شرح العمدة لابن تيمية كتاب الحج (1)
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 73الى صــ 87
(1)
كِتَابُ الْحَجِّ.
جِمَاعُ مَعْنَى الْحَجِّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: قَصْدُ الشَّيْءِ وَإِتْيَانُهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الطَّرِيقُ مَحَجَّةً لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَيُسَمَّى مَا يَقْصِدُ الْخَصْمُ حُجَّةً لِأَنَّهُ يَأْتَمُّهُ وَيَنْتَحِيهِ، وَمِنْهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ الْحَاجَةُ، وَهُوَ مَا يُقْصَدُ وَيُطْلَبُ لِلْمَنْفَعَةِ بِهِ سَوَاءٌ قَصَدَهُ الْقَاصِدُ لِمَصْلَحَتِهِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةً فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» ".
وَقَوْلُ فِي حَاجَةِ اللَّهِ، وَحَاجَةِ رَسُولِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِنَّمَا يُقْصَدُ وَيُؤْتَى: مَا يُعَظَّمُ وَيُعْتَقَدُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَإِذَا كَانَ كذلك فلا بد أن يكثر اختلاف الناس إليه فكذلك يقول بعض أهل اللغة: الحج القصد، ويقول بعضهم: هو القصد إلى من يعظم، ويقول بعضهم: كثرة القصد إلى من يعظمه. ورجل محجوج، ومكان محجوج، أي مقصود مأتي. ومنه قوله:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا قال ابن السكيت: يقول يكثرون الاختلاف إليه.
وقوله:
قالت تغيرتم بعدي فقلت لها ... لا والذي بيته يا سلم محجوج
ثم غلب في الاستعمال الشرعي، والعرفي على حج بيت الله - سبحانه وتعالى - وإتيانه. فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد لأنه هو المشروع الموجود كثيرا وذلك كقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] وقال تعالى: {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27] وقال سبحانه: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة: 196] وقد بين المحجوج في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وقوله تعالى: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فإن اللام في قوله {البيت} [البقرة: 158] لتعريف الذي تقدم ذكره في أحد الموضعين وعلمه المخاطبون في الموضع الآخر.
وفيه لغتان قد قرئ بهما. الحج، والحج، والحجة بفتح الحاء وكسرها. ثم حج البيت له صفة معلومة في الشرع من الوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، وما يتبع ذلك فإن ذلك كله من تمام قصد البيت، فإذا أطلق الاسم في الشرع انصرف إلى الأفعال المشروعة ; إما في الحج الأكبر، أو الأصغر.
[مسألة وجوب الحج والعمرة مرة في العمر]
مسألة:
(يجب الحج والعمرة مرة في العمر على المسلم العاقل البالغ الحر).
في هذا الكلام فصول: -
أحدها: أن الحج واجب في الجملة، وهو أحد مباني الإسلام الخمس، وهو من العلم المستفيض الذي توارثته الأمة وتناقلته خلفا عن سلف، والأصل فيه قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]، وحرف على للإيجاب لا سيما إذا ذكر المستحق فقيل: لفلان على فلان، وقد أتبعه بقوله: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97] ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر، وأنه إنما وضع البيت وأوجب حجه ليشهدوا منافع لهم لا لحاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه، لأن الله غني عن العالمين،وكذلك قوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] على أحد التأويلين، وقوله: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا} [الحج: 27] فأذن فيهم: "إن لربكم بيتا فحجوه ".
وأما السنة: فما روى ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» " متفق عليه.
وفي حديث جبريل في رواية عمر - رضي الله عنه - «أنه قال للنبي- صلى الله عليه وسلم ما الإسلام؟ قال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» "رواه مسلم. وليس ذكر الحج في حديث أبي هريرة المتفق عليه، وسيأتي إن شاء الله تعالى قوله: " «إن الله فرض عليكم الحج فحجوا» " رواه مسلم وغيره وأحاديث كثيرة في هذا المعنى.
وعن شريك بن أبي نمر، عن أنس بن مالك قال: «بينما نحن جلوس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد إذ دخل رجل على جمل ثم أناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال: أيكم محمد؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- متكئ بين ظهرانيهم فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد أجبتك " فقال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك. فقال: "سل عما بدا لك " فقال: أسألك بربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال: اللهم نعم، قال: أنشدك بالله آلله أمر أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: "اللهم نعم " قال: أنشدك الله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: "اللهم نعم " قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم نعم " فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر»، رواه الجماعة إلا مسلما والترمذي عن إسماعيل، وعلي بن عبد الحميد، وقال: رواه سليمان عن ثابت عن أنس عن النبي-صلى الله عليه وسلم- مثله، وروى مسلم وأحمد والترمذي، والنسائي من حديث ثابت عن أنس قال: «نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك! قال: "صدق " قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله " قال: فمن خلق الأرض؟ قال: "الله " قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: "الله " قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال:
"نعم " قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا، وليلتنا؟ قال: "صدق " قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم " قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا؟ قال: "صدق" قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم" قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: " صدق " قال: ثم ولى وقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن صدق ليدخلن الجنة".»
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدم عليه فأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس في أصحابه في المسجد وكان ضمام بن ثعلبة رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين قال: فأقبل حتى وقف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في أصحابه فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا ابن عبد المطلب " قال: أمحمد؟ قال: نعم، قال: يا ابن عبد المطلب إني سائلك، ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدن في نفسك، فقال: "لا أجد في نفسي سل عما بدا لك" قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: "اللهم نعم" قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك: آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: "اللهم نعم" قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة: الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص، قال: ثم انصرف إلى بعيره، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة" قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: ما بئست اللات والعزى؟ قالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله ما يضران، وما ينفعان، وإن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فوالله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته من رجل ولا امرأة إلا مسلما». قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قط كان أفضل من ضمام بن ثعلبة، ورواه أحمد وأبو داود من طريق ابن إسحاق وهذا لفظ المغازي واختلف في سنة قدومه. فقيل: كان ذلك في سنة خمس قاله محمد بن حبيب وغيره وروى عن شريك عن كريب عن ابن عباس -رضي الله عنهما- حديث ابن عباس وفيه - «بعث بنو سعد ضماما في رجب سنة خمس، وقيل: في سنة سبع، وقيل: في سنة تسع» " ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة، وذكره أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب البصري المعروف بالحاكم في تاريخه: لوامع الأمور وحوادث الدهور. وزعم ابن عبد البر أن هذا هو الأعرابي الثائر الرأس الذي من أهل نجد الذي يروي حديثه أبو طلحة ويروي نحوا منه أبو هريرة. وهذا فيه نظر لأن ذاك -أولا- أعرابي، وهذا من بني سعد بن بكر، ثم ذاك رجل ثائر الرأس، وهذا رجل له عقيصتان، ثم ذاك رجل يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، وهذا رجل عاقل جلد، ثم ذاك ليس في حديثه إلا التوحيد، والصلاة والزكاة والصوم. فإن كان هذا هو ذاك: فليس ذكر الحج إلا في بعض رواياته. والذي في الصحيحين ليس فيه شيء من هذا ولا يسعهم أن يتركوه - وهو يقول لا أزيد ولا أنقص فإن كانت سعد هذه سعد بن بكر بن هوازن أظآر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهؤلاء كانوا مشركين يوم حنين - وكانت حنين في أواخر سنة ثمان من الهجرة وقدم وفد هوازن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منصرفه - وهو بالجعرانة - عن حصار الطائف فأسلموا، ومن النبي -صلى الله عليه وسلم- على سبيهم - والقصة مشهورة. فتكون بنو بكر بن سعد بن بكر قد أوفدت ضماما في سنة تسع، وفيها أسلمت ثقيف أيضا، وهذه السنة هي سنة الوفود.
وقد أجمع المسلمون -في الجملة- على أن الحج فرض لازم