تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

    تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية
    الخوارج (1)


    قصة الاسلام

    هذه السلسلة منقولة من موقع قصة الاسلام
    نشأة الخوارج والتعريف بهم

    عرّف أهل العلم الخوارج بتعريفات منها ما بيّنه أبو الحسن الأشعري أن اسم الخوارج يقع على تلك الطائفة التي خرجت على رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبيّن أن خروجهم عليه هو العلة في تسميتهم بهذا الاسم، حيث قال رحمه الله تعالى: "والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على علي رضي الله عنه لما حكم"
    [1].
    فالخوارج هم أولئك النفر الذين خرجوا على عليٍّ رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم في موقعة صفين، ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب الخوارج، ومن تلك الألقاب الحرورية والشراة والمارقة والمحكمة وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة؛ فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقين من الدين كما يمرق السهم من الرمية
    [2].

    ومن أهل العلم من يرجّح بداية نشأة الخوارج إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعل أول الخوارج ذا الخويصرة الذي اعترض على الرسول في قسمة ذهب كان قد بعث به علي رضي الله عنه من اليمن، ويتضح ذلك من الحديث النبوي الشريف الذي رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ[3] لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا[4]. قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً". قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ! قَالَ: "وَيْلَكَ! أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ".
    قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ. قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟! قَالَ: "لاَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي". فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ". قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: "إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ". وَأَظُنُّهُ قَالَ: "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُم ْ قَتْلَ ثَمُودَ"
    [5].

    ويعلق ابن الجوزي -رحمه الله- على هذا الحديث فيقول: أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة التميمي. وفي لفظ أنه قال له: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"[6].
    فهذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه
    [7].
    وممن أشار بأن أول الخوارج ذو الخويصرة: أبو محمد بن حزم
    [8]، وكذا الشهرستاني[9]. ومن العلماء من يرى أن نشأة الخوارج بدأت بالخروج على عثمان رضي الله عنه بإحداثهم الفتنة التي أدت إلى قتله رضي الله عنه ظلمًا وعدوانًا، وسميت تلك الفتنة التي أحدثوها بالفتنة الأولى[10].
    وقد أطلق ابن كثير على الغوغاء الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه وقتلوه اسم الخوارج
    [11].


    الرأي الراجح حول نشأة الخوارج
    بالرغم من الارتباط القوي بين ذي الخويصرة والغوغاء الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه وبين الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بسبب التحكيم فإن مصطلح الخوارج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة لا ينطبق إلا على الخارجين بسبب التحكيم؛ بحكم كونهم جماعة في شكل طائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الخاصة، أحدثت أثرًا فكريًّا عقديًّا واضحًا، بعكس ما سبقها من حالات
    [12].


    ذم الخوارج في السنة النبوية
    لقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الخوارج، منها ما روي عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ! فَقَالَ: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ". فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ: "دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ -وَهُوَ قِدْحُهُ- فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ".
    قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ الَّذِي نَعَتَهُ
    [13].
    وعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
    [14].
    وعَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ "قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِم ْ لاَ يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ"
    [15].
    عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلاَفٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: "التَّحْلِيقُ" .
    وفي رواية عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ قَالَ: "سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ وَالتَّسْبِيدُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَأَنِيمُوهُمْ". قَالَ أَبُو دَاوُد: التَّسْبِيدُ: اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ
    [16].
    وعن أبي كَثِيرٍ مَوْلَى الأَنْصَارِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَيِّدِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ، فَكَأَنَّ النَّاسَ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَدَّثَنَا بِأَقْوَامٍ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لاَ يَرْجِعُونَ فِيهِ أَبَدًا حَتَّى يَرْجِعَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ، وَإِنَّ آيَةَ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً أَسْوَدَ مُخْدَجَ الْيَدِ إِحْدَى يَدَيْهِ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ لَهَا حَلَمَةٌ كَحَلَمَةِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، حَوْلَهُ سَبْعُ هُلْبَاتٍ فَالْتَمِسُوهُ؛ فَإِنِّي أُرَاهُ فِيهِمْ. فَالْتَمَسُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى شَفِيرِ النَّهَرِ تَحْتَ الْقَتْلَى فَأَخْرَجُوهُ، فَكَبَّرَ عَلِيٌّ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِنَّهُ لَمُتَقَلِّدٌ قَوْسًا لَهُ عَرَبِيَّةً، فَأَخَذَهَا بِيَدِهِ فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي مُخْدَجَتِهِ وَيَقُولُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ! وَكَبَّرَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْهُ وَاسْتَبْشَرُوا ، وَذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَجِدُونَ
    [17].


    مناظرة ابن عباس للخوارج
    انفصل الخوارج في جماعة كبيرة من جيش علي رضي الله عنه أثناء عودته من صفين إلى الكوفة، قُدِّر عددها في بعض الروايات ببضعة عشر ألفًا، وحُدِّد في رواية باثني عشر ألفًا
    [18]، وفي أخرى بستة آلاف[19]، وفي رواية بثمانية آلاف[20]، وفي رواية بأنهم أربعة عشر ألفًا[21].
    وقد انفصل هؤلاء عن الجيش قبل أن يصلوا إلى الكوفة بمراحل، وقد أقلق هذا التفرق أصحاب علي رضي الله عنه وهالهم، وسار علي رضي الله عنه بمن بقي من جيشه على طاعته حتى دخل الكوفة، وانشغل أمير المؤمنين بأمر الخوارج، خصوصًا بعدما بلغه تنظيم جماعتهم من تعيين أمير للصلاة وآخر للقتال، وأن البيعة لله U، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يعني انفصالهم فعليًّا عن جماعة المسلمين
    [22].
    وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حريصًا على إرجاعهم إلى جماعة المسلمين، فأرسل ابن عباس إليهم لمناظرتهم، وهذا ابن عباس يروي لنا ذلك فيقول: "... فقمت وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائمون فسلمت عليهم فقالوا: مرحبًا بك يابن عباس! فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وصهره وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون وتخبرون بما تقولون. قلت: أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه؟
    قالوا: ثلاثًا.
    قلت: ما هن؟
    قالوا: أما إحداهن فإنه حكم الرجال في أمر الله فكفر، وقال الله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، ما شأن الرجال والحكم؟
    فقلت: هذه واحدة.
    قالوا: وأما الثانية، فإنه قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، فإن كانوا كفارًا سلبهم، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم.
    قلت: هذه اثنان، فما الثالثة؟
    قالوا: إنه محا اسمه من أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
    قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟
    قالوا: حسبنا هذا.
    قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يردّ قولكم، أترضون؟!
    قالوا: نعم.
    قلت: أما قولكم حكم الرجال في أمر الله، فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيّر الله حكمه إلى الرجال في ثُمُن ربع درهم، فأمر الله الرجال أن يحكموا فيه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]. فنشدتكم بالله تعالى، أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟! وأنتم تعلمون أن الله تعالى لو شاء لحكم ولم يصيّر ذلك إلى الرجال. قالوا: بل هذا أفضل. وفي المرأة وزوجها قال الله U: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم، وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة أخرجت من هذه؟
    قالوا: نعم.
    قلت: وأما قولكم قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، أفتسلبون أُمَّكم عائشة -رضي الله عنها- ثم تستحلون منها ما يستحل من غيرها وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، ولئن قلتم ليست بأمِّنا فقد كفرتم؛ لأن الله تعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِين َ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. فأنتم تدورون بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج!
    قلت: فخرجت من هذه؟
    قالوا: نعم.
    وأما قولكم محا اسمه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون وأراكم قد سمعتم أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي رضي الله عنه: "اكتبْ، هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فقال المشركون: لا والله ما نعلم أنك رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله لأطعناك، فاكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امْحُ يَا عَلِيُّ رَسُولَ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، امْحُ يَا عَلِيُّ، وَاكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". فوالله رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عليٍّ، وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة. أخرجت من هذه؟
    قالوا: نعم.
    فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم فقُتلوا على ضلالتهم، قتلهم المهاجرون والأنصار
    [23].


    خروج علي لمناظرة بقية الخوارج
    بعد مناظرة ابن عباس للخوارج واستجابة ألفين منهم له، خرج أمير المؤمنين علي بنفسه إليهم فكلمهم فرجعوا ودخلوا الكوفة، إلا أن هذا الوفاق لم يستمر طويلاً؛ بسبب أن الخوارج فهموا من علي رضي الله عنه أنه رجع عن التحكيم وتاب من خطيئته -حسب زعمهم- وصاروا يذيعون هذا الزعم بين الناس، فدخل الأشعث بن قيس الكندي إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقال: إن الناس يتحدثون أنك رجعت لهم عن كفرك.
    فلما أن كان الغد الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فخطب، فذكّرهم مباينتهم الناس وأمرهم الذي فارقوه فيه، فعابهم وعاب أمرهم. فلما نزل المنبر تنادوا من نواحي المسجد "لا حكم إلا لله"، فقال علي: حكم الله أنتظر فيكم. ثم قال بيده هكذا يسكتهم بالإشارة، وهو على المنبر حتى أتى رجل منهم واضعًا إصبعيه في أذنيه
    [24] وهو يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. فقال علي: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّك َ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} [الروم: 60].
    وأعلن أمير المؤمنين علي سياسته الراشدة العادلة تجاه هذه الجماعة المتطرفة، فقال لهم: إن لكم عندنا ثلاثًا: لا نمنعكم صلاةً في هذا المسجد، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا
    [25].
    فقد سلم لهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بهذه الحقوق ما داموا لم يقاتلوا الخليفة، أو يخرجوا على جماعة المسلمين، مع احتفاظهم بتصوراتهم الخاصة في إطار العقيدة الإسلامية فهو لا يخرجهم بداية من الإسلام، وإنما يسلم لهم بحق الاختلاف دون أن يؤدي إلى الفُرقة وحمل السلاح
    [26].
    وعنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَنَحْنُ عِنْدَهَا جُلُوسٌ مَرْجِعَهُ مِنَ الْعِرَاقِ لَيَالِيَ قُتِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ، هَلْ أَنْتَ صَادِقِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ تُحَدِّثُنِي عَنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ؟
    قَالَ: وَمَا لِي لاَ أَصْدُقُكِ!
    قَالَتْ: فَحَدِّثْنِي عَنْ قِصَّتِهِمْ.
    قَالَ: فَإِنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمَّا كَاتَبَ مُعَاوِيَةَ وَحَكَمَ الْحَكَمَانِ خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلاَفٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ فَنَزَلُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: حَرُورَاءُ مِنْ جَانِبِ الْكُوفَةِ، وَإِنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: انْسَلَخْتَ مِنْ قَمِيصٍ أَلْبَسَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْمٍ سَمَّاكَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، ثُمَّ انْطَلَقْتَ فَحَكَّمْتَ فِي دِينِ اللَّهِ فَلاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ عَلِيًّا مَا عَتَبُوا عَلَيْهِ وَفَارَقُوهُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ مُؤَذِّنًا فَأَذَّنَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلاَّ رَجُلٌ قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا أَنْ امْتَلأَتْ الدَّارُ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ دَعَا بِمُصْحَفٍ إِمَامٍ عَظِيمٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَصُكُّهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: أَيُّهَا الْمُصْحَفُ، حَدِّثْ النَّاسَ.
    فَنَادَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَسْأَلُ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ مِدَادٌ فِي وَرَقٍ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِمَا رُوِينَا مِنْهُ، فَمَاذَا تُرِيدُ؟
    قَالَ: أَصْحَابُكُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ خَرَجُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].
    فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ دَمًا وَحُرْمَةً مِنْ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ. وَنَقَمُوا عَلَيَّ أَنْ كَاتَبْتُ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ جَاءَنَا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحُدَيْبِيَ ةِ حِينَ صَالَحَ قَوْمَهُ قُرَيْشًا فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". فَقَالَ سُهَيْلٌ: لاَ تَكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ: "كَيْفَ نَكْتُبُ؟" فَقَالَ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "فَاكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أُخَالِفْكَ. فَكَتَبَ "هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُرَيْشًا"
    [27]، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 21].
    وعندما أيقن الخوارج أن عليًّا عازم على إنفاذ أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- حكمًا، طلبوا منه الامتناع عن ذلك، فأبى عليٌّ عليهم ذلك، وبيّن لهم أن هذا يعدّ غدرًا ونقضًا للأيمان والعهود، فقد كتب بينه وبين القوم عهودًا، وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل: 91].
    فقرر الخوارج الانفصال عن عليٍّ وتعرضوا له في خطبه، وأسمعوه السبَّ والشتم والتعريض بآيات من القرآن
    [28].
    ثم اجتمع الخوارج لتعيين أمير عليهم في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهّدهم في الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الأحكام الجائرة.
    ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].
    ثم قام سنان بن حمزة الأسدي فقال: يا قوم، إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلاً منكم، فإنه لا بد لكم من عمادٍ وسنان، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها. فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي -وكان من رءوسهم- فعرضوا عليه الإمارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شُريح بن أبي أوفى العبسيّ فأبى، وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبةً في الدنيا ولا أدعها فَرَقًا من الموت
    [29].
    واجتمعوا أيضًا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن، منها قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
    وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]. ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حقٌّ على المؤمنين. فبكى رجل منهم يقال له: عبد الله بن سخبرة السلمي، ثم حرّض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قُتلتم فأيُّ شيءٍ أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته؟!
    ويعلق ابن كثير على فساد عقيدتهم فيقول: "وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوّع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم!"
    [30].
    وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون
    [31] في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103-105].
    "والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلاَّل، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها، ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم -ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها- فيوافوهم إليها ويكون اجتماعهم عليها.
    فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشًا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، ولا تخرجوا من الكوفة جماعاتٍ، ولكن اخرجوا وحدانًا؛ لئلاّ يفطن بكم. فكتبوا كتابًا عامًّا إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها، وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدًا واحدة على الناس.
    ثم خرجوا يتسللون وحدانًا لئلاّ يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زيّنه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسئول أن يعصمنا منه بحوله وقوته، إنه مجيب الدعوات. وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنّبوهم ووبّخوهم، فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنه من فرّ بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة"
    [32].
    فكتب عليٌّ إلى الخوارج بالنهروان: أما بعد، فقد جاءكم ما كنتم تريدون، قد تفرّق الحكمان على غير حكومة ولا اتفاق، فارجعوا إلى ما كنتم عليه؛ فإني أريد المسير إلى الشام. فأجابوه أنه لا يجوز لنا أن نتخذك إمامًا وقد كفرت حتى تشهد على نفسك بالكفر، وتتوب كما تبنا، فإنك لم تغضب لله، إنما غضبت لنفسك. فلما قرأ جواب كتابه إليهم يئس منهم؛ فرأى أن يمضي من معسكره بالنخيلة وقد كان عسكر بها -حين جاء خبر الحكمين- إلى الشام، وكتب إلى أهل البصرة في النهوض معه
    [33].


    معركة النهروان 38هـ سبب المعركة:
    كانت الشروط التي أخذها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الخوارج أن لا يسفكوا دمًا ولا يروعوا آمنًا ولا يقطعوا سبيلاً، وإذا ارتكبوا هذه المخالفات فقد نبذ إليهم الحرب؛ ونظرًا لأن الخوارج يكفرون من خالفهم ويستبيحون دمه وماله، فقد بدءوا بسفك الدماء المحرمة في الإسلام، وقد تعددت الروايات في ارتكابهم المحظورات؛ فعن رجل من عبد القيس قال: كنت مع الخوارج فرأيت منهم شيئًا كرهته، ففارقتهم على أن لا أكثر عليهم، فبينا أنا مع طائفة منهم إذ رأوا رجلاً خرج كأنه فزع، وبينهم وبينه نهر، فقطعوا إليه النهر فقالوا: كأنَّا رعناك؟
    قال: أجل.
    قالوا: ومن أنت؟
    قال: أنا عبد الله بن خباب بن الأرَتّ.
    قالوا: عندك حديث تحدثناه عن أبيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
    قال: سمعته يقول: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن فتنة جائية القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، فإذا لقيتهم، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فلا تكن عبد الله القاتل"
    [34].
    فأخذوه وسرية له معه، فمرّ بعضهم على تمرة ساقطة من نخلة فأخذها فألقاها في فِيه، فقال بعضهم: تمرة معاهد، فبم استحللتها؟ فألقاها من فيه، ثم مروا على خنزير فنفحه بعضهم بسيفه، فقال بعضهم: خنزير معاهد، فبم استحللته؟
    فقال عبد الله: ألا أدلكم على ما هو أعظم عليكم حرمة من هذا؟!
    قالوا: نعم.
    قال: أنا. فقدموه فضربوا عنقه، فرأيت دمه يسيل على الماء كأنه شراك نعل اندفر بالماء حتى توارى عنه، ثم دعوا بسرية له حبلى فبقروا عما في بطنها
    [35].
    فأثار هذا العمل الرعب بين الناس وأظهر مدى إرهابهم ببقر بطن هذه المرأة وذبحهم عبد الله كما تذبح الشاة، ولم يكتفوا بهذا بل صاروا يهددون الناس قتلاً، حتى إن بعضهم استنكر عليهم هذا العمل قائلين: ويلكم ما على هذا فارقنا عليًّا
    [36].
    بالرغم من فظاعة ما ارتكبه الخوارج من منكرات بشعة، لم يبادر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى قتالهم، بل أرسل إليهم أن يسلموا القتلة لإقامة الحد عليهم، فأجابوه بعناد واستكبار: وكيف نقيدك وكلنا قتله؟ قال: أوَكلكم قتله؟ قالوا: نعم
    [37]. فسار إليهم بجيشه الذي قد أعدَّه لقتال أهل الشام في شهر المحرم من عام 38هـ، وعسكر على الضفة الغربية لنهر النهروان، والخوارج على الضفة الشرقية بحذاء مدينة النهروان[38].
    وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يدرك أن هؤلاء القوم هم الخوارج الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمروق من الدين؛ لذلك أخذ يحث أصحابه أثناء مسيرهم إليهم ويحرضهم على قتالهم.
    وعسكر الجيش في مقابلة الخوارج يفصل بينهما نهر النهروان، وأمر جيشه ألاّ يبدءوا بالقتال حتى يجتاز الخوارج النهر غربًا، وأرسل علي رضي الله عنه رسله يناشدهم الله ويأمرهم أن يرجعوا، وأرسل إليهم البراء بن عازب رضي الله عنه يدعوهم ثلاثة أيام فأبوا
    [39]، ولم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسله، واجتازوا النهر.
    وعندما بلغ الخوارج هذا الحد وقطعوا الأمل في كل محاولات الصلح وحفظ الدماء، ورفضوا عنادًا واستكبارًا العودة إلى الحق وأصروا على القتال، قام أمير المؤمنين بترتيب جيشه وتهيئته للقتال، فجعل على ميمنته حجر بن عدي وعلى الميسرة شبث بن ربعي ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرَّجَّالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة -وكانوا سبعمائة- قيس بن سعد بن عبادة، وأمر عليٌّ أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج، ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، إنه لا حاجة لنا فيكم إلا فيمن قتل إخواننا. فانصرف منهم طوائف كثيرون، وكانوا أربعة آلاف فلم يبقَ منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي
    [40].


    نشوب القتال:
    زحف الخوارج إلى علي رضي الله عنه فقدّم عليٌّ بين يديه الخيل وقدم منهم الرماة وصفّ الرجّالة وراء الخيّالة، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدءوكم، وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة. وبعد معركة حاسمة وقصيرة أخذت وقتًا من اليوم التاسع من شهر صفر عام 38هـ، وأسفرت هذه المعركة الخاطفة عن عددٍ كبير من القتلى في صفوف الخوارج، فتذكر الروايات أنهم أصيبوا جميعًا، ويذكر المسعودي: أن عددًا يسيرًا لا يتجاوز العشرة فروا بعد الهزيمة الساحقة
    [41]. أما جيش علي رضي الله عنه فقد قُتل منه رجلان فقط[42]. وقيل: قتل من أصحاب عليٍّ اثنا عشر أو ثلاثة عشر[43]. وقيل: لم يقتل من المسلمين إلا تسعة رهط[44].


    ذو الثدية وأثر مقتله في جيش علي:
    كان علي رضي الله عنه يتحدث عن الخوارج منذ ابتداء بدعتهم، وكثيرًا ما كان يتعرض إلى ذكر ذي الثُّدَيَّة، وأنه علامة هؤلاء، ويسرد أوصافه، وبعد نهاية المعركة الحاسمة أمر علي أصحابه بالبحث عن جثة المُخْدَجِ؛ لأن وجودها من الأدلة على أن عليًّا رضي الله عنه على حقٍّ وصواب. وبعد مدة من البحث مرت على عليٍّ رضي الله عنه وأصحابه، وجد أمير المؤمنين علي جماعة مكوّمة بعضها على بعض عند شفير النهر، قال: أخرجوهم. فإذا المخدج تحتهم جميعًا مما يلي الأرض، فكبّر علي رضي الله عنه! ثم قال: صدق الله وبلّغ رسوله! وسجد سجود الشكر، وكبّر الناس حين رأوه واستبشروا
    [45].
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

    تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية
    الخوارج (1)


    قصة الاسلام





    معاملة علي للخوارج:
    عامل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الخوارج قبل الحرب وبعدها معاملة المسلمين، فما إن انتهت المعركة حتى أصدر أمره في جنده ألاّ يتبعوا مُدبِرًا أو يذففوا على جريح أو يمثِّلوا بقتيل، يقول شقيق بن سلمة المعروف بأبي وائل -أحد فقهاء التابعين وممن شهد مع عليٍّ حروبه-: لم يسْبِ عليٌّ رضي الله عنه يوم الجمل ولا يوم النهروان
    [46].


    الثورة المستمرة وخلافاتهم وانقسامهم
    إن فرقة من فرق الإسلام لم تسلك طريق الثورة كما سلكته فرقة الخوارج، حتى لقد أصبحت ثوراتهم وانتفاضاتهم أشبه بالثورة المستمرة في الزمان والمنتشرة في المكان ضد الأمويين، بل وضد علي بن أبي طالب رضي الله عنه منذ التحكيم وحتى انقضاء عهده سنة 40هـ. وعلى درب ثورتهم المستمرة هذه كانت معاركهم المتفردة بالاستبسال والفناء في الهدف والمبدأ، معالم تستنفر دماء شهدائهم وذكريات ضحاياهم فيها اللاحقين للاقتداء بالسابقين.
    وبعد هزيمتهم في النهروان بشهرين تجددت ثورتهم فقاتلوا جيش علي رضي الله عنه ثانية في الدَّسْكَرَة بأرض خراسان في ربيع الثاني سنة 38هـ، وكانت قيادتهم لأشرس بن عوف الشيباني.
    وفي الشهر التالي لهزيمة الدسكرة تجددت ثورتهم بقيادة هلال بن علفة وأخيه مجالد فقاتلوا جيش عليٍّ رضي الله عنه للمرة الثالثة عند (ماسبذان) بأرض فارس في جمادى الأولى سنة 38هـ.
    وبعد هزيمة ماسبذان قادهم الأشهب بن بشر البجلي في خروج آخر في نفس العام، فحاربوا في جرجرايا على نهر دجلة.
    وفي رمضان سنة 38هـ زحفوا بقيادة أبي مريم -من بني سعد تميم- إلى أبواب الكوفة، فحاربوا جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهُزِمُوا هناك.
    وبعد مقتل علي وتنازل ابنه الحسن لمعاوية y بدأت حرب الخوارج لأهل الشام، ولقد كادوا يهزمون جيش معاوية رضي الله عنه في أول لقاء لهم به، لولا أن استعان عليهم بأهل الكوفة.
    وفي سنة 41هـ قاد سهم بن غالب التميمي والخطيم الباهلي تمردًا داخليًّا ضد بني أمية استمر حتى قضى عليه زياد بن أبيه قرب البصرة سنة 46هـ، أي بعد خمس سنوات
    [47].
    واستمرت ثوراتهم ضد الأمويين، ففي آخر شوال سنة 64هـ بدأت ثورتهم الكبرى بقيادة نافع بن الأزرق، وهي الثورة التي بدأت بكسر أبواب سجون البصرة، ثم خرجوا يريدون الأهواز.
    وفي سنة 76هـ وسنة 77هـ تمكّنوا بقيادة شبيب بن يزيد بن نعيم من إيقاع عدة هزائم بجيوش الحجاج بن يوسف الثقفي.
    وغير ذلك من الثوارات التي استمرت حتى أواخر الدولة الأموية.
    وجدير بالذكر أن هذه الثورات الخارجية وإن لم تنجح في إقامة دولة مستقرة يستمر حكم الخوارج فيها طويلاً إلا أنها قد أصابت الدولة الأموية بالإعياء حتى انهارت انهيارها السريع تحت ضربات الثورة العباسية في سنة 132هـ؛ فالعباسيون قد قعدوا عن الثورة قُرابة قرن بينما قضى الخوارج هذا القرن في ثورة مستمرة، ثم جاء القَعَدَةُ فقطفوا ثمار ما زرعه الثوّار
    [48].

    خلافات وانقسامات الخوارج
    الخوارج مثلهم كمثل سائر الفرق الإسلامية لم يمنعهم الاتفاق في الأصول من الاختلاف في الفروع والمسائل، فشهد تاريخهم عددًا من الانقسامات قادها عدد من أعلامهم وأئمتهم، ولقد ظل الخوارج بعيدين عن الانقسام حتى عهد إمامهم نافع بن الأزرق (65هـ)، الذي مثّلت فرقته "الأزارقة" أول انقسام داخل تيار الخوارج العام.
    وبعد أن استشرت الانقسامات والاختلافات في المسائل والفروع ظلت الجماعات الرئيسية في حركة الخوارج هي:
    1- الأزارقة: أتباع نافع بن الأزرق.
    2- النجدات: أتباع نجدة بن عامر الحنفي.
    3- الإباضية: أتباع عبد الله بن إباض.
    4- الصفرية: نسبة إلى زياد الأصفر، أو النعمان بن الأصفر، أو عبد الله بن صفّار على خلاف في ذلك.


    ولقد انقرضت هذه الفروع الخارجية ولم يبقَ من الخوارج سوى الإباضية الذين لا تزال لهم بقايا حتى الآن في أجزاء من الوطن العربي وشرقي إفريقيا، وبالذات في عُمان على الخليج العربي، وفي أنحاء من المغرب العربي (تونس والجزائر)، وفي الجنوب الشرقي للقارة الإفريقية (زنجبار)[49].
    عقائد الخوارج
    مع مرور الزمن استقرت آراء عقائدية خاصة بفرقة الخوارج، خالفوا فيها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الاعتقادات:


    1- تكفير صاحب الكبيرة:
    إن الخوارج يكفرون مرتكب الكبيرة، ويحكمون بخلوده في النار، وقد استدلوا على معتقدهم ذلك بأدلة، منها قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81]. فقد استدلوا بهذه الآية على تخليد أصحاب المعاصي في النار، وقالوا: إنه لا أمل للعاصي الذي يموت على معصيته في رحمة الله
    [50]. فزعموا أن الخطيئة تحيط بالإنسان، فلا يبقى له معها حسنة مقبولة، حتى الإيمان فإنها تذهبه. ولكن الأمر عكس ما ذهبوا إليه تمامًا، وهذه الآية نفسها تردّ مذهبهم، فقد دلت على أن من أحاطت به خطيئته فإنه يخلد في النار، وليس هناك خطيئة تحيط بالإنسان وتحبط أعماله ويخلد بسببها في النار إلا الكفر والشرك بالله. ويؤيد هذا أن تلك الآية نزلت في اليهود، وهم قد أشركوا بالله وحادوا عن سبيله[51].

    2- وكان الأزارقة -فرقة من غلاة الخوارج- يقولون: إن جميع مخالفيهم من المسلمين مشركون، وإن من لا يسارع إلى دعوتهم واعتناق مذهبهم فإن دمه ودم نسائه وأطفاله حلال، وقد كفّروا علي بن أبي طالب رضي الله عنه واعتبروا قاتله عبد الرحمن بن ملجم شهيدًا بطلاً[52].
    3- وإن (النجدات) من الخوارج يرون أنه لا حاجة إلى إمامٍ إذا أمكن الناس أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن التناصف لا يتم إلا بإمام يحملهم على الحق فأقاموه جاز، فإقامة الإمام -في نظرهم- ليست واجبة بإيجاب الشرع، بل جائزة، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة[53].

    4- الخلافة لا تنحصر في قومٍ بعينهم:
    كان الخوارج يرون أن الخلافة لا ينبغي أن تنحصر في قوم بعينهم، بل إن كل مسلم صالح للخلافة ما دام قد توافرت فيه شروطها من إيمان وعلم واستقامة، شريطة أن يبايع بها، ولا بأس بعد ذلك في أن يكون من الفرس أو الترك أو الحبش؛ فالمعنى العصبي الأرستقراطي بعيد عن تفكيرهم، بل عدو لمنهجهم ومسلكهم، واقتصار الخلافة على جنس بعينه -كالجنس العربي- أمر يحاربونه كل المحاربة
    [54].
    فخرجوا على أئمة المسلمين عند أتفه الأسباب، وقد فعلوا ذلك مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فسفكوا الدماء وقطعوا السبل وضيعوا الحقوق، وسعوا في إضعاف المسلمين حتى تكالبت عليهم الأعداء.


    ومما سبق يتضح أن الخوارج خالفت ما كان عليه جمهور المسلمين من اشتراط النسب القرشي في الإمام، وقالوا: إنه لا خصوصية لقريش فيها ولا مزية لهم عن سواهم، بل كل ما صار أهلاً لها، جاز توليته من دون أي نظر في نسبه[55].

    5- الثورة على أئمة الجور:
    أجمع الخوارج على وجوب الخروج (الثورة) على أئمة الجور والفسق والضعف؛ فعندهم أن الخروج يجب إذا بلغ عدد المنكرين على أئمة الجور أربعين رجلاً ويسمون هذا الحد "حد الشراء"، أي الذين اشتروا الجنة عندما باعوا أرواحهم فعليهم وجب الخروج حتى يموتوا أو يظهر دين الله ويخمد الكفر والجور. ولا يحل عندهم المقام والقعود غير ثائرين إلا إذا نقص العدد عن ثلاثة رجال، فإن نقصوا عن الثلاثة جاز لهم القعود وكتمان العقيدة، وكانوا على "مسلك الكتمان".


    وهناك غير "حد الشراء" و"مسلك الكتمان" حد الظهور، وذلك عند قيام دولتهم ونظامهم تحت قيادة "إمام الظهور" و"حد الدفاع" وهو التصدي لهجوم الأعداء تحت قيادة إمام الدفاع[56]. ويعبر أبو الحسن الأشعري عن إجماع الخوارج على وجوب الثورة بقوله: "وأما السيف فإن الخوارج تقول به وتراه إلا أن الإباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف، ولكنهم يرون إزالة أئمة الجور ومنعهم من أن يكونوا أئمة بأي شيء قدروا عليه، بالسيف أو بغير السيف"[57].
    6- إثبات إمامة الصِّدِّيق والفاروق وتكفير عثمان وعلي y:
    فهم يعتقدون أن إمامة أبي بكر وعمر إمامة شرعية لا شك في صحتها ولا ريب عندهم في شرعيتها، وأن إمامتهما كانت برضا المؤمنين ورغبتهم وأنهما سارا على الطريق المستقيم الذي أمر الله به لم يغيِّرا ولم يبدلا حتى توفهما الله تعالى. وهذا المعتقد للخوارج تجاه الشيخين حالفهم فيه السداد والصواب، لكنهم هلكوا فيمن بعدهما؛ حيث قادهم الشيطان وأخرجهم عن الحق والصواب في اعتقادهم في عثمان وعلي -رضي الله عنهما- فلقد حملهم على إنكار إمامة عثمان رضي الله عنه في المدة التي نقم عليه أعداؤه فيها، كما أنكروا إمامة عليٍّ أيضًا بعد التحكيم رضي الله عنه، بل أدى بهم سوء معتقدهم إلى تكفيرهما، وتكفير طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن عباس y، وأصحاب الجمل وصفين.
    وقد دوّن أهل العلم هذا المعتقد السيِّئ عنهم في كتبهم
    [58]، فقد قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: "والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر وينكرون إمامة عثمان -رضوان الله عليهم- في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها، ويقولون بإمامة عليٍّ قبل أن يحكم، وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم، ويكفرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري"[59].


    7- الاختيار والبيعة هما الطريق لنصب الإمام:
    يقف الخوارج مع الرأي القائل بأن "الاختيار والبيعة" هما الطريق لنصب الإمام، ومن ثَمَّ فهم أعداء لفكر الشيعة القائل: إن الإمامة شأن من شئون السماء لا اختصاص فيها للبشر، وإن السماء قد حددت لها أئمة بذواتهم نصّت عليهم، وأوصت لهم قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    وهم أعداء كذلك لمن زعم من السُّنة أن النص والوصية والتعيين قد سبقت من الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة والخلافة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، مثل فرقة "البكرية".
    وعندهم -أيضًا- أن الإمامة من الفروع فليست من أصول الدين -خلافًا للشيعة-؛ ولذلك قالوا: إن مصدرها هو الرأي وليس الكتاب أو السنة
    [60].


    8- إثبات صفة العدل لله:
    اتفق الخوارج على نفي الجور عن الله I بمعنى إثبات القدرة والاستطاعة المؤثرة للإنسان، ومن ثَمَّ تقرير حريته واختياره؛ ففعله المقدور له هو من صنعه على سبيل الحقيقة لا المجاز، ومن هنا فإن مسئوليته متحققة عن فعله هذا، فجزاؤه بالثواب والعقاب عدل، على عكس مؤدَّى قول الجبرية الذي يقتضي قولهم بالجبر إلحاق الجور بالخالق -تعالى عن ذلك- لإثابته من لا يستحق، وعقابه من لا حيلة له في الذنب ولا سبيل له للفكاك من المكتوب المقدور
    [61].


    9- تنزيه الذات الإلهية عن أي شبهة بالمحدثات:
    أجمع الخوارج على تنزيه الذات الإلهية عن أي شبهة بالمحدثات بما في ذلك نفي مغايرة صفات الله لذاته، أو زيادتها عن الذات، وذلك حتى لا يفتح الباب لشبهة توهم تعدد القدماء، وانطلاقًا من هذا الموقف قالوا: بخلق القرآن -كلام الله- حتى لا يؤدي القول "بقدم الكلمة" إلى ما أدى إليه في المسيحية، عندما قال اللاهوتيون بالتثليث؛ لأن "كلمة الله " -عيسى بن مريم- قديمة كالله
    [62].


    10- صدق وعد الله ووعيده:
    قالت الخوارج بصدق وعد الله للمطيع، وصدق وعيده للعاصي دون أن يتخلف وعده أو وعيده لسبب من الأسباب
    [63].


    11- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
    تميز موقف الخوارج عن بعض الذين قالوا بهذا الأصل من أهل السنة وأصحاب الحديث، ذلك أن الخوارج قد جعلوا لهذا الأصل صلة وثيقة بالفكر السياسي، والتغيير للظلم والجور الذي طرأ ويطرأ على المجتمعات كما جعلوا القوة -قضية السيف- أداة أصيلة وسبيلاً رئيسيًا من أدوات النهي عن المنكر، وسبل التغيير للجور والفساد
    [64].

    12- وفوق ذلك فإن الخوارج قد جمعتهم تقاليد اشتهرت عنهم في القتال، وزهد اتصفوا به في الثروة، فحررهم ذلك من قيود الحرص على الاقتناء، وأعانهم على الانخراط في الثورات والرحيل الأسرع في ركاب الجيوش الثائرة[65].
    دول الخوارج
    برزت الخوارج الصفرية في المغرب الأقصى وسيطرت عليه، وظهرت الخوارج الإباضية في المغرب الأدنى والأوسط، وأخضعت أجزاء واسعة لنفوذها
    [66].
    فقد قامت دولة للخوارج الصفرية في سجلماسة تدعى (دولة بني مدرار)
    [67].
    كما قامت دولة للخوارج الإباضية في (تاهرت)، إذ أسسوا هذه المدينة عام 161هـ، وأصبح عبد الرحمن بن رستم إمامًا لهذه الدولة (الدولة الرستمية)، التي استمرت من سنة 160هـ حتى سنة 296هـ
    [68].
    أما القطر العماني فقد ظل منذ فجر الإسلام مستقرًّا للمذهب الإباضي، وكان من الأمور الطبيعية أن يسيطر أبناء المذهب على نظام الحكم فيه في شكل إمامة تستمد نظام حكمها وأحكامها من المذهب الشائع بين أهل البلاد.


    الإمامة الأولى (إمامة الجلندى):
    بدأت الإمامة الأولى في عمان المستقلة سنة 132هـ على وجه التحديد، وهي السنة التي سقطت فيها دولة بني أمية وقامت دولة بني العباس، وكان أول إمام هو الجلندَى بن مسعود بن جلندَى الجلنداني.


    ومن الأحداث الطريفة التي ارتبطت بالسنة التي تولى فيها الجلندى الإمامة 132هـ أنه فضلاً عن سقوط بني أمية وقيام خلافة بني العباس، اجتمع فيها ثلاثة أئمة في وقت واحد هم: الجلندى في عمان، وطالب الحق عبد الله بن يحيى في اليمن، وأبو الخطاب المعافري في إفريقية، والأمر الأكثر طرافة أن ثلاثتهم من الإباضية؛ ومن ثَمَّ فقد أطلق على تلك السنة سنة الإمامة.

    إمامة الخروصيين:
    ظلت أمور عمان مضطربة حتى قيض الله لتلك البلاد إمامًا من بني خروص هو الوارث بن كعب الذي بويع له سنة 179هـ، وقد عاشت دولة بني خروص حتى بعد سنة 400هـ بقليل.
    لقد انتهت إمامة الخروصيين نهاية حزينة وآلت من بعدهم إلى النباهنة الذين لم تكن حال عمان في عصرهم -من حيث الأمن والاستقرار- بأفضل من عهد سابقيهم، الأمر الذي هيأ لإمامة جديدة في أسرة جديدة.


    إمامة اليعاربة:
    كان ناصر بن مرشد بن سلطان اليعربي الحميري الأزدي أول إمام يعربي ولي الإمامة سنة 1034هـ.


    إمامة البوسعيدية:
    انتقل ملك اليعاربة إلى أحمد بن سعيد البوسعيدي سنة 1154هـ، وهو جَدُّ الأسرة الحاكمة في عمان في الوقت الحالي
    [69].


    [1] الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1/207، ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/113، الشهرستاني: الملل والنحل 1/132، ابن حجر: هدي الساري في مقدمة فتح الباري ص459.
    [2] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1/207.
    [3] أديم مقروظ: في جلد مدبوغ بالقرظ.
    [4] أي: لم تميز ولم تصف من تراب معدنها.
    [5] صحيح البخاري (4004)، صحيح مسلم (1763)، مسند أحمد (10585).
    [6] صحيح البخاري (3341)، ( 5697)، (6421)، سنن ابن ماجه (168)، مسند أحمد (11112)، (14276)، (14292).
    [7] ابن الجوزي: تلبيس إبليس ص90.
    [8] ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/157.
    [9] الشهرستاني: الملل والنحل 1/134.
    [10] د. ناصر علي عائض حسن الشيخ: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام 3/1141.
    [11] ابن كثير: البداية والنهاية 7/202.
    [12] العواجي: فرق معاصرة 1/67، عبد الحميد علي ناصر فقيهي: خلافة علي بن أبي طالب ص297، فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة ص16.
    [13] صحيح البخاري (3341 ).
    [14] صحيح مسلم (1771).
    [15] صحيح مسلم (1776).
    [16] سنن أبي داود (4137).
    [17] مسند أحمد (635).
    [18] البغدادي: تاريخ بغداد 1/160.
    [19] النسائي: خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص200.
    [20] ابن كثير: البداية والنهاية 7/280، 281.
    [21] مصنف عبد الرزاق 10/157-160.
    [22] فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة ص22.
    [23] النسائي: خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص200.
    [24] ابن أبي شيبة الكوفي: المصنف 1/733، 734، الطبري: تاريخ الأمم والملوك 3/114.
    [25] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 3/114.
    [26] حامد عبد الماجد: الوظيفة العقدية للدولة الإسلامية ص47.
    [27] مسند أحمد (621).
    [28] ابن كثير: البداية والنهاية 7/315، فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة ص29.
    [29] ابن كثير: البداية والنهاية 7/316.
    [30] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
    [31] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
    [32] ابن كثير: البداية والنهاية 7/317.
    [33] البلاذري: أنساب الأشراف 1/343.
    [34] مصنف ابن أبي شيبة 8/732.
    [35] مصنف ابن أبي شيبة 8/732، 733، الطبري: تاريخ الأمم والملوك 3/118، البغدادي: تاريخ بغداد 1/94.
    [36] مصنف ابن أبي شيبة 8/737 .
    [37] المصدر السابق، الصفحة نفسها.
    [38] فكر الخوارج والشيعة ص33.
    [39] البيهقي: السنن الكبرى 8/179.
    [40] فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة ص34.
    [41] المصدر السابق ص34-36.
    [42] صحيح مسلم (1773).
    [43] ابن أبي شيبة الكوفي: المصنف 5/311.
    [44] البغدادي: تاريخ بغداد 1/83.
    [45] ابن أبي شيبة الكوفي: المصنف 15/317-319.
    [46] البيهقي: السنن الكبرى 8/182.
    [47] د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص27، 28.
    [48] المصدر السابق ص29، 30.
    [49] د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص31-33.
    [50] علي يحيى معمر: الإباضية في موكب التاريخ 1/133.
    [51] الشوكاني: فتح القدير 1/105.
    [52] د. مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب ص133.
    [53] الإمام أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية.
    [54] د. مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب ص130.
    [55] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1/204، ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/89، فكر الخوارج والشيعة ص55، 56.
    [56] د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص22.
    [57] الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/32.
    [58] د. ناصر علي عائض حسن الشيخ: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام 3/1157، فكر الخوارج والشيعة ص61.
    [59] الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/204.
    [60] د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص23.
    [61] المصدر السابق ص24.
    [62] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
    [63] د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص24.
    [64] المصدر السابق ص24.
    [65] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
    [66] محمود شاكر: الدولة العباسية 5/87.
    [67] المصدر السابق 5/161.
    [68] السابق نفسه 5/134، د. مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب ص163.
    [69] د. مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب ص151-159.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

    الزيدية




    التعريف:
    الزيدية إحدى فرق الشيعة، نسبتها ترجع إلى مؤسسها زيد بن علي زين العابدين الذي صاغ نظرية شيعية في السياسة والحكم، وقد جاهد من أجلها وقُتل في سبيلها، وكان يرى صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعًا، ولم يقل أحد منهم بتكفير أحد من الصحابة ومن مذهبهم جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل.

    التأسيس وأبرز الشخصيات:

    - ترجع الزيدية إلى زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهما (80 - 122هـ/ 698 - 740م)، قاد ثورة شيعية في العراق ضد الأمويين أيام هشام بن عبد الملك، فقد دفعه أهل الكوفة لهذا الخروج ثم ما لبثوا أن تخلوا عنه وخذلوه عندما علموا بأنّه لا يتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر ولا يلعنهما، بل يترضى عنهما، فاضطر لمقابلة جيش الأمويين وما معه سوى 500 فارس حيث أصيب بسهم في جبهته أدى إلى وفاته عام 122هـ.

    - تنقل في البلاد الشامية والعراقية باحثًا عن العلم أولاً وعن حق أهل البيت في الإمامة ثانيًا، فقد كان تقيًّا ورعًا عالمًا فاضلاً مخلصًا شجاعًا وسيمًا مهيبًا مُلمًّا بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    - تلقى العلم والرواية عن أخيه الأكبر محمد الباقر الذي يعد أحد الأئمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية.
    - اتصل بواصل بن عطاء رأس المعتزلة، وتدارس معه العلوم، فتأثر به وبأفكاره التي نقل بعضها إلى الفكر الزيدي، وإن كان هناك من ينكر وقوع هذا التتلمذ، وهناك من يؤكد وقوع الاتصال دون التأثر.
    - يُنسب إليه كتاب المجموع في الحديث، وكتاب المجموع في الفقه، وهما كتاب واحد اسمه المجموع الكبير، رواهما عنه تلميذه أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي الهاشمي الذي مات في الربع الثالث من القرن الثاني للهجرة.
    - أما ابنه يحيى بن زيد فقد خاض المعارك مع والده، لكنه تمكن من الفرار إلى خراسان حيث لاحقته سيوف الأمويين فقتل هناك سنة 125هـ.
    - فُوِّض الأمر بعد يحيى إلى محمد وإبراهيم.
    - خرج محمد بن عبد الله الحسن بن علي (المعروف بالنفس الزكية) بالمدينة فقتله عاملها عيسى بن ماهان.
    - وخرج من بعده أخوه إبراهيم بالبصرة فكان مقتله فيها بأمر من المنصور.
    - أحمد بن عيسى بن زيد -حفيد مؤسس الزيدية- أقام بالعراق، وأخذ عن تلاميذ أبي حنيفة فكان ممن أثرى هذا المذهب وعمل على تطويره.
    - من علماء الزيدية القاسم بن إبراهيم الرسي بن عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما (170ـ242هـ) تشكلت له طائفة زيدية عرفت باسم القاسمية.
    - جاء من بعده حفيده الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم (245 - 298هـ) الذي عقدت له الإمامة باليمن فكان ممن حارب القرامطة فيها، كما تشكلت له فرقة زيدية عرفت باسم الهادوية منتشرة في اليمن والحجاز وما والاها.
    - ظهر للزيدية في بلاد الديلم وجيلان إمام حسيني هو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن زيد بن عمر بن الحسين بن علي رضي الله عنهما والملقب بالناصر الكبير (230 - 304هـ)، وعرف باسم الأطروش، فقد هاجر هذا الإمام إلى هناك داعيًا إلى الإسلام على مقتضى المذهب الزيدي فدخل فيه خلق كثير صاروا زيديين ابتداء.
    - ومنهم الداعي الآخر صاحب طبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن علي رضي الله عنهما، الذي تكونت له دولة زيدية جنوب بحر الخزر سنة 250هـ.
    - وقد عرف من أئمتهم محمد بن إبراهيم بن طباطبا، الذي بعث بدعاته إلى الحجاز ومصر واليمن والبصرة، ومن شخصياتهم البارزة كذلك مقاتل بن سليمان، ومحمد بن نصر، ومنهم أبو الفضل بن العميد والصاحب بن عباد وبعض أمراء بني بويه.
    - استطاعت الزيدية في اليمن استرداد السلطة من الأتراك، إذ قاد الإمام يحيى بن منصور بن حميد الدين ثورة ضد الأتراك عام 1322هـ، وأسس دولة زيدية استمرت حتى سبتمبر عام 1962م؛ حيث قامت الثورة اليمنية وانتهى بذلك حكم الزيود، ولكن لا زال اليمن معقل الزيود ومركز ثقلهم.
    - خرجت عن الزيدية ثلاث فرق طعن بعضها في الشيخين، كما مال بعضها عن القول بإمامة المفضول، وهذه الفرق هي:
    * الجارودية: أصحاب أبي الجارود زياد بن أبي زياد.
    * الصالحية: أصحاب الحسن بن صالح بن حي.
    * البترية: أصحاب كثير النوى الأبتر.
    * الفرقتان الصالحية والبترية متفقتان ومتماثلتان في الآراء .
    الأفكار والمعتقدات:

    - يُجيزون الإمامة في كل أولاد فاطمة، سواء أكانوا من نسل الإمام الحسن أم من نسل الإمام الحسين -رضي الله عنهما-.
    - الإمامة لديهم ليست بالنص، إذ لا يشترط فيها أن ينص الإمام السابق على الإمام اللاحق، بمعنى أنها ليست وراثية بل تقوم على البيعة، فمن كان من أولاد فاطمة وفيه شروط الإمامة كان أهلاً لها.
    - يجوز لديهم وجود أكثر من إمام واحد في وقت واحد في قطرين مختلفين.
    - تقول الزيدية بالإمام المفضول مع وجود الأفضل إذ لا يُشترط أن يكون الإمام أفضل الناس جميعًا، بل من الممكن أن يكون هناك للمسلمين إمام على جانب من الفضل مع وجود من هو أفضل منه على أن يرجع إليه في الأحكام ويحكم بحكمه في القضايا التي يدلي برأيه فيها.
    - معظم الزيدية المعاصرين يُقرُّون خلافة أبي بكر وعمر، ولا يلعنونهما كما تفعل فرق الشيعة، بل يترضون عنهما، إلا أن الرفض بدأ يغزوهم -بواسطة الدعم الإيراني- ويحاول جعلهم غلاة مثله.
    - يميلون إلى الاعتزال فيما يتعلق بذات الله، والاختيار في الأعمال، ومرتكب الكبيرة يعتبرونه في منـزلة بين المنـزلتين كما تقول المعتزلة.
    - يرفضون التصوف رفضًا قاطعًا.
    - يخالفون الشيعة في زواج المتعة ويستنكرونه.
    - يتفقون مع الشيعة في زكاة الخمس وفي جواز التقية إذا لزم الأمر.
    - هم متفقون مع أهل السنة بشكل كامل في العبادات والفرائض سوى اختلافات قليلة في الفروع مثل:
    * قولهم "حي على خير العمل" في الأذان على الطريقة الشيعية.
    * صلاة الجنازة لديهم خمس تكبيرات.
    * يرسلون أيديهم في الصلاة.
    * صلاة العيد تصح فرادى وجماعة.
    * يعدون صلاة التروايح جماعة بدعة.
    * يرفضون الصلاة خلف الفاجر.
    * فروض الوضوء عشرة بدلاً من أربعة عند أهل السنة.
    - باب الاجتهاد مفتوح لكل من يريد الاجتهاد، ومن عجز عن ذلك قلّد، وتقليد أهل البيت أولى من تقليد غيرهم.
    - يقولون بوجوب الخروج على الإمام الظالم الجائر ولا تجب طاعته.
    - لا يقولون بعصمة الأئمة عن الخطأ، كما لا يغالون في رفع أئمتهم على غرار ما تفعله معظم فرق الشيعة الأخرى.
    - لكن بعض المنتسبين للزيدية قرروا العصمة لأربعة فقط من أهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين -رضي الله عنهم جميعًا-.
    - لا يوجد عندهم مهدي منتظر.
    - يستنكرون نظرية البداء التي قال بها المختار الثقفي، حيث إن الزيدية تقرر أنّ علم الله أزلي قديم غير متغير وكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ.
    - قالوا بوجوب الإيمان بالقضاء والقدر مع اعتبار الإنسان حرًّا مختارًا في طاعة الله أو عصيانه، ففصلوا بذلك بين الإرادة وبين المحبة أو الرضا وهو رأي أهل البيت من الأئمة.
    - مصادر الاستدلال عندهم كتاب الله، ثم سنة رسول الله، ثم القياس، ومنه الاستحسان، والمصالح المرسلة، ثم يجيء بعد ذلك العقل، فما يقر العقل صحته وحسنه يكون مطلوبًا وما يقر قبحه يكون منهيًا عنه.
    وقد ظهر من بينهم علماء فطاحل أصبحوا من أهل السنة، سلَفِيُو المنهج والعقيدة أمثال: ابن الوزير وابن الأمير الشوكاني.
    الجذور الفكرية والعقائدية:

    - يتمسكون بالعديد من القضايا التي يتمسك بها الشيعة كأحقية أهل البيت في الخلافة، وتفضيل الأحاديث الواردة عنهم على غيرها، وتقليدهم، وزكاة الخمس، فالملامح الشيعية واضحة في مذهبهم على الرغم من اعتدالهم عن بقية فرق الشيعة.

    - تأثر الزيدية بالمعتزلة فانعكست اعتزالية واصل بن عطاء عليهم وظهر هذا جليًّا في تقديرهم للعقل، وإعطائه أهمية كبرى في الاستدلال، إذ يجعلون له نصيبًا وافرًا في فهم العقائد وفي تطبيق أحكام الشريعة وفي الحكم بحسن الأشياء وقبحها، فضلاً عن تحليلاتهم للجبر، والاختيار، ومرتكب الكبيرة، والخلود في النار.
    - أخذ أبو حنيفة عن زيد، كما أن حفيدًا لزيد وهو أحمد بن عيسى بن زيد قد أخذ عن تلاميذ أبي حنيفة في العراق، وقد تلاقي المذهبان الحنفي السُّني والزيدي الشيعي في العراق أولاً، وفي بلاد ما وراء النهر ثانيًا مما جعل التأثر والتأثير متبادلاً بين الطرفين.
    الانتشار ومواقع النفوذ:

    - قامت دولة للزيدية أسسها الحسن بن زيد سنة 250هـ في أرض الديلم وطبرستان.

    - كما أن الهادي إلى الحق أقام دولة ثانية لها في اليمن في القرن الثالث الهجري.
    - انتشرت الزيدية في سواحل بلاد الخزر وبلاد الديلم وطبرستان وجيلان شرقًا، وامتدت إلى الحجاز ومصر غربًا وتركزت في أرض اليمن.

    ويتضح مما سبق:
    أن الزيدية إحدى فرق الشيعة، ولصلاتهم القديمة بالمعتزلة تأثروا بكثير من أفكارهم ومعتقداتهم إلا أن المذهب الزيدي في الفروع لا يخرج عن إطار مدارس الفقه الإسلامي ومذاهبه، ومواطن الاختلاف بين الزيدية والسنة في مسائل الفروع لا تكاد تذكر.


    المصدر: موقع صيد الفوائد.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

    السبئية


    قصة الاسلام

    السبئية هم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أظهر إسلامه وأخذ ينتقل في بلاد المسلمين يؤجج نار الفتنة ضد عثمان، وقد استحدث عقائد كفرية في الإسلام منها




    نشأة السبئية

    هم أتباع عدو الله عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي، كان من أهل صنعاء وأمه أَمَة سوداء ولذلك كان يقال له: ابن السوداء.
    وقد كان عبد الله بن سبأ هذا من هؤلاء الذين غلت مراجل قلوبهم ببُغض الإسلام وأهله، وعجزوا عن محاربته ظاهرًا بعد أن بسط الإسلام رواقه على أنحاء الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر، فلم يجد عبد الله فرصةً لحرب هذا الدين إلَّا أن يُعلن إسلامه، وأن يبطن في قلبه جيوش الحقد والدس والكيد للإسلام والمسلمين، وقد اغتنم عبد الله بن سبأ لهذا الغرض الخبيث فرصة سماحة عثمان ذي النورين رضي الله عنه ولين جانبه، وإنكار بعض الناس عليه أمورًا؛ منها ما زعموا أنه سمح للحكم بن أبي العاص بالعودة إلى المدينة المنورة وقد كان نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها.


    عبد الله بن سبأ والفتنة الكبرى


    وأظهر عبد الله بن سبأ إسلامه ولبس مسوح الورع والغيرة على الدين، والتفاني في الدفاع عنه، وأخذ ينتقل في بلاد المسلمين يؤجِّج نار الفتنة ضدَّ عثمان رضي الله عنه، ويحاول تضليل المسلمين وتشتيت أمرهم، فبدأ بالمدينة المنورة وكان يتصيَّد بعض الموالي من الفرس الذين كانوا بالمدينة المنورة من أمثال أبي لؤلؤة المجوسي، وكذلك بعض صغار أبناء الصحابة، ولمـَّا تفطَّن له بعض الصحابة هرب إلى العراق ونزل عند حکیم بن جبلة وكان حكيم هذا من قطَّاع الطريق، يسكن بين بلاد الفرس وبلاد العرب في العراق، وينتهب من هؤلاء وهؤلاء، وكان عبد الله بن عامر بن کریز ابن خال عثمان بن عفان رضي الله عنهما قائد المسلمين في البصرة، فوقف على ابن سبأ وقال له: من أنت؟ قال: رجلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيِّه ثم آمن بمحمد. فقال له عبد الله بن کریز: ما هذا الكلام الذي يبلغني عنك. فقال له ابن سبأ: يكذبون عليَّ. فقال له: ارحل من هذه البلاد. فذهب ابن سبأ إلى الشام وكان فيها معاوية فلم يستقر بها خوفًا من معاوية، ثم ذهب إلى مصر ونزل بقريةٍ يُقال لها النحاريَّة في منتصف الطريق بين الإسكندرية والفسطاط بعيدًا عن جيوش المسلمين، وأخذ ينشر سمومه حيث وجد فيها الأرض الخصبة الملائمة لبذوره السامَّة المميتة، ولم يزل بها حتى أوجد جماعةً يتمكَّن بهم من تنفيذ ما يُريد.
    وكان يُوعز إلى أتباعه أنَّ عثمان رضي الله عنه قد اغتصب حقَّ الخلافة من عليٍّ رضي الله عنه، وأنَّه لا يجوز الصبر دون نصرة هذا الولي المهضوم، وكان يوصي هؤلاء الأغرار فيقول لهم: انهضوا في هذا الأمر فحرِّکوه وأيِّدوه بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتستميلوا الناس.
    وقد أثَّرت دعوة عدوِّ الله عبد الله بن سبأ هذا في نفوس بعض الناس الذين لم تُخالط بشاشة الإيمان قلوبهم، فدعوا في السرِّ إلى ما عليه رأيهم، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار الإسلاميَّة كتبًا يملئونها بالطعن في وُلَاتهم، ورميهم بكثيرٍ من أنواع الفساد، قال ابن جریر رحمه الله: وهم يُريدون غير ما يُظهرون، ويُسرُّون غير ما يُبدون.
    ولمـَّا رأى ابن سبأ أنَّ الفرصة قد سنحت لتنفيذ مخطَّطاته الإجراميَّة كاتب الذين هم على شاكلته من أهل العراق وتواعدوا أن يلتقوا هم والمصريون في المدينة المنورة لقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان. فتواعدوا في موسم الحج حتى لا يشكَّ فيهم الناس، وادَّعوا أنَّ عثمان رضي الله عنه ارتكب جرائم، منها: أخذ الولاية من علي وصي رسول الله، وأنَّه حمى الحمى، وآوی الطريد، ورفع المنبر عن ما كان عليه في عهد رسول الله حيث جعله خمس درجات بدل ثلاث.
    وقد ردَّ عليهم عثمان بن عفان رضي الله عنه شُبَهَهُم؛ حيث صعد على المنبر وقال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من احتفر بئر رومه فله الجنة، وقد احتفرته بمالي لصالح المسلمين، وقد جهَّزت جیش العسرة، وقال رسول الله ما ضرَّ عثان ما فعل بعد اليوم، وأمَّا المنبر فقد رفعته ليتمكَّن الخطيب من إسماع المصلِّين، وأمَّا الحمی فقد اشتريته من مالي من بني غني لإبل الصدقة، وأمَّا إيواء الطريد فإنَّ الحَكَمَ أبا مروان حاول أن بنظر من ثقبٍ بالباب لعورة النبيِّ فنفاه النبيُّ إلى الطائف، وإنَّما رددته لكِبَر سِنِّه وتوبته.
    ولمـَّا أحس عثمان رضي الله عنه أنَّهم عازمون على قتله أرسل إلى عليٍّ رضي الله عنه رسالةً قال فيها: لقد بلغ السيل الزُّبی، وجاوز الحزام الطبين، وطمع في من لا يدفع عن نفسه:
    فإن كنت مأكولا فكن خير آكل وإلا فأدركني ولَمَّا أمزق

    وقد تمَّ لهم ما أرادوا واستُشهد عثمان رضي الله عنه، وتحقَّق فيه ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ بشَّره بالجنة على بلوى تُصيبه، كما جاء في صحيح البخاري: حدثنا يوسف بن موسی، حدثنا أبو أسامة، قال: حدَّثني عثمان بن غیاث، حدثنا أبو عثمان النهدي عن أبي موسى رضي الله عنه قال:
    "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائطٍ من حيطان المدينة، فجاء أبو بكر، فقلت له حتى أستأذن رسول الله، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشِّره بالجنَّة. ففتحت له، ثم جاء عمر، فقلت له حتى أستأذن رسول الله، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشِّره بالجنة. ففتحت له، ثم استفتح عثمان، فقلت له حتى أستأذن رسول الله، فقال لي: افتح له وبشِّره بالجنَّة على بلوى تُصيبه. فأخبرته بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله ثم قال الله المستعان).
    وقد كانت عائشة رضي الله عنها في الحج ومعها ابن أختها عبد الله بن الزبير وأبوه وطلحة، وقد علموا أنَّ القتلة توجَّهوا إلى العراق، فأشاروا عليها بالخروج ومحاولة إدراكهم قبل أن يصلوا إلى العراق، فلمَّا علم عليٌّ به خرج ليردَّ عائشة ومن معها خشية إصابتها بمكروه، ولكنَّه عندما وصل إلى ملتقى طريق القادم من مكة مع طريق القادم من المدينة وجدها قد سبقته ونزلت بالبصرة، فاتصل بها علي رضي الله عنه وأخبرها أنَّه الآن وليُّ أمر المسلمين، وهو المطالب بعقوبة قتلة عثمان، فعزمت عائشة على الرجوع، ففكَّر عبد الله بن سبأ بحيلةٍ يخرب بها هذا الصلح، فأمر بعض أتباعه أنه إذا جاء الليل وحلَّ الظلام يبدأ بعضهم برمي مخيَّم عائشة رضي الله عنها وبعضهم برمي مخيَّم علي رضي الله عنه، فيظنُّ أصحاب عائشة رضي الله عنها أنَّ عليًّا رضي الله عنه نقض العهد، وكذلك من في مخيَّم عليٍّ رضي الله عنه أنَّ عائشة رضي الله عنها نقضت العهد، وصارت هناك موقعة الجمل، وقد اختار الناس بعد عثمان رضي الله عنه عليَّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه خليفةً للمسلمين وأميرًا للمؤمنين، وأظهر ابن سبأ سروره بمبايعته، وأخذ يسرُّ إلى أصحابه عقائد جديدة؛ فزعم أوَّلًا أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم سيرجع إلى الدنيا. وكان يقول: العجب ممَّن يزعم أنَّ عيسى يرجع، ويُكذِّب بأنَّ محمدًا يرجع، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، ومحمدٌ أحقُّ بالرجعة من عیسی.
    ثم زعم ابن سبأ بعد ذلك: أنَّه رأى في التوراة أنَّ لكلِّ نبيٍّ وصيًّا، وأنَّ عليًّا رضي الله عنه وصيُّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وكما أنَّ محمدًا خير الأنبياء فإنَّ عليًّا رضي الله عنه هو خير الأوصياء؛ ثم يغلو ابن سبأ في عليٍّ رضي الله عنه فيزعم أنَّه نبيٌّ، ثم يتجاوز ذلك فيزعم أنَّ عليًّا رضي الله عنه فيه جزء إله أو هو الإله. وقد تبعه على ضلالته هذه بعض غواة الكوفة.
    وقد تقدَّم بعضهم إلى علي رضي الله عنه وقالو له: أنت هو. قال علي رضي الله عنه: ومن هو؟ قالوا: أنت الله. فلم يجد عليٌّ رضي الله عنه أجدى في عقوبتهم من تأجيج نارٍ وإلقائهم فيها؛ فإنَّه حينما سمع ذلك منهم أمر مولاه قنبرًا فحفر حفرتين وملأهما نارًا، وجييئ بمن تحقَّق لعليٍّ رضي الله عنه أنَّه على هذا المذهب الخبیث فطُرِح في هاتين الحفرتين، وفي ذلك يقول الشاعر:


    لترمي بي الحوادث حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين


    وقد أُثر عن علي رضي الله عنه أنَّه قال في ذلك:

    لمـَّا رأيت الأمر أمرًا منكرًا أججت ناري ودعوت قنبرًا


    هذا وقد نُقِل أنَّ بعضهم لمـَّا طُرِحَ في النار قال لعليٍّ رضي الله عنه: الآن أيقنَّا أنَّك الإله؛ فإنَّه لا يُعذِّب بالنار إلا الله.
    وكانت الإشاعات تشيع أنَّ ابن سبأ هو محور هذه الضلالات، وقد عزم عليٌّ رضي الله عنه على طرحه في النار مع هؤلاء، لكن ابن عباس رضي الله عنهما أشار على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن لا يقتل ابن سبأ مخافة حدوث فتنةٍ أخطر، وحتى لا يشمت به أهل الشام، فنفاه عليٌّ رضي الله عنه إلى ساباط المدائن، ولمـَّا قُتِلَ عليٌّ رضي الله عنه بيد عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي زعم ابن سبأ أنَّ عليًّا لم يُقتل، وأنَّ الذي قتله عبد الرحمن بن ملجم شیطانٌ تصور في صورة علي رضي الله عنه. وقال: كما كذبت اليهود والنصارى في دعواهم قتل عیسی، كذلك كذب القائلون بقتل عليٍّ، وإنما رأت اليهود والنصارى شخصًا مصلوبًا شُبِّه لهم أنَّه عیسی، كذلك القائلون بقتل علي رأوا قتيلًا يُشبه عليًّا، فظنُّوا أنَّه عليٌّ، مع أنَّ عليًّا صعد إلى السماء، وأنَّه يمشي في السحاب، وأنَّ البرق سوطه، وأنَّ الرعد صوته، وأنَّه يرجع إلى الأرض فيملؤها عدلًا كما مُلِئَت جورًا، وتخضع له مشارق الأرض ومغاربها.
    وقد روي عن الشعبي أنَّه قال: قيل لابن سبأ إنَّ عليًّا قد قُتِل. فقال: إنْ جئتمونا بدماغه في صرة لا نُصدِّق بموته؛ إنَّه لا يموت حتى ينزل من السماء ويملك الأرض بحذافيرها.

    خلاصة مذهب السبئية:


    [1] - إحداث القول برجعة محمد صلى الله عليه وسلم.
    [۲] - إحداث القول بأنَّ عليًّا رضي الله عنه وصيُّ محمد صلى الله عليه وسلم.
    [۳] - القول بالحلول.
    [4] - قرَّروا نبوة عليٍّ رضي الله عنه.
    [5] - قالوا بألوهيَّة عليٍّ رضي الله عنه.



    المصدر: كتاب الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة لعبد القادر بن شيبة الحمد.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

    الصفرية


    قصة الاسلام

    الصفرية وسبب التسمية


    أكثر الناس ينطقون الصُّفرية بضمِّ الصاد، وقد اختلف أهل العلم في سبب تسميتهم بالصفرية، فقيل: إنَّما سموا صفرية لأنَّهم أتباع عبد الله بن الصفار السعدي أحد الجماعة الذين كانوا مع نافع بن الأزرق حينما توجَّه من مكَّة مفارقة عبد الله بن الزبير إلى البصرة ثم لم يخرج مع نافع حينما خرج بالبصرة؛ بل قعد فيها فكان من الذين كفَّرهم نافع بن الأزرق لقعودهم عنه، ولذلك غلب على طائفة الصفرية اسم القعدة أو القعد كذلك.
    وقيل: إنَّما سموا صفرية لأنهم اتبعوا زیاد بن الأصفر. وقيل: بل سموا صفرية بسبب صفرة ألوانهم من شدة العبادة والسهر.
    وبعض الناس يقول الصِّفْريَّة بكسر الصاد، وكأنَّهم أرادوا بذلك أنَّهم خالون من الدين، من قول القائل أصفر فلان إذا افتقر أو قولك أصفر البيت إذا أخليته. ومنه قولهم: فلان صفر اليدين أي لا شيء معه، والمختار عندنا أنَّهم سموا الصُّفرية بضمِّ الصاد إشارةً إلى صفرة وجوههم من أثر ما تكلَّفوه من العبادة؛ إذ إنَّ هذا الوصف هو الغالب عليهم كما أنَّ الناس اتَّفقوا على أنَّ أعظم أئمَّتهم هو أبو بلال مرداس بن أدية وقد قتل مرداس هذا عام 61ه كما سيأتي.
    فهذا الوصف ثابت لهم قبل تزعم عبد الله بن الصفار أو زياد بن الأصفر، ولا سيما أن هذين الرجلين لم يقوما بشأنٍ خَطِرٍ في هذا الفريق من الخوارج.
    وممَّا يُؤيِّد اختيارنا هذا، قول ابن عاصم الليثي وكان من الخوارج ثم صار مرجئًا:

    فارقت نجـدة والذين تزرَّقــــــوا وابن الزبير وشيعة الكذاب
    والصفر الآذان الذين تخيَّروا دینًـا بلا ثــقةٍ ولا بـكتــــــــاب


    قصة الصفرية

    والظاهر أنَّ الصفرية أُطْلِقَت كذلك على جملة الخوارج الذين يوالون عبد الله بن وهب الراسبي رئيس المـُحَكِّمَةِ الأولى بالنهروان، وقد اتَّفق الناس على أنَّ أوَّل خارجٍ من الصفرية هو أبو بلال مرداس بن أدية أو أبن حدير الحنظلي التميمي، وكان عامَّة الخوارج يرونه إمامًا، وفي ذلك يقول عبيدة بن هلال اليشكري:

    أنا ابن خیر قومه هلال شیخٌ علی دین أبي بلال
    وذاك ديني آخـــــــــــــ ر الـليــــــــال ي


    وكان أبو بلال هذا قد شهد صفين مع علي رضي الله عنه ثم خرج عليه، وشهد يوم النهروان مع الخوارج، وكان أحد الذين نجوا من القتل يوم ذاك، وكان كثيرٌ من الخوارج يُعظِّمونه لكثرة اجتهاده وعبادته، وكان يرى التقية.
    غير أنَّه لمـَّا رأى اجتهاد عبيد الله بن زياد في طلب الخوارج وقتلهم والتمثيل ببعض نسائهم عزم على الخروج، فقال لأصحابه: أنَّه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للفضل، والله إنَّ الصبر على هذا لعظيم، وإنَّ تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكنَّا ننتبذ عنهم ولا نجرُّد سيفًا ولا نُقاتل إلَّا من قاتلنا، فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلًا وولُّوه عليهم، فلمَّا مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري وكان له صديقًا فقال له: أين تريد؟ قال: أريد أن أهرب بديني وأديان أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة، فقال له: أَعَلِمَ بِكُمْ أحد؟ قال: لا، قال: فارجع، قال: أو تخاف عليَّ مكروهًا؟ قال: نعم، وأن يُؤتی بك، قال: فلا تخف فإنِّي لا أجرِّد سیفًا ولا أُخيف أحدًا ولا أُقاتل إلَّا من قاتلني.
    ثم مضى حتى نزل «آسك» وهي ما بين رامهرمز وأزجان، فمر به مالٌ يُحْمَل لابن زیاد وقد قارب أصحاب مرداس أربعين رجلًا، فحطَّ ذلك المال وأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وردَّ الباقي على الرسل، وقال: قولوا لصاحبكم إنَّما قبضنا أعطياتنا، فقال له بعض أصحابه فعلام ندع الباقي؟ فقال مرداس إنَّهم يُقسِّمون هذا الفيء كما يُقيمون الصلاة فلا نُقاتلهم، وبينما أبو بلال في آسك إذ مرَّ به جیشٌ لابن زیاد يُرید خراسان، فصاح أبو بلال في هذا الجيش: أقاصدون لقتالنا أنتم. فقال بعض الجيش: لا إنَّما نريد خراسان. فقال لهم أبو بلال: أبلغوا من لقيتم أنَّا لم نخرج لنُفسد في الأرض ولا لنُرَوِّع أحدًا ولكن هربًا من الظلم، ولسنا نُقاتل إلَّا من يُقاتلنا، ولا نأخذ من الفيء إلَّا أعطياتنا، ثم قال للجيش: أَنَدَبَ أحدٌ لقتالنا؟ قالوا: نعم، أسلم بن زرعة الكلابي. قال: فمتی ترونه يصل إلينا. قالوا: يوم كذا وكذا، فقال أبو بلال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
    وقد جهَّز عبیدُ الله بن زياد أسلمَ في ألفين لقتال أبي بلال وجماعته، فلمَّا وصل أسلمُ إليهم قال له أبو بلال: اتَّقِ الله يا أسلم فإنَّا لا نريد قتالًا، فما الذي تريد منَّا؟ قال: أريد أن أردَّكم إلى ابن زیاد. قال مرداس: إذًا يقتلنا، قال: وإن قتلكم، قال: تشرکه في دمائنا. قال أسلم: إنِّي أدين بأنَّه محقٌّ وأنَّكم مبطلون. فحمل الخوارج وهم أربعون رجلًا على جيش أسلم فهزموهم هزيمةً منكرة، وكاد أسلم يقع أسيرًا في يد رجلٍ من الخوارج يُقال له معبد، فلمَّا رجع إلى ابن زیاد غضب عليه غضبًا شديدًا ولامه، وكان أسلم يقول: لأن يذمَّني ابن زیاد حيًّا أحبُّ إليَّ من أن يمدحني ميتًا. وقد أصاب أسلم خزيٌ شديدٌ عند أهل البصرة حتى کان إذا خرج إلى السوق أو مرَّ به صبيانٌ صاحوا به: أبو بلال وراءك. وربَّما صاحوا به يا معبد خذه.
    وفي قصَّة أسلم يقول عیسی بن فاتك الثعلبي الخطي:


    أألفـــــــــــ ـــا مؤمن فيما زعمتم ويهزمهم بآسك أربعونا

    ثم أرسل إليهم ابن زیاد بعد ذلك عبَّاد بن علقمة المازني التميمي الذي يُقال له عبَّاد بن أخضر في أربعة آلاف، فالتقى بهم في يوم جمعة، فناداه أبو بلال: أُخرج إليَّ يا عبَّاد فإنِّي أُريد أن أُحاورك. فخرج إليه، فقال له مرداس: ما الذين تبغي؟ قال: أن آخذ بأقفالكم فأردَّكم إلى الأمير عبد الله بن زیاد. فقال مرداس: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال مرداس: أن ترجع فإنَّا لا نُخيف سبيلًا ولا نذعر مسلمًا ولا نُحارب إلَّا من حاربنا ولا نجبي إلَّا ما حمينا. فقال عباد: الأمر ما قلت لك.
    ثم نشب الحرب بين الفريقين فلم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت الصلاة، فناداهم أبو بلال: یا قوم هذا وقت الصلاة فوادعونا حتى نُصلِّي وتُصلُّوا. قالوا: لك ذلك. فتوقَّف القتال ورمى القوم أسلحتهم وعمدوا للصلاة، فلمَّا ركع الخوارج وسجدوا مال عليهم عبَّاد ومن معه فقتلوهم جميعًا عام واحدٍ وستِّين، وأخذوا رأس أبي بلال، فرثاه عمران بن حطان إذ يقول:

    يا عــــــــــــين بكـــــي لمرداس ومصرعه يا رب مرداس اجعلـــني كمــــــرداس
    تركتــــني هائمًــــا أبكـي لمرزئتي في منزل موحش من بعـــــــد إيناس
    أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ما الناس بعدك يا مرداس بالناس


    هذا وقد نُسِب إلى المعتزلة أنَّهم يُوالون مرداسًا هذا، ويزعمون أنَّه خرج منكرًا جور السلطان داعيًا إلى الحق. كما أنَّه قد نُسِب إلى الشيعة أنَّهم كذلك يُوالونه بدعوى أنَّه كتب للحسين رضي الله عنه يتبرَّأ من الخروج ويقول للحسين رضي الله عنه أنا على دين أبيك.
    وبعد موت مرداس اختار الصفريَّة لرآستهم عمران بن حطان وهو عمران بن حطان بن ظبيان السدوسي مفتي الخوارج الأكبر وشاعرهم الفذ. كان قبل أن يُفتن بهذه الفتنة مشتهرًا بطلب العلم مُعْتَبرًا من أهل الحديث، وقد أدرك عددًا من الصحابة، وروى عن عائشة رضي الله عنها حديثًا في القضاة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "یُؤْتَی بِالْقَاضِي الْعَدْلِ فَلَا يَزَالُ بِهِ مَا يَرَی مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ حَتَّى يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ" وممَّن خرَّج له البخاري رحمه الله في الأدب المفرد.
    وقد فُتِنَ بمذهب الخوارج بسبب أمرأةٍ خارجيَّةٍ من قبيلته رغب في زواجها ليردَّها إلى الحقِّ فأضلَّته وذهبت به إلى الباطل، فأغرق في مذهب الشراة، وكان أصله من البصرة فلمَّا خيف من شرِّه طلبه الحجاج بن يوسف، فهرب إلى الشام مختفيًا ونزل على روح بن زنباع الجذامي أمير فلسطين ووزير عبد الملك بن مروان مدعيًا أنَّه أزدي، فلمَّا أحسَّ به عبد الملك هرب إلى عمان، وكان إذا نزل حيًّا من أحياء العرب انتسب لهم نسبًا قريبًا، وفي ذلك يقول:
    يومًا يمان إِذَا لَاقَيْتُ ذَا يَمَنٍ وَإِنْ لَقِيتُ معديًا فَعَدْنَان
    ولم يفتأ عمران بن حطان ينتقل من حيٍّ إلى حيٍّ يبثُّ سمومه في أشكالٍ شتَّى من أنواع الدعاية حتى مات مختفيًا عام ۸4هـ.
    ومن خبيث شعره قوله يمدح عبد الرحمن بن ملجم الخارجي قاتل علي رضي الله عنه:

    یا ضربة من منيب مــا أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
    إني لأذكــــره يومًـــــــــــ ـا فأحســــــــبه أو في الــــبرية عنـــــــــــــ ـد الله مـــــیزانا
    لله در المرادي الذي سفكـت كفَّاه مهـــــجة شر الخلق إنســانا


    هذا وفي أثناء قيادة عمران بن حطان للخوارج ظهر من الصفرية رجال حملوا السلاح وأشعلوا نار الحرب، ومن أشهر هؤلاء صالح بن مسرح التميمي وشبيبة بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت الشيباني، أمَّا صالح فقد كان شديد التنسُّك مصفرَّ الوجه من شدَّة العبادة، وكان أكثر مقامه بدارا وأرض الموصل والجزيرة، ولا يفتأ يأتي أصحابه من الصفرية فيقرأ لهم القرآن والفقه ويقصُّ عليهم، كما كان ينتاب الكوفة فيُقيم بها الشهر والشهرين ليتعهَّد الصفرية بها فيُذكِّرهم ويُعلِّمهم.
    وقد حجَّ عام خمسٍ وسبعين ومعه شبيب بن یزید الشيباني في جماعةٍ من أصحابه، وكان من المصادفة أن حجَّ عبد الملك بن مروان في هذه السنة، فهمَّ شبيب أن يفتك به، فلمَّا علم بذلك عبد الملك ورجع من الحج كَتَبَ إلى الحجَّاج بن يوسف يأمره بطلبه هؤلاء الخوارج، فلمَّا عَلِمَ صالح بن مسرح أنَّ الحجَّاج يطلبه ترك الكوفة.
    وأظهر الخروج عام ستَّةٍ وسبعين فدعا أصحابه لمحاربة الظالمين وجهاد المخالفين فأجابوه، وقد كان شبيب يُكاتب صالحًا قبل ذلك ملحًّا عليه في الخروج، ولذلك لمـَّا عَلِمَ بخروج صالح دعا مَنْ حوله من الخوارج وقَدِمَ بهم على صالح بن مسرح بدارا، فأغاروا على دوابٍّ لمحمد بن مروان وكان أمير الجزيرة فأخذوا هذه الدوابَّ، فأرسل إليهم محمد بن مروان جیشًا مكوَّنًا من ألف فارسٍ بقيادة عدي بن عدي الكندي، وكان عدد الخوارج حوالي مائة مقاتل، فهزموا جيش عدي، فأرسل إليهم محمد بن مروان جیشًا آخر مكونًا من ثلاثة آلاف فارسٍ فاقتتلوا، ثم انهزم الخوارج وخرجوا فارِّین من أرض الموصل والجزيرة، فأرسل إليهم الحجَّاج بن يوسف جيشًا مكوَّنًا من ثلاثة آلاف مقاتلٍ بقيادة الحارث بن عميرة، فالتقى الجمعان على باب حصن جلولا، وبعد قتالٍ مريرٍ قُتِلَ صالح بن مسرح، فبايع الخوارج شبيبًا، ثم دارت المعارك بين شبيب وجيوش الحجَّاج حتى هزم شبيب للحجاج عشرين جيشًا في أقل من سنتين، ثم كبس الكوفة ليلًا في ألفٍ من الخوارج ومعه غزالة، وهي امرأته أو أمه في مائتين من نساء الخوارج تقلَّدن السيوف، فاختفى الحجَّاج في داره، فجاء شبيب إلى باب القصر فضربه بعموده ضربةً تركت فيه أثرًا عظيمًا، ثم قال:
    عبد دعي من ثمود أصله لا بل يقال أبو أبيهم يقدم
    ودخل الخوارج المسجد الجامع فقتلوا حرَّاسه، وقامت غزالة على المنبر وخطبت، وصلَّى شبيب الصبح بأصحابه في مسجد الكوفة وقرأ في الركعتين سورة البقرة وآل عمران.
    فلمَّا اجتمع للحجَّاج أربعة آلاف من جنده في أول النهار اقتتل الفريقان في سوق الكوفة حتى انهزم شبيب إلى الأنبار، فوجَّه الحجاج إليه سفيان بن الأبيرد الكلبي في ثلاثة آلاف، فنزل سفيان على شطِّ الدجيل وركب شبيب جسر الدجيل ليعبر إلى سفيان، فقطع سفيان حبال الجسر وفوقه شبیب، فاستدار الجسر وغرق شبيب مع فرسه، فناداه أصحابه وهو يغرق: أغرقًا يا أمير المؤمنين؟ فقال: ذلك تقدير العزيز العليم.
    فبايع الخوارج غزالة ولكنَّ سفيان الكلبي تمكَّن من عبور دجيل وقتل أكثر الخوارج، كما قتل غزالة، وأسر من بقي من جماعة شبيب، وأخرج جثَّة شبيب من الماء، وأخذ رأسه وبعث بها مع الأسرى للحجَّاج، فلمَّا وقف الأسرى بين يدي الحجاج أمر بقتل رجلٍ منهم، فقال للحجاج: اسمع مني بيتين أختم بهما عملي، فأذن له، فأنشد يقول:


    أبرأ إلى الله من عمرو وشيعته ومن عليٍّ ومن أصحاب صفین
    ومـن معاوية الطاغـي وشيعته لا بارك الله في القـــــوم الملاعــــيـن


    فلمَّا انتهى أمر الحجاج بقتله وقتل طائفة منهم ثم أطلق الباقين..

    خلاصة مذهب الصفرية:


    [۱] - لم يُكفِّروا القعدة عن القتال إذا كانوا من موافقيهم في الدين والاعتقاد.
    [۲] - لا يحكمون بقتل أطفال مخالفيهم ونسائهم خلافًا للأزارقة.
    [3] - لا يرون كفر أطفال مخالفيهم ولا تخليدهم في النار خلافًا للأزارقة.
    [4] - يرون التقية جائزة في القول دون العمل.
    [5] - ونقل عن بعضهم أنَّهم جوَّزوا تزويج المسلمات من كفَّار قومهم في دار التقية دون دار العلانية.
    [6] وقالت طائفةٌ منهم: إنَّه متى بُعِثَ نبيٌّ ففي حين بعثته في ذلك الوقت من ذلك اليوم يلزم جميع أهل المشرق وأهل المغرب الإيمان به، وإن لم يعرفوا جميع ما جاء به من الشرائع، ومن مات منهم قبل أن يبلغه شيءٌ من ذلك مات كافرًا.
    [۷] - وقد اختلفوا في أصحاب الذنوب على ثلاثة أقوال:

    (أ) فمنهم من قال هم كفَّارٌ مشركون كما قالت الأزارقة.
    (ب) ومنهم من قال: إنَّ الكفر يقع على صاحب الذنب إذا حده السلطان كما قال بعض البيهسيَّة.
    (ج) ومنهم من قال: إنَّ ما كان عليه من الأعمال حدٌّ لا يُسمَّی صاحبه إلَّا بالاسم الموضوع له: کزانٍ وسارقٍ وقاتل عمد، وليس صاحبه کافرًا ولا مشركًا.
    وكلُّ ذنبٍ ليس فيه حدٌّ کترك الصلاة والصوم فهو كفر، وصاحبه کافر، وإنَّ المذنب سواءٌ كان ذنبه يوجب حدًّا أو لا حدَّ فيه بفقد اسم الإيمان في الوجهين جميعًا، وإن كان لا يُطلق عليه اسم الكفر في الوجه الأوَّل فهو خارجٌ من الإيمان غير داخلٍ في الكفر.
    [۸] - وقالت الشبيبة منهم بجواز تولِّي المرأة الإمامة العظمى كما فعلوا بغزالة بعد مصرع شبيب.
    هذا وقد يُفهم من بعض أقوال أئمَّتهم أنَّهم لا يرون إباحة دماء المسلمين المخالفين ولا يرون أنَّ دار المخالفين دار حرب ولا يرون قتال أحد غير معسكر السلطان والله أعلم.




    المصدر: كتاب الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة لعبد القادر بن شيبة الحمد.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

    الصوفية



    قصة الإسلام




    الصوفية فرقة تظاهرت بالزهد والبعد عن ملذات الدنيا، وتداخلت طريقتهم مع فلسفات هندية وفارسية ويونانية.

    قيل: إن تسمية الصوفية جاءت من رجل يقال له صوفة واسمه "الغوث بن مر" ظهر في العصر الجاهلي، وهذا ما ذهب إليه ابن الجوزي.

    وذهب البيروني إلى أن الصوفية إنما هي اشتقاق من سوفيا اليونانية التي تعني الحكمة، وهذا رأي يدعم موقف القائلين بأن التصوف هو وليد الفلسفة الأفلاطونية.

    وقيل: الصوفية من الصوف؛ لاشتهارهم بلبسه.

    أهم عقائد الصوفية

    أ- عقيدتهم في الله عز وجل:

    يعتقد المتصوفة في الله عقائد شتى منها الحلول كما هو مذهب الحلاج، ومنها "وحدة الوجود" حيث لا انفصال بين الخالق والمخلوق، وهذه هي العقيدة التي انتشرت منذ القرن الثالث وإلى يومنا هذا، وأطبق عليها أخيرًا كل أعلام التصوف مثل ابن عربي وابن سبعين.

    ب- عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم:

    هناك عقائد شتى؛ فمنهم من يعتقد أن علماءهم تفوقوا على الأنبياء في العلم والمنزلة, ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد r هو قبة الكون وهو الله المستوي على العرش, وأن السموات والأرض والعرش والكرسي وكل الكائنات خلقت من نوره.

    ج- عقيدتهم في الأولياء:

    يفضلونهم على الأنبياء, وعامتهم يجعل الولي مساويًا لله في كل صفاته، فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتصرف في الكون.

    د- عقيدتهم في الجنة والنار:
    يعتقدون أن طلب الجنة منقصة عظيمة, وأنه لا يجوز للولي أن يسعى إليها, وإنما الطلب عندهم والرغبة في الفناء المزعوم في الله, والاطلاع على الغيب والتصريف في الكون, هذه هي جنة الصوفي.
    وأما النار فيعتقدون أن الخوف منها لا يليق؛ لأن الخوف طبع العبيد.

    هـ- اعتقادهم في إبليس وفرعون:
    يعتقد عامة الصوفية أنه أكمل العباد وأفضلهم توحيدًا؛ لأنه لم يسجد إلا لله بزعمهم, وكذلك فرعون عندهم أفضل الموحِّدين لأنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، فعرف الحقيقة؛ لأن كل موجود -في زعمهم- هو الله.

    عبادات الصوفية

    يعتقد الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام, وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة؛ لذلك فإنّ لهم عبادات مخصوصة، ويعتقدون أن الله أسقط التكاليف عن خواصهم.

    الطرق الصوفية

    1- القادرية: تنسب إلى عبد القادر الجيلاني (470-561هـ) المدفون في بغداد، حيث تزوره كل عام جموع كثيرة من أتباعه للتبرك به.

    2- الرفاعية: تنسب إلى أحمد الرفاعي من بني رفاعة قبيلة من العرب, والمتوفى سنة 580هـ, وجماعته يستخدمون السيوف والحراب في إثبات الكرامات, انتشرت طريقته في غرب آسيا.

    3- الأحمدية: تنسب إلى أحمد البدوي أكبر أولياء مصر عند الصوفية (596-634هـ)، ولد بفاس, حج ورحل إلى العراق, واستقر في طنطا حتى وفاته, له فيها ضريح مقصود, وأتباعه منتشرون في جميع أرجاء مصر ولهم فيها فروع، كالبيومية والشناوية وأولاد نوح والشعبية, وشارتهم العمامة الحمراء.

    4- الدسوقية: تنسب إلى إبراهيم الدسوقي (623-676هـ).

    5- الأكبرية: تنسب إلى شيخهم الأكبر محيي الدين بن عربي, وتقوم طريقته على الصمت والعزلة والجوع والسهر.

    6- الشاذلية: تنسب إلى أبي الحسن الشاذلي (593-656هـ)، ولد بقرية مرسية, وانتقل إلى تونس, انتشرت طريقته في مصر واليمن وبلاد العرب, وفي مراكش وغرب الجزائر وفي شمال إفريقيا وغربها بعامة.

    7- البكداشية: كان الأتراك العثمانيون ينتمون إلى هذه الطريقة، وهي ما تزال منتشرة في ألبانيا، كما أنها أقرب إلى التصوف الشيعي منها إلى التصوف السني, وقد كان لهذه الطريقة دور بارز في نشر الإسلام بين الأتراك والمغول, وكان لها سلطان عظيم على الحكام العثمانيين ذاتهم.

    8- المولوية: أنشأها الفارسي جلال الدين الرومي المتوفي سنة 672هـ والمدفون بقونية, يتميزون بإدخال الرقص والإيقاعات في حلقات الذكر، وقد انتشروا في تركيا وآسيا الغربية, ولم يبق لهم هذه الأيام إلا بعض التكايا في تركيا وفي حلب, وفي بعض أقطار المشرق.

    9- النقشبندية: تنسب إلى الشيخ بهاء الدين محمد بن محمد البخاري الملقب بشاه بقشبند (618-791هـ) وهي طريقة سهلة كالشاذلية, انتشرت في فارس وبلاد الهند وآسيا الغربية.

    10- الملامتية: مؤسسها أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمار المعروف بالقصار توفي سنة 271هـ, وقد ظهر الغلاة منهم في تركيا حديثًا بمظهر الإباحية والاستهتار، وفعل كل أمر دون مراعاة للأوامر والنواهي الشرعية.

    11- التيجانية: تنسب إلى أحمد بن محمد بن المختار التيجاني المولود سنة (1150هـ/ 1737م), ونسبته إلى بلدة تسمى (بني توجين) وهي قرية من قرى البربر في المغرب, وينسب نفسه إلى الرسول r، كما هي عادة كل من أسَّس طريقة صوفية.

    ادّعى التيجاني أنه خاتم الأولياء جميعًا، و"الغوث الأكبر" في حياته وبعد مماته, وأن أزواج الأولياء منذ آدم وإلى آخر وليٍّ لا يأتيها الفتح والعلم الربّاني إلا بواسطته هو, وأنه أول من يدخل الجنة هو وأصحابه وأتباعه, وأن الرسول أعطاه ذكرًا يسمى صلاة الفاتح، يفضلُ أيَّ ذكرٍ قُرئ في الأرض ستين ألف مرة بما في ذلك القرآن.
    وقد ألّف أحد تلاميذه ويُدعى علي حرازم كتابًا في فضل شيخه وكراماته وأخلاقه وأذكاره وأحواله وطريقته، سمّاه "جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التيجاني".
    أهم شخصيات الصوفية التاريخية

    1- الحلاج: حسين بن منصور الحلاج، عاش في العصر العباسي, ولد في بلدة الطور قرب مدينة البيضاء في بلاد فارس سنة 857م، وصلب سنة 922م في عهد الخليفة المقتدر بالله؛ لآرائه الشركية. ويعدُّ الحلاج أشهر الحلوليين والاتحاديين.

    2- ابن عربي: يلقبه الصوفيون "بالشيخ الأكبر"، ولد سنة (560هـ/ 1165م)، وتوفي سنة (638هـ/ 1240م)، وصاحب مؤلفات عديدة أهمها: روح القدس, الفتوحات المكيّة, نصوص الحكم.

    وهو رئيس مدرسة "وحدة الوجود", يعتبر نفسه خاتم الأولياء, ولد بالأندلس, ورحل إلى مصر، وحجّ وزار بغداد, واستقر في دمشق حيث مات ودفن, وله فيها إلى الآن قبر يُزار, وله كتب يقول البعض إنها تصل إلى 400 كتاب ورسالة، فيما يزال بعضها مخطوطًا.
    3- أبو يزيد البسطامي المتوفى سنة 243هـ وقيل 261هـ, كان جدُّه مجوسيًّا، وأبوه من أتباع زرادشت, وهو صاحب العبارة الشهيرة (خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله).

    4- ابن الفارض (566- 632هـ): هو أبو حفص عمر بن علي الحموي الأصل، المصري المولد, لقب بشرف الدين, وهو من الغلاة الموغلين في وحدة الوجود.

    5- رابعة العدوية.

    6- جلال الدين الرومي.

    أبرز الشخصيات الصوفية المعاصرة

    1- حازم أبو غزالة مواليد 1933م, يقيم في الأردن ويدير جمعية دار القرآن الكريم التي تأسست سنة 1964م, وقد نشرت صحيفة البلاد الأردنية بتاريخ 30/10/2002م مقابلة مطولة معه، أشار فيها إلى أنه كان يتردد على الزوايا الصوفية في نابلس بفلسطين التي تنحدر منها، وقد درس الشريعة في سوريا, ومن أساتذته عبد القادر عيسى الحلبي، ومحمد الهاشمي التلمساني.
    وهو شيخ الطريقة القادرية الشاذلية, وقد ذكر في المقابلة أن أتباعه في العالم يقدرون بعشرة ملايين صوفي في سوريا والعراق وتركيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا ودول المغرب وأمريكا وهولندا والدنمارك وتايلاند... وغيرها، وله أكثر من أربعين كتابًا.
    2- يمني كان يقيم في مصر، ويقيم الآن في السعودية, وله دروس في بعض الفضائيات يجاهر فيها بعقيدته الصوفية، ويقول: إن له مذهبًا صوفيًّا في منطقة حضرموت اليمنية.

    الصلة بين التصوف والتشيع

    المطلع على حقيقة مذاهب الصوفية, وعلى حقائق مذاهب التشيع يجد أن الفرقتين تنبعان من أصل واحد تقريبًا, ويهدفان في النهاية إلى غاية واحدة, وثمة أوجه تلاقٍ كثيرة بين التصوف والتشيع؛ مما حدا ببعض العلماء اعتبارهما وجهين لعملة واحدة.
    وأهم أوجه التلاقي هي:

    1- ادعاء العلوم الخاصة:
    حيث يدّعي الشيعة أن عندهم علومًا خاصة, وينسبونها تارة إلى الإمام علي بن أبي طالب t, وتارة إلى الأئمة من أولاد علي وفاطمة، ويدّعون أن هؤلاء الأئمة يعلمون الغيب ولا يخطئون ولا ينسون, ولا يستطيع أحد فهم الإسلام إلا على طريقتهم.

    ودرج المتصوفة على المنوال نفسه، حيث احتقروا ما عند المسلمين من علم، وافتخروا بأن لديهم علومًا لا يطلع عليها إلا هم, حيث قالوا: "خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله"، كناية عن تفوقهم على أنبياء الله.
    وجعل المتصوفة مصدر علومهم الخاصة التأويل الباطني للقرآن والحديث, حيث يزعمون تارة أنهم تلقوا هذا التأويل من الله, وتارة يزعمون أنه من الملك وأخرى بالإلهام.

    2- الإمامة الشيعية والولاية الصوفية:
    بني مذهب التشيع على أن الأئمة أناس مختارون من الله لقيادة الأمة, واعتبروهم معصومين، وكذلك الصوفية أخذوا هذه العقائد وأطلقوها على من سموهم بالأولياء، وجعلوهم متصرفين في الكون، وأن مقامهم لا يبلغه الأنبياء والملائكة.

    3- القول بأن للدين ظاهرًا وباطنًا:
    واتفق الشيعة والصوفية أيضًا على الزعم بأن للدين ظاهرًا وباطنًا: ظاهرًا قالوا يفهمه العامّة، وباطنًا عندهم هو العلم الحقيقي المراد من النص, وهذا لا يفهمه ولا يعلمه إلا الأئمة والأولياء.
    4- تقديس القبور وزيارة المشاهد:

    الشيعة هم أول من بنى المشاهد على القبور والمساجد عليها في الإسلام، وعظموا قبور أئمتهم, وكذلك جاء المتصوفة فجعلوا أهم مشاعرهم هو زيارة القبور وبناء الأضرحة, والطواف بها والتبرك بأحجارها، والاستغاثة بالأموات.

    5- العمل على هدم الدولة الإسلامية:

    فكما كان للشيعيَّيْن الطوسي وابن العلقمي الدور الكبير في هدم دولة الخلافة الإسلامية العباسية, كان لبعض أقطاب التصوف الدور البارز في دعم الدول الباطنية كالعبيدية الفاطمية ودولة القرامطة، وعلى رأس هؤلاء الحلاَّج.
    أقوال بعض الأئمة والعلماء في الصوفية:

    - الإمام الشافعي: أدرك بدايات التصوف وكان أكثر العلماء والأئمة إنكارًا عليهم, وقد كان مما قاله في هذا الصدد: "لو أن رجلاً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق".

    - الإمام أحمد بن حنبل: كان للصوفية بالمرصاد، فقد قال فيما بدأ الحارث المحاسبي يتكلم فيه وهو الوساوس والخطرات.. قال الإمام أحمد: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون، وحذر من مجالسة الحارث. وقال لصاحبٍ له: لا أرى لك أن تجالسه.

    - الإمام ابن الجوزي: كتب كتابًا سماه "تلبيس إبليس"، خصَّ الصوفية بمعظم فصوله، وبيَّن تلبيس الشيطان عليهم ما جعلهم يتخبطون في الظلمات.

    - شيخ الإسلام ابن تيمية: كان من أعظم الناس بيانًا لحقيقة التصوف, وتتبعًا لأقوال الزنادقة والملحدين وخاصة ابن عربي والتلمساني وابن سبعين, فتعقب أقوالهم وفضح باطنهم، وحذر الأمة من شرورهم.

    وختامًا..
    إن التصوف عبر تاريخه الطويل هو انحراف عن منهج الزهد الذي يحضُّ الإسلام سُلوكَ سبيله، والمقترن بالعلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونفع الأمة ونشر الدين؛ ولذا رفضه الرسول r من بعض الصحابة, ثم زاد هذا الانحراف عندما اختلط التصوف بالفلسفات الهندية واليونانية والرهبانية النصرانية في العصور المتأخرة، وتفاقم الأمر عندما أصبحت الصوفية تجارة للمشعوذين والدجالين ممَّن قلَّتْ بضاعتهم في العلم، وقصر سعيهم عن الكسب الحلال.
    وقد أدرك أعداء الإسلام ذلك، فحاولوا أن يُشوِّهوا الإسلام من الداخل من خلال التصوف، ويقضوا على صفاء عقيدة التوحيد التي يمتاز بها الإسلام، ويجعلوا المسلمين يركنون إلى السلبية؛ حتى لا تقوم لهم قائمة.

    للاستزادة:
    1- الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة: الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.
    2- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة - الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض - طبعة 1989م.
    3-مجلة الفرقان الكويتية - العدد 285 - 22/3/2004م.
    4-دوريات ومجلات وصحف.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

    الكربية


    عبد القادر بن شيبة الحمد


    ملخص المقال

    الكربية هم وهم أصحاب أبي كرب الضرير، وقد ذهبوا إلى أن محمدًا بن الحنفية رحمه الله هو المهدي المنتظر وأنه لم يمت، وكان يرأس مذهبهم أحد الشعراء المشهورين



    قصة فرقة الكربية

    وهم أصحاب أبي كرب الضرير، وقد ذهب هؤلاء (دون سائر الكيسانية) إلى أنَّ محمَّدًا بن الحنفيَّة رحمه الله لم يمت، وأنَّه لا يزال حيًّا بجبل رضوی، عن يمينه أسد وعن شماله نمر يحرسانه ويحفظانه، يأتيه رزقه بكرةً وعشيًّا، وعنده عينان نضَّاختان؛ واحدةٌ تفيض ماءً والأخرى تفيض عسلًا، وحوله ملائكةٌ يُراجعونه الكلام. وبعضهم يزعم أنَّه دخل معه إلى رضوى جماعةٌ لم يخرجوا منه، ولم يُعْلَم لهم خبر.

    ومن أشهر دعاة هذا المذهب كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الشاعر المشهور بكثير عزَّة، وفي تقرير هذا المذهب الرديء يقول:


    أَلَا إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وُلَاةُ الْحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَوَاءُ
    عَلِيٌّ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ بَنِيهِ هُمُ الْأَسْبَاطُ لَيْسَ بِهِمْ خَفَاءُ
    فَسَبْطٌ سَبْطُ إِيمَانٍ وَبِرٍّ وَسَبْطٌ غَيَّبَتْهُ کَرْبِلَاءُ
    وَسَبْطٌ لَا يَذُوقُ الْمَوْتُ حَتَّى يَقُودَ الْخَيْلَ يَقْدُمُهَا اللِّوَاءُ
    تَغَيَّبَ لَا يُرَى فِيهِمْ زَمَانًا بِرَضْوَی عِنْدَهُ عَسَلٌ وَمَاءُ



    ويقصد کثير بسبط إيمان وبر الحسن رضي الله عنه، ويقصد بالسبط الذي غيَّبته كربلاء الحسين رضي الله عنه، ويقصد بالسبط الذي لا يذوق الموت حتى يقود الخيل محمَّد بن الحنفيَّة رحمه الله، والواقع أنَّ ابن الحنفيَّة رحمه الله ليس سبطًا وأمَّه ليست بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما جعله كثير سبطًا مغالاة منه وترويجًا لمذهبه الرديء.


    ومن أشهر دعاة الكربيَّة -أيضًا- الشاعر المعروف بالسيِّد الحميري، وفي تقرير هذا المذهب الرديء يقول:


    أَلَا قُلْ لِلْوَصِيِّ فَدَتْكَ نَفْسِي أَطَلْتَ بِذَلِكَ الْجَبَلِ الْمُقَامَا
    ثم يقول:

    وَمَا ذَاقَ ابْنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ وَلَا وَارَتْ لَهُ أَرْضٌ عِظَامَا
    لَقَدْ أَمْسَى بِمَجْرَی شِعْبِ رَضْوَى تُرَاجِعُهُ الْمَلَائِكَةُ الْكَلَامَا
    وَإِنَّ لَهُ لَرِزْقًا كُلَّ يَوْمٍ وَأَشْرِبَةٌ يُمَلُّ بِهَا الطَّعَامَا

    وقد نسب الشيخ عبد القاهر البغدادي هذه الأبيات لكثير عزَّة كذلك.
    خلاصة مذهب الكربية

    [۱] - اعتقاد وصاية محمد بن الحنفية رحمه الله.
    [۲] - أنَّه المهدي المنتظر.
    [۳] - وأنَّه حيٌّ مقيمٌ بجبل رضوى إلى أن يؤذن له بالخروج ليملأ الأرض عدلًا كما مُلِئَت جورًا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

    المرجئة


    قصة الإسلام


    ملخص المقال

    المرجئة فرقة إسلامية نشأت بعد ظهور الخوارج والمعتزلة كرد فعل لهم، وقد وصل أبو الحسن الأشعري بفرق المرجئة إلى اثنتي عشرة فرقة




    ظهور الفرق

    إذا كانت بعض الفرق تنسب إلى مؤسِّسها مثل الأشعريَّة والماتريدِيَّة، فإن بعضًا منها تنسب إلى أهم مبادئها مثل المُرْجِئَة والمجسِّمة والمشبِّهة، كما أن فرقًا أخرى تنسب إلى موقف ما من مواقفها أو حادثة خاصة لزمتها مثل المعتزلة والخوارج. ولم يكد القرن الأول الهجري ينتهي حتى ظهرت بعض هذه الفرق الإسلامية، سواء تلك الفرق ذات الطابع السياسي مثل الشيعة والخوارج، أو الفرق ذات الطابع الديني مثل المرجئة والمعتزلة، وكان اتِّساع الفتوحات الإسلامية وتعدد الأجناس التي دخلت الإسلام هو العامل الأظهر في وجود تلك الفرق ونشأتها.
    كما أن الحروب الأولى التي نشبت بين المسلمين كانت هي الأخرى عاملاً من عوامل ظهور تلك الفرق؛ حيث كثر الكلام حول هؤلاء المتحاربين، وعلى حكم مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أم لا؟[1].
    فقالت الخوارج بكفره، وقالت المعتزلة بأنه في منزلة بين المنزلتين، لا هو مؤمن ولا هو كافر. وقال الحسن البصري وطائفة من التابعين: إنه منافق؛ لأن الأعمال أدلة على القلوب. وقال جمهور المسلمين: هو مؤمن عاصٍ، أمره بيد الله إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه. وفي وسط هذا الخلاف ظهرت المرجئة فقالت: هو مؤمن ناجٍ؛ لأنه لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة[2].
    وتحديد ظهور أية فرقة أو طائفة مختلَفٌ فيه بين العلماء؛ لأن تلك الفرق لا تظهر فجأة أو دفعة واحدة وإنما تظهر أفكار واتجاهات يلتف البعض حولها حتى تتبلور تلك الأفكار فتكون نواة لمذهب أو فرقة، وعند ذلك يظهر المصطلح وتتحدد الجماعة، من هنا كان الاختلاف حول تحديد ظهور معظم الفرق والطوائف[3].
    نشأة المرجئة
    الرأي الأقرب إلى الصواب في نشأة المرجئة أنها نشأت بعد ظهور الخوارج والمعتزلة كردِّ فعلٍ لهم؛ لأن الخوارج ترى أن مرتكب الكبيرة كافر مخلَّد في النار، وتكفر عليًّا وعثمان -رضي الله عنهما- والقائلين بالتحكيم.
    والمعتزلة تقول: إن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، وأنه مخلَّد في النار أيضًا؛ فظهرت المرجئة لتعلن الرأي المقابل لهذين الرأيين وتقول: إن مرتكب الكبيرة مؤمن ناجٍ، وتذهب إلى مسالمة جميع الطوائف، والقول بإيمان ونجاة كل المسلمين.
    فالسبب الذي من أجله ظهرت المرجئة هو مغالاة بعض الطوائف في الحكم على المسلمين وتكفير بعض الصحابة؛ فالخوارج يكفِّرون عثمان وعليًّا رضي الله عنهما، والشيعة يكفِّرون أبا بكر وعمر وعثمان y، والمعتزلة يقولون بتخليد مرتكب الكبيرة في النار، وكل طائفة تدَّعِي أنها على الحق وأن ما عداها كافر؛ فظهرت المرجئة تسالم الجميع ولا تكفِّر طائفة منهم، وتقول: إن جميع المؤمنين ناجون يوم القيامة[4].
    وإلى جانب هذا العامل الديني في نشأة المرجئة نستطيع أن نجد معه جنبًا إلى جنب العامل السياسي، خاصةً أن الدين كان في تلك الفترة من فجر الإسلام مرتبطًا بالسياسة ارتباطًا وثيقًا؛ لأن السلطة الدينية كانت هي بعينها السلطة السياسية، وعلى ذلك تكون المرجئة قد نشأت باعتبارها حزبًا سياسيًّا مستقلاًّ قام مع الحزبين الآخرين: حزب الشيعة، وحزب الخوارج.
    مفهوم الإرجاء
    الإرجاء على معنيين: أحدهما بمعنى التأخير، كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111]، أي: أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء[5]. أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح؛ لأنهم كانوا يؤخِّرون العمل عن النية والعقد.
    وأما بالمعنى الثاني فظاهر؛ فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
    وقيل: الإرجاء: تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يُقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار. فعلى هذا: المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان.
    وقيل: الإرجاء: تأخير علي t عن الدرجة الأولى إلى الرابعة. فعلى هذا: المرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان[6].
    ومحور مذهب الإرجاء هو مفهوم الإيمان أو مسمَّاه، وقد اختلف المسلمون حول مسمَّى الإيمان ما هو؟
    فمنهم من جعل الإيمان مثلث الأركان (تصديق وإقرار وعمل)، ومنهم من اكتفى فيه بالتصديق والإقرار، وأخرج العمل.
    ومنهم من جعله التصديق فقط أو الإقرار فقط، إلى آخر ما عُرف من ذلك من خلاف بين فرقهم وطوائفهم[7].
    فرق المرجئة
    يصل أبو الحسن الأشعري بفرق المرجئة إلى اثنتي عشرة فرقة، هي:
    1- الجهميَّة: أتباع الجهم بن صفوان، وهم يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعمل بالجوارح فليس بإيمان، وزعموا أن الكفر بالله هو الجهل به. كما زعمت الجهميّة أن الإنسان إذا أتى بالمعرفة ثم جحد بلسانه أنه لا يكفر بجحده، وأن الإيمان لا يتبعَّض ولا يتفاضل أهله فيه، وأن الإيمان والكفر لا يكونان إلا في القلب دون غيره من الجوارح[8].
    2- الصالحيَّة: أتباع أبي الحسين الصالحي، وهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به فقط؛ فلا إيمان بالله إلا المعرفة به، ولا كفر بالله إلا الجهل به، وأن قول القائل: إن الله ثالث ثلاثة ليس بكفرٍ، ولكنه لا يظهر إلا من كافر، وذلك أن الله سبحانه أَكْفَرَ من قال ذلك، وأجمع المسلمون أنه لا يقوله إلا كافر. وزعموا أن معرفة الله هي المحبة له وهي الخضوع لله، وأصحاب هذا القول لا يزعمون أن الإيمان بالله إيمان بالرسول، وأنه لا يؤمن بالله إذا جاء الرسول إلا من آمن بالرسول، ليس لأن ذلك يستحيل، ولكن لأن الرسول قال: ومن لا يؤمن بي فليس بمؤمن بالله. وزعموا أيضًا أن الصلاة ليست بعبادة لله، وأنه لا عبادة إلا الإيمان به وهو معرفته، والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص وهو خصلة واحدة، وكذلك الكفر[9].
    3- اليونسيَّة: أتباع يونس السمري، يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن. وزعموا أن إبليس كان عارفًا بالله غير أنه كَفَر باستكباره على الله، وهذا قول قوم من أصحاب يونس السمري. وزعموا أن الإنسان -وإن كان لا يكون مؤمنًا إلا بجميع الخِلال التي ذكرناها- قد يكون كافرًا بترك خَلَّة منها، ولم يكن يونس يقول بهذا[10].
    4- الشِّمْريَّة: أصحاب أبي شمر ويونس، يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والخضوع له والمحبة له بالقلب والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء، وإن كانت قامت عليه حجة الأنبياء فالإيمان الإقرار بهم والتصديق لهم، والمعرفة بما جاء من عند الله غير داخل في الإيمان، ولا يسمون كل خصلة من هذه الخصال إيمانًا ولا بعض إيمان حتى تجتمع هذه الخصال، فإذا اجتمعت سموها إيمانًا لاجتماعها، وشبَّهوا ذلك بالبياض إذا كان في دابة لم يسموها بَلْقاء ولا بعض أبلق حتى يجتمع السواد والبياض، فإذا اجتمعا في الدابة سمِّي ذلك بَلَقًا إذا كان بفرسٍ، فإن كان في جمل أو كلب سمِّي بَقَعًا، وجعلوا ترك الخصال كلها وترك كل خصلة منها كفرًا، ولم يجعلوا الإيمان متبعِّضًا ولا محتملاً للزيادة والنقصان.
    وحكي عن أبي شمر أنه قال: لا أقول في الفاسق الملِّيِّ فاسق مطلق دون أن أقيد فأقول: فاسق في كذا.
    وحكى محمد بن شبيب وعباد بن سليمان عن أبي شمر أنه كان يقول: إن الإيمان هو المعرفة بالله والإقرار به وبما جاء من عنده. ومعرفة العدل -يعني قوله في القدر- ما كان من ذلك منصوصًا عليه أو مستخرَجًا بالعقول، مما فيه إثبات عدل الله ونفي التشبيه والتوحيد، وكل ذلك إيمان والعلم به إيمان، والشاكُّ فيه كافر، والشاك في الشاكِّ كافر أبدًا، والمعرفة لا يقولون إنها إيمان ما لم تضمّ الإقرار، وإذا وقعا كانا جميعًا إيمانًا[11].
    5- الثوبانيَّة: أصحاب أبي ثَوبان، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار بالله وبرسله، وما كان لا يجوز في العقل إلا أن يفعله، وما كان جائزًا في العقل أن لا يفعله فليس ذلك من الإيمان.
    6- النجاريَّة: أتباع الحسين بن محمد النجار، وهم يزعمون أن الإيمان هو المعرفة بالله وبرسله، وفرائضه المجتمَع عليها، والخضوع له بجميع ذلك، والإقرار باللسان، فمن جهل شيئًا من ذلك فقامت به عليه حُجَّة أو عَرَفه ولم يُقِرّ به كَفَر، ولم تسمِّ كل خصلة من ذلك إيمانًا كما حكينا عن أبي شمر. وزعموا أن الخصال التي هي إيمان إذا وقعت فكل خصلة منها طاعة، فإن فعلت خصلة منها ولم تفعل الأخرى لم تكن طاعةً كالمعرفة بالله إذا انفردت من الإقرار لم تكن طاعة؛ لأن الله U أمرنا بالإيمان جملة أمرًا واحدًا، ومن لم يفعل ما أُمر به لم يطع.
    وزعموا أن ترك كل خصلة من ذلك معصية، وأن الإنسان لا يكفر بترك خصلة واحدة، وأن الناس يتفاضلون في إيمانهم ويكون بعضهم أعلم بالله وأكثر تصديقًا له من بعض، وأن الإيمان يزيد ولا ينقص، وأن من كان مؤمنًا لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بالكفر[12].
    7- الغيلانيَّة: أصحاب أبي مروان غيلان بن مروان الدمشقي، وهم يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله الثانية، والمحبة والخضوع، والإقرار بما جاء به الرسول، وبما جاء من عند الله سبحانه، وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار؛ فلذلك لم يجعلها من الإيمان[13].
    وذكر محمد بن شبيب عن الغيلانية أنهم يوافقون الشِّمْرية في الخصلة من الإيمان أنه لا يقال لها إيمان إذا انفردت، ولا يقال لها بعض إيمان إذا انفردت، وأن الإيمان لا يحتمل الزيادة والنقصان، وأنهم خالفوهم في العلم فزعموا أن العلم بأن الأشياء مُحْدَثةٌ مدبَّرة ضرورة، والعلم بأن مُحْدِثها ومدبِّرها ليس باثنين ولا أكثر من ذلك اكتساب، وجعلوا العلم بالنبي r وبما جاء من عند الله اكتسابًا، وزعموا أنه من الإيمان إذا كان الذي جاء من عند الله منصوصًا بإجماع المسلمين، ولم يجعلوا شيئًا من الدين مستخرجًا إيمانًا.
    وكل هؤلاء الذين حكينا قولهم من الشمرية والجهمية والغيلانية والنجارية ينكرون أن يكون في الكُفَّار إيمان، وأن يقال: إن فيهم بعض إيمان؛ إذ كان الإيمان لا يتبعَّض عندهم.
    وذكر زرقان عن غيلان أن الإيمان هو الإقرار باللسان وهو التصديق، وأن المعرفة بالله فعل الله، وليست من الإيمان في قليل ولا كثير، واعتلَّ بأن الإيمان في اللغة هو التصديق[14].
    8- الشبيبيَّة: أصحاب محمد بن شبيب، وهم يزعمون أن الإيمان الإقرار بالله، والمعرفة بأنه واحد ليس كمثله شيء، والإقرار والمعرفة بأنبياء الله وبرسله، وبجميع ما جاءت به من عند الله مما نصَّ عليه المسلمون ونقلوه عن رسول الله r من الصلاة والصيام، وأشباه ذلك مما لا اختلاف فيه بينهم ولا تنازع. وأما ما كان من الدين نحو اختلاف الناس في الأشياء فإن الرادَّ للحق لا يكفر، وذلك أنه إيمان واستخراج ليس يردّ على رسول الله r ما جاء به من عند الله سبحانه، ولا على المسلمين ما نقلوه عن نبيهم r ونصوا عليه، والخضوع لله هو ترك الاستكبار.
    وزعموا أن إبليس قد عرف الله سبحانه وأقرَّ به، وإنما كان كافرًا لأنه استكبر ولولا استكباره ما كان كافرًا، وأن الإيمان يتبعَّض ويتفاضل أهله، وأن الخصلة من الإيمان قد تكون طاعة وبعض إيمان، ويكون صاحبها كافرًا بترك بعض الإيمان، ولا يكون مؤمنًا إلا بإصابة الكل. وكل رجل يعلم أن الله واحد ليس كمثله شيء ويجحد الأنبياء فهو كافر بجحده الأنبياء، وفيه خصلة من الإيمان وهو معرفته بالله، وذلك أن الله أمره أن يعرفه وأن يُقِرَّ بما كان عرف، وإن عرف ولم يُقِرّ أو عرف الله سبحانه وجحد أنبياءه، فإذا فعل ذلك فقد جاء ببعض ما أمر به، وإذا كان الذي أُمر به كله إيمانًا فالواحد منه بعض إيمان.
    وكان محمد بن شبيب وسائر من قدَّمنا وصفه من المرجئة يزعمون أن مرتكبي الكبائر من أهل الصلاة العارفين بالله وبرسله المقرِّين به وبرسله، مؤمنون بما معهم من الإيمان، فاسقون بما معهم من الفسق[15].
    9- الحنفيَّة: أتباع أبي حنيفة، وهم يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله، والإقرار بالله، والمعرفة بالرسول، والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير. وذكر أبو عثمان الأدمي أنه اجتمع أبو حنيفة وعمر بن أبي عثمان الشَّمْزي بمكة، فسأله عمر فقال له: أخبرني عمَّن زعم أن الله سبحانه حرَّم أكل الخنزير، غير أنه لا يدري لعل الخنزير الذي حرمه الله ليس هي هذه العين. فقال: مؤمن. فقال له عمر: فإنه قد زعم أن الله قد فرض الحج إلى الكعبة، غير أنه لا يدري لعلها كعبة غير هذه بمكان كذا. فقال: هذا مؤمن. قال: فإن قال أعلم أن الله سبحانه بعث محمدًا وأنه رسول الله، غير أنه لا يدري لعله هو الزنجي. قال: هذا مؤمن. ولم يجعل أبو حنيفة شيئًا من الدين مستخرجًا إيمانًا، وزعم أن الإيمان لا يتبعَّض ولا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه.
    فأما غسان وأكثر أصحاب أبي حنيفة فإنهم يحكون عن أسلافهم أن الإيمان هو الإقرار والمحبة لله، والتعظيم له والهيبة منه، وترك الاستخفاف بحقه، وأنه لا يزيد ولا ينقص[16].
    وقد ذكر أبو الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين) أن أبا حنيفة كان مرجئًا، فعندما ذكر الفرقة التاسعة من المرجئة قال: أبو حنيفة وأصحابه.
    كما وردت أخبار عن أبي حنيفة تحاول وصمه بأنه من الجهميَّة يؤمن بالجبر. أما أن أبا حنيفة كان جهميًّا فذلك مستبعد عليه؛ لأنه كان ينكر آراء جهم كما كان ينكر آراء مقاتل بن سليمان، ويتضح ذلك من قوله: "أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطِّل، ومقاتل مشبِّه"[17].
    وقال أيضًا: "أفرط جهم في النفي حتى قال: إنه ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعل الله تعالى مثل خلقه"[18].
    أما عن كون أبي حنيفة وأصحابه أنهم من المرجئة، فهذا أمر يحتاج إلى توضيح وتفريق فأقول:
    أولاً: ربما يكون السبب في نسبة أبي حنيفة إلى الإرجاء هو مخالفته القدرية والمعتزلة الذين ظهروا في الصدر الأول، والمعتزلة كانوا يلقبون كل من خالفهم في القدر مرجئًا، وكذلك الوعيدية من الخوارج، فلا يبعد أن يكون اللقب إنما لزمه من فريق المعتزلة والخوارج[19].
    ثانيًا: لم يكن إرجاؤهم هذا المذهب الخبيث: أن الإيمان قول بلا عمل، وأن ترك العمل لا يضر بالإيمان، بل كان إرجاؤهم أنهم يرجون لأهل الكبائر الغفران؛ ردًّا على الخوارج وغيرهم الذين يكفِّرون الناس بالذنوب[20].

    10- التُّومنيَّة: أتباع أبي معاذ التومني، يزعمون أن الإيمان ما عصم من الكفر، وهو اسم لخصال إذا تركها التارك أو ترك خصلة منها كان كافرًا، فتلك الخصال التي يكفر بتركها وبترك خصلة منها إيمان، ولا يقال للخصلة منها إيمانٌ ولا بعض إيمان. وكل طاعة إذا تركها التارك لم يُجمِع المسلمون على كفره، فتلك الطاعة شريعة من شرائع الإيمان، تاركُها إن كانت فريضة يوصف بالفسق، فيقال له إنه فَسَق، ولا يسمَّى بالفسق ولا يقال فاسقٌ، وليس تُخرِج الكبائر من الإيمان إذا لم يكن كفرٌ.
    وتارك الفرائض مثل الصلاة والصيام والحج على الجحود بها، والردّ لها، والاستخفاف بها كافرٌ بالله، وإنما كفر للاستخفاف والرد والجحود، وإن تركها غير مستحلٍّ لتركها متشاغلاً مسوِّفًا يقول: الساعةَ أصلِّي، وإذا فرغتُ من لهوي ومن عملي؛ فليس بكافر إذا كان عزمه أن يصلي يومًا أو وقتًا من الأوقات، ولكن نفسِّقه. وكان أبو معاذ يزعم أن من قتل نبيًّا أو لطمه كفر، وليس من أجل اللطمة والقتل كفر، ولكن من أجل الاستخفاف والعداوة والبغض له. وكان يزعم أن الموصوف بالفسق من أصحاب الكبائر ليس بعدوٍّ لله، ولا ولي له[21].
    11- المريسيَّة: أتباع بشر المريسي، يقولون: إن الإيمان هو التصديق؛ لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وما ليس بتصديق فليس بإيمان. ويزعم أن التصديق يكون بالقلب وباللسان جميعًا، وإلى هذا القول كان يذهب ابن الرَّاوندِيِّ. وكان ابن الراوندي يزعم أن الكفر هو الجحد والإنكار والستر والتغطية، وليس يجوز أن يكون الكفر إلا ما كان في اللغة كفرًا، ولا يجوز أن يكون إيمانًا إلا ما كان في اللغة إيمانًا. وكان يزعم أن السجود للشمس ليس بكفر، ولكنه علامة على الكفر؛ لأن الله U بيَّن لنا أنه لا يسجد للشمس إلا كافر[22].
    12- الكَرَّاميَّة: أصحاب محمد بن كَرَّام السجستاني، يزعمون أن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان دون القلب، وأنكروا أن يكون معرفة القلب أو شيءٌ غير التصديق باللسان إيمانًا. وزعموا أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله r كانوا مؤمنين على الحقيقة، وزعموا أن الكفر بالله هو الجحود والإنكار له باللسان[23].
    مظاهر الغلو في عقائد المرجئة
    الغلو لغةً: الارتفاع ومجاوزة القدر في كل شيء. وغلا في الدين والأمر: جاوز حدَّه. وفي التنزيل: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171][24].
    والغلو اصطلاحًا: أسلوب من أساليب مقاومة الدين الإسلامي، وفي الحديث: "إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ"[25]. أي التشدد فيه ومجاوزة الحد[26].
    وكانت المرجئة أول أمرها تُرجِئ أمر الصحابة المتقاتلين إلى الله تعالى، وترجئ أمر تعذيب أهل الكبائر إلى الله، ثم غلوا بعد ذلك حتى صاروا إلى قولتهم المغالية المنكرة: "لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة". وقالوا: "إن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقِيَّة وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب، وأعلن التثليث في دار الإسلام، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان".
    وقد تظاهر الغلاة بالتظاهر بالإسلام واتخاذه مرتكزًا للعمل من خلاله من أجل هدم الإسلام، ولم يعتمدوا على مجال واحد وإنما عملوا في الفرق والأحزاب السياسية، وفي جميع مظاهر النشاط الإسلامي[27].
    وقد شابَتْ عقائد المرجئة -كما شاب غيرها من عقائد الفرق الأخرى- كثيرًا من مظاهر الغلو، منها:
    1- أن المذنب من أهل ملتنا مؤمن كامل الإيمان، وإن لم يعمل خيرًا قَطُّ ولا كفَّ عن شرٍّ قط[28].
    2- وطوائف من المرجئة قالوا: إن إبليس لم يسأل الله تعالى قَطُّ النظرة، ولا أقرَّ بأن الله تعالى خلقه من نار، وخلق آدم u من تراب. وآخرون قالوا: إن النبوة تكتسب بالعمل الصالح[29].
    3- لا تضر مع الإسلام سيئة، كما لا ينفع مع الكفر حسنة[30].
    4- إن إبليس لم يكفر بمعصية الله في ترك السجود لآدم، ولا بقوله عن آدم أنا أحسن منه، وإنما كفر بجحد لله تعالى كان في قلبه.
    5- إن فرعون لم يعرف قَطُّ أن موسى جاء بتلك الآيات حقًّا من عند الله.
    6- إن اليهود والنصارى لم يعرفوا أن محمدًا حقٌّ، ولا عرفوا أنه مكتوب، وأن من عرف منهم ذلك وكتمه وتمادى في إعلان الكفر كان مؤمنًا.
    7- أرجئوا الحكم حتى على اليهود والنصارى ما داموا مؤمنين بالله.
    8- المنافقون -في نظرهم- مؤمنون من أهل الجنة.
    9- من آمن بالله وكفر بالنبي فهو مؤمن كافر معًا.
    10- النبي لا تلزمه الزكاة؛ لأنه اختار أن يكون عبدًا، والعبد لا زكاة عليه؛ ولذلك لم يرث ولم يورث[31].

    [1] د. عبد الفتاح أحمد الفاوي: اختلافات المسلمين بين السياسة والدين ص95.
    [2] محمد أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية ص118، د. عبد الفتاح أحمد الفاوي: السابق نفسه ص95، 96.
    [3] د. عبد الفتاح الفاوي: السابق نفسه ص99.
    [4] د. عبد الفتاح أحمد الفاوي: اختلافات المسلمين بين السياسة والدين ص99.
    [5] الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1404هـ، 1/138.
    [6] المصدر السابق، الصفحة نفسها.
    [7] د. عبد الفتاح أحمد الفاوي: اختلافات المسلمين بين السياسة والدين ص116.
    [8] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين، تحقيق هلموت ريتر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، بدون تاريخ، ص132.
    [9] المصدر السابق ص132، 133.
    [10] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين ص133.
    [11] السابق نفسه ص134، 135.
    [12] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين ص135، 136.
    [13] السابق نفسه ص136، د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص36.
    [14] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين ص136، 137.
    [15] المصدر السابق ص137، 138.
    [16] السابق نفسه ص138، 139.
    [17] ابن عساكر: تاريخ دمشق 60/122، الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 15/212.
    [18] ابن حجر: تهذيب التهذيب10/251، د. عبد الفتاح الفاوي: اختلافات المسلمين بين السياسة والدين ص111، 112.
    [19] د. عبد الفتاح الفاوي: اختلافات المسلمين بين السياسة والدين ص112.
    [20] الذهبي: سير أعلام النبلاء 7/380، المزي: تهذيب الكمال 2/111، 112، البغدادي: تاريخ بغداد 7/18.
    [21] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين ص139، 140.
    [22] المصدر السابق ص140، 141.
    [23] السابق نفسه ص141.
    [24] ابن منظور: لسان العرب 15/131.
    [25] رواه النسائي (3057)، وابن ماجه (3029)، وأحمد (1851)، وقال الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (2680) في صحيح الجامع.
    [26] د. عبد الفتاح الفاوي: اختلافات المسلمين بين السياسة والدين ص118.
    [27] السابق نفسه ص119.
    [28] ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/127.
    [29] المصدر السابق 2/90.
    [30] السابق نفسه 4/37.
    [31] د. عبد الفتاح الفاوي: اختلافات المسلمين بين السياسة والدين ص119، 120.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

    النجدات



    عبد القادر بن شيبة الحمد

    قصة الاسلام


    ملخص المقال
    النجدات هي أحد فرق الخوارج السبعة الرئيسة، وهم أصحاب مذهب يختلف قليلًا عن بقية الفرق، واشتهروا باختلافهم بين بعضهم البعض وخروجهم حتى على قادتهم. فما قصة


    قصة النجدات وسبب التسمية
    هم أتباع نجدة بن عامر بن عبد الله بن ساد بن المفرج الحنفي.
    كان قد اجتمع هو ونافع بن الأزرق الحنفي، وعبد الله بن أباض التميمي، وعبد الله بن الصفار السعدي، وعطية بن الأسود الحنفي، وأبو طالوت أحد رجال بني بكر بن وائل، وأبو فديك عبد الله بن ثور بن قيس بن ثعلبة، وعبيدة بن هلال اليشكري، في رجالٍ من الخوارج؛ حينما علموا أنَّ جيوش أهل الشام قد حاصرت عبد الله بن الزبير بمكة وقرَّروا أن يذهبوا إلى مكَّة الحمايتها من جيوش أهل الشام ونصرة عبد الله بن الزبير إن وافقهم على مذهبهم، فلمَّا وصلوا مكة أظهر عبد الله بن الزبير بشاشةً لهم ففرحوا وظنُّوا أنَّه على مذهبهم.
    وبعد انسحاب جيوش الأمويين من مكة أرادوا اختبار عبد الله بن الزبير لمعرفة حقيقة رأيه فيهم، فسألوه عن رأيه في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأثنى عليهما خيرًا، فقالوا له: أصبت، ثم قالوا له: هذا عثمان بن عفان الذي فعل وفعل حتى قام إليه رجالٌ فقتلوه فنحن لقتلته أولياء ومن عثمان وأوليائه براء، فما تقول أنت يا ابن الزبير؟ فقال لهم رضي الله عنه: والله ما أعلم مكان أحدٍ من خلق الله اليوم أعلم بابن عفَّان وأمره منِّي؛ كنت معه حينما نقموا عليه واستعتبوه فلم يدع شيئًا إلا أعتبهم، فتفرَّقوا ثم رجعوا إليه بكتابٍ يزعمون أنَّه يأمر فيه بقتلهم، فقال لهم عثمان رضي الله عنه: ما كتبته فإن شئتم فهاتوا بيِّنتكم، فإن لم تكن لكم بيِّنة حلفت لكم، فوالله ما جاءوا ببيِّنةٍ ولا استحلفوه، ثم وثبوا عليه فقتلوه، وإنِّي أُشهدكم ومن حضرني إني وليٌّ لابن عفَّان وعدوٌّ لأعدائه، فبرئ الله منكم. فتفرَّقوا عنه.
    فسار نافع بن الأزرق وعبد الله بن الصفار السعدي وعبد الله بن أباض التميمي ورجالٌ منهم إلى البصرة، وصار أبو طالوت ورجالٌ منهم إلى اليمامة، ثم خرج نافع بن الأزرق بالبصرة، وخرج أبو طالوت باليمامة.
    أمَّا نجدة بن عامر فيذكر بعض الرواة أنَّه ممَّن انصرف مع أبي طالوت إلى اليمامة وشایعه حتى استولى عليها، ثم رأی خوارج اليمامة عام 66هـ أنَّ نجدةً خيرٌ لهم من أبي طالوت، فخلعوا أبا طالوت وبايعوا نجدة وسمُّوه أمير المؤمنين، ونجدة وقتئذٍ ابن ثلاثين سنة، وبايعه أبو طالوت كذلك.
    ثم غزا نجدة أهل ذي المجاز وقتلهم قتلًا ذريعًا، ثم رجع إلى اليمامة ومنها إلى البحرين، والتقى ببني عبد القيس في القطيف وقتلهم قتلًا ذريعًا وسبى من قدر عليه منهم، وأقام نجدة بالبحرین مدَّة.
    وقد صار من أتباعه أبو فديك وعطية بن الأسود اللذان قَدِمَا من البصرة بعد مفارقتهما نافع بن الأزرق بسبب ما أحدث من الآراء. وقيل بل كان أبو فديك وعطيَّة ممَّن صَحِب أبا طالوت إلى اليمامة من مكة ولم يذهبا إلى البصرة مع نافع بن الأزرق.
    ثم بعث نجدة جيشًا إلى عُمان وأمَّر عليهم عطيَّة بن الأسود الحنفي، فاستولی عطية على عُمان ثم رجع واستخلف عليها بعض أصحابه، فقام أهل عمان وقتلوا عامل الخوارج عليها، ثم خرج عطية على نجدة وذهب إلى عمان ليستحوذ عليها فعجز عن استردادها، فذهب إلى کرمان واستولى عليها وأقام بكرمان حتی داهمته جيوش المهلَّب بن أبي صفرة، ففرَّ من کرمان إلى سجستان وأقام فيها، وضرب بها دراهم سمَّاها «العطويَّة»، ثم لحقته جيوش المهلَّب ففرَّ إلى السند فلقيته خيول المهلب هناك فقتلته، وأتباعه يُسمون العطوية، وكان خروج عطية على نجدة لأمورٍ نقمها عليه:
    [۱] - منها: أنَّ نجدة بعث سريَّة إلى البحر وسرية إلى البر فأعطى سرية البحر أكثر من سرية البر.
    [۲] - ومنها: أنَّ عبد الملك بن مروان کَاتَب نجدةً يدعوه إلى طاعته ويُولِّيه اليمامة، فقال له عطية: ما كتب إليك إلَّا لعلمه بأنَّك مداهنٌ في الدين.
    [۳] - ومنها: أنَّ رجلًا كان يشرب الخمر في جيش نجدة، فطلب منه عطيَّة أن يُقيم عليه الحدَّ فأبى؛ بدعوى أنَّ هذا الرجل عُرِفَ بشدَّة نكايته في الأعداء، فلم يستمع نجدة لرأي عطيَّة فخالفه وخرج عليه، ثم إنَّ نجدة سار إلى صنعاء فبايعه أهلها واستولى على صدقاتها، ثم بعث أبا فديك إلى حضرموت فجبى صدقاتها، ثم حجَّ نجدة عام 6۸ أو 6۹ه في جماعةٍ كثيرةٍ من أصحابه، وصالح ابن الزبير على أن يُصلِّي كلُّ واحدٍ منهما بأصحابه ويقف بهم في عرفة، ولا يتعرَّض بعضهم لبعضٍ بالأذى.
    فلمَّا انتهى الحج أراد نجدة أن يغزو المدينة المنوَّرة فتأهَّب أهلها لقتاله، وجاءت الأخبار إلى نجدة بأنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قد تقلَّد سیفه واستعدَّ لقتال نجدة وأصحابه، فرجع نجدة إلى جهة الطائف فبايعه أهلها، ثم توجَّه إلى البحرين وقطع ما كان يُرْسَل من البحرين واليمامة من الميرة عن أهل الحرمين حتى كاتبه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما في ذلك فردَّها لهم، واستمرَّ تسلُّط نجدة على هذه الأقاليم حتى اختلف عليه أصحابه لأمورٍ نقموها عليه:
    [۱] - منها: أنَّه سبا بالطائف بننة لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت عند أقاربٍ لها، فكتب إليه عبد الملك بن مروان أو عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فأطلقها، فغضب أصحابه لذلك؛ وكانوا قد طلبوا منه أن يبيعها عليهم فأبي وقال: قد أعتقت نصيبي منها، فقالوا: نتزوَّجها، قال: هي أملك لنفسها ولا بُدَّ من رضاها. ثم دخل عندها وخرج وقال: أَبَتْ أن تتزوَّج. ثم أرسلها إلى المدينة فظنُّوا أنَّه إنَّما فعل ذلك خوفًا من عبد الملك أو ابن الزبير.
    [۲] – ومنها: أنَّه بعث سريَّةً إلى القطيف فأغاروا عليها وسبوا منها نساء وذرية، فقوَّموا النساء على أنفسهم قبل القسمة ووطئوهنَّ، وقالوا: إن كانت قيمتهنَّ فوق حقِّنا من الغنيمة غرمنا الزيادة. فلمَّا رجعوا إلى نجدة خطَّأهم وعذَّرهم وذكر لهم أنَّ أصول الدين لا يعذر فيها بالجهل، أمَّا الحلال والحرام فيعذر بالجهالة فيه، وأفتاهم كذلك بأنَّ من خاف العذاب على المجتهد المخطئ قبل قيام الحُجَّة عليه فهو كافر، فكانت هذه الأحداث وتلك الفتاوى سببًا لثورة كثيرٍ من أتباعه عليه.
    فقام فريقٌ منهم وخلعوا نجدة وبايعوا أبا فديك، فاستخفى نجدة في قريةٍ من قرى هَجَر، فأرسل أبو فديك في طلبه، فلمَّا عثروا عليه قتلوه عام تسعٍ وستِّين أو اثنين وسبعين.
    غير أنَّ جماعةً من أتباعه نقموا على أبي فديك وعذروا نجدة فصار أصحاب أبي فديك يُقال لهم «الفديكيَّة»، والذين استمرُّوا على الولاء لنجدة يُقال لهم «النجدات العاذرية»، غير أنَّه لم يُعرف للفديكيَّة ولا للعطويَّة مذهبٌ خاصٌّ سوى إنكارهم على نجدة ومفارقتهم له.
    وقد أقام أبو فديك بالبحرين حتي داهمته جيوش عبد الملك بن مروان المرسلة من البصرة والكوفة، وبعد قتالٍ شديدٍ قتلوا أبا فديك عام ثلاثٍ وسبعين ۷۳ه، واستباحوا عسكره وحصروا أصحابه بالمشقر، ثم قتلوا أكثرهم وأسروا عددًا كبيرًا منهم وأراح الله المسلمين من شرِّهم.
    خلاصة مذهب النجدات:
    [۱] - إكفار من أكفر القعدة منهم عن الهجرة إليهم.
    [۲] - إكفار من قال بإمامة نافع بن الأزرق.
    [۳] - موالاة أصحاب الحدود من موافقيهم.
    [4] - أنَّه لا يدخل جهنم أحدٌ من موافقيهم وإنْ عُذِّبوا فبغیر نار جهنم.
    [5] - ذكر عبد القاهر البغدادي أنَّ نجدة أسقط حدَّ الخمر، وذكر الشهرستاني أنَّه غلَّظ على الناس في حدِّ الخمر تغليظًا شديدًا.
    [6] الإصرار على الصغيرة شرك، وارتكاب الزنا والسرقة وشرب الخمر دون إصرارٍ ليس بشرك إذا كان المرتكب من موافقيهم.
    [۷] - من خاف العذاب على المجتهد المخطئ قبل قيام الحجَّة عليه فهو كافر.
    [۸] - الناس ليسوا بحاجة إلى إمامٍ قط (وهو قول المـحكمة).
    [۹] - تُباح دماء أهل الذمة الذين يُساكنون مخالفيهم، كما تباح دماء من يعيشون في كنفهم من المخالفين لهم.
    [۱۰] - جواز التقيَّة؛ وهي أن يُظهر الخارجي أمام مخالفيه أنَّه معهم حقنةً لدمه، ويخفي عقيدته إلى وقت يتمكَّن من الانقضاض على مخالفيه.



    المصدر: كتاب الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة لعبد القادر بن شيبة الحمد.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ----- متجدد

    الأزارقة


    عبد القادر بن شيبة الحمد



    ملخص المقال
    الأزارقة هم أحد فرق الخوارج، وقد أجمع المؤرخون أنهم من أشد فرق الخوارج الخوارج جرأة، وأعظمهم شجاعة، وأقواهم شكيمة وشوكة. فمن الأزارقة؟ وما سبب تسميتهم؟

    الأزارقة وسبب تسميتهم
    هم أتباع نافع بن الأزرق بن قيس بن نهار الحنفي المكنَّى بأبي راشد وكان أوَّل خروجه بالبصرة في عهد عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وانضمَّ إليهم قطري بن الفجاءة المازني التميمي، وعبيد الله بن الماحوز التميمي، وعبيدة بن هلال اليشكري، وعبد ربه الكبير بائع الرمان، وعبد ربه الصغير معلم الصبيان.
    وساروا فيمن انضمَّ إليهم من خوارج عمان واليمامة نحو الأهواز وهم أكثر من عشرين ألفًا فاستولوا عليها وقتلوا عاملها، ثم استولوا على ما يليها من بلاد فارس وکرمان، وقتلوا عمَّال هذه الجهات، وأمَّروا عليهم نافع بن الأزرق، فطلب عبد الله بن الزبير رضي الله عنه من أميره على البصرة عبيد الله بن الحارث النوفلي أو الخزاعي أن يُحاربهم، فوجَّه إليهم قائد جيشه مسلم بن عبس أو ابن عنبسة في جيشٍ كثيفٍ فتلاقوا بالأهواز، وقتل مسلمُ قائدَ جيش البصرة وأكثر أصحابه، فأرسل أمير البصرة إليهم جيشًا آخر بقيادة عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي أو عثمان بن عبد الله بن معمر التميمي في ألفي فارس فهزموه وقتلوا قائده، فأرسل جيشًا آخر بقيادة حارثة بن بدر فهزموه.

    قصة الأزارقة
    واشتدَّت شوكتهم عام خمسٍ وستِّين من الهجرة، وخشي أهل البصرة على أنفسهم منهم فأمَّر عبدُ الله بن الزبير لحربهم المهلب بن أبي صفرةة الأزدي وكان بخراسان وأمَّره كذلك على الأهواز وما يليها من بلاد فارس وکرمان، فذهب المهلَّب إلى البصرة واختار من جيشها عشرة آلاف مقاتل، ثم انضمَّ إليه كذلك من قبيلته الأزديِّين عشرة آلاف أخرى، فسار بهم إلى الأهواز والتقى بالأزارقة فهزمهم عن دولاب الأهواز إلى الأهواز، وقتل أميرهم نافع بن الأزرق في تلك الهزيمة.
    فبايع الأزارقة بعده عبد الله بن الماحوز التميمي وأمَّروه عليهم فتبعهم المهلب بالأهواز وقتل أميرهم مع ثلاثمائةٍ من أشهر الأزارقة، وانهزم الباقون وأمَّررا عليهم قَطَرِيَّ بن الفجاءة المازني التميمي ولقَّبوه بالخليفة أمير المؤمنين، وكان قطريُّ معروفًا بالشجاعة المفرطة ذا منظرٍ مخيفٍ قد يفرُّ مبارزه إذا كشف له عن وجهه، وقطري بن الفجاءة هذا هو الذي يقول:

    أقول لــــها وقد طــــارت شعاعا من الأبطال ويحـك لا تراععاع
    فصبرًا في مجــال الموت صبرًا فمـــا نيل الخلـــود بمستطاع
    ولا ثوب البقـــــــــاء بثــوب عز فيطوي عن أخ الخنع اليراع
    سبيل الموت غاية كــــل حـــــي فداعيه لأهــــل الأرض داع

    وما للمــــــــــرء خیر في حـــياة إذا ما عُدَّ من ســـقط المتــاع

    ولكن المهلب استمرَّ في قتالهم وكانت الحرب سجالًا، وقد اتَّخذ الخوارج (سابور) من أرض فارس دار هجرةٍ لهم.
    وكان المهلَّب يعتني بوجهٍ خاصٍّ بالعمل على بذر بذور الشقاق والخلاف في صفوفهم؛ فمرَّة دسَّ إليهم رجلًا نصرانيًّا وجعل له جعلًا عظيمًا وقال له: إذا رأيت قطريًّا فاسجد له، فإذا نهاك فقل له: إنَّما سجدت لك. فلمَّا ذهب النصراني وفعل ذلك قال له قطري: إنَّما السجود لله. فقال النصراني: إنَّما سجدت لك. فقام رجلٌ من الخوارج وقال لقطري: قد عَبَدَك من دون الله، ثم تلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]. فقال قطري: إنَّ النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم فما ضرَّ عيسى ذلك شيئًا. فقام رجلٌ من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر قطري عليه ذلك، فأنكر قومٌ من الخوارج على قطري إنكاره على قاتل النصراني.
    ومرة أخرى علم المهلب أنَّ حدَّادًا من هؤلاء الأزارقة يصنع نصالًا مسمومةً فيرمي بها أصحاب المهلَّب، فوجَّه رجلًا من أصحابه بكتابٍ ومعه ألف دينار إلى عسكر قطري بن الفجاءة، وقال لصاحبه: القِ هذا الكتاب ومعه الدنانير في المعسكر واحذر على نفسك. وكان المهلَّب قد كتب في الكتاب إلى ذلك الحداد: أمَّا بعدُ فإنَّ نصالك قد وصلت إليَّ وقد وجَّهتُ إليك بألف دينارٍ فاقبضها وزدنا من النصال، فلمَّا وصل الكتاب عثر عليه بعضُ الجنود فرفعوه إلى قطري، فدعا الحداد وقال له: ما هذا الكتاب؟ قال: لا أدري. قال قطري: وممَّن هذه الدراهم؟ قال: لا أدري. فأمر به فقُتِل، فقام عبد ربِّه الصغير وأنكر على قطري، فقال له قطري: للإمام أن يحكم بما يراه صالحًا وليس للرَّعيَّة أن تعترض عليه.

    نهاية الأزارقة
    ولم تلبث الأهواء والاختلافات أن فرَّقت رجال قطري ففارقه عبد ربِّه الكبير في سبعة آلاف، وفارقه عبد ربِّه الصغير في أربعة آلاف، وفارقه عبيدة بن هلال اليشكري وانحاز إلى قومس، وبقي قطري في بضعة عشر ألف رجل في أرض فارس، فقاتله المهلَّب حتی هزمه إلى أرض کرمان، ثم قاتله بکرمان حتى هزمه إلى الري، وقاتل عبد ربِّه الكبير فقتله، وبعث بابنه يزيد بن المهلَّب إلى عبد ربِّه الصغير فقضى عليه وعلى أصحابه، ولمـَّا ولي الحجاج العراق وجَّه جيشًا بقيادة سفيان بن الأبيرد الكلبي إلى قطري بن الفجاءة، وكان قد انحاز من الري إلى طبرستان فقتلوه بها وأنفذوا برأسه إلى الحجاج، ثم توجَّه سفيان بن الأبيرد إلى عبيدة بن هلال اليشكري بقومس فحاصره في حصنها ثم قتله، وقتل أتباعه، وبذلك كفى الله المؤمنين شرَّ الأزارقة.
    هذا وقد أجمع المؤرِّخون على أنَّ الأزارقة كانوا أشدَّ فرق الخوارج جرأةً، وأعظمهم شجاعةً، وأقواهم شكيمةً وشوكة.

    خلاصة مذهب الأزارقة
    [۱] - الحكم على مخالفيهم من هذه الأمَّة بأنَّهم مشركون، وكانت المـُحَكِّمَةُ الأولى تقول هم كفار لا مشرکون(1).
    [۲] - القعود عن الهجرة إليهم شرك وإنْ كان القاعد على رأيهم.
    [۳] - يجب امتحان من قصدهم مهاجرًا، وطريقة امتحانهم أن يُقرَّب إليه أسيرٌ من مخالفيهم ليقتله فإن قتله وإلَّا اعتبروه منافقًا وقتلوه.
    [4] - استباحوا قتل نساء مخالفيهم وأطفالهم بدعوى أنَّهم مشركون.
    [5] - قطعوا بأنَّ أطفال مخالفيهم مخلَّدون في النار.
    [6] - اعتبار دار مخالفيهم دار کفر.
    [۷] - إسقاط الرجم عن الزاني المحصن.
    [۸] - إسقاط حد القذف عمَّن قذف رجلًا محصنًا.
    [۹] - تجويزهم أن يكون الأنبياء كُفَّارًا قبل البعثة، وأنَّ الأنبياء قد يكفرون بعد البعثة.
    [۱۰] - مرتكب الكبيرة كافر خارج الملَّة.
    [۱۱] - يقولون لا تُباح دماء أهل الذمة الذين مع مخالفيهم بدعوی أنَّهم بذلك يحفظون ذمَّة النبي عليه الصلاة والسلام.
    [۱۲] - يكون قطع يد السارق من المنكب.
    [۱۳] - ذهب أكثرهم إلى وجوب الصلاة والصوم على الحائض في مدَّة حيضها وذهب بعضهم إلى أنَّ الحائض تقضي الصلاة كما تقضي الصوم.
    [14] - تحريم التقيَّة في القول والعمل.
    [15] - ثم هم يزعمون أنَّ عليًّا رضي الله عنه هو الذي نزل فيه قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204]، إلى قوله: {الْفَسَادَ} [البقرة: 205].
    [16] - يزعمون أنَّ عبد الرحمن بن ملجم الخارجي الذي قتل عليًّا رضي الله عنه، هو الذي نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة: 207].


    المصدر: كتاب الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة لعبد القادر بن شيبة الحمد.
    (1) الكفر هو جحد الحق وستره، وأمَّا الشرك فهو صرف العبادة لغير الله تعالى. والكفر قد يكون بالجحود والتكذيب، أما المشرك فإنه يؤمن بالله تعالى، وقال الإمام النووي رحمه الله: "الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر بالله تعالى، وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بعبادة الأوثان وغيرها من المخلوقات مع اعترافهم بالله تعالى ككفار قريش، فيكون الكفر أعم من الشرك" انظر: النووي: شرح صحيح مسلم 2/71


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •