوط:
تهدف عقود التحوط للحد من المخاطر المالية، وحماية الأصول من تقلبات الأسعار، وبالطبع لايمكن أن تلغي هذه العقود المخاطر المالية، ولكن يمكن أن تقلل منها، لذلك تجد أن هناك علاقةً وارتباطاً بين التحوط والخطر. فالخطر في اللغة هو الإشراف على الهلاك وخوف التلف. يُقال هذا أمر خطر، أي متردِّد بين أن يوجد وأن لا يوجد([19]). والخطر في الاصطلاح له تعريفات كثيرة تدور جلها حول الحالة التي تلازم الشخص عند اتخاذ القرارات؛ وتترتب عليها حالة من الشك أو الخوف، أو عدم التأكد من نتائج تلك القرارات
([20]).
أما الخطر في المفهوم المالي فهو ضرر مباشر متوقع للنشاط المرتبط بوحدة اقتصادية، بسبب وقوع أحداث اقتصادية، أو طبيعية أو سياسية، أو بفعل بشري. وفي حالة حدوثه تنتج خسائر مؤثرة، قد تؤدِّي إلى عدم استمرارية الوحدة الاقتصادية في النشاط الممارس، وخروجها من السوق([21]). لذلك فإن فالسيطرة على المخاطر أمر مطلوب، ومتطلب سابق، ينبغي أخذه في الاعتبار عند الشروع في علمية الاستثمار. تنقسم المخاطر التي تواجِه المصارف بشقيها التقليدية والإسلامية إلى نوعين: مخاطر مالية، ومخاطر غير مالية([22]). فالمخاطر المالية هي عبارة عن الخسائر المحتملة في الأسواق، وتُصنَّف إلى ثلاثة أقسام هي:
مخاطر السوق، وتحدث نتيجةً للتحوُّلات التي تطرأ على الأسعار، أو تغير في السياسات على مستوى الاقتصاد الكلي. ومن تلك المخاطر، مخاطر أسعار الفائدة، ومخاطر أسعار الصرف، ومخاطر التسعير.
المخاطر الائتمانية، وتنشأ عن عجز العميل، أو عدم رغبته في الوفاء بما عليه من التزامات تجاه المصرف، إما لعجز سببه التعثر أو الإفلاس، أو مماطلة متعمدة مقصودة. وعندئذ يلجأ البنك إلى التصرف في الضمان باعتباره ملاذاً آمناً.
مخاطر السيولة، وتنشأ نتيجة لعجز البنك في مواجهة احتياجات عملائه من السيولة في الأجل القصير. أو في حالة قصور التدفقات النقدية الداخلة عن مقابلة التدفقات النقدية الخارجة.
أما المخاطر غير المالية، (مخاطر الأعمال)، فتحدث نتيجةً للأعمال التي تمارسها المصارف، كمخاطر التشغيل، والمخاطر القانونية، والمخاطر السياسية، ومخاطر عدم الالتزام. لذلك تتجه المصارف بشقيها التقليدية والإسلامية للتحوط من هذه المخاطر باستخدام عدد من الأدوات كل حسب منهجيته في العمل.
ثانيا: تطبيقات عقود التحوط في المصارف الإسلامية وأحكامها الشرعية:
تعمل المصارف الإسلامية في بيئة تنافسية مع المصارف التقليدية ومع مثيلاتها الإسلامية، لذلك لابد أن تأخذ في الاعتبار كل ما يمكنها من السيطرة على المخاطر والتحوط من تقلبات الأسعار، وهي تسعى لاستخدام عقود التحوط؛ ولكن بطرق مختلفة تراعي خصوصيتها وطبيعة عملها والتزامها بأحكام الشريعة الإسلامية. وهناك عدد من أدوات التحوط تستخدمها المصارف الإسلامية، -وهي لاشك تختلف كثيرا عن أدوات التحوط التقليدية- من هذه العقود ما يلي:
2/1التحوط باستخدام خيار الشرط:
الخيار اسم مشتق من الاختيار، والاختيار هو الاصطفاء والانتقاء لخير الأمرين([23]). ويعني في المفهوم الفقهي أن يكون لأحد المتعاقدين، أو كليهما حق إمضاء العقد أو فسخه. والخيارات كثيرة ومتعددة، وأكثرها استخداماً في العقود، هي: خيار الشرط، وخيار الرؤية، وخيار العيب.
فخيار الشرط هو ما يثبت لأحد العاقدين أو لغيرهما من الحق في إمضاء العقد أو فسخه، بناء على اشتراط ذلك له، ومثاله: كأن يقول زيد لعمر بعتك هذا المحل بكذا، على أن يكون لي الخيار ثلاثة أيام، ويقبل المشتري ذلك. وقد يشترط المشتري ذلك ويقبل البائع([24])*.وقد يشترط الخيار لشخص آخر غير العاقدين، فيشترطه البائع أو المشتري؛ كأن يقول البائع أو المشتري: بعت الكتاب بكذا، أو اشتريت بكذا، على أن يكون لفلان الخيار في إمضاء العقد، أو فسخه في ثلاثة أيام ويقبل الآخر([25]).
وتعد عقود الخيارات التقليدية من أدوات الاستثمار المستحدثة في الأسواق المالية التي يستخدمها المستثمرون؛ ليس بهدف تحقيق الربح فقط، وإنما كوسيلة للتحوط من مخاطر تغير أسعار الأوراق المالية، وأسعار العملات الأجنبية -ويمكن التمييز بين نوعين من الاختيار هما: الاختيار الأمريكي، والاختيار الأوربي-([26](، اللذين لا يختلفان إلا في فترة التنفيذ، ففي الخيار الأمريكي تتم في أي وقت خلال الفترة التي تمتد منذ ابرام الاتفاق حتى التاريخ المحدد لانتهائه، أما في الخيار الأوربي، فإن التنفيذ لا يتم إلا في التاريخ المحدد لانتهائه-, ويعدها المستثمرون طريقة لتعظيم أرباحهم بأقصر الطرق وأسرعها من خلال المضاربة على فروق الأسعار. فيحقق المضارب ربحًا نتيجة شراء حق الشراء إذا ما تحققت توقعاته وهي ارتفاع سعر الأصل في السوق بأكثر من سعر التنفيذ. كما أنها تستخدم لأغراض التحوط، وهنا يكون المتعامل صاحب مركز مكشوف من العملة التي يرغب في حق شرائها, أو التي التزم بحق بيعها على دفعات مستقبلية خشية ارتفاع أسعارها.
إضافة إلى ذلك تستخدم عقود الخيارات في المجالات الاستثمارية، فحق الشراء أداة استثمارية بديلة عن حيازة أصل مؤقت بانتظار توقع ارتفاع السعر في وقت استحقاق عقد الخيار وإمكانية الشراء والاستثمار بالسعر الأقل وهو سعر التنفيذ، لهذا فان المتعامل المستثمر يمتلك المقدرة اللازمة لتنفيذ شراء الأصل الفعلي.
2/1/1 أوجه الاختلاف بين خيارات السوق والخيار الشرعي:
على الرغم من التقارب في المسمى بين خيارات السوق، والخيار الشرعي، فهناك اختلافات كبيرة بينهما، تتمثل في النقاط التالية:
الاختيار في أسواق المال عبارة عن عقد مستقل عن عقد البيع، يشتري فيه المستثمر حقاً يخوله البيع أو الشراء.
(ب) الخيار في الفقه الإسلامي هو عبارة عن حق فسخ العقد، بسبب مفضي إلى ذلك، إذن فهو تبع للبيع نفسه، وليس مستقلاً، وهو ليس له ثمن، ولا يجوز بيعه عند الفقهاء. ففي الخيار الشرعي محل العقد موجود ومتحقق، أما في الاختيار السوقي؛ فمحل العقد ليس موجوداً، وإنما الموجود هو السهم أو السلعة ولهما عقداً آخر.
(ج) الخيار السوقي طويل المدة، فيمكن أن يكون لعدة سنوات، بينما الخيار الفقهي محدد بفترة قصيرة حولها اختلاف بين الفقهاء، ولكن الأرجح أنها ثلاثة أيام.
(د) الخيار السوقي يمكن تداوله وبيعه غالباً ممن لا يملك السلعة أو السهم التي تكون ملكاً للآخر، بينما الخيار الشرعي لا يمكن بيعه، كما أنه تبع للعقد ومتعلق به.
وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته السابعة في مدينة جدة في عام 1992م تحريم عقود الخيارات بموجب قراره رقم (65/6/7)، ومن أبرز الأدلة التي استند إليها القرار على التحريم: تعارض عقود الخيار الشرطية مع قصد الشارع لتحقيق العدل: فعدم العدل في هذه العقود يكمن في إعطاء أحد العاقدين فرصةً واسعةً لأن يحقق أرباحاً على حساب المتعاقد الآخر، كذلك فإن اعتبار الشروط المرافقة لعقود الخيارات من الشروط الفاسدة التي تضم كل شرط لا يقتضيه العقد، أو يكون فيه منفعة لأحد العاقدين لا يوجبها العقد. كما أن البيوع الآجلة تنطوي على بيع الإنسان ما ليس عنده؛ فالذي يشتري حق خيار شراء الأسهم لن يكون بحاجة إلى امتلاك الأسهم, وكل ما يحتاجه هو أن يكون له رصيد معين في حسابه لدى السمسار([27]). وقد برر المجمع قراره بأن كان المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعةً، ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه، وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداء فلا يجوز تداولها.
وقد خالف بعض الباحثين قرار المجع في التبرير وفي الحيثيات التي استند عليها، مع اتفاقهم مع القرار في حرمة تلك العقود([28]), وذلك استناداً إلى أن بيع الأسهم بالثمن المتفق عليه في الموعد المحدد لا يحدث في بيع الخيار، بل إن الوسيط في السوق يقوم بالتسوية ويدفع للرابح ربحه دون بيع أو شراء أو تسليم أو تسَّلَم. وعلى فرض وقوع بيع حقيقي بايجاب وقبول من المشتري وتسليم الأسهم ودفع الثمن، وهو فرض غير واقع، فإنه سيكون نتيجة مواعدة من الجانبين، وليست من جانب واحد، لأن أحد العاقدين قد وعد بشراء السهم بالثمن المتفق عليه، ووعد الآخر ببيعها له بهذه الشروط.
وهناك من يرى من الباحثين في الاقتصاد الإسلامي إمكانية تطوير عقود الخيار وضبطها بأحكام الشريعة الإسلامية، قياسًا على بيع العربون والتأمين، والالتزام والكفالة، والحقوق المعنوية([29])، استناداً إلى الاختلاف في معنى المال. فمن قال: إن الحقوق المعنوية أموالاً أجاز بيعها, ومن قال: بأن المال يشمل الأعيان فقط، منع بيع هذه الحقوق، لأنها ليست أعياناً، وهذا هو رأي معظم فقهاء الحنفية. أما جمهور الفقهاء فهم مع الرأي الأول الذي يعتبر هذه الحقوق أموالاً، وبالتالي يجوز بيعها([30])
.
وقد اقترح محمد القري بعض الضوابط الاحترازية لتفادي عنصر المقامرة في عقود الخيارات بشكل خاص منها ([31]):
أن تتعامل المؤسسة مع مالكي الأسهم الحقيقيين، وأن تودع الأسهم لدى المؤسسة عند بداية العقد أو ما يثبت وجودها وملكيتها.
أن يمارس أسلوب الخيار الأوروبي فقط، أي ينفذ الخيار في آخر يوم من مدته, وذلك لتقليل فرص الاستفادة من التقلبات اليومية.
أن تنتهي مدة الخيار مع بداية أول ساعة في آخر يوم من أيام العقد، وذلك لتلافي الارتفاع بسبب تزايد الطلبات.
وفي الواقع تستخدم خيارات البيع والشراء في أسواق المال التقليدية بشكل كبير لتحقيق عدة أغراض، فهي تستخدم كبديل لعمليات البيع على المكشوف، فالمضارب الذي يتوقع انخفاض السعر يمكن أن يبيع على المكشوف، أو أن يشستري خيار بيع، حيث إنه يشتري الأسهم بسعر التعاقد محققاً الفرق بين السعرين، كما أنها تستخدم بغرض المضاربة من المستثمرين الذين يتوقعون انخفاض أسعار الأوراق المالية محل التعاقد عند نهاية تاريخ صلاحية هذه الخيارات.
كما أن عقود الخيار المزدوجة التي تجمع بين خيار البيع، وخيار الشراء، وبمقتضاها يصبح حامل هذه العقود أن يكون مشترياً للأوراق المالية محل التعاقد أو بائعا لها، فإذا ارتفعت أسعار السوق خلال فترة العقد كان مشترياً، وإذا انخفضت كان بائعاً، إضافة إلى ذلك تستخدم هذه الخيارات في عقود الفائدة، وعقود أسعار الصرف، وعقود المؤشرات([32]).
وتطبق المصارف الإسلامية خيار الشرط للتحوط من المخاطر بشكل واضح في الوعد بصرف العملات، وفي صيغة المرابحة للآمر بالشراء، ومثال تطبيقه في صيغة المرابحة أن يشتري المصرف الإسلامي السلع بشرط ثبوت الخيار له مدةً محددةً، كأن يشترط الخيار لمدة أسبوعٍ أو أسبوعين أو أكثر من ذلك.
وعلى قول جمهور الفقهاء؛ فإن خيار الشرط يثبت للمتعاقدين. وعلى الراجح أيضاً من أقوال الفقهاء؛ فإن تحديد مدة خيار الشرط ترجع لاتفاق المتعاقدين، وعليه يمكن للمصرف الإسلامي أن يشتري مع خيار الشرط المحدد بمدة معينة، فإن باع السلعة فبها ونعمت، وإن لم يبع فسخ العقد مع البائع ولم يلحق به ضرر([33]), ومثال ذلك: أن يشتري البنك منزلاً ويبيعه بالتقسيط على عميله الذي يعمل موظفًا في شركة ما، فيقوم البنك بتوقيع اتفاقية رغبة في الشراء مع المالك الحقيقي للمنزل لمدة عشرين يوماً، بحيث يلتزم المالك بعدم بيع البيت خلال هذه المدة حتى يتسنى للبنك حفظ ماله في حال عزوف الموظف عن توقيع العقد، ومن ثم يتحوط البنك من نكول عميله وصرفه النظر عن شراء العقار.
وقد جوز الفقهاء هذه المعاملة، فقد جاء في "المبسوط" للسرخسي([34])باب البيع والشراء: "رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ اشْتَرَاهَا الْآمِرُ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَخَافَ الْمَأْمُورُ إنْ اشْتَرَاهَا أَنْ لَا يَرْغَبَ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا قَالَ: يَشْتَرِي الدَّارَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِيهَا وَيَقْبِضُهَا ثُمَّ يَأْتِيهِ الْآمِرُ فَيَقُولُ لَهُ قَدْ أَخَذْتهَا مِنْك بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَيَقُولُ الْمَأْمُورُ هِيَ لَك بِذَلِكَ ولابد أن يقبضها على أصل محمد.
فأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ فلا حاجة لهذا الشرط لجواز التصرف في العقار قبل القبض عندهما، والمشتري بشرط الخيار يتمكن من التصرف في المشترى، بالاتفاق وإن اختلفوا أنه هل يملكه مع شرط الخيار أم لا، فإنما قال الآمر يبدأ ليتمكن من التصرف في المشترى، فيقول أخذت منك بألف ومائة لأن المأمور له لو بدأ قال بعتها منك، ربما لا يرغب الآمر في شرائها ويسقط خيار المأمور بذلك فكان الاحتياط في أن يبدأ الآمر حتى إذا قال المأمور هي لك بذلك تم البيع بينهما، وإن لم يَرْغَبْ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا يُمَكِّنُ الْمَأْمُورَ مِنْ رَدِّهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ بِذَلِكَ".
وقال ابن القيم وهو يذكر أن هناك بعض الحيل المباحة التي تجعل الإنسان يصل إلى حقه بلا مخالفة للشرع، قال: "المثال الحادي بعد المائة: رجل قال لغيره: اشتر هذه الدار أو هذه السلعة من فلان بكذا وكذا، وأنا أربحك فيها كذا وكذا، فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر، فلا يريدها، ولا يتمكن من الرد. فالحيلةُ أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام أو أكثر ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت، فإن أخذها منه، وإلا تمكّن من ردها على البائع بالخيار ([35]).
وجاء في قرارات "الهيئة الشرعية لبنك البلاد" (الضابط 12): "يجوز للبنك في عقد المرابحة عند شرائه للسلعة من البائع الأول أن يأخذها بخيار الشرط –خشية عدول العميل– ثم يعرضها للآمر بالشراء خلال مدة الخيار ولا يعد عرضها فسخا لذلك الخيار، فإن رغبها الآمر بالشراء وإلا ردها البنك إلى البائع الأول".
كذلك يمكن للبنك استخدام الخيار في الوعد بالصرف، حيث يحق لصاحب الخيار (الموعود) الحق –دون الإلتزام– أن يصرف أموالاً بفئات عملة معينة بعملة أخرى بمعدل سعر صرف موافق عليه مسبقاً وبتاريخ محدد، وذلك بناء على وعد من مانح الخيار (الواعد). ومثال ذلك إذا أتفق شخصان على بيع عشرة آلاف ريـال سعودي بما يعادلها من الجنيه السوداني بالسعر الحاضر؛ على أن يتم التسليم والاستلام بعد شهرين.
وكما هو معلوم، فإن المواعدة على الصرف محل خلاف بين أهل العلم قديماً وحديثاً
فالذي عليه الاتفاق أن المواعدة إن كانت ملزمة للطرفين، فإنها تدخل في عموم النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، فهي غير جائزة، حيث إن من شروط الصرف تقابض البدلين في مجلس العقد، وأن يخلو عقد الصرف من الأجل، وإذا كانت غير ملزمة للطرفين فهي جائزة([36]). فإذا تواعد شخصان مثلاَ على المصارفة بعد سنة مثلاً، واتفقا على أن يتم التقابض عندما يحل الأجل، ثم عقدا عقداً جديداً عند حلول الأجل، وتم التسليم والاستلام, فالاتفاق صحيح والعقد جائز. وممن قال بجوازها الإمام الشافعي في كتابه الأم "إذا تواعد الرجلان الصرف، فلا بأس أن يشتري الرجلان الفضة ثم يقرانها عند أحدهما حتى يتبايعاها ويصنعا بها ما شاء([37])*."ويفهم من هذا أنهما إذا تواعدا على عقد، فإنه يجوز التواعد، ثم بعد ذلك يجريان عقد البيع على الموعود بتبايعه، فالتواعد على العقد بيعاً أو غيره ليس بيعاً ولا نكاحاً. يقول ابن حزم "والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز؛ تبايعا بعد ذلك؛ أو لم يتبايعا لأن التواعد ليس بيعاً"([38]).
يتبع