أبو مريم السني
2014-04-22, 12:19 AM
السيرة النبوية.. وحل المشكلات العالمية (1)
د / عبد الرحمن علي الحجي
إذا كانت رسالةُ الله تعالى التي بعث بها خيرَ الأنام محمد (صلى الله عليه وسلم) هي الرحمة المهداة، وهو لها المثال الفريد والأسوة الحسنة، فإن من مضامين هذه الرحمة أنها مؤهَّلة لحل كل مشكلة تواجه حامليها، تنطلق بهم في آفاق التعافي والبناء؛ لتقيم الحضارة الفاضلة والحياة الكريمة المنيرة، مُغَرْبِلَةً مُعَكَّرَاتِها مُعَدِّلَةً اعوجاجَها مُذْهِبَةً متاعبَها، خلال مسيرتها، يراها الناس من حولها متمثلة في أمته، بذلك يُقْبِل عليها مَنْ يبتغي السعادة هنا وهناك، كما يأخذ آخرون صيغاً منها لحل مشكلاتهم والقيام من أزماتهم والخروج من كوارثهم إن أرادوا، كما حَدَثَ مَرّاتٍ من أعلام الأقوام وأهل العلم فيهم! ..
الحق أن الذي يعرف الجاهلية ويرى ما صنعه الإسلام يعرف حقيقة هذا المنهج ويرى ضرورته للحياة الإنسانية، الذي يصنع ما لا يُصْنَع إلا بهذا الدين ولا يمكن أن يتركه لغيره، ذلك ما فهمه المسلمون وأدركوه خلال أجيالهم، فلم يحدث أبداً أن فكروا في استعارة شيء من غيره، كان دوماً هو المرجعية الوحيدة، ذلك ما لم يحتاجوا من يقنعهم بذلك، بعد ما فهموه ومارسوه ورأوا ثماره، من هنا عبّروا عن ذلك قولاً وعملاً وواقعاً، فقال عمر كلمته الملهمة: "من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام".
تكريم الإنسان:
مِثْلُ ذلك التدهور كان شائعاً في أمم الأرض كُلِّها حتى غدا السمة القائمة، حتى جاء الإسلامُ الذي حَمَى الإنسانَ وكَرَّمه وأظهرَ فعلياً وواقعياً ملموساً إنسانيته بأحلى وأجلى لوحة كريمة، أخذ الإنسان ابتداءً من بديهية معروفة غفلوا عنها وأهملوها ونسوها؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}) (النساء). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات).
مِنْ هنا كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يؤكد دوماً هذا المعنى في مناسبات عِدَّة: "أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى"، الأخذ بهذا الفهم بداية الاستقامة ومن فاته ذلك فلا يستقيم له حال.
هكذا تكون بداية النظر في هذه المسألة الأساسية المهمة المركزية في الموضوع، ذلك أن التشريع الإسلامي بذاته يلغي المشكلات ويحول دون ظهورها أصلاً، ليمضي منهجه الرباني في علاج بقاياها بأسلوب ذاتي يقود إليه الأخذ به، مع اختلاف كامل بنوعية الارتباط ببنية هذا المنهج الذي يُكَوّن رقابة ذاتية لدي تابعه، لارتباطه بالعقيدة الإلهية، التي يتوجه فيه الإنسان إلى الله تعالى والأخذ بمنهجه، متكاملاً دون أي انفصام ولا التواء.
حل المشكلات:
هكذا حَلَّ الإسلامُ كافة المشكلات التي كانت قائمةً، كذلك احتوى مُكْنَة لمواجهة القادمة منها بعد القائمة، ما كان لأحدٍ أنْ يُزحْزحَها. تقوم بها القيامَ المبارك متجهة بالإنسان والمجتمع والدولة نحو استكمال العافية والارتقاء بها في سلم الحضارة الكريمة الفاضلة، تليق بالإنسان الذي جعله الله مستخلفاً في هذه الأرض وبنائها على منهجه عامرة بالخير وسعادة الدارين، تلك مهمتُه الدائمة وميزتُه المتفردة ومُكْنَتُه الفائقة، معروف ذلك في كل زمان ومكان وإنسان، اعقلوه وجَرِّبوه وانظروه، تجدون تأكيد تلك مهمته للارتقاء بحياته وتحقيق خلافته في الأرض، الأمر الذي أراده الله تعالى له لتعميرها بما يرضاه الله تعالى له، تحقيقاً لبناء حضارته الفاضلة وسعادة الدارين.
قواعد أساسية:
لكن قبل الدخول في التفصيل لابد من ذكر ملاحظات في القواعد الأساسية التي تقدم السيرةَ النبوية بسماتها المتميزة، منها تلك التي لا تتوافر إلا في دين الله تعالى والسيرة الشارحة له والراسمة للوحاتها بألوانها الفريدة:
1 ـ أن الإسلام دينٌ بالمعنى العام والإسلامي المؤكِّد المتمم المستوعب، الذي يؤكد أنه منهج حياة يقوم على عقيدة وينبثق عنها، تحكمه في كل الأحوال كافةُ تطبيقاته والتزاماته وتشريعاته مترابطة وقائمة ومؤسَّسة على هذه العقيدة التي تحكمها.
2 ـ أن هذا المنهج يتحرك به مؤمنوه إيماناً واحتساباً ومحبة، يقوم العمل به محكوماً برعاية ورقابة ذاتية بآثارها وفعاليتها، قوتها أكثر فاعلية من أية رقابة بشرية، يمتلك هذا المنهج الرباني من القوة الغامرة تجعل تعاليمه ظاهرة في السلوك والواقع والتعامل.
3 ـ بذلك يثمر المنهج - بمضامينه المتفردة ونوعيته الإلهية وتشريعاته المعبرة - تلبيةً واستجابةً وتحقيق حاجةَ الإنسان المتجاوبة مع نزعاته المهذبة الملبية لرغبات الفطرة النظيفة، متلائمة مع إنسانيته، التي تُوقِفُه عند حدوده في كل أموره وحاجاته وطموحاته في الظاهر والباطن، تجعله حريصاً عليها، تغمره الفرحة الكبرى، حين يُتِمّ عملَه منجِزاً ما ينسجم مع أهدافها، حيث يتحقق له رضا الله تعالى بذلك. بذلك يتفاوت الناس، ليس فيهم إلا متمكن من السير بقوة في الأرض الفسيحة مبتعداً عن الوقوع في المهاوي والمستنقعات، يحقق ذلك السيرُ المتمكن القوي الراسخ حداً أدنى لمن يريد الارتقاء، مجاله مفتوحاً متاحاً للجميع ومعاناً عليه، يجد دوماً فيه المتسّع للارتقاء بقدر ما لدية مِنْ مُكْنَة.
أعنى بذلك أن الحد الأدنى هو القيام بالواجبات التي لابد منها، ولا يتم الأمر بدونها بأي مقدار، ثم من يريد أكثر فله ذلك ويجد العون عليه من المجتمع والدولة بكل مؤسساتها.
هذا يعني الالتزام بالمنهج وقيام المجتمع والدولة التي تأخذ به بكل مؤسساتها، باعتبارها ديناً لأَتْباعه وقانوناً لغيرهم يضمن حقوقهم، كل ذلك نجده في السيرة النبوية الشريفة بشكلها العملي الواقعي التطبيقي، نجد من خلالها الفهم القويم للقرآن الكريم والسنة النبوية الكريمة منظورة في الواقع العملي، منهج لا يعرف الانفصام بين القول والعمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ {3}) (الصف).
منهج رباني يقود هذا إلى الأخذ بأوامر هذا المنهج الرباني القرآني الفريد، التي تبدأ بالوقوف أولاً عند المحرمات تجنباً لها بكل منكراتها، إنساناً ومجتمعاً وكياناً، حين يبتعد عن ذلك سيجنبه كَمّاً هائلاً من المشكلات ويوفر عليه من الجهود والمتاعب والإنفاق. من أمثال: تحريم الخمر والميسر والزنا والربا والظلم والسرقة والغش والثأر والاعتداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ {91}) (المائدة)، وغيرها من النهي عن تناول أمور في المأكل والمشرب والتعامل، كتلك التي وردت في الآية الثالثة من سورة المائدة المدنية وما ورد في أحاديث شريفة، آخذاً بالحق والعدل والصدق والوفاء بالعهد والالتزام بالوعد وعدم العون على الباطل: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2}) (المائدة)، في الوقت نفسه أو يترافق متنافساً في تهيئة كل الأجواء التي تعينه في ذلك وتحقق له كل آماله وحاجاته وطموحاته النظيفة الكريمة اللازمة، تحقق ذلك في الواقع خلال الأجيال المتلاحقة أفراداَ ومجتمعاً بل وجيلاً بأكمله مما يعد إنجازاً تهب عليه نسائم المعجزات، ينفرد بذلك وَحْدَه.
يؤكد منهجُ الله تعالى على أمور ضرورية فطرية طبيعية، غابت عن واقع الحياة في أوقات وحتى اليوم وهي كذلك دوماً، حتى لو بقيت ادعاءً في الذاكرة أحياناً مثل: المساواة بين الناس، وهو ما أُشْرِبه المسلمون حتى غدا لديهم من الأوليات، واضعاً الميزان بلا تمايز بأي سبب ولا تفاضل إلا بالتقوى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات).
عدل الإسلام:
بدا ذلك واضحاً في تصرفاتهم مما غدا واضحاً لديهم بادياً في تعاملاتهم وواقعهم ومسالكهم، تراه طبيعياً لديهم دواماً لا يتكلفونه، يتذوقون نكهته وطُعومه، كما عبر عنه بعفوية طبيعية معهودة: رِبْعِيّ بن عامر لرُسْتُم قائدِ الفرس قُبَيْلَ معركة القادسية (15 شوال 15هـ= أواسط/12/636م)، حين سَأله: ما جاء بكم؟! متعجباً من حالهم الجديدة وهو يعرفهم قبل ذلك بغيره، قال رِبْعِي: "الله ابتعثنا لنُخْرِجَ مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.."، إنه الإخراج من الظلمات إلى النور الذي لا نور غيره: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ {40}) (النور).
كل ذلك مرتبط بتقوى الله تعالى والوقوف عند حدوده، حيث: "المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يُسْلِمُه كل المسلم على المسلم حرام: مالُه ودمُه وعِرْضه"، كل ذلك يتم، مع مراعاة الضعفاء ومن لا حول لهم وغير المسلمين والوقوف إلى جانب المحتاجين والملهوفين والمظلومين، وأداء حقوق المرأة ومعرفة قدرها ووضعها في مكانتها اللائقة والجميع رجالاً ونساءً وأطفالاً.
بل وَضَعَ قواعدَ التعامل مع الحيوان في مثل قوله (صلى الله عليه وسلم): "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة وليحد أحدُكم شفرتَه وليُرِحْ ذَبيحَتَه".
تجاوز الأمرُ ذلك بل دعا إلى رعاية البيئة والتعامل معها بمحبةٍ، الأمر الذي يشمل كافة الظواهر الكونية: "أُحُدٌ جبل يحبنا ونحبه"، كل تلك الأمور واضحة وهي من أوليات هذا المنهج الرباني الفريد، التي تقدَّم للجميع حقوقهم وما يلزمهم للعيش الكريم والحياة الفاضلة والعيشة الآمنة دون مطالبة ولا مواجهة ولا صراع، أنجز ذلك في الواقع الملموس المشاهد المنظور، مما لم تعرفه الحضارات الإنسانية كافة، ولم تنجح حالياً في توفيره واقعاً ملموساً متعاملاً، حتى من أرادت ذلك فشلت فيه فأباحته، وما تدعيه ليس ألا التشدق والادعاء الخاوي، بالمناسبة إن الإسلام لا يعرف الدولة والمجتمع الكهنوتي الديني والدنيوي بل هي مدنية تقوم على الشرعية والشريعة والشورى الكل شركاء في البناء والمسؤولية والواجبات، وإن كان منهجه يقدم الحقوق دون مطالبة، بعدها يطالب بالواجبات دون عنف أو إساءة أو اتهام.
مجتمع الإسلام الذي تقوم فيه هذه القيم البارة والتعامل والخلقيات، كم تُجَنّبه مِنَ المشكلات الضخمة الكبرى التي تنتج كثيراً من الأعباء والمتاعب والأثقال، وتستنزف الكثير من الجهد وتستهلك أجود الطاقات.
هذا تم في المجتمع الإسلامي وَحْدَه، وأنه دين مازال مغروساً ممارساً ملموساً بأي مقدار، لكن لابد من توسيع ذلك وتعميقه وتفعيله بأوسع مقدار ليبلغَ الكتابُ أَجَلَه.
الهامش:
1ـ كنز العمال، البرهان بوري، رقم:5652. السيرة النبوية، الندوي، 652. كذلك: السيرة النبوية، 937. البداية والنهاية، جـ 4 صـ 553
المصدر : مجلة المجتمع الكويتية
د / عبد الرحمن علي الحجي
إذا كانت رسالةُ الله تعالى التي بعث بها خيرَ الأنام محمد (صلى الله عليه وسلم) هي الرحمة المهداة، وهو لها المثال الفريد والأسوة الحسنة، فإن من مضامين هذه الرحمة أنها مؤهَّلة لحل كل مشكلة تواجه حامليها، تنطلق بهم في آفاق التعافي والبناء؛ لتقيم الحضارة الفاضلة والحياة الكريمة المنيرة، مُغَرْبِلَةً مُعَكَّرَاتِها مُعَدِّلَةً اعوجاجَها مُذْهِبَةً متاعبَها، خلال مسيرتها، يراها الناس من حولها متمثلة في أمته، بذلك يُقْبِل عليها مَنْ يبتغي السعادة هنا وهناك، كما يأخذ آخرون صيغاً منها لحل مشكلاتهم والقيام من أزماتهم والخروج من كوارثهم إن أرادوا، كما حَدَثَ مَرّاتٍ من أعلام الأقوام وأهل العلم فيهم! ..
الحق أن الذي يعرف الجاهلية ويرى ما صنعه الإسلام يعرف حقيقة هذا المنهج ويرى ضرورته للحياة الإنسانية، الذي يصنع ما لا يُصْنَع إلا بهذا الدين ولا يمكن أن يتركه لغيره، ذلك ما فهمه المسلمون وأدركوه خلال أجيالهم، فلم يحدث أبداً أن فكروا في استعارة شيء من غيره، كان دوماً هو المرجعية الوحيدة، ذلك ما لم يحتاجوا من يقنعهم بذلك، بعد ما فهموه ومارسوه ورأوا ثماره، من هنا عبّروا عن ذلك قولاً وعملاً وواقعاً، فقال عمر كلمته الملهمة: "من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام".
تكريم الإنسان:
مِثْلُ ذلك التدهور كان شائعاً في أمم الأرض كُلِّها حتى غدا السمة القائمة، حتى جاء الإسلامُ الذي حَمَى الإنسانَ وكَرَّمه وأظهرَ فعلياً وواقعياً ملموساً إنسانيته بأحلى وأجلى لوحة كريمة، أخذ الإنسان ابتداءً من بديهية معروفة غفلوا عنها وأهملوها ونسوها؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}) (النساء). (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات).
مِنْ هنا كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) يؤكد دوماً هذا المعنى في مناسبات عِدَّة: "أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى"، الأخذ بهذا الفهم بداية الاستقامة ومن فاته ذلك فلا يستقيم له حال.
هكذا تكون بداية النظر في هذه المسألة الأساسية المهمة المركزية في الموضوع، ذلك أن التشريع الإسلامي بذاته يلغي المشكلات ويحول دون ظهورها أصلاً، ليمضي منهجه الرباني في علاج بقاياها بأسلوب ذاتي يقود إليه الأخذ به، مع اختلاف كامل بنوعية الارتباط ببنية هذا المنهج الذي يُكَوّن رقابة ذاتية لدي تابعه، لارتباطه بالعقيدة الإلهية، التي يتوجه فيه الإنسان إلى الله تعالى والأخذ بمنهجه، متكاملاً دون أي انفصام ولا التواء.
حل المشكلات:
هكذا حَلَّ الإسلامُ كافة المشكلات التي كانت قائمةً، كذلك احتوى مُكْنَة لمواجهة القادمة منها بعد القائمة، ما كان لأحدٍ أنْ يُزحْزحَها. تقوم بها القيامَ المبارك متجهة بالإنسان والمجتمع والدولة نحو استكمال العافية والارتقاء بها في سلم الحضارة الكريمة الفاضلة، تليق بالإنسان الذي جعله الله مستخلفاً في هذه الأرض وبنائها على منهجه عامرة بالخير وسعادة الدارين، تلك مهمتُه الدائمة وميزتُه المتفردة ومُكْنَتُه الفائقة، معروف ذلك في كل زمان ومكان وإنسان، اعقلوه وجَرِّبوه وانظروه، تجدون تأكيد تلك مهمته للارتقاء بحياته وتحقيق خلافته في الأرض، الأمر الذي أراده الله تعالى له لتعميرها بما يرضاه الله تعالى له، تحقيقاً لبناء حضارته الفاضلة وسعادة الدارين.
قواعد أساسية:
لكن قبل الدخول في التفصيل لابد من ذكر ملاحظات في القواعد الأساسية التي تقدم السيرةَ النبوية بسماتها المتميزة، منها تلك التي لا تتوافر إلا في دين الله تعالى والسيرة الشارحة له والراسمة للوحاتها بألوانها الفريدة:
1 ـ أن الإسلام دينٌ بالمعنى العام والإسلامي المؤكِّد المتمم المستوعب، الذي يؤكد أنه منهج حياة يقوم على عقيدة وينبثق عنها، تحكمه في كل الأحوال كافةُ تطبيقاته والتزاماته وتشريعاته مترابطة وقائمة ومؤسَّسة على هذه العقيدة التي تحكمها.
2 ـ أن هذا المنهج يتحرك به مؤمنوه إيماناً واحتساباً ومحبة، يقوم العمل به محكوماً برعاية ورقابة ذاتية بآثارها وفعاليتها، قوتها أكثر فاعلية من أية رقابة بشرية، يمتلك هذا المنهج الرباني من القوة الغامرة تجعل تعاليمه ظاهرة في السلوك والواقع والتعامل.
3 ـ بذلك يثمر المنهج - بمضامينه المتفردة ونوعيته الإلهية وتشريعاته المعبرة - تلبيةً واستجابةً وتحقيق حاجةَ الإنسان المتجاوبة مع نزعاته المهذبة الملبية لرغبات الفطرة النظيفة، متلائمة مع إنسانيته، التي تُوقِفُه عند حدوده في كل أموره وحاجاته وطموحاته في الظاهر والباطن، تجعله حريصاً عليها، تغمره الفرحة الكبرى، حين يُتِمّ عملَه منجِزاً ما ينسجم مع أهدافها، حيث يتحقق له رضا الله تعالى بذلك. بذلك يتفاوت الناس، ليس فيهم إلا متمكن من السير بقوة في الأرض الفسيحة مبتعداً عن الوقوع في المهاوي والمستنقعات، يحقق ذلك السيرُ المتمكن القوي الراسخ حداً أدنى لمن يريد الارتقاء، مجاله مفتوحاً متاحاً للجميع ومعاناً عليه، يجد دوماً فيه المتسّع للارتقاء بقدر ما لدية مِنْ مُكْنَة.
أعنى بذلك أن الحد الأدنى هو القيام بالواجبات التي لابد منها، ولا يتم الأمر بدونها بأي مقدار، ثم من يريد أكثر فله ذلك ويجد العون عليه من المجتمع والدولة بكل مؤسساتها.
هذا يعني الالتزام بالمنهج وقيام المجتمع والدولة التي تأخذ به بكل مؤسساتها، باعتبارها ديناً لأَتْباعه وقانوناً لغيرهم يضمن حقوقهم، كل ذلك نجده في السيرة النبوية الشريفة بشكلها العملي الواقعي التطبيقي، نجد من خلالها الفهم القويم للقرآن الكريم والسنة النبوية الكريمة منظورة في الواقع العملي، منهج لا يعرف الانفصام بين القول والعمل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ {3}) (الصف).
منهج رباني يقود هذا إلى الأخذ بأوامر هذا المنهج الرباني القرآني الفريد، التي تبدأ بالوقوف أولاً عند المحرمات تجنباً لها بكل منكراتها، إنساناً ومجتمعاً وكياناً، حين يبتعد عن ذلك سيجنبه كَمّاً هائلاً من المشكلات ويوفر عليه من الجهود والمتاعب والإنفاق. من أمثال: تحريم الخمر والميسر والزنا والربا والظلم والسرقة والغش والثأر والاعتداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ {91}) (المائدة)، وغيرها من النهي عن تناول أمور في المأكل والمشرب والتعامل، كتلك التي وردت في الآية الثالثة من سورة المائدة المدنية وما ورد في أحاديث شريفة، آخذاً بالحق والعدل والصدق والوفاء بالعهد والالتزام بالوعد وعدم العون على الباطل: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2}) (المائدة)، في الوقت نفسه أو يترافق متنافساً في تهيئة كل الأجواء التي تعينه في ذلك وتحقق له كل آماله وحاجاته وطموحاته النظيفة الكريمة اللازمة، تحقق ذلك في الواقع خلال الأجيال المتلاحقة أفراداَ ومجتمعاً بل وجيلاً بأكمله مما يعد إنجازاً تهب عليه نسائم المعجزات، ينفرد بذلك وَحْدَه.
يؤكد منهجُ الله تعالى على أمور ضرورية فطرية طبيعية، غابت عن واقع الحياة في أوقات وحتى اليوم وهي كذلك دوماً، حتى لو بقيت ادعاءً في الذاكرة أحياناً مثل: المساواة بين الناس، وهو ما أُشْرِبه المسلمون حتى غدا لديهم من الأوليات، واضعاً الميزان بلا تمايز بأي سبب ولا تفاضل إلا بالتقوى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات).
عدل الإسلام:
بدا ذلك واضحاً في تصرفاتهم مما غدا واضحاً لديهم بادياً في تعاملاتهم وواقعهم ومسالكهم، تراه طبيعياً لديهم دواماً لا يتكلفونه، يتذوقون نكهته وطُعومه، كما عبر عنه بعفوية طبيعية معهودة: رِبْعِيّ بن عامر لرُسْتُم قائدِ الفرس قُبَيْلَ معركة القادسية (15 شوال 15هـ= أواسط/12/636م)، حين سَأله: ما جاء بكم؟! متعجباً من حالهم الجديدة وهو يعرفهم قبل ذلك بغيره، قال رِبْعِي: "الله ابتعثنا لنُخْرِجَ مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.."، إنه الإخراج من الظلمات إلى النور الذي لا نور غيره: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ {40}) (النور).
كل ذلك مرتبط بتقوى الله تعالى والوقوف عند حدوده، حيث: "المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يُسْلِمُه كل المسلم على المسلم حرام: مالُه ودمُه وعِرْضه"، كل ذلك يتم، مع مراعاة الضعفاء ومن لا حول لهم وغير المسلمين والوقوف إلى جانب المحتاجين والملهوفين والمظلومين، وأداء حقوق المرأة ومعرفة قدرها ووضعها في مكانتها اللائقة والجميع رجالاً ونساءً وأطفالاً.
بل وَضَعَ قواعدَ التعامل مع الحيوان في مثل قوله (صلى الله عليه وسلم): "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة وليحد أحدُكم شفرتَه وليُرِحْ ذَبيحَتَه".
تجاوز الأمرُ ذلك بل دعا إلى رعاية البيئة والتعامل معها بمحبةٍ، الأمر الذي يشمل كافة الظواهر الكونية: "أُحُدٌ جبل يحبنا ونحبه"، كل تلك الأمور واضحة وهي من أوليات هذا المنهج الرباني الفريد، التي تقدَّم للجميع حقوقهم وما يلزمهم للعيش الكريم والحياة الفاضلة والعيشة الآمنة دون مطالبة ولا مواجهة ولا صراع، أنجز ذلك في الواقع الملموس المشاهد المنظور، مما لم تعرفه الحضارات الإنسانية كافة، ولم تنجح حالياً في توفيره واقعاً ملموساً متعاملاً، حتى من أرادت ذلك فشلت فيه فأباحته، وما تدعيه ليس ألا التشدق والادعاء الخاوي، بالمناسبة إن الإسلام لا يعرف الدولة والمجتمع الكهنوتي الديني والدنيوي بل هي مدنية تقوم على الشرعية والشريعة والشورى الكل شركاء في البناء والمسؤولية والواجبات، وإن كان منهجه يقدم الحقوق دون مطالبة، بعدها يطالب بالواجبات دون عنف أو إساءة أو اتهام.
مجتمع الإسلام الذي تقوم فيه هذه القيم البارة والتعامل والخلقيات، كم تُجَنّبه مِنَ المشكلات الضخمة الكبرى التي تنتج كثيراً من الأعباء والمتاعب والأثقال، وتستنزف الكثير من الجهد وتستهلك أجود الطاقات.
هذا تم في المجتمع الإسلامي وَحْدَه، وأنه دين مازال مغروساً ممارساً ملموساً بأي مقدار، لكن لابد من توسيع ذلك وتعميقه وتفعيله بأوسع مقدار ليبلغَ الكتابُ أَجَلَه.
الهامش:
1ـ كنز العمال، البرهان بوري، رقم:5652. السيرة النبوية، الندوي، 652. كذلك: السيرة النبوية، 937. البداية والنهاية، جـ 4 صـ 553
المصدر : مجلة المجتمع الكويتية