تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية
الخوارج (1)
قصة الاسلام
هذه السلسلة منقولة من موقع قصة الاسلام
نشأة الخوارج والتعريف بهم
عرّف أهل العلم الخوارج بتعريفات منها ما بيّنه أبو الحسن الأشعري أن اسم الخوارج يقع على تلك الطائفة التي خرجت على رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبيّن أن خروجهم عليه هو العلة في تسميتهم بهذا الاسم، حيث قال رحمه الله تعالى: "والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على علي رضي الله عنه لما حكم"[1].
فالخوارج هم أولئك النفر الذين خرجوا على عليٍّ رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم في موقعة صفين، ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب الخوارج، ومن تلك الألقاب الحرورية والشراة والمارقة والمحكمة وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة؛ فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقين من الدين كما يمرق السهم من الرمية[2].
ومن أهل العلم من يرجّح بداية نشأة الخوارج إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعل أول الخوارج ذا الخويصرة الذي اعترض على الرسول في قسمة ذهب كان قد بعث به علي رضي الله عنه من اليمن، ويتضح ذلك من الحديث النبوي الشريف الذي رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ[3] لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا[4]. قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً". قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ! قَالَ: "وَيْلَكَ! أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ".
قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ. قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟! قَالَ: "لاَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي". فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ". قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: "إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ". وَأَظُنُّهُ قَالَ: "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُم ْ قَتْلَ ثَمُودَ"[5].
ويعلق ابن الجوزي -رحمه الله- على هذا الحديث فيقول: أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة التميمي. وفي لفظ أنه قال له: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"[6].
فهذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه[7].
وممن أشار بأن أول الخوارج ذو الخويصرة: أبو محمد بن حزم[8]، وكذا الشهرستاني[9]. ومن العلماء من يرى أن نشأة الخوارج بدأت بالخروج على عثمان رضي الله عنه بإحداثهم الفتنة التي أدت إلى قتله رضي الله عنه ظلمًا وعدوانًا، وسميت تلك الفتنة التي أحدثوها بالفتنة الأولى[10].
وقد أطلق ابن كثير على الغوغاء الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه وقتلوه اسم الخوارج[11].
الرأي الراجح حول نشأة الخوارج
بالرغم من الارتباط القوي بين ذي الخويصرة والغوغاء الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه وبين الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بسبب التحكيم فإن مصطلح الخوارج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة لا ينطبق إلا على الخارجين بسبب التحكيم؛ بحكم كونهم جماعة في شكل طائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الخاصة، أحدثت أثرًا فكريًّا عقديًّا واضحًا، بعكس ما سبقها من حالات[12].
ذم الخوارج في السنة النبوية
لقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الخوارج، منها ما روي عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ! فَقَالَ: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ". فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ: "دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ -وَهُوَ قِدْحُهُ- فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ".
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ الَّذِي نَعَتَهُ[13].
وعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[14].
وعَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ "قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِم ْ لاَ يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ"[15].
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلاَفٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: "التَّحْلِيقُ" .
وفي رواية عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ قَالَ: "سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ وَالتَّسْبِيدُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَأَنِيمُوهُمْ". قَالَ أَبُو دَاوُد: التَّسْبِيدُ: اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ[16].
وعن أبي كَثِيرٍ مَوْلَى الأَنْصَارِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَيِّدِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ، فَكَأَنَّ النَّاسَ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَدَّثَنَا بِأَقْوَامٍ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لاَ يَرْجِعُونَ فِيهِ أَبَدًا حَتَّى يَرْجِعَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ، وَإِنَّ آيَةَ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً أَسْوَدَ مُخْدَجَ الْيَدِ إِحْدَى يَدَيْهِ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ لَهَا حَلَمَةٌ كَحَلَمَةِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، حَوْلَهُ سَبْعُ هُلْبَاتٍ فَالْتَمِسُوهُ؛ فَإِنِّي أُرَاهُ فِيهِمْ. فَالْتَمَسُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى شَفِيرِ النَّهَرِ تَحْتَ الْقَتْلَى فَأَخْرَجُوهُ، فَكَبَّرَ عَلِيٌّ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِنَّهُ لَمُتَقَلِّدٌ قَوْسًا لَهُ عَرَبِيَّةً، فَأَخَذَهَا بِيَدِهِ فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي مُخْدَجَتِهِ وَيَقُولُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ! وَكَبَّرَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْهُ وَاسْتَبْشَرُوا ، وَذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَجِدُونَ[17].
مناظرة ابن عباس للخوارج
انفصل الخوارج في جماعة كبيرة من جيش علي رضي الله عنه أثناء عودته من صفين إلى الكوفة، قُدِّر عددها في بعض الروايات ببضعة عشر ألفًا، وحُدِّد في رواية باثني عشر ألفًا[18]، وفي أخرى بستة آلاف[19]، وفي رواية بثمانية آلاف[20]، وفي رواية بأنهم أربعة عشر ألفًا[21].
وقد انفصل هؤلاء عن الجيش قبل أن يصلوا إلى الكوفة بمراحل، وقد أقلق هذا التفرق أصحاب علي رضي الله عنه وهالهم، وسار علي رضي الله عنه بمن بقي من جيشه على طاعته حتى دخل الكوفة، وانشغل أمير المؤمنين بأمر الخوارج، خصوصًا بعدما بلغه تنظيم جماعتهم من تعيين أمير للصلاة وآخر للقتال، وأن البيعة لله U، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يعني انفصالهم فعليًّا عن جماعة المسلمين[22].
وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حريصًا على إرجاعهم إلى جماعة المسلمين، فأرسل ابن عباس إليهم لمناظرتهم، وهذا ابن عباس يروي لنا ذلك فيقول: "... فقمت وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائمون فسلمت عليهم فقالوا: مرحبًا بك يابن عباس! فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وصهره وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون وتخبرون بما تقولون. قلت: أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه؟
قالوا: ثلاثًا.
قلت: ما هن؟
قالوا: أما إحداهن فإنه حكم الرجال في أمر الله فكفر، وقال الله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، ما شأن الرجال والحكم؟
فقلت: هذه واحدة.
قالوا: وأما الثانية، فإنه قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، فإن كانوا كفارًا سلبهم، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم.
قلت: هذه اثنان، فما الثالثة؟
قالوا: إنه محا اسمه من أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟
قالوا: حسبنا هذا.
قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يردّ قولكم، أترضون؟!
قالوا: نعم.
قلت: أما قولكم حكم الرجال في أمر الله، فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيّر الله حكمه إلى الرجال في ثُمُن ربع درهم، فأمر الله الرجال أن يحكموا فيه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]. فنشدتكم بالله تعالى، أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟! وأنتم تعلمون أن الله تعالى لو شاء لحكم ولم يصيّر ذلك إلى الرجال. قالوا: بل هذا أفضل. وفي المرأة وزوجها قال الله U: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم، وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة أخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، أفتسلبون أُمَّكم عائشة -رضي الله عنها- ثم تستحلون منها ما يستحل من غيرها وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، ولئن قلتم ليست بأمِّنا فقد كفرتم؛ لأن الله تعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِين َ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. فأنتم تدورون بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج!
قلت: فخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
وأما قولكم محا اسمه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون وأراكم قد سمعتم أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي رضي الله عنه: "اكتبْ، هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فقال المشركون: لا والله ما نعلم أنك رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله لأطعناك، فاكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امْحُ يَا عَلِيُّ رَسُولَ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، امْحُ يَا عَلِيُّ، وَاكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". فوالله رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عليٍّ، وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة. أخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم فقُتلوا على ضلالتهم، قتلهم المهاجرون والأنصار[23].
خروج علي لمناظرة بقية الخوارج
بعد مناظرة ابن عباس للخوارج واستجابة ألفين منهم له، خرج أمير المؤمنين علي بنفسه إليهم فكلمهم فرجعوا ودخلوا الكوفة، إلا أن هذا الوفاق لم يستمر طويلاً؛ بسبب أن الخوارج فهموا من علي رضي الله عنه أنه رجع عن التحكيم وتاب من خطيئته -حسب زعمهم- وصاروا يذيعون هذا الزعم بين الناس، فدخل الأشعث بن قيس الكندي إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقال: إن الناس يتحدثون أنك رجعت لهم عن كفرك.
فلما أن كان الغد الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فخطب، فذكّرهم مباينتهم الناس وأمرهم الذي فارقوه فيه، فعابهم وعاب أمرهم. فلما نزل المنبر تنادوا من نواحي المسجد "لا حكم إلا لله"، فقال علي: حكم الله أنتظر فيكم. ثم قال بيده هكذا يسكتهم بالإشارة، وهو على المنبر حتى أتى رجل منهم واضعًا إصبعيه في أذنيه[24] وهو يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. فقال علي: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّك َ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} [الروم: 60].
وأعلن أمير المؤمنين علي سياسته الراشدة العادلة تجاه هذه الجماعة المتطرفة، فقال لهم: إن لكم عندنا ثلاثًا: لا نمنعكم صلاةً في هذا المسجد، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا[25].
فقد سلم لهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بهذه الحقوق ما داموا لم يقاتلوا الخليفة، أو يخرجوا على جماعة المسلمين، مع احتفاظهم بتصوراتهم الخاصة في إطار العقيدة الإسلامية فهو لا يخرجهم بداية من الإسلام، وإنما يسلم لهم بحق الاختلاف دون أن يؤدي إلى الفُرقة وحمل السلاح[26].
وعنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَنَحْنُ عِنْدَهَا جُلُوسٌ مَرْجِعَهُ مِنَ الْعِرَاقِ لَيَالِيَ قُتِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ، هَلْ أَنْتَ صَادِقِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ تُحَدِّثُنِي عَنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ؟
قَالَ: وَمَا لِي لاَ أَصْدُقُكِ!
قَالَتْ: فَحَدِّثْنِي عَنْ قِصَّتِهِمْ.
قَالَ: فَإِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمَّا كَاتَبَ مُعَاوِيَةَ وَحَكَمَ الْحَكَمَانِ خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلاَفٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ فَنَزَلُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: حَرُورَاءُ مِنْ جَانِبِ الْكُوفَةِ، وَإِنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: انْسَلَخْتَ مِنْ قَمِيصٍ أَلْبَسَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْمٍ سَمَّاكَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، ثُمَّ انْطَلَقْتَ فَحَكَّمْتَ فِي دِينِ اللَّهِ فَلاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ عَلِيًّا مَا عَتَبُوا عَلَيْهِ وَفَارَقُوهُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ مُؤَذِّنًا فَأَذَّنَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلاَّ رَجُلٌ قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا أَنْ امْتَلأَتْ الدَّارُ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ دَعَا بِمُصْحَفٍ إِمَامٍ عَظِيمٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَصُكُّهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: أَيُّهَا الْمُصْحَفُ، حَدِّثْ النَّاسَ.
فَنَادَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَسْأَلُ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ مِدَادٌ فِي وَرَقٍ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِمَا رُوِينَا مِنْهُ، فَمَاذَا تُرِيدُ؟
قَالَ: أَصْحَابُكُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ خَرَجُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].
فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ دَمًا وَحُرْمَةً مِنْ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ. وَنَقَمُوا عَلَيَّ أَنْ كَاتَبْتُ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ جَاءَنَا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَ ةِ حِينَ صَالَحَ قَوْمَهُ قُرَيْشًا فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". فَقَالَ سُهَيْلٌ: لاَ تَكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ: "كَيْفَ نَكْتُبُ؟" فَقَالَ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "فَاكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أُخَالِفْكَ. فَكَتَبَ "هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُرَيْشًا"[27]، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21].
وعندما أيقن الخوارج أن عليًّا عازم على إنفاذ أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- حكمًا، طلبوا منه الامتناع عن ذلك، فأبى عليٌّ عليهم ذلك، وبيّن لهم أن هذا يعدّ غدرًا ونقضًا للأيمان والعهود، فقد كتب بينه وبين القوم عهودًا، وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91].
فقرر الخوارج الانفصال عن عليٍّ وتعرضوا له في خطبه، وأسمعوه السبَّ والشتم والتعريض بآيات من القرآن[28].
ثم اجتمع الخوارج لتعيين أمير عليهم في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهّدهم في الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الأحكام الجائرة.
ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
ثم قام سنان بن حمزة الأسدي فقال: يا قوم، إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلاً منكم، فإنه لا بد لكم من عمادٍ وسنان، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها. فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي -وكان من رءوسهم- فعرضوا عليه الإمارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شُريح بن أبي أوفى العبسيّ فأبى، وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبةً في الدنيا ولا أدعها فَرَقًا من الموت[29].
واجتمعوا أيضًا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن، منها قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حقٌّ على المؤمنين. فبكى رجل منهم يقال له: عبد الله بن سخبرة السلمي، ثم حرّض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قُتلتم فأيُّ شيءٍ أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته؟!
ويعلق ابن كثير على فساد عقيدتهم فيقول: "وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوّع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم!"[30].
وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون[31] في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103-105].
"والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلاَّل، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها، ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم -ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها- فيوافوهم إليها ويكون اجتماعهم عليها.
فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشًا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، ولا تخرجوا من الكوفة جماعاتٍ، ولكن اخرجوا وحدانًا؛ لئلاّ يفطن بكم. فكتبوا كتابًا عامًّا إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها، وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدًا واحدة على الناس.
ثم خرجوا يتسللون وحدانًا لئلاّ يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زيّنه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسئول أن يعصمنا منه بحوله وقوته، إنه مجيب الدعوات. وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنّبوهم ووبّخوهم، فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنه من فرّ بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة"[32].
فكتب عليٌّ إلى الخوارج بالنهروان: أما بعد، فقد جاءكم ما كنتم تريدون، قد تفرّق الحكمان على غير حكومة ولا اتفاق، فارجعوا إلى ما كنتم عليه؛ فإني أريد المسير إلى الشام. فأجابوه أنه لا يجوز لنا أن نتخذك إمامًا وقد كفرت حتى تشهد على نفسك بالكفر، وتتوب كما تبنا، فإنك لم تغضب لله، إنما غضبت لنفسك. فلما قرأ جواب كتابه إليهم يئس منهم؛ فرأى أن يمضي من معسكره بالنخيلة وقد كان عسكر بها -حين جاء خبر الحكمين- إلى الشام، وكتب إلى أهل البصرة في النهوض معه[33].
معركة النهروان 38هـ سبب المعركة:
كانت الشروط التي أخذها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الخوارج أن لا يسفكوا دمًا ولا يروعوا آمنًا ولا يقطعوا سبيلاً، وإذا ارتكبوا هذه المخالفات فقد نبذ إليهم الحرب؛ ونظرًا لأن الخوارج يكفرون من خالفهم ويستبيحون دمه وماله، فقد بدءوا بسفك الدماء المحرمة في الإسلام، وقد تعددت الروايات في ارتكابهم المحظورات؛ فعن رجل من عبد القيس قال: كنت مع الخوارج فرأيت منهم شيئًا كرهته، ففارقتهم على أن لا أكثر عليهم، فبينا أنا مع طائفة منهم إذ رأوا رجلاً خرج كأنه فزع، وبينهم وبينه نهر، فقطعوا إليه النهر فقالوا: كأنَّا رعناك؟
قال: أجل.
قالوا: ومن أنت؟
قال: أنا عبد الله بن خباب بن الأرَتّ.
قالوا: عندك حديث تحدثناه عن أبيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: سمعته يقول: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن فتنة جائية القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، فإذا لقيتهم، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فلا تكن عبد الله القاتل"[34].
فأخذوه وسرية له معه، فمرّ بعضهم على تمرة ساقطة من نخلة فأخذها فألقاها في فِيه، فقال بعضهم: تمرة معاهد، فبم استحللتها؟ فألقاها من فيه، ثم مروا على خنزير فنفحه بعضهم بسيفه، فقال بعضهم: خنزير معاهد، فبم استحللته؟
فقال عبد الله: ألا أدلكم على ما هو أعظم عليكم حرمة من هذا؟!
قالوا: نعم.
قال: أنا. فقدموه فضربوا عنقه، فرأيت دمه يسيل على الماء كأنه شراك نعل اندفر بالماء حتى توارى عنه، ثم دعوا بسرية له حبلى فبقروا عما في بطنها[35].
فأثار هذا العمل الرعب بين الناس وأظهر مدى إرهابهم ببقر بطن هذه المرأة وذبحهم عبد الله كما تذبح الشاة، ولم يكتفوا بهذا بل صاروا يهددون الناس قتلاً، حتى إن بعضهم استنكر عليهم هذا العمل قائلين: ويلكم ما على هذا فارقنا عليًّا[36].
بالرغم من فظاعة ما ارتكبه الخوارج من منكرات بشعة، لم يبادر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى قتالهم، بل أرسل إليهم أن يسلموا القتلة لإقامة الحد عليهم، فأجابوه بعناد واستكبار: وكيف نقيدك وكلنا قتله؟ قال: أوَكلكم قتله؟ قالوا: نعم[37]. فسار إليهم بجيشه الذي قد أعدَّه لقتال أهل الشام في شهر المحرم من عام 38هـ، وعسكر على الضفة الغربية لنهر النهروان، والخوارج على الضفة الشرقية بحذاء مدينة النهروان[38].
وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يدرك أن هؤلاء القوم هم الخوارج الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمروق من الدين؛ لذلك أخذ يحث أصحابه أثناء مسيرهم إليهم ويحرضهم على قتالهم.
وعسكر الجيش في مقابلة الخوارج يفصل بينهما نهر النهروان، وأمر جيشه ألاّ يبدءوا بالقتال حتى يجتاز الخوارج النهر غربًا، وأرسل علي رضي الله عنه رسله يناشدهم الله ويأمرهم أن يرجعوا، وأرسل إليهم البراء بن عازب رضي الله عنه يدعوهم ثلاثة أيام فأبوا[39]، ولم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسله، واجتازوا النهر.
وعندما بلغ الخوارج هذا الحد وقطعوا الأمل في كل محاولات الصلح وحفظ الدماء، ورفضوا عنادًا واستكبارًا العودة إلى الحق وأصروا على القتال، قام أمير المؤمنين بترتيب جيشه وتهيئته للقتال، فجعل على ميمنته حجر بن عدي وعلى الميسرة شبث بن ربعي ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرَّجَّالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة -وكانوا سبعمائة- قيس بن سعد بن عبادة، وأمر عليٌّ أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج، ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، إنه لا حاجة لنا فيكم إلا فيمن قتل إخواننا. فانصرف منهم طوائف كثيرون، وكانوا أربعة آلاف فلم يبقَ منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي[40].
نشوب القتال:
زحف الخوارج إلى علي رضي الله عنه فقدّم عليٌّ بين يديه الخيل وقدم منهم الرماة وصفّ الرجّالة وراء الخيّالة، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدءوكم، وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة. وبعد معركة حاسمة وقصيرة أخذت وقتًا من اليوم التاسع من شهر صفر عام 38هـ، وأسفرت هذه المعركة الخاطفة عن عددٍ كبير من القتلى في صفوف الخوارج، فتذكر الروايات أنهم أصيبوا جميعًا، ويذكر المسعودي: أن عددًا يسيرًا لا يتجاوز العشرة فروا بعد الهزيمة الساحقة[41]. أما جيش علي رضي الله عنه فقد قُتل منه رجلان فقط[42]. وقيل: قتل من أصحاب عليٍّ اثنا عشر أو ثلاثة عشر[43]. وقيل: لم يقتل من المسلمين إلا تسعة رهط[44].
ذو الثدية وأثر مقتله في جيش علي:
كان علي رضي الله عنه يتحدث عن الخوارج منذ ابتداء بدعتهم، وكثيرًا ما كان يتعرض إلى ذكر ذي الثُّدَيَّة، وأنه علامة هؤلاء، ويسرد أوصافه، وبعد نهاية المعركة الحاسمة أمر علي أصحابه بالبحث عن جثة المُخْدَجِ؛ لأن وجودها من الأدلة على أن عليًّا رضي الله عنه على حقٍّ وصواب. وبعد مدة من البحث مرت على عليٍّ رضي الله عنه وأصحابه، وجد أمير المؤمنين علي جماعة مكوّمة بعضها على بعض عند شفير النهر، قال: أخرجوهم. فإذا المخدج تحتهم جميعًا مما يلي الأرض، فكبّر علي رضي الله عنه! ثم قال: صدق الله وبلّغ رسوله! وسجد سجود الشكر، وكبّر الناس حين رأوه واستبشروا[45].
يتبع