ابو وليد البحيرى
2018-07-29, 10:51 PM
ضوابط الطّيب المحرَّم على المحرِم(1)
قاسم عبدالواحد
الحمد لله ربّ العالمين, والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, سيّدنا ونبيّنا محمد الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين. أمّا بعد:
فللعلماء فيما يعتبر محظورًا على المحرِم من الطيب ضوابط, كما أن لهم ضوابط فيما لا يعتبر منه محظورًا؛ ومن تلك الضّوابط ما وقع فيها الاتفاق بين أهل العلم رحمهم الله تعالى, ومنها ما وقع بينهم فيها الخلاف, فنبدأ حديثنا في هذه الحلقة بالضّوابط التي هي محلّ وفاق بين أهل العلم؛ ثمّ نتبعها بالتي فيها خلاف بينهم رحمهم الله تعالى, فنقول وبالله التوفيق:
أوّلاً: الضّوابط التي وقع في اعتبارها الاتفاق بين أهل العلم رحمهم الله تعالى.
الأوّل:اتّفق أهل العلم على أن للمحرم شمّ واستعمال ما ينبته الإنسان ممّا لا يقصد للطيب, ولا يتّخذ منه الطّيب؛ وذلك كالفواكه التي لها روائح طيّبة, أو ما يطلب للأكل أو للتداوي؛ كالقرنفل, والفلفل, والدارصيني, والهيل.
الثّاني:واتفقوا على أنّ للمحرم شمّ واستعمال نبات الصّحراء؛ التي لها روائح زكيّة كالإذخر, والخزامى, والقيصوم, والشيح, ونحو ذلك.
الثّالث:واتفقوا على حرمة استعمال ما كان معظم الغرض منه الطيب, ويتخذ منه الطيب؛ وعلى وجوب الفدية باستعماله؛ وذلك مثل المسك, والكافور, والعنبر, والزعفران, والعود, والصندل[1].
قال النووي رحمه الله تعالى: يشترط في الطيب الذي يحكم بتحريمه أن يكون معظم الغرض منه الطيب واتخاذ الطيب منه, أو يظهر فيه هذا الغرض هذا ضابطه؛ ثم فصلوه فقالوا: الأصل في الطيب المسك والعنبر والكافور والعود والصندل والدريرة ونحو ذلك, وهذا كله لا خلاف فيه, والكافور صمغ شجر معروف.
وأما النبات الذي له رائحة فأنواع: منها ما يطلب للتطييب واتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين والخيري والزعفران والورس ونحوها فكل هذا طيب.
ومنها: ما يطلب للاكل أو للتداوي غالبا كالقرنفل والدارسينى والفلفل والمصطكى والسنبل وسائر الفواكه, كل هذا وشبهه ليس بطيب, فيجوز أكله وشمه وصبغ الثوب به, ولا فدية فيه؛ سواء قليله وكثيره, ولا خلاف في شيء من هذا.
ومنها: ما ينبت بنفسه ولا يراد للطيب كنور أشجار الفواكه كالتفاح والمشمش والكمثرى والسفرجل وكالشبح والعيصوم وشقائق النعمان والادخر والخزامى[2].
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: والنبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب: أحدها: ما لا ينبت للطيب، ولا يتخذ منه، كنبات الصحراء، من الشيح والقيصوم والخزامى، والفواكه كلها من الأترج والتفاح والسفرجل وغيره، وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب، كالحناء والعصفر، فمباح شمه، ولا فدية فيه.
والثاني: ما ينبته الآدميون للطيب، ولا يتخذ منه طيب، كالريحان الفارسي، والمرزجوش والنرجس، والبرم، ففيه وجهان.
والثالث: ما ينبت للطيب، ويتخذ منه طيب، كالورد والبنفسج والياسمين والخيري، فهذا إذا استعمله وشمه، ففيه الفدية؛ لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه، فكذلك في أصله[3].
ثانيًا: الضّوابط التي وقع في اعتبارها الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى.
الأوّل:شم المحرم واستعماله ما ينبته الآدميون للطيب, ولا يتخذ منه الطيب كالرياحين, والنرجس, والريحان الفارسي, وسائر الرياحين؛ فهل في ذلك فدية أم لا؟.
نقول وبالله التوفيق: اختلف أهل العلم في إيجاب الفدية في شم المحرم ما ينبته الآدميون للطيب, ولا يتخذ منه الطيب, ولهم في ذلك قولان مشهوران:
القول الأوّل: أنه لا فدية على المحرم في شم الرياحين. وهذا مذهب الحنفيّة, والمالكيّة, والشافعية في قول, وهو المذهب عند الحنابلة[4].
في البدائع: ويكره للمحرم أن يشم الريحان, كذا روي عن ابن عمر وجابر - رضي الله عنهما - أنهما كرها شم الريحان للمحرم؛ ولو شمه لا شيء عليه عندنا[5].
وفي المدونة: كان مالك يكره للمحرم شم الرياحين، وهذا كله من الرياحين ويقول من فعله فلا فدية عليه فيه[6].
وقال ابن قدامة: الثاني: ما ينبته الآدميون للطيب، ولا يتخذ منه طيب، كالريحان الفارسي، والمرزجوش والنرجس، والبرم، ففيه وجهان؛ أحدهما، يباح بغير فدية[7].
الأدلة:
الدّليل الأوّل: ما أخرجه البخاري صحيحه تعليقًا؛ أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة، ويتداوى بما يأكل الزيت، والسمن»[8].
ونوقش: بأنه خالفه في ذلك غيره من الصحابة كجابر بن عبد الله, وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما, كما سيأتي ذلك عند ذكر أدلة أصحاب القول الثَّاني.
الدّليل الثَّاني: ما أخرجه ابن المقرئ في معجمه؛ أن عثمان بن عفان – رضي الله عنه - سئل عن المحرم يدخل البستان قال: «نعم، ويشم الريحان»[9].
نوقش:بأنه ضعيف, قال النووي: وأما الأثر المذكور عن عثمان فغريب[10]. وقال ابن عبد الهادي: فهذا حديث موضوع, وإسناده مصنوع عند من له أدنى بصيرة في هذا الشأن, وصنعه بعض المجاهيل بلا ريب[11].
الدليل الثالث: أن الرياحين نبات يزرع, ولا يسمى طيبا, ولا يتخذ منه طيب, فوجب أن لا يوجب شمه الفدية كالشيح والقيصوم والفاكهة[12].
نوقش:بأن كونه نباتا لا يخرجه من أن يكون طيبا, بدليل الورس والزعفران.
أجيب: بأن الرياحين لا يتطيب منها بنفسها, وإنما يتطيب بما يتخذ منه بخلاف الزعفران, فإنه يتطيب منه بنفسه, ولا يلزم من كون فرعه طيبًا أن يكون طيبًا[13].
ونوقش: بأن شمه فيه من الاستمتاع والترفه ما قد يزيد على شم الزعفران والورس[14].
القول الثَّاني في المسألة:وجوب الفدية على المحرم بشم الرياحين. وهذا هو المعتمد عند الشّافعية, وهو رواية عند الحنابلة[15].
قال النووي: ومنها ما يتطيب به ولا يتخذ منه الطيب كالنرجس والمرزنجوش والريحان الفارسي والآس وسائر الرياحين ففيها طريقان حكاهما البندنيجي؛ أصحهما عنده: أنها طيب قولا واحدا, والطريق الثاني: وهو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما, الصحيح الجديد أنها طيب موجبة للفدية[16].
الأدلة:
الدّليل الأوّل: ما أخرجه البيهقي في الكبرى؛ أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه سئل عن الريحان أيشمه المحرم والطيب والدهن؟ فقال: لا[17].
نوقش: بأن المروي عنه - رضي الله عنه – معارض للمروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, وليس أحدهما بأولى من الآخر.
أجيب:بأن أثر جابر بن عبد الله - رضي الله عنه – موافق للأصل؛ وهو أن الطيب إنما منع منه تركًا للترفه به, وهذا الترفه الممنوع يحصل بشم الريحان[18].
الدليل الثَّاني:أن الرياحين نبت للطيب, فوجب أن تكون طيبًا كالورد والبنفسج.
نوقش:بأنه وإن كان طيب الرائحة, فإنه لا يتخذ طيبًا؛ فلذا لا يوجب شمه الفدية[19].
أجيب: بأن القصد من الطيب رائحته دون عينه, فإذا استعملت عينه وجبت الفدية بوجود الرائحة لا بعينه؛ ألا ترى أنه إذا استعمل ماء الورد وقد ذهبت رائحته لم تلزمه الفدية[20].
الدليل الثالث:أن الأصل في منع المحرم من محظورات الإحرام هو ترك الترفه ومن ضمنه الطيب, والترفه حاصل بشم الريحان؛ بل الترفه الحاصل بشمه أكثر من الحاصل بشم الزعفران والورس ونحوهما, مما حصل الاتفاق على منع المحرم منه[21].
نوقش:بأن ما حصل الاتفاق على منعه في الزعفران والورس إنما هو استعماله في البدن والتلطخ به, وأما شمه فليس فيه اتفاق.
وأجيب: بأن الاستمتاع بالطيب، يكون تارة بالشم، وتارة بالاستعمال في البشرة ثم شمه فكان بالفدية أولى؛ لأنه يستعمله ليشمه[22].
التّرجيح:بعد عرض القولين في المسألة وأدلتهما تبيّن لنا – والله تعالى أعلم – أن القولين قويّان؛ لأن لهما سلفا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم, إلا أن القول بإيجاب الفدية في شم الرياحين أقوى؛ لأنه مبني على الاحتياط, ولأن الأخذ به فيه خروج من هذا الخلاف.
غير أنه يحسن تقييد القول بوجوب الفدية بشم الرياحين بأن يكون هذا الشم مقصودا, وأن يكون للاستمتاع برائحة ذلك المشموم؛ بحيث لا تجب الفدية إذا كان الشم بقصد التعرف أو الاختبار؛ وذلك لأن مقصد التّرفه لا يحصل إلا بهذا القيد؛ إذ هو سبب التحريم في محظورات الإحرام والله تعالى أعلم[23].
وفي الحلقة القادمة نذكر – بإذن الله تعالى – الموضع الثّاني الذي وقع فيه الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى؛ وهو إيجاب الفدية من شمّ الطيب, وإلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المراجع
[1] ينظر: بدائع الصنائع 2/191, المجموع 7/277, المغني 3/293, النّوازل في الحج للشلعان ص: 198.
[2] المجموع 7/277.
[3] المغني 3/293-294.
[4] بدائع الصنائع 2/191, المدونة 1/459, الذخيرة 3/311, المجموع 7/278, المغني 3/293-294.
[5] بدائع الصنائع 2/191.
[6] المدونة 1/459.
[7] المغني 3/293-294.
[8] صحيح البخاري 2/136 كتاب الحج/ باب الطيب عند الإحرام، وما يلبس إذا أراد أن يحرم، ويترجل ويدهن.
[9] المعجم لابن المقرئ ص: 338 برقم 1108.
[10] المجموع 7/276.
[11] تنقيح أحاديث التعليق 2/436.
[12] النوازل في الحج ص: 200.
[13] النوازل في الحج ص: 200.
[14] شرح العمدة 2/92.
[15] المجموع 7/278, المغني 3/294.
[16] المجموع 7/278.
[17] السنن الكبرى 5/92 برقم 9105.
[18] ينظر: النوازل في الحج ص: 201.
[19] ينظر: الإشراف 1/473.
[20] ينظر: النوازل في الحج ص: 201.
[21] ينظر: كشاف القناع 2/424, شرح العمدة 2/92, النوازل في الحج ص: 202.
[22] ينظر: الحاوي الكبير 4/111.
[23] ينظر: النوازل في الحج ص: 202.
قاسم عبدالواحد
الحمد لله ربّ العالمين, والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, سيّدنا ونبيّنا محمد الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين. أمّا بعد:
فللعلماء فيما يعتبر محظورًا على المحرِم من الطيب ضوابط, كما أن لهم ضوابط فيما لا يعتبر منه محظورًا؛ ومن تلك الضّوابط ما وقع فيها الاتفاق بين أهل العلم رحمهم الله تعالى, ومنها ما وقع بينهم فيها الخلاف, فنبدأ حديثنا في هذه الحلقة بالضّوابط التي هي محلّ وفاق بين أهل العلم؛ ثمّ نتبعها بالتي فيها خلاف بينهم رحمهم الله تعالى, فنقول وبالله التوفيق:
أوّلاً: الضّوابط التي وقع في اعتبارها الاتفاق بين أهل العلم رحمهم الله تعالى.
الأوّل:اتّفق أهل العلم على أن للمحرم شمّ واستعمال ما ينبته الإنسان ممّا لا يقصد للطيب, ولا يتّخذ منه الطّيب؛ وذلك كالفواكه التي لها روائح طيّبة, أو ما يطلب للأكل أو للتداوي؛ كالقرنفل, والفلفل, والدارصيني, والهيل.
الثّاني:واتفقوا على أنّ للمحرم شمّ واستعمال نبات الصّحراء؛ التي لها روائح زكيّة كالإذخر, والخزامى, والقيصوم, والشيح, ونحو ذلك.
الثّالث:واتفقوا على حرمة استعمال ما كان معظم الغرض منه الطيب, ويتخذ منه الطيب؛ وعلى وجوب الفدية باستعماله؛ وذلك مثل المسك, والكافور, والعنبر, والزعفران, والعود, والصندل[1].
قال النووي رحمه الله تعالى: يشترط في الطيب الذي يحكم بتحريمه أن يكون معظم الغرض منه الطيب واتخاذ الطيب منه, أو يظهر فيه هذا الغرض هذا ضابطه؛ ثم فصلوه فقالوا: الأصل في الطيب المسك والعنبر والكافور والعود والصندل والدريرة ونحو ذلك, وهذا كله لا خلاف فيه, والكافور صمغ شجر معروف.
وأما النبات الذي له رائحة فأنواع: منها ما يطلب للتطييب واتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين والخيري والزعفران والورس ونحوها فكل هذا طيب.
ومنها: ما يطلب للاكل أو للتداوي غالبا كالقرنفل والدارسينى والفلفل والمصطكى والسنبل وسائر الفواكه, كل هذا وشبهه ليس بطيب, فيجوز أكله وشمه وصبغ الثوب به, ولا فدية فيه؛ سواء قليله وكثيره, ولا خلاف في شيء من هذا.
ومنها: ما ينبت بنفسه ولا يراد للطيب كنور أشجار الفواكه كالتفاح والمشمش والكمثرى والسفرجل وكالشبح والعيصوم وشقائق النعمان والادخر والخزامى[2].
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: والنبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب: أحدها: ما لا ينبت للطيب، ولا يتخذ منه، كنبات الصحراء، من الشيح والقيصوم والخزامى، والفواكه كلها من الأترج والتفاح والسفرجل وغيره، وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب، كالحناء والعصفر، فمباح شمه، ولا فدية فيه.
والثاني: ما ينبته الآدميون للطيب، ولا يتخذ منه طيب، كالريحان الفارسي، والمرزجوش والنرجس، والبرم، ففيه وجهان.
والثالث: ما ينبت للطيب، ويتخذ منه طيب، كالورد والبنفسج والياسمين والخيري، فهذا إذا استعمله وشمه، ففيه الفدية؛ لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه، فكذلك في أصله[3].
ثانيًا: الضّوابط التي وقع في اعتبارها الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى.
الأوّل:شم المحرم واستعماله ما ينبته الآدميون للطيب, ولا يتخذ منه الطيب كالرياحين, والنرجس, والريحان الفارسي, وسائر الرياحين؛ فهل في ذلك فدية أم لا؟.
نقول وبالله التوفيق: اختلف أهل العلم في إيجاب الفدية في شم المحرم ما ينبته الآدميون للطيب, ولا يتخذ منه الطيب, ولهم في ذلك قولان مشهوران:
القول الأوّل: أنه لا فدية على المحرم في شم الرياحين. وهذا مذهب الحنفيّة, والمالكيّة, والشافعية في قول, وهو المذهب عند الحنابلة[4].
في البدائع: ويكره للمحرم أن يشم الريحان, كذا روي عن ابن عمر وجابر - رضي الله عنهما - أنهما كرها شم الريحان للمحرم؛ ولو شمه لا شيء عليه عندنا[5].
وفي المدونة: كان مالك يكره للمحرم شم الرياحين، وهذا كله من الرياحين ويقول من فعله فلا فدية عليه فيه[6].
وقال ابن قدامة: الثاني: ما ينبته الآدميون للطيب، ولا يتخذ منه طيب، كالريحان الفارسي، والمرزجوش والنرجس، والبرم، ففيه وجهان؛ أحدهما، يباح بغير فدية[7].
الأدلة:
الدّليل الأوّل: ما أخرجه البخاري صحيحه تعليقًا؛ أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: «يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة، ويتداوى بما يأكل الزيت، والسمن»[8].
ونوقش: بأنه خالفه في ذلك غيره من الصحابة كجابر بن عبد الله, وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما, كما سيأتي ذلك عند ذكر أدلة أصحاب القول الثَّاني.
الدّليل الثَّاني: ما أخرجه ابن المقرئ في معجمه؛ أن عثمان بن عفان – رضي الله عنه - سئل عن المحرم يدخل البستان قال: «نعم، ويشم الريحان»[9].
نوقش:بأنه ضعيف, قال النووي: وأما الأثر المذكور عن عثمان فغريب[10]. وقال ابن عبد الهادي: فهذا حديث موضوع, وإسناده مصنوع عند من له أدنى بصيرة في هذا الشأن, وصنعه بعض المجاهيل بلا ريب[11].
الدليل الثالث: أن الرياحين نبات يزرع, ولا يسمى طيبا, ولا يتخذ منه طيب, فوجب أن لا يوجب شمه الفدية كالشيح والقيصوم والفاكهة[12].
نوقش:بأن كونه نباتا لا يخرجه من أن يكون طيبا, بدليل الورس والزعفران.
أجيب: بأن الرياحين لا يتطيب منها بنفسها, وإنما يتطيب بما يتخذ منه بخلاف الزعفران, فإنه يتطيب منه بنفسه, ولا يلزم من كون فرعه طيبًا أن يكون طيبًا[13].
ونوقش: بأن شمه فيه من الاستمتاع والترفه ما قد يزيد على شم الزعفران والورس[14].
القول الثَّاني في المسألة:وجوب الفدية على المحرم بشم الرياحين. وهذا هو المعتمد عند الشّافعية, وهو رواية عند الحنابلة[15].
قال النووي: ومنها ما يتطيب به ولا يتخذ منه الطيب كالنرجس والمرزنجوش والريحان الفارسي والآس وسائر الرياحين ففيها طريقان حكاهما البندنيجي؛ أصحهما عنده: أنها طيب قولا واحدا, والطريق الثاني: وهو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما, الصحيح الجديد أنها طيب موجبة للفدية[16].
الأدلة:
الدّليل الأوّل: ما أخرجه البيهقي في الكبرى؛ أن جابر بن عبد الله رضي الله عنه سئل عن الريحان أيشمه المحرم والطيب والدهن؟ فقال: لا[17].
نوقش: بأن المروي عنه - رضي الله عنه – معارض للمروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, وليس أحدهما بأولى من الآخر.
أجيب:بأن أثر جابر بن عبد الله - رضي الله عنه – موافق للأصل؛ وهو أن الطيب إنما منع منه تركًا للترفه به, وهذا الترفه الممنوع يحصل بشم الريحان[18].
الدليل الثَّاني:أن الرياحين نبت للطيب, فوجب أن تكون طيبًا كالورد والبنفسج.
نوقش:بأنه وإن كان طيب الرائحة, فإنه لا يتخذ طيبًا؛ فلذا لا يوجب شمه الفدية[19].
أجيب: بأن القصد من الطيب رائحته دون عينه, فإذا استعملت عينه وجبت الفدية بوجود الرائحة لا بعينه؛ ألا ترى أنه إذا استعمل ماء الورد وقد ذهبت رائحته لم تلزمه الفدية[20].
الدليل الثالث:أن الأصل في منع المحرم من محظورات الإحرام هو ترك الترفه ومن ضمنه الطيب, والترفه حاصل بشم الريحان؛ بل الترفه الحاصل بشمه أكثر من الحاصل بشم الزعفران والورس ونحوهما, مما حصل الاتفاق على منع المحرم منه[21].
نوقش:بأن ما حصل الاتفاق على منعه في الزعفران والورس إنما هو استعماله في البدن والتلطخ به, وأما شمه فليس فيه اتفاق.
وأجيب: بأن الاستمتاع بالطيب، يكون تارة بالشم، وتارة بالاستعمال في البشرة ثم شمه فكان بالفدية أولى؛ لأنه يستعمله ليشمه[22].
التّرجيح:بعد عرض القولين في المسألة وأدلتهما تبيّن لنا – والله تعالى أعلم – أن القولين قويّان؛ لأن لهما سلفا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم, إلا أن القول بإيجاب الفدية في شم الرياحين أقوى؛ لأنه مبني على الاحتياط, ولأن الأخذ به فيه خروج من هذا الخلاف.
غير أنه يحسن تقييد القول بوجوب الفدية بشم الرياحين بأن يكون هذا الشم مقصودا, وأن يكون للاستمتاع برائحة ذلك المشموم؛ بحيث لا تجب الفدية إذا كان الشم بقصد التعرف أو الاختبار؛ وذلك لأن مقصد التّرفه لا يحصل إلا بهذا القيد؛ إذ هو سبب التحريم في محظورات الإحرام والله تعالى أعلم[23].
وفي الحلقة القادمة نذكر – بإذن الله تعالى – الموضع الثّاني الذي وقع فيه الخلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى؛ وهو إيجاب الفدية من شمّ الطيب, وإلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المراجع
[1] ينظر: بدائع الصنائع 2/191, المجموع 7/277, المغني 3/293, النّوازل في الحج للشلعان ص: 198.
[2] المجموع 7/277.
[3] المغني 3/293-294.
[4] بدائع الصنائع 2/191, المدونة 1/459, الذخيرة 3/311, المجموع 7/278, المغني 3/293-294.
[5] بدائع الصنائع 2/191.
[6] المدونة 1/459.
[7] المغني 3/293-294.
[8] صحيح البخاري 2/136 كتاب الحج/ باب الطيب عند الإحرام، وما يلبس إذا أراد أن يحرم، ويترجل ويدهن.
[9] المعجم لابن المقرئ ص: 338 برقم 1108.
[10] المجموع 7/276.
[11] تنقيح أحاديث التعليق 2/436.
[12] النوازل في الحج ص: 200.
[13] النوازل في الحج ص: 200.
[14] شرح العمدة 2/92.
[15] المجموع 7/278, المغني 3/294.
[16] المجموع 7/278.
[17] السنن الكبرى 5/92 برقم 9105.
[18] ينظر: النوازل في الحج ص: 201.
[19] ينظر: الإشراف 1/473.
[20] ينظر: النوازل في الحج ص: 201.
[21] ينظر: كشاف القناع 2/424, شرح العمدة 2/92, النوازل في الحج ص: 202.
[22] ينظر: الحاوي الكبير 4/111.
[23] ينظر: النوازل في الحج ص: 202.