تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تقرير عن كتاب: "نَشْأَةُ الْكُلِّيَّاتِ: مَعَاهِدُ الْعِلْمِ عِنْدَ الْـمُسْلِمِينَ وَفِي الْغَرْبِ".



أبوعاصم أحمد بلحة
2015-11-29, 04:50 AM
محمد مصطفى
6/24/2015

نَشْأَةُ الْكُلِّيَّاتِ: مَعَاهِدُ الْعِلْمِ عِنْدَ الْـمُسْلِمِينَ وَفِي الْغَرْبِ.
المؤلف: جورج مقدسي.
نقله الى العربية: محمود سيد محمد.
مراجعة وتعليق: أ.د: محمد على حبشي، أ.د عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان.
الناشر: مدارات للأبحاث والنشر.
الطبعة: الأولى عن المركز.
سنة النشر: 2015.
عدد الصفحات: 611 تشمل الفهارس والتذييلات والملاحق.
الطبعة الإنجليزية الأولى صدرت عام 1981.
قراءة: محمد مصطفى
_____________________________

مُقدِّمةٌ
إنْ أردت أنْ تعرف كيف تفاعل المسلمون مع الوحي، وماذا كانت نتيجة هذا التفاعل على مرِّ القرون، وإلى أي مدى يزال النص قادرًا عبر تعاطي المؤمنين معه على إنتاج أبنية ومناهج تعليمية، ونظم ومؤسسات دراسية، وشبكات اتصال اجتماعية، فبُغيتك هنا في «نشأة الكُلِّيات» لجورج مقدسي.
وُلد جورج أبراهام مقدسي (1920م)، وتُوفي (2002م) بمدينة ديترويت، ولاية ميتشغان، لأسرة من أصول عربية، وتلقى تعلميه الأَوليَّ بالولايات المتحدة الأمريكية، حصل في عام 1947م على الدرجة الجامعية الأُولى من جامعية ميتشغان، ثُمَّ على الدرجة الجامعية الثانية من جامعة جورجتاون بواشنطن العاصمة في العام الذي يليه، وهي نفس الجامعة التي حصل منها على درجة الماجستير في عام 1950م، وحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون سنة 1964م، وكان موضوع الرسالة حول أبي الوفا بن عقيل الحنبلي التي لا تزال مرجعًا رئيسًا حول تاريخ الحنابلة والتاريخ الفكري للإسلام في القرن الخامس الهجري، وقد تأثر في اختيار موضوع الرسالة بأستاذه هنري لاووست (1905-1983م)، الذي كان عمله الرئيس حول ابن تيميه، توسع مقدسي في دراسة التاريخ الفكري الإسلامي والأوروبي الوسيط على السواء، وكان من ثمار هذه الدراسة كتاب «تطور العلوم الإنسانية» الذي نشر 1990م، وكتابنا الذي نعرض له «نشأة الكليات» والذي نشره 1981م.

يحتوي كتاب «نشأة الكليات» على أربعة فصول:
الأول بعنوان: «النظم»، ويحتوي على ثلاثة أبواب، يتطرق أولهما إلى: نشأة المذاهب الفقهية، وتطورها، وعلاقة المذاهب بالمدرسة، وحركات علم الكلام، ومدى تعلقها بالمذاهب، والثاني في: تصنيف معاهد العلم من المساجد والجوامع، إلى المدارس والمكتبات، والثالث في: نظام الوقف، وقانونه، وشروطه، وأهدافه، والأحكام الشـريعة المتعلقة به، وعلاقته بالضمير الإنساني.
أمَّا الفصل الثاني بعنوان: «التعليم»، وهو عبارة عن ثلاثة أبواب، أولهما: تقسيمات حقول المعرفة، ويتحدَّث فيه المؤلف حول العلوم الشـرعية، والعلوم المنطقية والفلسفية، وعلوم الأدب والنحو وغيرها، والباب الثاني بعنوان: «نظام التعليم»، تحدث فيه عن المنهج الدراسي، والمقررات الدراسية، مُكرِّسًا مساحةً خاصة للسيرة التعليمية لعدد من العلماء المتقدمين، أما الباب الثالث والذي بعنوان: «طريقة التعلم»، تحدث فيه عن تنظيم العملية التعليمية، وطريقتها في خمسة عناصر أساسية: «التذكر ووسائله، الاستظهار، الإعادة، الفهم، المذاكرة، دفتر المذكرات»، وأعطى مساحة كبيرة لـما تعنيه الطريقة المدرسية، سيما الجدل والمناظرة، والخلاف والتقرير/ التعليقة.
الفصل الثالث بعنوان: «مجتمع أهل العلم»، تناول المدرسون وألقابهم، ومنزلتهم في المجتمع، وأهمية التدريس والدروس الافتتاحية، ومصادر الدخل لهم في الباب الأول، وفي الباب الثاني: تحدث عن الطلبة وتصنيفاتهم، وجوانب من حيواتهم، وفي الباب الثالث: تحدث عن المناصب والمِهن والوظائف المتعلقة بكل فرع من فروع العلوم الشـرعية، كذا المتعلقة بكل بنية من المباني التعليمية.
أما الفصل الرابع: فهو مقارنة متضمنة كل عناصر الفصول الثلاثة بين العالـم الإسلامي والغرب في العصـر الوسيط، وقد تبلور اتجاهان في هذا الصدد:
الأول: ينفي تمامًا أيَّ مناصة أو تماس أو تأثر، وهو رأي جي. إي. فون جرونيباوم في كتابه: «الإسلام في العصـر الوسيط»، حيث يقول: «عندما يتم تحليل الحضارة الغربية، بعد أن تبلورت خلال العصور الوسطى وعصـر النهضة، إلى مكونتها وعناصرها الأساسية، يظهر بوضوح التأثير المحدود لاتصالاتها الممتدة، وإن كانت سطحية نوعًا ما، مع العالـم الإسلامي، وقد يقول قائل: إنَّ الحضارة الإسلامية أسهمت بالشـيء الكثير من التفاصيل، وإنَّها قامت بدور العامل المساعد، غير أنَّها لـم تؤثر في البنية الأساسية للغرب، وقد تختلف الآراء ويدور النقاش حول الذي يمكن الذهاب إليه في تفسير الحضارة الغربية الحديثة على أنَّها استمرار للحضارة الكلاسيكية، ولكن ممَّا ينافي العقل: أنْ يصل الأمرُ إلى حدِّ التساؤل عمَّا إذا كان عنصـر من عناصرها الأساسية قد نشأ بتأثير إسلامي.. وفيما عدا فلسفة ابن رشد؛ يبدو أنَّه لـم يحدث مطلقًا أنْ أثَّر فكر إسلامي أصيل في الفكر الغربي تأثيرًا على نحو يستمر معه ردحًا من الزمن، كمؤثر حيوي يلتحم به التحامًا تامًا ويصبح ضروريًّا لاستمرار نموه».
أما الرأي الثاني؛ فيمثله و. مونتجومري واط في كتابه: «تأثير الإسلام على أروربا في العصـر الوسيط»، حيث يقول: «عندما يُلم المرء بجميع جوانب المجابهة بين المسيحية والإسلام في العصور الوسطى، يتضح له أنَّ تأثير الإسلام على العالـم المسيحي الغربي أكبر ممَّا يقدر عادة، فقد شارك الإسلام أوروبا الغربية في كثير من المنتجات المادية، والاكتشفات التقنية، وحفز أوروبا فكريًّا في مجالات العلم والفلسفة، ولـم يقتصـر الأمر على ذلك، بل إنَّه استثار أوروبا، وحملها على أن تكون صورة جديدة عن نفسها، ولـما كانت أوروبا في موقف المقاومة والمعارضة للإسلام؛ فإنَّ ذلك جعلها تُقلِّل من شأن تأثير المسلمين، وتُبالغ في اعتمادها على تراثها الإغريقي والروماني، ولذلك؛ فقد أصبح من الواجبات المهمة الملقاة على عاتق أبناء أوروبا الغربية ـ ونحن ندخل في عصـر العالـم الواحد ـ أنْ يُصحِّحوا هذا التركيز الخاطئ، وأن يعترفوا اعترافا تامًا بما نحن مدينون به للعالـم العربي والإسلامي».

في نهاية الكتاب يوجد مُلحقان:
§ الأول: مراجعة نقدية، ويحتوي على رأي خوليان ريبرا في التأثير الإسلامي، والمدرسة في رأي فان برشم، والمدرسة في رأي إجناس جولدتزيهر، المدرسة في رأي ج. بيدرسن، والمدرسة في رأي يوسف إيخه ومناقشة مقدسي لهذه الآراء.
§ والثاني: يتضمن ذكر أهم المراجع المركزية المتعلقة بالدراسة ككتاب النعيمي: «الدارس»، و«الجامع المختصـر»، لابن الساعي، و«universities» لرشدال غيرهم.

تعقَّب المراجعون المُؤلِّف في بعض المواضع اليسيرة، أهمها في:
حديثه عن قوة المذاهب الفقهية، وتأثيرها، والتي ـ وَفقَ رأيِه ـ ألجأت المذاهب الاعتقادية المخالفة لأهل السُّنَّة للتستر بها، حيث أوردوا التعليق الآتي: «المؤلف هاهنا يَفصل بين ما لا فصل فيه، فليست الأشعرية طائفة منفصلة عن الشافعية أو المالكية، وليست المعتزلة بمنفصلة عن الحنفية، بل دخلت الأصول الأشعرية بأصول الشافعية، وكذلك الأمر بالنسبة للمعتزلة، ولـم يحدث ما زعمه المؤلف من أنَّ انتساب بعض الطوائف الكلامية إلى مذاهب فقهية كان الغرض منه التستر بشـرعيَّةٍ مُعترَفٍ بها»، وأرى أنَّهما لـم يفهما كلامه بصورة صحيحة، حيث إنَّ مقصود مقدسي - حسب تصوري - هو احتياج المذاهب العقدية إلى الشـرعية المستمدة من قانون الشـريعة، والذي تمظهر في المذاهب كحوامل وممرات عبور للجُمل الاعتقادية، وهذا معروف تاريخيًّا، ويظهر في كيفية اختيار كل اتجاه عقدي مذهبًا فقهيًّا، كما فعل الأشاعرة بتمذهبهم بالمذهب الشافعي على سبيل المثال؛ لأنَّه مرتبط بالممارسة اليومية المجتمعية، وبسلطة الشـريعة، فيسهل تمرير العقدي هاهنا وبثه.
والنقد الثاني: مُتعلِّقٌ برؤية مقدسي لصـراع أهل السنة مع المعتزلة، والذي عبَّر عنه بنصرتهم على المذهب العقلي بإطلاق، حيث علَّق المؤلفان بقولهما: «إنَّما انتصر أهل السُّنة على المذهب العقلي المنحرف، حيث إنَّ أهل السُّنة لا يستبعدون التفكير العقلي المنضبط».

وإليكم عرض الكتاب عبر جولة سريعة ومكثفة:
نشأة المذاهب الفقهية:
يبدأ جورج مقدسي رحلته بالحديث عن نشأة المذاهب الفقهية، ويشير إلى مفتاح فهم ظاهرة المذاهب الفقهية الكامن في التفاعل بين الفقه / أهل الرأي / المعتزلة من جانب، وأهل الحديث من جانب آخر، والذي أدَّى لتحول طبيعة المذاهب من نسبتها إلى الجغرفيا / المكان (مذهب أهل الكوفة، البصرة، المدينة.. إلخ) إلى الأشخاص (أبوحنيفة، مالك، الشافعي، ابن حنبل، ابن جرير... إلخ)، ومنها إلى روابط مدنية ذات سمة تنظيمة، لافتًا النظر إلى أنَّ استمرار مذاهب بعينها واندثار أخرى لـم يكن راجعًا للسلطة السياسية أو مشايعة الحاكم، فهذا ـ في اعتقاد مقدسي ـ وضع للعربة أمام الحصان؛ لأنَّ السياسيين يُولون تأييدهم لما يُحقِّقُ مصلحتهم الكبرى، ويؤيدون وينصـرون مراكز القوة القائمة بالفعل، إنَّما كانت العوامل الرئيسية بعد قوة المذهب، وسُلطة المُؤسِّس الفقيه: نشـر أصحابه وتلاميذه للمذهب، والمحافظة على تدوين دروسه وتعاليمه، والأوقاف التي كانت لتدريس مذهب فقهي معين، والتي كانت تعتبر أداةَ حشد للأتباع، واعتبار أهل السُّنة تعدد المذاهب عاملَ ضعفٍ وفُرقة في صراعهم مع مخالفيهم من المعتزلة وغيرهم، وقد تشكَّلت المذاهب على هيئة مماثلة للنبي وأصحابه، فمثلما كان النبي إمامًا لأتباعه؛ كذلك كان كل مذهب يتألف من إمام وأصحابه.
أمَّا عن إغلاق الباب، أمام تكوين مذاهب جديدة يقول مقدسي: إنَّه لا يُمكن أن يحدث إلَّا نتيجة لرفض الفقهاء أنفسهم لتكوينها، فليست هناك سلطة أو جهة أخرى في الإسلام يمكنها أن تُخرج إلى حيِّز الوجود مذهبًا جديدًا، ولـم تنقرض المذاهب إلَّا عندما تضاءل عدد أنصارها ودعاتها تدريحيًّا إلى أن وصلوا إلى حدِّ الانقراض.
يربط المقدسي بين الإسلام / الشـريعة التي هي حكم القانون حسب تعبيره: «لكنَّه نظام قانوني غير مرتبط برجال الدين، وبلا هيئة كهنوتية»، وبين تطور المذاهب الفقهية، حيث اعتبرها وسيلة تعبير لأهل السُّنة عن معتقداتهم، وحيث يُمثِّل المذهب الحنبلي الشكل النهائي لانتصارهم، ويرى المقدسي أنَّ قوة المذاهب الفقهية وشرعيتها المستمدة من القانون / الشـريعة ألجأت المذاهب العقدية كالمعتزلة والأشاعرة إلى التسلُّل إليها؛ لاكتساب هذه الشرعية.

المدارس، المعاهد:
أفرزت المذاهب الفقهية الأبنية التعليمية، في أول الأمر كان «الجامع بحلقاته والمسجد»، وهو المساحة الرئيسية للتعليم، حيث كان يتم فيه تدريس جميع العلوم الشـرعية بما فيها الفقه، وهو ـ على حسب تصنيف مقدسي ـ المعهد الذي لا يُدرِّس العلوم الدخيلة / علوم الأوائل «المنطق، وعلم الكلام، والفلسفة اليونانية، والطبيعيات»، ثم نشأت المعاهد التي تُدرَّس فيها العلوم الدخيلة بالتوازي، والتي كانت تسمى بعدد من المسميات: «دار، بيت، خزانة»، ثم نشأت المدرسة إمَّا بدون مسجد أو بمسجد ملحق بها، وقد اختصت بتدريس العلوم الشـرعية فقط خاصة الفقه.
كانت المدرسة تَطوُّرًا طبيعيًّا لمؤسستين ظهرتا قبلها، وهما: المسجد بصفته مدرسة للفقه، والخان الذي كان يُقام إلى جواره؛ لينزل فيه الطلاب الذين يدرسون الفقه في المسجد كمسكن لهم، ومن ثَمَّ تطور هذا المعهد العلمي أو الكلية على ثلاث مراحل: من المسجد إلى «مجمع المسجد / الخان» إلى المدرسة، وعن المدرسة الأولى تطورت عدة مدارس (المدرسة الثنائية، المدرسة الثلاثية، المدرسة الرباعية، المدرسة ذات المسجد، المدرسة ذات الجامع، المدرسة بدار الحديث، المدرسة بتربة، المدرسة بدار الحديث وتربة، المدرسة بخانقاه، المدرسة برباط، المدرسة البيمارستان، المدرسة / مدرسة الطب، المدرسة / الزاوية، المدرسة ـ المشهد)، وكان عدد الطلبة في المدرسة الأشرفية: مائتين وخمسة وأربعين طالبًا ما بين مستمع ومشتغل، وفي الوقف الذي لـم يكن يحدد عدد الطلبة كان ممكن قبول مزيد من الطلبة مع تخفيض نصيب كل منهم من غلة الوقف، وكان يحدث هذا التخفيض في الأوقات التي تنخفض فيها غلة الوقف.
بجوار المدرسة ظهرت مؤسستان على قدر كبير من الأهمية، هما: المكتبات، والبيمارستانات (المستشفيات)، وكان النشاط الذي يجري في المكتبات يتعلَّق بالكتب، مثل: القراءة، والاطلاع، والنسخ، ومن المعروف أنَّه كانت تعقد فيها لقاءات المناقشة والمناظرة، وما أشبه ذلك، ولـم يتمَّ فيها تدريس برامج أو علوم إلَّا على وجه الاستثناء، أمَّا المستشفيات؛ فكانت مدارسًا للطب وعلومه بجوار وظيفتها الرئيسية.

الوقف:
يحسن بي الثناء هنا على مقدرة المقدسي على التجول بين المراجع والحصول على المعلومات من غير مظانِّها، حيث إنَّه لـما كانت المادة المؤلفة التي وصلت إلينا عن تاريخ الوقف وقانونه قليلة، وغير كافية؛ لجأ المُؤلِّف إلى كتب الفتاوى الخاصة بالوقف ومشكلاته المختلفة التي نشأت بصدد معاهد التعليم.
ترتبط المعلومات الأساسية التي تتيح لنا سبر أغوار المؤسسات التعليمة بقانون الوقف الذي أُسست عليه معاهد العلم في الإسلام، والتي وفَّرت تعليمًا فرديًّا في تنظيمه، ومتاحًا لكلِّ مَن يرغب من المسلمين، كان الوقف من حيث التمويل يُمثِّل دعمًا شخصيًّا بالأساس، ومن حيث التأسيس يُمثِّل ملكية خاصَّة، وإرادة حُرَّة من الواقف لا تتدخل فيها السلطة بأيِّ شكل من الأشكال، فلم يكن للدولة أو السلطة الحاكمة إشرافٌ على المناهج أو طرق التدريس بأكثر ممَّا كان لها من إشرافٍ على إنشاء معاهد التعليم ذاتها! فكان الوقف يُمثِّل التحرُّر الكامل على مستوى الإنشاء والممارسة.
ورغم أنَّ الوقف جامد بطييعته، فإنَّ ممارسة المناظرة، واستمرار البحث والاستقصاء جعل التعليم يفيض حيوية ونشاطًا، إلى أن جاء الوقت الذي عثرت فيه السلطة الحاكمة على طريقة للتدخل بنجاح لكبح جماح البحث والاستقصاء المنطلقة بلا قيود، وذلك بإحداث وظيفة براتب للمفتي، ولكن علماء الفقه أكَّدوا حقَّهم في حُرِّية البحث والفكر، كما تتمثل في ممارسة الاجتهاد، برفضهم تولِّي هذا المنصب مثلما رفضوا منذ العهد الأول للإسلام تَقلُّد منصب القضاء الذي كانوا يقبلونه في أغلب الأحيان بشـرط الاحتفاظ بحريتهم في الحكم دون قيود، وطبقًا لـما تمليه عليه ضمائرهم ودون ضغط من السلطة الحاكمة لاستصدار حكم شرعي مُقرَّرٍ سلفًا، غير أنَّ العلماء الذين عارضوا هذا الاتجاه كانوا يخوضون معركة خاسرة؛ لأنَّ عامَّة الناس لجؤوا إلى المفتي الذي يتقاضى راتبه من الدولة؛ لتفادي دفع أجرة المفتي الخاص، وقد أدَّى ذلك في نهاية الأمر إلى وقف تدفق الفتاوى التي بلا قيود، وتوقف المناظرات المفعمة بالحيوية، الأمر الذي ترتَّب عليه تدهورُ طريقةِ النظر، التي أصبحت مجردَ تمرين مدرس، فقدت وظيفتها الديناميكية التي كانت لها في السابق.
وكان الغرض من الوقف هو خيري بالأساس، ومُتمثِّل في وقف الأموال من أجل تقدُّم العلم، والذي كان مرادفًا لتقدُّم الدين في العصـر الأول للإسلام، وقد كان دافعُ الشـريعة من التصـريح بالأوقاف هو تمكين الواقف أو الواهب من تحقيق التقدُّم الروحي في الحياة الآخرة، والحصول على محبة الناس في هذه الحياة الدنيا بنفس الطريق التي يحظى بها من يُقدِّم الهدايا والعطايا، وإن يكن بدرجة أكبر، وتتمثَّل صور الوقف في: المدرسة، المسجد، الخوانق، الجوامع، المارستان، الرباط، الصدقة، عتق أسرى الحرب من سجون الكفار، بناء الجسور وغيرها الكثير.
ثَمَّةَ أمور متعلقة بشخص الواقف، على رأسها: الأهلية المتمثلة في كونه بالغًا رشيدًا، مالكًا ملكية صريحة للعقار الذي يرغب في وقفه، فإذا توفَّرت هذه الشـروط؛ كان للواقف حرية الاختيار التامة، فالشـروط التي يضعها الواقف لها قوة القانون «نصوص الواقف كنصوص الشـرع من حيث الوجوب»، والمُطَّلع على الفتاوى الصادرة عن فقهاء العصور الوسطى فيما يختص بمسائل الوقف يدرك على الفور أنَّ الشـروط الواردة في وثيقة الوقف لها حرمتها، ويجب العمل بموجبها عندما تصبح معروفة، وعليها تتأسس الفتوى.
كانت تُصرف أموال الوقف إذا كان عبارة عن مدرسة ملحق بها مسجد على الفقهاء المشتغلين، وعلى الطلبة المشتغلين، وعلى مدرس الفقه، وإمام المسجد، والمؤذن، والقيِّم، وعمارة المبنى، وصيانته بشكل عام، وتتم إدارة الوقف عبر المتولي / القيِّم / الناظر / المشـرف / نقيب الأشراف في أوقاف المتصوفة، أو عبر لجنة إشراف تدير شؤون الوقف والعاملين فيه، ويعلم بوجود الوقف عبر دواوين القضاة المكلفين بحفظ كتب الوقف أو السجلات الأميرية التي تحتوي على معاملات خاصة بالأوقاف حفظًا للحقوق، وتسهيلًا للتقاضي إذا تطلب ذلك، فالقاضي تشمل مهامه الإشراف على الأوقاف من أجل حماية العناصر التي يتألف منها الوقف، وزيادة غلته وجمعها، وإنفاقها في أوجه الصرف الصحيحة.

تقسيمات حقول المعرفة:
يذكر الطبيب ابن بطلان الأقسام الكبرى للعلوم التي ظهرت في بلاد الإسلام في منتصف القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي، وهي العلوم الإسلامية، والعلوم الفلسفية والطبيعية، وعلوم الأدب، كان للعلوم الإسلامية السيادة التامة على معاهد العلم، وفي القلب منها: سلطان العلوم الفقه الإسلامي، بينما كانت علوم الأدب في منزلة الوصيفات، على أنَّه مع ظهور علم الجدل واستعماله في دراسة أصول الفقه؛ توارت علوم الأدب إلى الظِّلِّ، أمَّا علوم الأوائل أي الإغريق؛ كانت تلقى معارضة من كل علماء المسلمين من ذوي العقيدة الإيمانية، وكانت هذه العلوم تُدرَّس سِرًّا، ولـم تكن تُدرج ضمن مقررات الدراسة المعتادة في معاهد التعليم الإسلامية، واستبعدت تمامًا من معاهد العلم بأكملها، استنادًا لسلطة الوقف الذي كان يحظرها باعتبارها مناهضة لتعاليم الإسلام والتوحيد إلَّا أنَّها وجدت متنفسها في المكتبات التي كانت تحتفظ بالكتب الإغريقية، والتى كانت تُعقد المناظرات بها حول الموضوعات العقلية والفلسفية.
وكان لجلب مؤلفات الإغريق إلى بلاد الإسلام أثرٌ عميقٌ في تطور الفكر والتعليم الإسلاميين، فقد أصبح علماء المسلمين يواجهون مشكلة واجهها آباء الكنسية من قبلهم، وتتمثَّل في كيفية استيعاب معارف الإغريق الوثنية ضمن مفهوم الإسلام للعالـم، والذي يقوم على أساس أنَّ الله هو خالقه، فظهر فكر إسلامي حاول إيجاد حلٍّ لهذه المعضلة، سواء في نطاق التعليم المنهجي داخل المعاهد أو خارجها، وقد جاء الحلُّ نتيجة للتفاعل بين أهل الحديث، تُمثِّلُهم المدرسة وما شابهها من المعاهد، وأهل الكلام العقليين تمثلهم دار العلم وأشباهها.
«وفي الوقت الذي كسبت فيه مؤسسات التعليم السُّنية المعركة ضد مؤسسات العقليين واستوعبتها، كانت قد استوعبت معها قدرًا كبيرًا من العلوم التي كانت تعارضها من قبل؛ إذ تسـربت أسلحة الجدل تدريجيًّا إلى الفقه؛ لأنَّ التفوق في الفقه يتحقَّق من خلال المناظرة القائمة على الخبرة في مجاليين أساسيين هما الخلاف والجدل».

نظام التعليم:
المنهج الدراسي: كان يوجد تسلسل تتابعي للمقررات الدراسية ينبغي اتباعه والالتزام به، ولُوحظ من خلال الكتب التي تتحدَّث عن التربية الإسلامية وتراجم العلماء ـ التي لجأ إليها المقدسي عندما لـم يجد مصنفات مفردة في المناهج الدراسية بالقدر الكافي ـ نمطًا عامًّا للدراسة، إلَّا أنَّه غير مترجم لبرامج موحدة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أنَّ مؤسس المعهد التعليمي كانت له حرية الاختيار في تنظيم مؤسسته بما في ذلك اختيار المقررات التي تدرس فيها.

التتابع النظري للمقررات الدراسية:
أورد المقدسي نموذجين:
§ أولهما: للهيتمي، حيث ذكر الترتيب الآتي «تفسير القرآن، الحديث، الأصول: (أصول الدين، وأصول الفقه)، المذهب، الخلاف، الجدل».
§ الثاني: حاجي خليفة، يضع خليفة ترتيبًا للمواد الدراسية طبقًا لأهميتها، مُشيرًا إلى أنَّ المواد التمهيدية يجب أن تسبق المواد الدراسية المطلوبة لذاتها؛ فإنَّ جميع المواد التي تتعلَّق بدارسة الألفاظ والعبارات يجب أن تكون تمهيدًا للمواد التي تتناول المفاهيم، وعلى هذا النحو ينبغي دراسة الأدب قبل المنطق، ودراسة هاتين المادتين قبل مبادئ الفقه، ودراسة هذه المبادئ قبل الخلاف، ثم يذكر ثلاثة أسباب لدراسة مادة قبل أخرى: «تفاوت الأهمية، أن تكون إحداهما مدخلًا للأخرى، أن تكون إحدهما جزءًا من الأخرى».

الحلقات:
كانت طريقة التعليم في الجامع تُسمى حلقة، وهي اصطلاحًا: اجتماع الطلبة حول مدرس، وبالتالي: برنامج دراسي أو دروس متتابعة، وأيضًا قاعة يعقد فيها شخص له مكانته اجتماعات، أو يُلقي محاضرات، أو التي يعطي فيها مدرس دروسه، وكان ترتيب الجلوس بحسب المستوى العلمي، فكُلَّما ازدادت معرفة الطالب بموضوع الدرس، وقويت معرفته بالفقه؛ زاد قربه إلى الشيخ، ومن هنا نشأ التعبير الشهير: «قرَّبه إليه»، وعندما يصل الطالب إلى المرحلة النهائية؛ ينشأ مفهوم الصحبة، حيث يتخذ الفقيه / العالـم من المنتهين أصحابًا له، وكانوا يتولَّوْن المناظرة دون تدخل من العالـم عندما تعرض مسألة بعينها، إلَّا عندما تدعو الحاجة إلى إيضاح، أو لمساعدتهم على إنهاء المناظرة، وتبدأ الحلقة بالدعاء، وتنتهي بالدعاء.

يتبع.

أبوعاصم أحمد بلحة
2015-11-29, 04:51 AM
النظام اليومي والعطلات:
شرط كتاب وقف المدرسة الصالحية بالقدس أن يحضـر المدرس الراتب مبكرًا إلى المدرسة، حيث يجتمع الطلاب له، ثم يبدؤون جميعًا بتلاوة جزء من القرآن، وبعد ذلك دعاء للواقف ولجميع المسلمين، وبعد أن يبدأ المدرس مجلسه في فقه المذهب، يليه فقه الخلاف، وينتهي بأصول الفقه، وبعد هذه الفروع الثلاثة من فروع علم الفقه، له أن يدرس ما يشاء من العلوم الإسلامية الأخرى، ثم يبدأ المعيدون، حيث يتولى كلٌّ منهم الإعادة للتلاميذ المخصصين له، وكان يمرنهم على الدروس التي تلقوها من المدرس في ذلك الصباح، ويرجع المعيدون بعد صلاة العصـر؛ لتدريب التلاميذ مرة أخرى، وكان المدرس يُدرِّس كُلَّ يوم من أيام الأسبوع فيما عدا أيام العطلات المعتادة، أو التي نصَّ عليها قانون الوقف.

سنوات الدراسة الطويلة:
كانت الدراسة تستمر سنوات عديدة، وفيما عدا السنوات الأربع لدراسة مقرر الفقه الأساسي في المرحلة الأولى، لـم تكن هناك فترات زمنية لأي حقل من حقول الدراسة، وكانت المدة اللَّازمة للحصول على إجازة التدريس تختلف اختلافًا كبيرًا من طالب لآخر.

المنحة الدراسية:
كان الوقف يُوفِّر ما يُعرف الآن بالمنحة الدراسية، ولكن استمرارها متوقف على مدى انضباط الطالب السلوكي والتحصيلي.

طريقة التعلم:
التذكر ووسائله: الاستظهار، حيث كانت تقوية الذاكرة أحد المعالـم الثابتة للتعليم الإسلامي في العصـر الوسيط، والإعادة حيث يذكر الفقيه الشيرازي أنَّه اعتاد تكرار كل درس من دروس الفقه مائة مرة، والفهم، حيث عبر عن هذا المعنى الزمخشـري في قوله: «العلم مدينة، أحد بابيها الدراية، والثاني الرواية»، والمذاكرة / التباحث / المجادلة / المناظرة / المناقشة وتتطلب أكثر من طرف وموضوع ما، ومعناها الأصلي: أنْ يستحضـر شخص إلى الذهن مع شخص آخر حكاية أو حديثًا، أو ما شابه ذلك. دفتر المذكرات / التدوين / النسخ، حيث كان وسيلة مهمة من وسائل الحفظ، ومرجعية رئيسية في عملية التعلم.
طريقة النظر أصولها وتطورها: إنَّ اهتمام المسلمين بكتب المنطق كان له جذور أعمق من مجرد الخلافات العقدية، سواء تلك التي نشأت بين علماء الكلام المسلمين، وعلماء اللاهوت النصارى، أو التي نشأت بين المعتزلة وأهل الحديث، نشأ ذلك الاهتمام من حاجة داخلية في المجتمع الإسلامي الذي يحكمه نظام تشـريعي، ويستقر فيه سلامة الرأي أو المعتقد على مبدأ الإجماع، ولـما كان الإجماع يمكن أن يكون سكوتيًّا، دون الحاجة إلى تصريح؛ فإنَّ علماء الفقه كانوا يشعرون بأنَّه يتعيَّن عليهم، التزامًا بما يُملِيه ضميرُهم عليهم أن يُعلنوا اختلافَهم في الرأي؛ لئلَّا يُعتبر رأيٌ ما يعارضونه، وكأنَّما قد نال قبولَهم الصامت ضمنيًّا، وحيث إنَّ مبدأ الإجماع ينعقد بناءً على ما استقرت عليه الآراء فيما سبق، وينعدم بوجود آراء مخالفة له، لعدم وجود مؤسسات رسمية تقرره أو تقدره؛ لأنَّه لا يوجد في الإسلام مجالس أو مجامع كنسية أو فئة من الإكليروس لتقرير سلامة الرأي أو المعتقد، تولَّدت طريقة النظر التي كان لزامًا على المرشح للحصول على الإجازة للتدريس أو الإفتاء إجادتها؛ ليدافع بنجاح عن أطروحاته في مناظرة شفهية؛ ليصبح فقيهًا، ويشترك في عملية تقرير الرأي الصحيح التي سينبني عليها وجود الإجماع أو الخلاف، بحيث يصبح نشاط الفقهاء في هذه العملية مناظر لنشاط المجامع الكنسية التي لـم يكن لها مكان في دين لا يعرف نظام السلطة الكهنوتية.
مر الاهتمام من جانب المسلمين بعلم المنطق بثلاث مراحل:
§ حركة الترجمة التي قام الأطباء / الفلاسفة بها.
§ الحركة التي أدَّت إلى المحنة التي أحدثها علماء الكلام الفلاسفة.
§ الحركة التي أدت إلى ظهور المذاهب الفقهية الشخصية الأربعة وتبلورها بعد المحنة.
وبحلول النصف الثاني من القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي: كانت جميع كتب المنطق التي وضعت الأساس للجدل وتطوير المناظرة قد تمت ترجمتها ودراستها واستيعابها، وتشمل كتابَيْ: «التحليلات الأولى، والثانية» analytics، و«المناقضات السوفسطائية» sophitical refutations، وكتاب «طوبيقا» أو (المواضع الجدلية) topics، الذي استلَّ منه طريقة حلِّ الخلاف وحسمه للوصول إلى الإجماع في أي مبدأ أو تطبيق، وكلها لأرسطو.
ومن ثمار المناظرة وعلم الجدل ظهر ما يُعرف بالتعليقة، وكان الفعل «علق» عندما يستعمل معه حرف الجر «على»، أو «عن» يُقال عن الطالب الذي يُدوِّن ملاحظات عن شيخه في درس الفقه، وكان يستعمل أيضًا للدلالة على ملاحظات المُدرِّس نفسه على الدرس، ظهرت التعليقة لا في مجال الفقه فقط، إنَّما أيضًا في المجالات الأخرى التي كانت تدور حولها المناظرات، ونعني بها: النحو، والكلام، والطب.
طور التعليقة فقهاء الشافعية والحنفية الذين كانوا أوَّلَ مَن بدأ التأليف فيها، ومن أشهر التعليقات: تعليقة الغزالي، الذي أعاد صياغتها في مصنفه «المنخول في علم الأصول»، وقد وضع مسودتها الأولى تحت إشراف إمام الحرمين الجويني. وتعليقة ابن عقيل: «الواضح في أصول الفقه»، حيث يقول: «اتبعت في تصنيف هذا المصنف طريقة أعرض فيها المذهب أولًا، ثم الحجة، ثم السؤال، ثم الشبهة، ثم الجواب، وهذا كلُّه من أجل تعليم المبتدئين طريقة النظر»، والتعليقة كانت تعتبر فرعًا من أدب المسائل.
كانت المسائل تمثل صميم المادة العلمية التي يستخدمها الفقيه في كتابه ملخص لأصول الفقه، وكان أفضل هذه الملخصات لا يقتصـر على المسائل المعروفة وحدها، بل يضم إليها مسائل جديدة مع طريقة معالجتها، وأشهر ما كتب في أدب المسائل: ما كتبه أبو المظفر السمعاني (ت 489هـ / 1096م)، الذي كان حنفيًّا مدة ثلاثين عامًا، وتحول بعدها إلى المذهب الشافعي، فقد وضع كتاب «البرهان في الخلاف» الذي يُقال: إنَّه «جمع فيه قريبًا من ألف مسألة خلافية».
ولإتقان فنِّ المناظرة الذي كان المرحلة الأخيرة في إعداد الطالب لوظيفة الإفتاء والتدريس كذلك كان يمرُّ بمرحلتين الصحبة، ثم الرياسة، والصحبة: مفهوم يرجع تاريخه في الإسلام إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان تلاميذه يُسمَّوْن الصحابة، أي: إنَّ مفهوم الصحابة قديم قدم الإسلام ذاته، وكانت الأهمية للعلاقة بين الأستاذ وتلميذه تفوق الموضع الذي يتم فيه التدريس، وهذه العلاقة «الصحبة» هي التي تفسـر كيف كان النشاط التعليمي يُجرى في العهد الأول قبل ظهور المدرسة، وكيف كان اختيار أماكن الدراسة بتلك الطريقة التي تبدو عشوائية في ظاهرها سببًا في ذلك النتاج الوفير من الكتب والمؤلفات التي وضعت في مجالات شتى ومتعددة، منها: اللغة العربية وآدابها، والنحو، وفقه اللغة، والشعر، والنثر الفني، وعلوم القرآن، والفقه وأصوله، والتصوف، وعلم الكلام، والفلسفة، إلى غير ذلك من التخصصات الأخرى المتعددة.
أما الرياسة التي هي معادلة للقب الجامعي «دكتوراه»، فكانت تتم عبر إتقان فنِّ الجدل والمناظرة، حيث كان المتطلع إلى الرياسة يبلغ هدفَه عبر خوض سلسلة من المنافسات، وكان عليه أن يفوز دائمًا على جميع منافسيه، أو يسلموا له بذلك طواعية، أو يعدم هو منافسًا له. وقد آلت الرياسة في مجالات معينه وفي أوقات مختلفة إلى أسماء بعينها، كسفيان الثوري في الحديث، وأبي حنيفة في القياس، والكسائي في علوم القرآن، وكان يتم وصف الرئيس بتعبيرات على غرار: «أمير المؤمنين في الحديث، سيد أهل زمانه، الباز الأشهب، فارس المناظرة».
الإجازة بتدريس الفقه والإفتاء: كانت تُعطى بعد عقد امتحان، وغني عن القول أنَّ ذلك الامتحان كان شفهيًّا، وكان يُجرى في كتب معينة درسها الطالب المرشح لنيل المرتبة، وقد ابتكر اصطلاح «إجازة» أول الأمر للإذن برواية الحديث. وعندما يُستعمل هذا الاصطلاح بدون إضافة؛ فإنَّه يعني: الحديث على وجه الخصوص. أمَّا فيما يتعلَّق بالدراسات الفقهية؛ فقد بدأ استعماله بإضافة مضاف إليه يُميِّزه عن الإجازة في الحديث، فكان الترخيص بإصدار الفتاوى الشـرعية، أو بتدريس الفقه يُصاغ على النحو التالي: الإجازة بالفتوى (أو الإفتاء)، والتدريس.
وهناك شيء واحد ظلَّ ثابتًا عبر القرون فيما يتعلَّق بالإجازة، فمهما بلغت درجة تطورها أو تعلقها بمختلف فروع العلم الشـرعي ظلَّت إذنًا يعطيه شخص، وإذا أعطاه أكثر من شخص واحد؛ فإنَّما يعطيه شخص واحد في كل مرة.

مجتمع أهل العلم:
المدرسون: كان لقبا «المُدرِّس»، و«الشيخ» يطلقان على مَن يتولون أعلى منصب تعليمي، فإذا استعمل لفظ المُدرِّس بدون إضافة؛ فإنه يعني: مدرس الفقه، بينما كان لقب الشيخ يطلق بصفة عامة على المدرسين في جميع الحقول الأخرى، مثل علوم القرآن، والحديث وغيرها، وكانت وظيفة تدريس الفقه هي وحدها التي تسمى تدريسًا، أمَّا وظائف تعليم العلوم الأخرى؛ فكانت تسمى مشيخة، مثل مشيخة القرآن، ومشيخة الحديث.
تقليد الدرس الافتتاحي: كان من الأمور التي تدلُّ على أنَّ مكانة المدرس في المجتمع رفيعة المنزلة، برزت الدروس الافتتاحية للمدرسين في وقت ما في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، حيث كانت الوسيلة للإعلان عن تعيين مدرس جديد للفقه، فإمَّا أن تُعقد مناظرة أو يلقي الفقيه درسًا، ولـم يكن ليقتصر على موضوع واحد في درسه الافتتاحي، بل كان في وسعه أن يستعرض غزارة علمه بتناول موضوعات مختلفة، مثلما فعل ابن الجوزي الذي تحدث في ترجمته عن درسه الأول على النحو التالي: «وفي يوم الأحد الثالث للمحرم ابتدأت بإلقاء الدرس في مدرستي بدرب دينار، فذكرت يومئذٍ أربعة عشـر درسًا من فنون العلوم»، كان يحضـر الدرس الافتتاحي كبار الفقهاء، ووجهاء المدينة، وكبار المسئولين، وطلبة الفقه، ويبدو أنَّ هذا التقليد كان امتدادًا للاحتفالات التي كانت تقام لأصحاب المناصب الرفيعة في الدوائر الحاكمة مثل الوزير، وقاضي القضاة، ويعكس مدى اهتمام وتقدير السلطة للعلماء، فكثيرًا ما كان مدرس الفقه يقوم بدور السفير إلى أمراء الأمصار في الدولة الإسلامية، وكذلك إلى بيزنطة، كان الدرس الافتتاحي يُعدُّ نوعًا من الاختبار للمُدرِّس الجديد الذي كان عليه أن يستعرض مواهبه، فإذا كان موهوبًا؛ فإنَّها تكون فرصة له لإحراز شهرة طيبة.
مصادر الدخل: في القرون الأولى من الإسلام كانت مكافأة التدريس تدفع جزئيًّا من الأجور التي يدفعها الطلاب، وكان الطلبة يتفقون مع المدرس على مقدار المبلغ الذي يدفعونه له، والذي كان يتحدد تبعًا لعدد الطلبة، وقد جمع بعض المشتغلين بالتدريس ثروات طائلة أحيانًا، وبعضهم الآخر كان يعيش على الكفاف؛ لأنَّ طلابهم لـم يكن باستطاعتهم دفع الكثير من المال، وفي بعض الحالات كان يتم التعليم المتبادل عوضًا عن المال، كما حدث بين النحوي والهمذاني، الذي علمه النحو في مقابل تعلمه علم اللغة من الهمذاني، وكان بعض المدرسين يتحرجون من أخذ المال مقابل تدريس العلوم الدينية «بوازع من الزهد، ولكي ينأوا بأنفسهم عن المال الذي يجعلهم موضع شبهة، أو يمكن السلطة الحاكمة من أن تجعلهم من أذنابها»، وقد شقَّ الأمر على المحدث ابن النقور (ت 470هـ /1077م) بسبب هذا الورع حتى أفتاه الشيرازي بجواز أخذ الأجرة على التحديث بما يكفي حاجته المشـروعة. واستمر الخلاف حول ما إذا كان يحق للمدرسين أن يأخذوا مالًا من الطلبة، فقد حرمها بعضهم مثل الغزالي الذي قال: «إنَّ المدرسين يجب أن يحذوا حذو النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يأخذوا أجرًا على تعليمهم، فالعلم مخدوم وليس بخادم».
المنح والعطايا: كان الوالي أو الحاكم يمنح المكآفأت والعطايا للفقهاء والعلماء بعامة، وكذلك الطلاب. مثل القاضي أبو يوسف، التلميذ المشهور لأبي حنيفة، الذي كان يأخذ مبلغًا كبيرًا من المال من الخليفة هارون الرشيد بالإضافة إلى الراتب الشهري الذي يعطى للفقهاء، وكان العلماء يحصلون على مثل هذه المبالغ في عهد الأمويين، وكان من بينهم الحسن البصري، وكان بعض العلماء يستخدمون نفوذهم الأدبي للحصول على المال ليس لأنفسهم، بل لتوزيعه على طلابهم، مثلما كان يفعل أبو الحسين البلخي (ت 340هـ / 951م)، وهناك علماء آخرون كانوا يدفعون للمحتاجين من دخولهم الكبيرة، منهم على سبيل المثال أبو محمد الهمذاني (ت 210هـ / 825م)، وقد أورد التنوخي (ت 384هـ / 994م) قصة الفقهاء / الطلبة الذين جمعوا من مواردهم المالية مبلغًا من المال لمساعدة زميل لهم فقير لفت نبوغه الفائق النظر وهو مبلغ مائة درهم كل شهر، وظلوا يدفعون له ذلك المبلغ لعدة سنوات إلى أن أتم دراسته، وعاد إلى وطنه. وكان آباء الطلاب الأغنياء يقومون بإقراض الطلاب الفقراء التي كانت تتأخر وصول صكوكهم المالية من بلادهم حتى يتمكنوا من استئجار دارٍ، وتقوم الجواري على خدمتهم.
ميزانية بعض المدارس: نملك مثالًا على ميزانية بعض المدارس كـ«المدرسة العمادية الشافعية»، التي أُنشئت في القرن السادس الهجري / الثاني عشر الميلادي، «والمدرسة الشامية الجوانية»، و«دار القرآن والحديث التنكزية»، التي أُنشئت في (728هـ / 1328م)، والمدرسة الفارسية (808هـ / 1405م)، وكانت ميزانية الأولى على النحو التالي: «المتولي / الناظر 100درهم، المدرس (تدريس) 60درهم، حصير300 درهم، زيت المصابيح 24 درهم، عامل (عمالة) 100درهم، إمام (إمامة) 40 درهم، الفقهاء (عددهم عشرة) 20 درهم لكل منهم».
ويبدو أنَّه لـم يكن يلتحق بهذه المدرسة إلَّا الطلبة الذين أتموا دراسة المقرر الأساسي في الفقه بصفتهم متفقهة، وانتقلوا إلى مستوى الفقهاء، وقد أطلق على العشـرة كلهم لقب «شيخ»، وهو نفس اللقب الذي يطلق على المدرسين عمومًا قارن كلية all souls college، بأكسفورد التي يلتحق بها الزملاء فقط (follows).
اختلاس غلة الوقف: طرد الميهني مدرس الفقه بالمدرس النظامية، من وظيفته عام (524هـ / 129م) بسبب اختلاسه لأموال الوقف، وفي تلك السنة ذاتها حددت إقامة قاضي القضاة الزيني (ت 525هـ / 131م)، ووضعت عليه حراسة؛ لأنَّه اختلس أموالًا من مدرسة مشهد أبي حنيفة التي كان يدرس الفقه فيها، ويُقال: إنَّ غلة هذه المدرسة كانت تبلغ ثمانين ألف دينار في السنة.
الجمع بين عدة مناصب: انتقد ابن تيميه المدرسين الذين يتولون عدة مشيخات (مناصب تدريسية) في مدارس مختلفة، فعدَّ من بين من أخذ المال بغير حق: الذين يتقاضون رواتب تزيد على حاجتهم أضعافًا مضاعفة، ومَن يتولون وظائف ذات رواتب مرتفعة، ثم يستخدمون من ينوب عنهم في أداء أعمالها بأجر ضئيل، وكان ابن تيمية يقصد بذلك المدرسين الذين يتولون أيضًا أعمالًا إدارية، ويشتغلون عدة وظائف من النوع الذي يمكن أن ينوب عنهم فيها غيرهم، ومنها وظيفة تدريس الفقه، لكنَّه اهتم في المقابل بالمدرس الذي كان يُعطى أجرًا ضئيلًا، إلى جانب اهتمامه بالنائب الذي يُعطى أيسـر الأجور، وقد أقر بصحة هذه (النيابة) شرعًا، ولكنه اشترط أن يكون النائب معادلًا في كفاءته (لمستنيبه).
تجزئة الوظائف: بينما كان بعض المدرسين يجمعون بين عدة وظائف تدريسية في آن واحد، كان البعض الآخر منهم يقتسمون وظيفة واحدة؛ إذ كانت بعض وظائف التدريس تجزأ إلى أنصاف، وبعضها الآخر يقسم إلى أثلاث، والبعض منها يقسم أيضًا إلى أرباع، ويرجع تاريخ أولى الحالات المعروفة لتقسيم مشيخة التدريس إلى القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي.
التعيين في مناصب التدريس: يسند التدريس عادة لمن لديه المؤهلات الأفضل، وقبل ظهور إجازة التدريس كان التعيين في وظائف الأستاذية يتم بناء على توصية أستاذ المدرس المرشح للوظيفة، أو إجماع العلماء المحليين، وقد استمر الأخذ بهذه الاعتبارت حتى بعد ظهور إجازة التدريس، ومن الاعتبارت التي كانت تُراعي أيضًا «التوارث»، الذي كان من أقدم الطرق التي كانت تتبع فيما يتعلق بالتعاقب على وظائف المساجد والمدارس، خاصة إذا كان المدرس هو نفسه واقف المدرسة، أن يشترط الاحتفاظ بوظيفة المتولي والمدرس لذريته أو الأحسن تأهيلًا منهم، أو أن يتم «التنازل بالبيع» من قِبل المُدرِّس لغيره مقابل ثمن كما حدث مع الدلجي (838هـ / 1435م) الذي نزل عن رئاسة خانقاه خاتون لصالح ولي الدين بن قاضي عجلون (872هـ / 1468م).

يتبع،،،

أبوعاصم أحمد بلحة
2015-11-29, 04:52 AM
الطلبة:
كان يتم تصنيف الطلبة بطريق مختلفة:
§ أولًا: حسب مستواهم الدراسي (مبتدءون، متوسطون، منتهون وعبر عنهم بالطبقة العُليا).
§ ثانيًا: حسب رواتبهم (فقيه في طبقة العشرين / فقيه في طبقة الثلاثين).
§ ثالثًا: بصفتهم أرباب للوقف (متفقه، فقهاء)، والمتفقه: هو طالب الفقه فيما يوازي مرحلة الدراسة الجامعية الأولى، حتى يصل إلى المرحلة النهائية ممن كانوا يسمون المنتهين، والفقيه: هو طالب مرحلة الدراسات العُليا، حتى يصل إلى ما بعد المرحلة النهائية إلى حصوله على إجازة التدريس والإفتاء.
§ رابعًا: في حلقة الدرس أو المجلس (الطالب الذي يعمل يطلق عليه مشتغل، والطالب المستمع يعرف بلفظ مستمع)، وكان المشتغل في فئة أعلى من حيث الراتب من المستمع، حيث كان المشتغل يتقاضى ثمانية دراهم في مدرسة الحديث الأشرفية، وكان المستمع يعطى أربع دراهم، أما اصطلاح طالب أو تلميذ: يُستعمل للدلالة على الطلب بصفة عامة، ويتضمن لفظ تلميذ أيضًا معنى الحواري أو التابع، وكان لفظ طالب يستخدم في الدلالة على طالب الحديث تَمييزًا له عن الفقيه.
جوانب من حياة الطلبة: يقول السبكي في كتابه: «معيد النعم» عن واجبات طالب المرحلة النهائية (المنتهي) الملتحق بالصف الذي يؤدي إلى طبقة الإفتاء: «عليه من البحث والمناظرة فوق الذي ينبغي على من هو دونه، فإنْ هو سكت وتناول معلوم المنتهى لكونه في نفسه أعلم الحاضرين، فما يكون شَكَر نعمة الله حق شكرها»، أي: يبذل من الجهد في التحصيل والمناظرة والبحث ما يفوق سواه، ليس لفائدته الشخصية فحسب، إنَّما لفائدة زملائه بحيث يكون مُستحقًّا للراتب الذي يُعطى له من غلة الوقف، أما نصيحته لطلبة الفقه عمومًا فيقول (السبكي): «عليهم التفهم على قدر أفهامهم، والمواظبة إلَّا بعذر شرعي»، ذكر السبكي واجبات الطالب المنتهي بعدما ذكر (المفيد والمعيد)، وهما وظيفتان كان يتولاهما طلاب الدراسات العُليا في فترة الصحبة من دراستهم: «المنتهي يترقى؛ ليصبح مفيدًا، ثم يترقى؛ ليصبح معيدًا»، ويمكن مقارنة هاتين الوظيفتين بوظيفيتين حديثتين وهما: (TEACHING ASSISANT) أو (FELLOW)، اللتين تسندان لطلاب الدراسات العُليا الذين يواصلون دراستهم لنيل درجة الدكتوراه.
الطالب المهمل: ينتقد السبكي الطالب المهمل، أو الجانح الذي يتحدث مع من يجلسون إلى جواره أثناء «قراءة الجزء من الربعة، فلا هم يقرؤون القرآن، ولا يَسلمون من اللَّغو، ويقعون في الغيبة، ولا يوفون شرط الوقف، فهذا لا يستحق شيئًا من غلة الوقف».
كاتب الغيبة: «كان على مراقب الحضور اعتماد الحق، وألَّا يكتب إلَّا مَن حضر، ويستفسـر عن سبب غياب من لـم يحضـر، فإن كان له عذر شرعي؛ بيَّنه، وإن سامح بمجرد حطام يأخذه من الفقيه؛ فهو على شفير جهنم، فهو ينفذ شرط الوقف فيما يتعلق بحضور الطلاب»، أمَّا كاتب غيبة طلاب الحديث؛ فعليه ضبط أسماء الحاضرين والسامعين، وتأمل من يسمع ومن لا يسمع، وألَّا يكون كذابًا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا؛ فَلْيَتَبَوَّأَ مِقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
المتصوفة الدخلاء: يقول السبكي: «وأنت قد عرفت أنَّ حقيقة الصوفي مَن أعرض عن الدنيا، وأقبل على العبادة، فقل لفقير الخانقاه: إن دخلتها لتسد رمقك، وتستعين على التصوف؛ فهذا حقٌّ، وإن أنت دخلتها لتجعلها وظيفة تحصل بها الدنيا، ولست مُتَّصفًا بالإعراض عن الدنيا، والاشتغال غالب الأوقات بالعبادة؛ فأنت مبطلٌ، ولا تستحق في وصف الصوفية شيئًا، وكل ما تأكله منها حرام؛ لأنَّ الواقف لـم يقفها إلَّا على الصوفية، ولست منهم في شيء».

المناصب، المهن، الوظائف:
المُدرِّس: كانت المهمة الأساسية لمدرس الفقه التدريس، الإفتاء، المناظرة.
وظائف يستيطع شاغلها أن يستخدم نائبًا له: المتولي، المُدرِّس، القاضي، الخطيب، الإمام، الرئيس، وكان لفظ نائب يُقرن باسم الوظيفة التي يتعلق بها شاغلها، وبذلك كان هناك وظائف: نائب النظر، نائب التدريس، نائب القضاء، نائب الخطابة، نائب الإمامة، نائب الرياسة.
وظائف أخرى عدا وظيفة المتولي لإدارة الوقف: كان شاغلو هذه الوظائف متولين مع المتولي وتحت إشرافه، أو يعمل كل منهم بمفرده في الأوقاف الصغيرة، وهي وظائف: قيم، والمشـرف أو المشارف، أو نائب المتولى، وكان يعمل ناظرًا بالنيابة لفترة مؤقتة.
الإفتاء: الواجب الأسمى الذي أُنشئت من أجله الكلية الإسلامية الأولى وهي المدرسة، فكان الإفتاء من حقِّ كل متخرج حصل على الإجازة بالفتوى واشترط الشافعي في المفتي أن يكون على علم بالمصادر الأربعة «الكتاب، السنة، الإجماع، القياس»، ومن هنا نرى أن مستوى المفتي يعد أعلى مستوى في العلوم الفقهية، وكان حق الإفتاء «من صميم حرية البحث والفكر (الحرية الأكاديمية)، تلك الحرية التي أصبحت كما سنرى فيما بعد (مستهدفة من الملوك والحكام الذين سعوا لإخضاعهم لسلطانهم).
كاتب الفتوى: مُهمَّتُه أن يكتب فتاوى الفقهاء، المحضـر: كاتبٌ مُهمَّتُه تدوين محضـر المدولات في دعاوي التقاضي، الوكيل: الذي كان يقوم بمهمة الوكيل القانوني في المحاكم، الشاهد: كانت مهنة الشهادة صناعة وعلمًا، فهي تشمل تحرير الوثائق القانونية الرسمية وتتطلب معرفة واسعة، وكذلك جودة الخط.
الملازم: ملازم المدرس يعني مدرسًا مرشحًا لتدريس الفقه الإسلامي، وكان هذا اللفظ يعني في تركيا العثمانية: «الموظف المساعد»، وفي دمشق كانت هذه الملازمة هي المدخل عندهم لطريق التدريس والقضاء، وفي النظام العثماني كان هناك رتبتان هي رتبة الخارج وعرفت بأنَّها الرتبة السابعة من مراتب مدرسي الجامعات، ورتبة الداخل التي كانت الرتبة الثامنة والأخيرة من رتب مدرسي الفقه في المدارس العثمانية.
المعيد / مساعد مدرس: وهو يلي المُدرِّس ونائبه في المرتبة، وتسمى وظيفته الإعادة وكانت المؤهلات المطلوب توافرها فيه، ألَّا تقل عن دراسة المنهج الأساسي في الفقه، وكان المعتاد أن يكون المعيد هو أنبه أصحاب المدرس وأكثرهم تقدمًا، وإن كان من الممكن أن يشغل هذه الوظيفة فقيه ضليع، كما حدث مع شهاب الدين الرومي (ت 705هـ / 1306م)، وكانت مهمته إعادة درس الفقه الذي يلقيه المدرس وشرحه؛ لكي يفهمه الطلاب.
المفيد / مساعد مدرس: واجب المفيد ـ وفقًا للسبكي ـ أن يعتمد ما يحصل به في الدرس فائدة: من بحث زائد على بحث الجماعة ونحو ذلك، وإلَّا ضاع لفظ الإفادة وخصوصيتها، وكان أخذه العوض في مقابلتها حرامًا، وعلى عكس وظيفتي النائب والمعيد اللتين تستلزمان ضمنًا، وجود وظيفة المدرس؛ فإنَّ المفيد قد يكون أحد أعضاء هيئة التدريس في أحد معاهد العلم أو قد يؤدي هذا العمل بعيدًا عن الأنظار.
القاضي: كان الخليفة هو الذي يعين قاضي القضاة خلافًا للمدرس، ثم يعين هو بدوره وفقًا لتفويض الخليفة قضاة تابعين له في مختلف أنحاء المدينة وضواحيها. كان التقليد الشائع هو تجنب المنصب؛ لأنَّه كان يعني مجاملة أصحاب النفوذ والسلطان ممَّا يعوق الحكم في المنازعات وفقًا لمبادئ الشـريعة، وكان الأحناف أول مَن تولوا القضاء، وقد روي أنَّ أبا علي بن خيران (ت 320هـ / 932م) درج على أن ينحى باللائمة على الفقيه الشافعي الكبير ابن سريج لقبوله هذا المنصب قائلًا: «إنَّ هذا الأمر لـم يعرفه إخواننا مطلقًا، إنَّما كان شائعًا بين أصحاب أبي حنيفة)، فعن طريق منصب القاضي كان بوسع الحاكم التأثير على حرية الوصول للإجماع في الرأي بين الفقهاء المستقلين، ذلك أن فتوى المفتي مجرد رأي يتعين عليه أن يتصدى للآراء الأخرى التي يبيعها مشايخ الفقه في ساحة المناظرة وينتصـر عليها إذا أريد لهذا الرأي أن يحظى بإلاجماع. أما حكم القاضي فهو على العكس من ذلك عبارة عن قرار أو قضاء يحسم الاختلافات في الرأي، وبذلك يغلق أيضًا المجال المفتوح لتصارع الآراء الذي ينتهي عادة بأن ينال أقواها إجماع الأئمة.
المتصدر: شخص يطمح إلى تولي منصب التدريس بلا تزكية أو إجازة، رغم أنه قد لا يتاح له توليه مطلقًا، يمارس الإرشاد أو توجيه الدراسات بطريقة فردية بما يلائم حالة كل طالب، وارتبطت وظيفة المتصدر بالإشغال وهو توجيه الطلبة للتحصيل، وحل المسائل والتدريب على النظر والجدل تمهيدًا لبلوغهم مرحلة الإفتاء، ثم رتبة التدريس، وهو يعادل ما كان الفرنسيون يسمونه بحلقات «النشاط العلمي TRAVAUX PRATIQUE»، حيث يجري توجيه الطلاب في المدرسة العملية، أي حلقات دراسية.
شيخ الحديث يسمى أيضًا «شيخ الرواية»: وكان المنصب يعرف «بمشيخة الحديث»، وكانت مهمته - طبقًا لـما ذكر السبكي - أن يسمع الحديث، ويستمع لـما يقرأونه عليه، لفظة بلفظة، بحيث يصح سماعهم، وليصبر عليهم؛ فإنَّهم وفد الله تعالى، ومتى وجد جزء حديث أو كان تفرد شيخ بروايته كان فرض عين عليه أن يسمعه، رفعت مرتبة المحدث إلى مرتبة الفقيه بإنشاء أول دار للحديث (569هـ / 1174م) بدمشق والتي أقامها نور الدين زنكي. وكان لفظ «الميعاد» يستخدم في دمشق والقاهرة على حلقة الحديث، سواء أكانت في جامع أم في مسجد، كان أعداد من يحضـر دروس إملاء الحديث تصل الى المئات أو الأولوف في كثير من الأحيان، وفي مثل هذه الحالة لابد من وجود عدد من «المستملين» لتكرار الإملاء، لإيصالها إلى الصفوف البعيدة عن مدى صوت الشيخ.
النحوي: استخدم لفظ «النحوي» للدلالة على المدرس الذي يدرس النحو والأدب، وقد كان النحو دائمًا جزءًا مهمًا من التعليم، وكانوا يتعلمونه خاصة ليزداد فهمهم للنصوص الشـرعية (القرآن، الحديث)، وكان ذلك أيضًا هو الهدف الأسمى من تعلم الأدب وخاصة الشعر، وكانوا يستشهدون بالشعر الجاهلي بصفة خاصة، للحصول على شواهد لغوية في تفسير النصوص الشـرعية، ومن الحقائق الثابته أنَّ كثيرًا من النحويين كانوا يعتنقون مذهب المعتزلة العقلي، أو مذهب التشكك.
شيخ القراءة: كان مدرس علوم القرآن يسمى «شيخ القراءة"، وتسمى وظيفته «مشيخة القراءة»، أما المتمكن في هذه العلوم فيسمى «المقرئ»، ومع نشأة دار القرآن، بل وحتى قبلها مع ظهور دار الحديث، رفعت وظيفة المقرئ إلى مرتبة مدرس الفقه وشيخ الحديث. وقد ذكر السبكي عدة وظائف أخرى ذات علاقة بالقرآن الكريم أولها «قارئ العشـر»، و«المنشد»، و«القراء بالإلحان».
شيخ الرباط: كان رئيس الرباط يسمى «شيخ الرباط»، أو «شيخ الخانقاه»، أو «شيخ الزاوية»، تشمل واجبات شيخ الخانقاه ـ كما ذكرها السبكي ـ «تربية المريد وهو المتصوف المبتدئ»، وحمل الأذى والضيم على نفسه، واعتبار قلوب جماعته قبل قوالبهم، والكلام مع كل منهم بحسب ما يقبله وتحمله قواه ويصل إلى ذهنه. وعليه ألَّا يستعمل لغة الخاصة أمام المتصوف المبتدئ قبل أن يتم إعداده الكافي لتقبلها؛ لأنَّ مثل هذه اللغة قد تلحق به أكبر الضـرر في هذه الحالة، بل يأخذ المريد بالصلاة والتلاوة والذكر، ويربيه على التدريج، وعليه أن يتجنب على الأخص ترديد بعض الألفاظ التي قالها بعض كبار المتصوفة، والتي لـم يعنوا بها ظواهراها؛ إذ يجب الحرص على عدم ذكرها لمريد لا يفهمها قبل أن يكون مستعدًا لتقبلها، وإلَّا؛ فإنَّه يضله.
الوعاظ: كان هناك عدة فئات مختلفة من الوعاظ في العصـر الإسلامي الوسيط، «الخطيب»، وهو الذي يلقي خطبة الجمعة في الجامع، «الواعظ» في حلقة أو مجلس، «القاص»، وهو الذي كان يعظ في الطرقات (ويذكر شيئًا من الآيات والأحاديث وأخبار السلف، وينبغي له ألَّا يذكر إلَّا ما يفهمه العامة، ويشتركون فيه من الترغيب في الصلاة والصوم وإخراج الزكاة والصدقة ونحو ذلك، ولا يذكر شيئًا من أصول الدين وفنون العقائد وأحاديث الصفات؛ فإنَّ ذلك يجرهم إلى ما لا ينبغي)، «قارئ الكرسي»: (وهو يعظ من كتاب دائمًا، وليس من حفظه كـ«رياض الصالحين»، و«إحياء علوم الدين»، وغيرها)، وكلهم من الوعاظ لعامة الناس.
المؤدب: تطلق على معلمي أبناء العائلات الثرية وتطلق أيضًا على مَن يتولى تربية ضمائر الصوفية المبتدئين.
العريف / نقيب الطلاب: المساعد الذي يحفظ النظام في الصف، ويجلس الزوار حسب منزلتهم، ويوقظ النيام، ويحذر الطلاب من ارتكاب الخطأ أو التقصير في أداء الواجب، ويحثهم على الإنصات لما يُقال، ومن واجباته أيضًا إمساك سجل حضور الطلاب.
النقيب / رئيس الأشراف: كان لمنصب النقيب تاريخ طويل في بغداد، وكان مهمة مَن يتولى هذا المنصب أن يمسك سجلًا بأسماء سلالة أسرة النبي صلى الله عليه وسلم، والتحقق من نسبهم؛ لكي يدرجوا ضمن من تدفع رواتبهم.
الناسخ / الوراق: شخص محترف مهنته التعامل مع الكتب المخطوطة ونسخها، وكان يقوم ببيع ما ينتجه.
المصحح: كان المصححون بصفة عامة علماء في تخصصاتهم، وكانت المؤهلات المُثلى التي يجب توافرها فيمن يتولى هذه الوظيفة هي إتقان النحو وفقه اللغة، وكان المصححون بصفة عامة علماء في تخصصاتهم أصلًا، كان ابن مهروية، وأبو على الفارسي، يلتقيان يومين عنه كل أسبوع لتصحيح كتاب «الخزانة كافي الكفاة»، يقول ابن مهرويه: «فكنا إذا قرأنا أوراقًا منه، تجارينا في فنون الآداب».
المراجع / المعارض / المقابل: يقوم بمراجعة مادة المؤلف العلمية، يعارضه وينتقده بما لديه من علم، وكان التصحيح الأمثل للكتاب هو الذي يجري بطبيعة الحال على مسئولية مؤلفه.
الخادم: كان الخادم يقوم على خدمة مدرس، أو طالب ثري في ذات الوقت الذي يواصل فيه دراسته الخاصة، وقد تحدث ابن الجوزي عن طالب فقه كان يعمل خادمًا لدى الفقهاء والوعاظ أو على حد تعبيره: «كما يتخادم للفقهاء والوعاظ».
خادم الخانقاه: الخانقاه معرب فارسية: خانگاه هو المكان الذي ينقطع فيه المتصوف للعبادة، اقتضت وظيفتها أن يكون لها تخطيط خاص، فهي تجمع بين تخطيط المسجد والمدرسة، ويضاف إلى هذين التخطيطين الغرف التي يختلى أو ينقطع بها المتصوف للعبادة، والتي عُرفت في العمارة الإسلامية باسم الخلاوي، يقول السبكي: «إنَّ مهمة هذا الخادم الحرص على عدم إهدار الطعام، فيجب أن يعطي للفقراء أو القطط ولا يلقي بددًا. ومن واجباته الإشراف على أملاك الوقف واستغلالها، وبذل كل ما في وسعه لزيادة غلتها، وكان في حقيقة الأمر مديرًا للخانقاه، كما ورد في كتاب النعيمي «الدارس»، والتي يقول فيها: «إنَّ الطيماني ولي خدمة الخانقاه السميساطية بدمشق».

الحضارة الإسلامية والغرب المسيحي:
يعقد المؤلف في هذا الفصل مقارنة بين تجربة الغرب المسيحي وتجربة العالـم الإسلامي، مقتصـرًا على المجالات التي يحتمل أن تلقى التجربة الإسلامية ـ الأسبق زمنيًّا ـ فيها بعض الضوء على التطورات اللاحقة في الغرب، حيث التجربة المسيحية الأفضل توثيقًا.
يبدأ مقدسي حديثه بذكر أوجه الشبهة الكبيرة بين النظامين متمثلة في المعاهد العلمية في العصور الوسطى «الجامعات والكليات»، وطرق التدريس «الطريقة المدرسية»، وبعض الظواهر العامة مثل تقدم الدراسات القانونية واللاهوتية بما يحفلان به من مسائل خلافية وتقارير «التعليقة».

النظم
الجامعة بصفتها هيئة ذات شخصية اعتبارية: كانت الجامعة ابتكارًا مستقلًا تمام الاستقلال عن الأكاديميات الإغريقية التي ظهرت في أثينا والإسكندرية، وعن المدارس الأسقفية والأديرة المسيحية، كما كانت غريبة تمامًا على التجربة الإسلامية التي حسب مقدسي لـم تكن تعرف «الهيئة ذات الشخصية الاعتبارية corporation »، كانت الجامعة شكلًا من أشكال التنظيم الاجتماعي تمثل إبداعه في الامتيازات والحماية التي حصل عليها من البابا والملك، حيث كان للوضع الغريب الذي وجد فيه الطلاب أنفسهم وهم بعيدون عن أوطانهم، ويعاملون معاملة الأجانب الفضل في الحصول على هذه الرعاية، تزامن ظهور الجامعات مع تدفق المعارف الجديدة على غرب أوروبا عبر تيار رئيسـي وهو أسبانيا بين عامي 1100و1200فيما يسمى بالنهضة العلمية الكبرى.
الكلية: لـم تكن الكلية في الأصل سوى نزل للفقراء، مرصود له هبة للإنفاق عليه، كان موطن الكلية في الغرب اللاتيني هو باريس، وقد أنشأت أول كلية معروفة فيها "college des dix-huit" عام 1180، على يد أحد لوردات لندن ويدعى لورد جوكيس، الذي قد عاد لتوه من زياة إلى القدس! وهي تعتبر أول مؤسسة وقفية معروفة بغرض إيواء طلبة العلم، ظلت الكليات على أساس ما يعرف بالمؤسسة الخيرية "charitabie trust" إزاء نصف قرن تطورت فيها لتصبح هيئة ذات شخصية اعتبارية.
تمثل الخلاف الرئيسـي بين الوقف ونظام العمل الخيري في بيزنطه "piaausa" في كون الهبات التي تعطى للكنيسة هبات مشـروطة "sub_modo" تدفع لشخص اعتباري موجود بالفعل، أما في فرنسا فيقول دي لابراديل إن إنشاء مثل هذه المؤسسات الموقوفة من قبل الأشخاص العاديين، بدون ترخيص مسبق من السلطة الحاكمة استمر حتى صدور مراسيم القرنين السابع عشـر والثامن عشـر الميلاديين، التي بموجبها عادت فرنسا إلى مفهومها الخاص الذي يعتبر المؤسسات الموقوفة هبات مشـروطة (donations sub modo) تقدم لشخص اعتباري أحدثته السلطة العُليا، أما نمط المؤسسات الموقوفة قبل صدور المراسيم، فلم يعرف إلَّا في العالـم الإسلامي. وفي إنجلترا تكونت ثلاثة كليات "balliol"، وهي أول كلية في أكسفورد وأقدم دار لطلاب العلم وحسب "c.e.mallet"، فهي دار خيرية تمثل نوعًا من المؤسسات الوقفية التي نشأت على أساسها الكليات الأولى في باريس وبلدان أخرى، يقول "rashdall" ورغم افتقار الكلية بامتياز إلى ميثاق ملكي أو تأسيس رسمي لهيئة ذات شخصية اعتبارية، فإنَّها لـم تلقَ صعوبة في حيازة الأراضي وغيرها من الممتلكات باسمها الخاص طبقًا للعرف السائد في العصور الوسطى، و"university college" التي كانت أول هبة خيرية تحولت إلى كلية فيما بعد، و"merton" أول كلية مكونة على هيئة مؤسسة.
الجامعة / الكلية: يتحدث "rashdall" مؤلف كتاب"universlits" عن الاندماج الذي حدث بين الكلية والجامعة حيث يقول: «إنه في عام 1477م أسست كلية تضم مديرًا"director"، واثني عشـر طالبًا، ومعهم أربعة طلاب تحت الخدمة "student–servitors"، ورصدت لها الهبات بمعرفة كبير الشمامسة «يمثل هذا عنصـر المؤسسة الخيرية»، وفي عام 1489م إذن البابا "innocent viii" لطلبة الكلية بالحصول على درجة البكالوريس من دكاترة / أساتذة الجامعة، ودرجتي دكتور والليسانس "licentiate" من الأسقف باعتباره الرئيس الأعلى "chancellor" بعد امتحانهم بمعرفة العلماء، ومنحهم كل الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها خريجو الجامعات الأخرى «يمثل هذا عنصـر الهيئة ذات الشخصية الاعتبارية المنشاة بموجب امتياز»، وبذلك أدمجت الكلية والجامعة في كيان واحد، وأصبح مدير الكلية... مديرًا أيضًا للجامعة».
جرت دراسة للهيئة ذات الشخصية الاعتبارية وفائدتها للمنشأة الخيرية وقت الحكم في دعوى رفعها أمناء كلية دارتموث ضد ولاية هامبشير التي كانت تريد تحويل الكلية إلى جامعة حكومية "state university" إبان عهد الاستعمار سنة 1819م، حيث عرف القاضي ستوري "story" الهيئة الاعتبارية الجامعة "aggrate corporation" بأنَّها «مجموعة من الأفراد اتحدوا في هيئة جماعية واحدة تحت اسم خاص، تجوز حصانات وامتيازات وأهليات في شخصيتها الجماعية، لا تؤول إلى الأشخاص الطبيعين الذين يؤلفونها، فهي تجوز، ضمن أشياء أخرى، الأهلية للخلافة الدائمة، وأهلية التصـرف بالتصويت الجماعي أو الإرادة الجماعية للإعضاء الذين تتألف منهم، والتقاضي وإقامة الدعاوى ضدها في جميع الأمور المتعلقة بحقوقها وواجبتها الاعتبارية. فهي باختصار، شخص اعتباري أو معنوي، موجود في الفكر القانوني، منحت له صلاحيات وحقوق معينة»، ويعرف ستوري الهيئات الخيرية التي تتمتع بالشخصية الاعتبارية بأنَّها «مكونة لغرض استمرار توزيع صدقات وهبات المؤسس بالطريقة التي أمر بها، وتدرج ضمن هذه الفئة المستشفيات من أجل إغاثة الفقير والمحتاج، والكليات رغبة في نشـر العلم والفضيلة، ومساعدة المشتغلين بالعلم»، وعن فائدة الهيئة ذات الشخصية الاعتبارية للمؤسسة الخيرية يقول «وبستر»: «إن منح صفة الهيئة الاعتبارية إنَّما يجعل المنشأة الخيرية دائمة، ولا يغير من طبيعة المؤسسة الخيرية، فالغرض هو أن توجد ملكية خاصة قانونية، أن يحافظ الملاك القانونيون على الممتلكات ويحموها لمصلحة من أنشأت لأجلهم»، وحسب «مارشال»: «فإنَّ مؤسسـي الكلية تعاقدوا ليس على مجرد الاتفاق المستمر للإموال التي وهبوها على الأغراض التي رصدت تلك الأموال من أجلها، وإنَّما تعاقدوا أيضًا على ضمان ذلك الإنفاق بإقامة الهيئة ذات الشخصية الاعتبارية، لقد تعاقدوا على نظام يجب أن يستبقى إلى الأبد بقدر ما تستطيع أن تصل إليه بصير الإنسان إدارة المعهد العلمي الذي أنشأوه، في أيدي الأشخاص الذين اعتمدوهم ووافقوا عليهم بأنفسهم.
بخلاف الوقف الذي تدار المنشأة فيه طبقًا للنصِّ الحرفي لصك الوقف وتنفذ حرفيًّا شروط الواقف طالما أنَّها لا تتعارض مع قوانين البلاد في الغرب، أو طالما أنَّها لا تتعارض مع التعاليم الدينية في الإسلام، يجوز للمؤسسة الخيرية المشكلة على هيئة اعتبارية عبر الأمناء تعديل النظام الإساسي طالما أنَّه يؤدي إلى استمرارتحقيق أغراض المؤسسة الخيرية، إنَّ الافتقار إلى التغير في الحالة الأولى يعوق النمو والتطور اللذين يصبحان ميسورين في الحالة الثانية، ويفسـر اختفاء عدد غير محدود من الكليات في الإسلام والغرب التي لـم تستطع التغلب على تقلبات الوقف غير المكون على شكل هيئة لها شخصية اعتبارية، ويرى مقدسي أن روح التضامن والانتماء التي كانت موجودة في «كلية ميرتون وصولًا إلى الكليات الراقية في بريطانيا وأمريكا الشمالية» كانت سببًا أساسيًّا في استمرار هذه الكليات؛ إذ إنَّها تطلب تبرعات من طلابها السابقين عن طريق تذكيرهم بالكلية التي تخرحوا منها ولـم تنشأ هذه الروح التضامنية في الكليات التي قامت على أساس «الوقف»، سواء في الإسلام أو في الغرب، حيث يركز الطالب جل همه على ما خصصه له الوقف كواحد من أربابه، فكان يفيد بأقصـى ما يستطيع من منحته الدراسية، وبمجرد أن يتم دراسته تنقطع صلته بالمعهد الذي كان يدرس فيه، وكانت هناك وسائل أخرى لضمانة الاستمرار، كأن يكون الطلبة ملاك اعتباريون بحيث يكون لهم مصلحة في استمرار كليتهم، وأدعى لمنع استنزاف وتبديد عائدتها، كما في وضع طلاب المنح الدراسية في كلية ميرتون، أو المشاركة في الإدارة وانتخاب الهيئة الإدارية والموافقة على التصـرفات القانونية، كما في كلية أكسفورد التي اعتمدت فكرة الإدارة الذاتية.
يصف راشدال أبرز معالـم الجامعات في شبه الجزيرة الأسبانية بقوله: «كان لها ارتباط وثيق بالعرش، فقد أنشأها ملوك الممالك المختلفة، واستمر كثير منها لفترة طويلة أو بصفة دائمة في غنى عن أي تفويض آخر سوى ما خولته لها امتيازات التأسيس الملكية، ونذكر مثالين هنا وهما جامعة بلنسيه في أسبانيا التي تأسست بأمر ملكي من ألفونسو الثامن (1208-1209م)؛ إذ لـم يعبأ بإصدار مرسوم لتأسيساها، وجامعة نابولي في إيطاليا التي وجدت بجرة قلم من فريدريك الثاني، من الواضح أنَّ هاتين الحالتين تمثلان خروجًا أساسيًّا على النهج المعتاد لإنشاء الجامعات التي كانت توجد للكفاية التعليمية وتنشأ من قبل المجتمع كـ«مؤسسة خيرية»، يرجع مقدسي هذا النمط من الجامعات إلى معاهد العلم التي كانت قائمة في بلاد الغرب الإسلامي حيث «المذهب المالكي» هو السائد، والذي كان لا يسمح خالفًا للمذاهب السنية الأخرى بأن يتولى الواقف إدارة أوقافه بنفسه، ولذلك؛ فإنَّ هذا المذهب لـم يشجع على تأسيس المدارس من قبل الأفراد العاديين الذين كانوا كثيرًا ما يلجأون إلى الوقف؛ لكي يجعلوا ثرواتهم وممتلكاتهم بمنأى عن المصادرة من قبل الحكام، وتجميد رؤوس أموالهم لمنفعة الورثة من ذريتهم بصفة دائمة، لذا؛ فإنَّ المدارس المالكية لـم تنتشر في البلاد التي ساد فيها هذا المذهب، الأمر الذي كان يقع على عاتق الملوك وبعض ذوي النفوذ والسلطان مسؤولية إنشاء الكليات في إسبانيا وشمال إفريقيا، ممكن كانت دوافعهم في تأسيس المدارس لا تنحصـر أساسًا في إعالة ذرياتهم وضمان النفقة لهم، إنَّما في تحصيل المجد والافتخار للمملكة والملك، ولعلَّ هذا النمط الذي نشأ في ديار الإسلام هو الوحيد الذي كان من آثاره وجود الشخصية الاعتبارية للجامعة.

يتبع،،،

أبوعاصم أحمد بلحة
2015-11-29, 04:52 AM
التعليم:
يقول "Mozararb alvarol موزاراب ألفارو القرطبي" في كتابه "Indiculo luminoso": «إنَّ إخوتي المسيحين يطربون لأشعار العرب وحكاياتهم ويدرسون مؤلفات علماء الكلام والفلاسفة المسلمين، ليس بغرض الرد عليه وتفنيد آرائهم، وإنَّما لتعلم الأسلوب العربي الرشيق والصحيح، فأين تجد الآن بين عامة الناس من يقرأ الشـروح اللاتينية للكتاب المقدس؟ ومن الذي يقرأ الآن الإنجيل والأنبياء والرسل؟ وا أسفاه! إنَّ الشبان المسيحين الذين يمتازون بمواهبهم الفائقة أصبحوا لا يعرفون أدبًا أو لغة سوى العربية! ذلك أنَّهم يقبلون على كتب العرب بنهم وشغف، ويجمعون منها مكتبات كاملة بالأموال الطائلة، ويتغنون في كل مكان بمدح المعارف والعلوم العربية، وعلى العكس من ذلك، ما أن تذكر أمامهم الكتب المسيحية حتى يحتجوا بازدراء بأن مثل هذه الكتب ليست جديرة باهتمامهم، وا أسفاه! لقد نسى المسيحيون لغتهم، ولا يوجد واحد في الألف يستطيع أن يكتب خطابًا لصديقه بلغة لاتينية سليمة، أما عن الكتابة باللغة العربية، فما أكثر من يجيدون التعبير بها عن مكنوناتهم وبأروع أسلوب، بل ويقرضون أشعارًا تبز في سلامة قوالبها قصائد العرب أنفسهم».
ويحكي مقدسي ـ متخيلًا ـ عن طالب علم وهمي من بلاد الإسلام، ولتكن بغداد في العصور الوسطى قام بزيارة عالـم العلم والمعرفة في الغرب المسيحي، فلن يجد شيئًا غريبًا عليه «فهيكل الكليات على نفس النمط الذي يعرفه كذا المحاضرات والمناظرات والمواد الدراسية وطرق التدريس والاتجاه العام لنفس عناصر النشاط الدراسي» كيف لا يكون الأمر كذلك والوسط العلمي لا ينطوي على أية مفاجأت بالنسبه له "تصدر الدراسات القانونية وشيوعها بما في ذلك فن الإملاء "ars dictaminis"، الولع الشديد بالجدل بطريقتيه: طريقة بولونيا وطريقة باريس، واستخدام الطريقة المدرسية ((scholastic method في تدريس القانون واللاهوت والطب التي تلتزم في تطبيقها بقواعد الجدل شفهيًّا في المناظرات، وتحريريًّا في كتب المجموعات أو المجملات أو الخلاصات ((summae، وتقارير reports)) لطلاب عن المناظرات ومحاضرات المدرسين، وتلك القائمة الطويلة من الاصطلاحات الفنية التي تمثل نفس الوظائف التي تؤديها نظائرها الإسلامية، والتي كثيرًا ما تكون مجرد ترجمة حرفية للاصطلاحات العربية المقابلة لها ـ كل هذا وأكثر منه ـ بما في ذلك تدهور، وأفول علوم الأدب التي أحزنت قلب ثعلب من قبل، والتي رثى لحالها جون أوف سالسبوري بلسان بليغ.
مسار التطور: تطور التعليم الإسلامي من مركزه بغداد منطلقًا في اتجاه الغرب إلى سوريا، فمصـر فشمال أفريقيا، ومنها إلى أسبانيا وصقلية وجنوب إيطاليا، ومنها إلى بقية أنحاء العالـم المسيحي.
المحاضرة: يطلق على المحاضرة في اللغة اللاتينية لفظ ((lectio، واشتق هذا اللفظ من الفعل (legere)، تناول الشـراح في القرن الثاني عشـر الميلادي هذا اللفظ، حيث كان مضمونه يمثل شيئًا جديدًا أضيف إلى معناه العادي، يقول "hugh of st victor" في كتابه "didacallicon": إنَّ لهذا اللفظ ثلاثة معان لمدلولات شائعة وهي:
(1) المعنى الإيجابي عندما تتحدث عن المدرس يعلم الطالب.
(2) المعنى السلبي عندما تتحدث عن الطالب يتعلم على يد المدرس.
(3) المعنى المطلق عندما تتحدث عن قراءة الشخص دون إشارة للتعليم أو التعلم.
كان يستخدم مع هذا اللفظ حرف الجر "ilii" معناه له أو لفظة "ab illo" التي تعنى تحت إشراف، إنَّ هذه المعاني الثلاثة التي تقدم شرحها كانت من نتاج التربية الإسلامية في العصـر الوسيط، حيث نجد "قرأ على" التي تعني إمَّا أنَّه قرأ الكتاب تحت إشراف شخص ما أو أنَّه قرأ لشخص ما، أو"قرأ" فقط بدون إضافة أو "قرأ على نفسه" بمعنى القراءة الحرة، وكلها من مصدر قراءة، وهذا الاستيراد هو الذي تسبب في هذه الإشكالية التي طالت اللاتينية المستعملة في القرن الثاني عشر والتي أحدثها العلم الجديد، بينما أخذ الكُتاب المسلمون اللفظ الاصطلاحي على علَّاته، بعد أن نشأ لديهم من خلال اشتغالهم بدراسة القرآن والحديث.
التقرير: تحدث أ.م. ميجزر عن تقارير «نيكولوس فيوريوسوس»، حيث يقول: «إنَّ تقرير نيكولوس فيوريوسوس ليس من إعداد طالب يكتب مذكرات أثناء المحاضرة، بل هو بالأحرى خلاصة لآراء «جوهانس»، فكثيرًا ما يضيف ـ أي «نيكولوس» ـ آراء مؤلفين آخرين من المعاصرين لجوهانس وخصوصًا البريكوس وبلاسنتنيوس، فإذا ذكر جوهانس مسألة دون أن يقدم لها جوابًا؛ فإنَّ المقرر يتجاسر على اقتراح جواب من عنده، بل يعطي رأيًا مخالفًا لأستاذه»، ويتحدث في موضع آخر عن مؤلفات "ريفني "القانونية " "حيث افترض أنها كانت من إعداد طالب أو أكثر بالتنسيق مع الأستاذ، وهي ذات الطريقة التي اتبعها المسجلون لدرس توما الأكويني " " احتوت تقارير "ريفني" " على فقرات غامضة، ومذكرات، وآراء لـم تنسب لأصحابها، واستطرادات بلهجة عامية، وعدم كتابة النص بدقة " تلك هي السمات العديدة التي تدل على أنَّها تقارير للمذكرات الدراسية أعدها الطلاب، ولـم تكن مصنفًا مكتملًا متقنًا من إعداد المدرس نفسه"، ومن الواضح أن "التقرير هو نفس الشـيء الذي أنتجه الأدب الففهي الإسلامي باسم التعليقة".
الطريقة المدرسية في الشكل النهائي«الخلاصة »: تتكون عناصر الطريقة المدرسية "Scholastic method" من عناصر ثلاثة: "الإجماع ـ الخلاف"، أو اصطلاح "نعم ولاsic et non " الذي ظهر فجأة في الغرب المسيحي حوالي عام 1100م، والذي كان يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاصطلاح الإسلامي المقابل "الخلاف"، وعنصـري والجدل والمناظرة، وقد ظهر هذان العنصـران في الغرب المسيحي قبل القرن الثاني عشـر الميلادي، وفي الشـرق الإسلامي قبل ذلك بزمن طويل. يرى «ج.أندرس»: «أن الطريقة المدرسية كانت من إبداع وصنع الفلسفة المدرسية ذاتها، وإنَّها لـم تكن من ابتكار الفلسفة الأرسطوطاليسية، وإن لـم ينفِ وجود دور ما لأرسطو فيها»، حيث يرى أن البدايات الأولى ترجع إلى كتاب "الأحكام sentences " لمؤلفه بروسبر الأكويتاني "prosper of Aquitaine" وكتاب "tres libri sententiarun" لمؤلفه إيزودور الأشبيلي "Isidore of Seville " (ت 636)، حتى ظهرت طريقة «نعم ولا» التي توجد مبادئها حسب جيرابمان في جدليات القانوني الكنسـي لـ«برنولد أوف كونستانس» (ت 1100)، ثم «أيفو أوف تشارتر» (ت 1116م)، ثم في كتاب"أبيلار abelard" (ت 1142)، حيث يذكر في هذا الكتاب سلسلة من الأقوال المؤيدة لقضية ما، تقابلها سلسلة من الأقوال المخالفة، وكلها لآباء الكنيسة، ويتضمن تمهيد الكتاب إرشادات واضحة عن طريقة التوفيق بين هذه الإراء المؤيدة والمعارضة، وإنَّ كان المؤلف لا يطبق هذه القواعد، ولا يحاول التوفيق بين هذه الآراء المتعارضة، ومن ثم نجد لمؤلفه شبيها بين المصنفات الإسلامية في الخلاف والتي لا تسعى للتوفيق بين الآراء المتعارضة، ودون أدنى إشارة إلى أين من الآراء الراجحة، كما في كتاب الفقيه الحنبلي القاضي أبي يعلى (ت 458هـ).
أما المناظرة فقد كان أعظم الأثر في تطورها مؤسس على استعياب الغرب لكتب أرسطو وهي «المواضع الجدلية، التحليلات الأولى، التحليلات الثانية، المناقضات السفوسطائية»، وقد تحدث «ف. بلستر»، عن الطرق المتبعة في القرن الثالث عشـر فيما يتعلق بالمحاضرات والمناظرات، فقد كان على من يطمح إلى أن يصبح مدرسًا أن يشترك في المناظرات مجيبًا ومعترضًا، وأن يجمع لنفسه مجموعة واسعة من المسائل والردود عليها والأدلة المضادة، وقد كان الغالب على التدريس هو طرح «المسألة» أو «المشكلة»، يصف بلستر المناظرة بأنها «لب التدريس وقمته، ليس بين الفنانين وعلماء اللاهوت وحدهم، وإنَّما في كليات القانون والطب أيضًا»، ويلاحظ المرء وفقًا لحديث «بلستر» عن المناظرة، التطابق التام بين المناظرة اللاتينية "disputatio" والمناظرة العربية فيما عدا بعض الأساليب الخاصة التي تعزي للعادات المحلية، فالاصطلاحات الفنية الأساسية في كليهما واحدة كما يتضح من المقابلة التالية "Respondens-المجيب، Opponens_المعارض، Quaerens_السائل، Questiones Disputatae_المسائل الخلافية، Determinatio _القرار، collation _ المذاكرة"، وقد أشار بلستر إلى عادة باريسية أوردها الرهبان الدومينيكانيون في منتصف القرن الثالث عشـر الميلادي، وتتعلق بالإعادة والمقارنة (Repetitions & collations)، إذ يقول: «على عكس الإعادة، والتي يعيد فيها الطالب فحوى المناظرة، نجد المقارنة أو الموازنة التي تعني كما يدل اسمها ذاته التشاور بين عدة أشخاص ومناقشة موضوع أو مشكلة»، وهذان العملان يشملهما لفظ عربي واحد وهو المذاكرة، والتي كانت تُقال عن الطلاب الذين يجتمعون عقب الدرس لمناقشة محاضرة المدرس أو لبحث أمر ما أو مسألة ما.
"المسائل الخلافية أو الأدب القانوني Questiones Disputatae": يرجح" كانتروفتز Kantorowicz " تأريخ نشأة هذا النوع من الأدب الفقهي أي المسائل الخلافية إلى فترة شراح القوانين، من بداية القرن الثاني عشـر حتى منتصف القرن الثالث عشـر، ويرجعها إلى أحد تلاميذ العالـم القانوني «أرزيوس» وهو بلجاروس (ت 1166م) وهو من ضمن أربعة تلاميذ تمت تسميتهم بالشـراح، ويستطرد كانتوروفتز قائلًا: «إن هذا اللون المهم من التدريس والتأليف الجامعي تحول من تدريس القانون الروماني إلى تدريس القانون الكنسي، ثم إلى تدريس اللاهوت»، يقول كانتروفتز إنه "لـم يتيسـر العثور على أي مصدر أدبي أخذت عنه مقومات أسلوب العصـر الوسيط "الجدل المدرسي، عناصر المسألة الوضعية المعتمدة، المناظرة تأييدًا واعتراضًا" ويورد احتمالًا بأنَّها أخذت من الادعاءات المتبادلة في المحاكم، والتي كان يتم الإعداد لها بالتدريب على هذه العناصر ذاتها في مدرسة القانون"، ومن ثَم لا يمكن تحديد الأصل التاريخي للمسائل بكلمة واحدة، فقد كانت المؤثرات الكلاسكية وتأثيرات جستنيان والمؤثرات المعاصرة، كانت كلها تحدث أثرها ومفعولها، وإن كانت كلها ذات طابع قانوني، يعلق مقدسي على استنتاجات كانتروفتز، حيث يوافقه في التحليل الأول المتعلق بعزو "التقرير" أولًا إلى التعليم القانوني، ثم إلى الكنسـي، ثم إلى اللاهوت أما عن تحليل فيما يتعلق بمصدر مقومات أسلوب العصـر الوسيط فيخالفه، يقول مقدسي " والرأي عندي أن هذه الحلقة المفقوده يجب البحث عنها في هذه العناصر الإسلامية: الخلاف أي (sit-et-non)، والمسألة، أي: ( Quaestio)، والجدل، أي: (Dialectica)، و التعليقة، أي: (Reportatio)، أي: في عناصر ومكونات أسلوب العصـر الوسيط التي تألفت منها المناظرة أي "DISPUTATIO "، والتي أحدثتها الدراسات الفقهية الإسلامية.
وقد أورد كانتورفتز في كتابه "دراسات" "STUDIES" اصطلاحًا لا تينيا وهو (SOCIUS) ينطوي على أهمية خاصة؛ إذ يقترن اللفظ بصيغة الملكية التي تعود إلى الدرس، فنجد روفيدوس "Rofredus" يسمى طلابه الذين يدرسون القانون عليه (meis sociis) أي أصحابي، بنفس الطريقة التي كان الأصحاب أو طلبة الدراسات العالية لمدرسة الفقه في الإسلام يسمون: «أصحابه».
توما الأكويني وابن عقيل الحنبلي «الخلاصات»: إنَّ الطريقة المدرسية عبارة عن طريقة في التفكير، وطريقة في العرض وفيما يختص بالعرض، تبدو الطريقة المدرسية في صورتها الكاملة والمثلى في "الخلاصة اللاهوتية Summa theologiae" التي وضعها توما الأكويني" 1225م 622 هـ_ت 1274م 673 هـ"، فهذا المصنف الضخم في اللاهوت والقانون المسيحي وضعه المؤلف في "أجزاء pars" قسمها إلى "مسائل quaestio" مقسمة بدورها إلى "مقالات articulus" كتبت بالصيغة الاستفهامية، ويبدأ كل مقال بصياغة سؤال تعقبه سلسلة من الحجج بالسلب، ولكل منها رقم تسمى "اعتراضات"objection، وتليها حجج بالإيجاب تعتمد أساسًا على الكتاب المقدس وآباء الكنيسة، ثم يأتي القرار والجواب (solution& determination)_وهما جوهر المقال_ عن السؤال الذي طرح في بداية المقال، وبعد هذا الجواب تقدم سلسلة من الأجوبة (responsum) على الاعتراضات المرقمة "أما طريقة ابن عقيل الحنبلي". 431_ت513 هـ_1040_ت1119م"فتمثلت في هذا التتابع" الدعوة والدعوى المخالفة، حجج الدعوى، الاعتراضات على الحجج، الردود على الاعتراضات، شبه الدعوى المخالفة، الردود المفندة لهذه الشبه"، وتميز ابن عقيل عن توما الأكويني في شكل الملخص بأنَّه كان يورد "جوهر المقال corpus " aciculi " في صدر المقال فهو المقدم عنده ولا يضعه مطلقًا بين الاعتراضات، يظهر التماثل أيضًا بين كتاب الفنون الذي اشتمل على منظارات عقدت في حضور ابن عقيل وبين المناظرات التي عقدها توما الأكويني بغرض توفير مادة لكتابه الخلاصة اللاهوتية.
قنوات الاتصال: لـم تكن قنوات الاتصال بين الشـرق والغرب ممنوعة أو مقطوعة، كانت هناك بيزنطه وإيطاليا وصقلية وأسبانيا، فطريقة (الخلاف_الإجماع) يرجعها «جرابمان» في الشرق إلى «فتيوس» الذي استخدمها في كتابه "Quaestiones Amphilochiance" وتبين سيرة "فيتيوس" أنه كان يعمل في فترة من فترات حياته سفيرًا لدى بلاط الخليفة المتوكل، وليس ثمة شك في أنَّه قد تعرَّف على طريقة الخلاف في بلاط المتوكل، إذ جرت العادة على أن يعقد المسلمون مناظرات احتفالية في قصـر الخليفة، وأعمال "فيتيوس وغيرها لـم تكن لتجد صعوبة في الوصول إلى أوروبا مع التسليم بما كان لبيزنطه من مصالح في إيطاليا، من جهة أخرى؛ فإنَّ من المحتمل أن تكون طريقة الخلاف_الإجماع قد دخلت اللغة اللاتينية من اللغة العربية مباشرة عن طريق أسبانيا، فا "الفونس السادس" قد استعاد "طليطلية" من أيدي المسلمين عام 1085م، وإن لـم تنتقل طريقة النظر عبر ترجمة كتب القانون والكلام؛ فإنَّها انتقلت عبر ترجمة كتب الطب والفلسفة، التي احتوتها بشكل أو بآخر فمثلًا مصنف نجم الدين اللبودي (ت 670هـ_1272م): «تدقيق المباحث الطبية في تحقيق المسائل الخلافية على طريقة مسائل خلاف الفقهاء» لـم يكن الوحيد؛ لأنَّ كثيرًا من علماء الطب كانوا أيضًا من الفقهاء، ولـم يكن أبيلار نفسه يجهل أمر المسلمين فقد أعلن أنَّه يود أن يعيش بينهم عندما واجهته بعض الصعاب في باريس.
الكليات الراقية: كانت جامعة سالرنو "تقع في إيطاليا" روحيًّا أقرب إلى التنظيم غير المترابط للمستشفى البغدادي منها إلى نظام الكلية في الجامعة الأوروبية، حيث إنَّها تشـربت بالعلوم الطبية والعلمية العربية-الأغريقية، وتأثرت بها من ناحية الشكل أكثر من المضمون، واعتمدت التجريب والتشاور عن المحاورات النظرية وجدل الاحتمالات، أما جامعة بولونيا فقد جمعتها ببغداد فضلًا عن الشكل والطريقة سلسلة من الظواهر التي تميز بها هذان المركزان، ففي بغداد أدى انتصار أهل الحديث بعد فشل تجربة المحنة أوائل القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي إلى «تقدم الدراسات الفقهية وازدهارها على حساب بقية المعارف الأخرى وتميز مدرسيها عن بقية مدرسي المعارف الأخرى، وهو ما حدث في بولنيا، كما يقول راشدال فقد ازدهرت دراسة مجموعة القوانين "corpus juris"، وبعد عصـر "إرنيريوس" امتد التمايز والفرقة بين مدرسي القانون وطلابه، وغيرهم من المدرسين والطلاب إلى جميع الجامعات والمدارس التي تدرس القانون، وكذا نحا أهل السنة إلى استبعاد علم الكلام من منهج الدراسة، كما تم تنيحة الأبحاث اللاهوتية البحتة فعليًّا من بولنيا، ولـم يوجد في النظام الأكاديمي كلية للاهوت حتى عام (1963 م)، وكما أنا البحث والتفكير العقلي في بلاد الإسلام، وخاصة في بغداد، قد وجد ملاذه عند المشتغلين بعلم الطب، فكذلك كان الحال في إيطاليا_حسب راشدال_حيث انتقل البحث إلى رجال الطب الذين لـم يكونوا بصفة عامة من رجال الكنيسة كذا كانت كليات الطب مستقلة عن سلطة الكنيسة. يقول مقدسي كان هناك مبرر قوي لوجود هذه الظواهر في الإسلام يتمثل في حركة التحقيق التعسفي التي عرفت باسم المحنة، ولكن لا يبدو أن ظهور هذه الحركات في جنوب أوروبا يرجع إلى أسباب محلية، وإنَّما يعزي ظهورها الغريب والمتفرد في جنوب أوروبا إلى تلقيها على على هذا النحو من بلاد الإسلام، فقد دخلتها هذه الحركات والجوانب الملازمة لها كلها مجتمعة في حزمة واحدة.
أفول الفنون الأدبية: يذكر "بيتو" خمسة أسباب لإهمال دراسة الأدب الكلاسكي في جامعات القرون الوسطى "اتخاذ رجال الدين موقفًا متزمتًا ضد الأدب الدنيوي، إقبال الجامعات على أدب العصور الوسطى اللاتيني، تجدد الاهتمام بالعلوم، ازدهار الدراسات المربحة كالطب والقانون (بما فيهم علم تحرير الوثائق القانونية art dectaminis، ازدياد الإقبال على المنطق ممَّا أدى إلى ظهور الفلسفة المدرسية واللاهوت، يقول مقدسي: «إنَّ الأسباب التي ساقها بايتو لتفسير إهمال الفنون الأدبية في الجامعات الناشئة يمكن أن تذكر في مجملها، مع التعديل الذي تقتضيه السياقات، لتفسير إخضاع العلوم الأدب للدراسات الفقهية في المدارس الناشئة في الإسلام، عدا زيادة الإقبال على المنطق الذي ورد دون تفسير والذي علله مقدسي سابقًا باهتمام المسلمين بعلم الجدل والخلاف الذي تسـرب إلى الغرب، يذكر مقدسي أنَّ حركة النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشـر أعادت الأدب الكلاسيكي إلى الصدارة في أوروبا، أما النهضة الأدبية في العالـم الإسلامي في القرن التاسع عشـر الميلادي كان الفضل فيها إلى حدٍّ كبير إلى الحركة اللبنانية التي قادها أساسًا الكُتاب النصارى «جبران خليل جبران، ومخيائيل نعمه، وأمين الريحاني»، وقد استمدت تلك الحركة قوتها من الآداب الأوروبية.
علم تحرير الوثائق art dectaminis: نشأ في رحاب القانون في وقت مبكر في تاريخ الفقه الإسلامي، وأطلقت عليه عدة أسماء منها: علم الشـروط، علم الشـروط والوثائق، علم الشـروط والسجلات، صناعة التوثيق، يقول حاجي خليفة: «هو علم باحث عن كيفية ثبت الأحكام عند القاضي في الكتب والسجلات، على وجه الاحتجاج به عند انقضاء شهود الحال. وموضوعه تلك الأحكام من حيث الكتابة، وبعض مباديه مأخوذ من الفقه وبعضها من علم الإنشاء، وبعضها من الرسوم والعادات والأمور الاستحسانية. وهو من فروع الفقه من حيث كون ترتيب معانيه موافقًا لقوانين الشـرع. وقد يجعل من فروع الأدب باعتبار تحسين الألفاظ»، بينما يصفه «رشدال» بأنَّه (فن غريب نوعًا ما)، ويمكن أن يوصف بصفة عامة بأنه فن الإنشاء. وكان اهتمامه ينصـرف بصفة خاصة إلى تحرير الرسائل، ويتناول أيضًا القواعد الفنية لإنشاء المحررات الرسمية أو المراسيم البابوية وغيرها من الوثائق القانونية، ويشير «أ. ب. امدن» أنَّه كان وسيلة لإعداد وتهيئة الأفراد لتولى المناصب السياسية التي تقلدها كثير من رجال القانون ومحررو العقود، يشير «هـ. فيروسوفسكي» إلى أنَّ الجمع بين الجمع بين القانون وتحرير الرسائل «تميزت به بعض الشخصيات كـ«بيرو ديلافينا» والذي قيل عنه إنَّه كان مستشارًا للإمبراطور فردريك الثاني، والذي كان بلاطه يضم بعض العلماء المسلمين، والذي درس الجدل على العالـم الصقلي المسلم ابن الجوزي الصقلي.
النحو في منظمات شعرية: جاء على لسان «باتيو» حديث في غاية الأهمية عن النحو والجدل حيث يقول: «هناك عنصر جديد غريب نوعًا ما يتمثل في الصيغة الشعرية التي أصبح النحو يكتب بها الآن، فقد ساد هوس حقيقي بنظم الشعر في القرنين الثاني عشـر والثالث عشـر الميلاديين، ولاريب أنه سيكون من الصعب تفسير هذه الظاهرة، كما أنَّه من العسير تحديد السبب في انتشار الجدل على هذا النحو في هذه الفترة ذاتها، مهما كانت الأسباب التي أدت إلى ذلك، فمن المعروف أنَّ كل نوع من أنواع النتاج الأدبي تقريبًا كان يصاغ في قالب شعري بين الحين والآخر، فكانت المواعظ تقال بصيغة شعرية أو بعبارة مسجوعه. ومنذ عهد بعيد يرجع إلى 1150م كتب بيتر أوف هلياس، وهو مدرس في باريس، ملخصًا للنحو اللاتيني بالشعر في قصائد سداسية التفاعيل، يقول مقدسي معلقًا كان من المألوف استعمال كل من السجع والشعر في المواعظ والخطب والدعوة إلى العقيدة في الإسلام، مثلما كان يستعملان في النحو وغيره من المجالات، وكان من المألوف كتابة النحو بالشعر، ونذكر مثالًا على ذلك: ألفية ابن مالك (ت 516 هـ / 1274م)، وملحة الإعراب للحريري (ت 516هـ / 1122م).
العمل في النحو: أفرد تشارز ثورو CHARLES THUROT في دراسته لمبادئ النحو في العصور الوسطى فصلًا للحديث عن مفهوم العمل في النحو، واستشهد بكتابات هوف أوف سانت فكتور، وأبيلار، وبيتر أوف هلياس التي ورد فيها بكثرة تعبير "REGRE" بمعني: يحكم أو يعمل، والتي استنتج منها ثورو أن مفهوم العمل كان يعد في زمن "بيتر" مبدأ جديدًا، يضيف ثورو قائلًا "في جملة VIRGILIUM VIVRE BONUM EST ومعناها إنَّه لشـيء طيب أنا يحيا فرجيل، فإن اسم VIRGILIUM منصوبًا في اللغة اللاتينية، يجعله في حالة النصب المصدر VIVRE، والسبب في ذلك أن المصدر يفرض حالة النصب بحكم قوته كفعل مصدري ex vi infinitny"، يقول مقدسي "إن مفهوم العمل من المفاهيم الأساسية في إعراب الجملة العربية ويعرفونه بأنَّه "ما به يتقوم المعنى المقتضي للإعراب، وقد تناول أول كتاب في نحو اللغة العربية الذي وضعه سيبويه بعنوان "الكتاب" مفهوم العمل، والعامل"، وقد انتقل إلى زمن بيتر أوف هلياس، وهوف سانت فيكتور، وأبيلار، من خلال دراسة النحو العربي من قبل بعض العلماء ممن ترجموا المصنفات العربية إلى اللغة اللاتينية.
المجتمع المدرسي (المدرس وإجازة التدريس): كانت "الإجازة للتدريس" ونظيرها "الترخيص للتدريس LICENTIA DECENDI" كلتاهما إذن إجازة للتدريس، وكانت شهادة للمعلمين، كما كانت كلتا الإجازتين تستند إلى سلطة دينية، ففي بلاد الإسلام كانت هذه السلطة تنتقل من شخص لآخر، وقد ظهرت منذ عهد بعيد يرجع إلى القرن الرابع الهجري، أما في الغرب المسيحي فكانت تمنح من قبل مصدريين في الواقع: من السلطة الكنسية فقط، كما كان الحال في باريس، أو من قِبل الأساتذة وحدهم، والذين كانوا يفعلون ذلك باعتبارهم نقابة أو مؤسسة، على نحو ما كان يحدث في بولونيا، ثم اتحدت السلطتان في نهاية الأمر بفضل جهد البابوات، وقد ظهرت في القرن الثاني عشر الميلادي أي بعد ظهورها في الإسلام بقرنين من الزمان؛ إذ ظهر هذا الاصطلاح الفني للإجازة في مرسوم بابوي أصدره الاسكندر الثالث وكانت ولايته للبابوية (من 1159م إلى 1181 م)، ولـم يكن ظهورها مستمدًا من التعليم في الزمن القديم، سواء عند الأغريق أو الرمان أو امتدادًا مباشرًا للتعليم اللاتيني المسيحي، سواء في مدارس الأديرة أو الكنائس الأسقفية البروتستانتية أو الكنائس المشيخية، وإنَّما ظهر «الترخيص» ضمن عدة نظم لـم يوجد مثلها في البلاد، وبسبب عدم وجود سلطة كهنوتية في الإسلام، وعدم احتواء نظام التعليم الإسلامي لفكرة نقابة الأساتذة، وعدم تدخل السلطة في النظام التعليمي أو الأبنية التعليمية أو الطابع الشخصـي الفردي للتعليم في الإسلام، ظلت العلاقة بين الإجازة الإسلامية للتدريس والترخيص الأوروبي غامضة، وما زالت الادعاءات فيما يتعلق بتأثير الإجازة الأولى على الثانية ادعاءات غير مقنعة على مستوى الجهة المانحة، أما على مستوى الأهلية، فيمر الطالب في الغرب حتى ينال الترخيص بالمراحل التالية، يبدأ بالتعليم الأولي في علوم الأدب، ثم يشـرع في الدراسة المطولة التي تؤدي إلى منصب التدريس، مرورًا بمرتبتي طالب العلم scholar والتي تعادل المتفقه، والزميل fellow والتي تعادل الفقيه،، واللتان تمثلان المرحلتين الجامعية والعالية، ومساعد المدرس إما معيدًا عاديًّا ordinary repetioe، أو محاضرًا فوق العادي extraordinary docent (ما يعادل المفيد)، ويشمل ذلك تجميع مسائل الخلاف (المسائل الخلافية quaestiones disputatae) ، وامتحان الطلبة بعضهم بعضًا (المذاكرة collation)، والتناظر بغرض التدرب مع الزملاء الطلاب أو المدرسين في المجلس (المناظرة disputation)، والمناظرة القائمة على المجابهة بين الآراء المتعارضة "الخلاف sic et non"، وإتقان الجدل"dialectica"، وأخيرًا الحصول على إجازة التدريس licentia doccend، وبدء ممارسة المهنة بإعطاء الدرس الافتتاحي أو المحاضرة الأولى "inception" إنَّ مراحل التطور هذه متماثلة في طبيعتها وموثقة توثيقًا جيدًا في المصادر إلى حد يستبعد معه احتمال حدوث مثل هذا التطور المتماثل من قبيل المصادفة البحتة.
المفتى والأستاذ والسلطة التعليمية: يركز مقدسي في حديثه دائمًا على جانب الحرية في النظام الإسلامي، فيقول: «لا يضارع حرية المفتي / المجتهد في الوصول إلى رأيه الشخصـي إلا حرية المستفتي في اتباع الرأي الذي يختاره؛ لأنَّ في مقدوره أن يطلب من الفتوى قدر ما يريد، وله أن يتبع ما يختاره منها»، ويقول عن مدرس الفقه وعن طالب الفقه: «كان مدرس الفقه يدرس برنامج الفقهي بصفته رئيسًا للكلية، ومدرسها الوحيد الذي يحمل لقب "الـ"مدرس. وكان له الحق في أن يترك هذه الكلية وينتقل إلى كلية أخرى، وله حرية الانتقال من مذهب والدخول في مذهب آخر، وله حرية وضع منهجه الخاص بالفقه وتدريسه، وكانت حريته تقابلها حرية أخرى هي حرية الطالب في أن يدرس على المدرس الذي يختاره، وحريته في أن يترك مدرسة ويلتحق بأخرى، سواء كان في مرحلة الطلب أو الصحبة، وله حريته في يغير مذهبه ويتبع مذهب آخر»، وعن الحرية في تقرير مبدأ الإجماع يقول مقدسي: «وقبل أن يحظى الرأي صفة الإجماع ويصبح مبدأ شرعيًّا، كانت الأدلة المؤيدة والمعارضة له تخضع للتمحيص والمناقشة، فكانت عادة النظر في الأدلة المؤيدة والحجج المعارضة لمسألة من المسائل تطبع في أذهان الفقهاء الإحساس بالحرية، الحرية في بحث أي مسألة مهما كانت، وإذ رأت جماعة العلماء أن معارضًا قد اشتط في معارضته، أي تمادى حد الخوض في الإلحاد (الذي تعريفه مخالفة أهل السنة والجماعة)؛ فإنَّه حتى في هذه الحالة، لا يدان قبل أن يعطى الفرصة لمعرفة خطئه والتوبة منه، وباستثناء الردة عن الإسلام؛ فإنَّ توقيع عقوبة الإعدام على من يصـر على كفره وإلحاده يتطلب تعاون السلطة السياسية الحاكمة، وفي المقابل؛ فإنَّ السلطة الحاكمة يتعين عليها الحصول على موافقة أكثرية الفقهاء المعتبرين؛ لتوقيع أقصـى العقوبة، سواء على الكافر أو المرتد.
وقد انتقلت طريقة صياغة الإجماع وعلاقة العلماء بالسلطة إلى الغرب في القرن الرابع عشـر الميلادي؛ إذ كان الوضع القائم في باريس يدل على على أن علاقة علماء كلية اللاهوت بالأسقف والبابا كانت على شاكلة العلاقة بين علماء الفقه الإسلامي بالخليفة، يقول تشارلز ثورو: «أخذت كلية اللاهوت على عاقتها سلطة إصدار القرار النهائي حول ما إذا كان المبدأ الديني صحيحًا أو باطلًا، قويمًا أومبتدعًا، وكان الأسقف، ثم البابا الملجأ الأخير يمارسان سلطة قضائية وقسـرية فقط، فكان يملكان توقيع العقوبة لا غير، والواقع أنه من الضـروري إعطاء سبب لاهوتي للإدانة، ولـم يكن ذلك ميسورًا دون الرجوع إلى علم اللاهوت، أو بعبارة أخرى إلى حفظته وهم علماء اللاهوت، وعليه فلم يكن بمقدور البابا نفسه أن يصدر حكمًا نهائيًّا في مسائل العقيدة»، وقد ضمت كلية اللاهوت بجامعة باريس حسب «ثورو» رهبان الأديرة من جميع الدرجات الكهنوتية، ورهبان الأبرشيات من جميع الدول، وبذلك؛ فإنَّها كانت تضم في ذلك الوقت جميع علماء اللاهوت البارزين في العالـم المسيحي، يقول مقدسي: «يبدو أنَّ المسيحية قد أولت أهمية كبرى لإجماع العلماء في مرحلة ما من مراحل تاريخها الوسيط، ولكن لـما كانت كل من الطريقة المدرسية وإجماع العلماء من الأمور الدخيلة على الهيكل التنظيمي الداخلي للكنيسة، وتمثلان إضافة غير جوهرية، فيها تكرار لعمل المجالس الكنسية المشكلة رسميًّا؛ فإنَّها لـم تستمر إلَّا فترة قصيرة في تاريخ النظم الغربية».

أبوعاصم أحمد بلحة
2015-11-29, 04:53 AM
رابط عرض الكتاب بمركز نماء:
http://www.nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?Id=30545