تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 54

الموضوع: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    من صـــ 57 الى صـــ 64



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز

    المؤلف: مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادى (المتوفى: 817هـ)
    المحقق: محمد علي النجار
    الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة
    عدد الأجزاء: 6
    [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
    عام النشر:
    جـ 1، 2، 3: 1416 هـ - 1996 م
    جـ 4، 5: 1412 هـ - 1992 م
    جـ 6: 1393 هـ - 1973 م
    الباب الأول - الطرف الأول - المقدمات
    الفصل الأول - في فضائل القرآن ومناقبه

    قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} وقال {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} وسيأْتى تفصيل أَسماءِ القرآن بعد هذا.
    وأَمّا الخبر فأَشرف الأَحاديث فى ذلك ما صحّ عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه حدَّث عن جبريل عليه السّلام عن الربّ تبارك وتعالى أَنه قال "مَن شغله قراءَة كتابى عن مسأَلتى أَعطيته أَفضل ما أُعطِى الشاكرين" وفى رواية (السّائلين) . وعن أَنس عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه قال "إِن لله أَهلين من الناس. فقيل: مَن هم يا رسول الله؟ قال: أَهل القرآن. هم أَهل الله وخاصّته" وعن ابن عباس يرفعه "أَشراف أُمّتى حَمَلةُ القرآن، وأَصحاب الليل" وعنه أَيضا يرفعه "مَن أُعطِى القرآن فظنّ أَنّ أَحداً أُعْطِى أَفضلَ ممّا أُعْطى فقد عظَّم ما حقّر الله وحقّر ما عظَّم الله" وقال "من أَوتى القرآن فكأَنما أُدْرجتِ النبوّة بين جنبيه، إِلاَّ أَنّه لم يوحَ إِليه" وسئل النبى صلى الله عليه وسلم، وقيل مَن أَفضل النّاس؟ فقال "الحالّ المرتحل. قيل: ومن الحالّ المرتحل؟ قال: صاحب القرآن كلَّما حلّ ارتحل" أَى كلَّما أَتمّ ختْمة استأنف ختمة أخرى.
    وعن عليٍّ رضى الله عنه "قال: ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم الفتنة. قلنا يا رسول الله: وما المَخْرج منها؟ قال: كتاب الله. فيه نبأ ما قبلكم، وفَصْل ما بينكم، وخَبر ما بعدكم. وهو الفصل ليس بالهَزْل. مَن تركه من جَبَّار قصمه الله. ومن ابتغى الهُدَى فى غيره أَضلَّه الله، وهو (حبل الله) المتين. وهو الذكر الحكيم، وهو الصِّراط المستقيم، وهو الذى لا يتلبِس له الأَلسُن، ولا يزيغ به الأَهواءُ، ولا يَخْلُق عن كثرة الرَّدّ، ولا يشبع منه العلماءُ، ولا ينقضى عجائبه، هو الَّذى لم يلبثِ الجِنُّ إِذْ سمعته أَن قالوا: إِنَّا سمعنَا قرآناً عجباً. من قال به صَدَق، ومن حكم به عدل، ومن اعتصم به هُدِى إِلى صراط مستقيم" وعن ابن مسعود عن النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم أَنَّه قال "إِن هذا القرآن مَأَدُبَةُ الله فى أَرضه، فتعلَّموا مَأْدبته ما استطعتم. وإِن هذا القرآن هو حبل الله، فهو نوره المبين، والشِّفاءُ النافع، عِصْمة لمن تمسك به، ونجاة من تبعه. "لا يَعْوجُّ فيقوَّم، ولا يزيغ فيُستَعتَبَ، ولا ينقضى عجائبه، ولا يَخْلقُ عن كثرة الردِّ فاقرءُوه؛ فإِنَّ الله يأْجُركم بكلِّ حرف عشر حسنات. أَمَا إِنى لا أَقول: الم عشر، ولكن أَلف، ولام، وميم ثلاثون حسنة" وعن أَبى هريرة أَنًَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: "فَضْل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خَلْقه" وعن أَبى الدرداءِ يرفع إِلى النبىّ صلى الله عليه وسلم: القرآن أَفضل من كل شىء دون الله. فمن وَقَّر القرآن فقد وقَّر الله، ومن لم يوقِّر القرآن فقد استخفّ بحرمة الله. حرمة القرآن على الله كحرمة الوالد على ولده" وعن أَبى أُمامة أَنَّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأَ ثُلث القرآن أُوتى ثُلث النبوَّة. ومن قرأَ نصف القرآن أُوتى نصف النبوَّة. ومن قرأَ ثُلثى القرآن أُوتى ثُلثى النبوَّة. ومن قرأَ [القرآن] كلَّه أُوتى النبوّة كلها، ثم يقال له يوم القيامة: اقرأْ وارْقَ بكُّل آية درجةً حتَّى يُنجز ما (معه من) القرآن. ثم يقال له: اقبض فيقبِض، فيقال: هل تدرى ما فى يديك؟ فإِذا فى اليمنى الخُلْد، وفى الأُخرى النعيم".
    وعن عائشة رضى الله عنها عن النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم أَنَّه قال: "حَمَلة القرآن محفوفون برحمة الله، الملْبَسون نورَ الله، المعلِّمون كلام الله. فمن عاداهم فقد عادى الله. ومن والاهم فقد والى الله. يقول الله عز وجل: يا حَمَلة كتاب الله تَحَبَّبوا إِلى الله بتوقير كتابه يزدكم حُبّاً، ويحبِّبكم إِلى خَلْقه. يُدفع عن مستمع القرآن شرّ الدنيا، ويدفع عن تالى القرآن بَلْوَى الآخرة. ولَمُستمع آية من كتاب الله خير من ثَبير ذهباً. ولَتَالى آيةٍ من كتاب الله خير مما تحت العرش إِلى تُخُوم الأَرض السفلى" وعن أَبى بُرَيدة قال: كنت عند النبىّ صلَّى الله عليه وسلم فسمعته يقول: إِنَّ القرآن يَلْقى صاحبه يوم القيامة حين ينشقّ عنه قبرُه كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفنى؟ فيقول: ما أَعرفك. فيقول: أَنا صاحبك القرآنُ الذى أَظمْأْتُك فى الهواجر، وأَسهرت ليلتك. وإِن كل تاجر من وراءِ تجارته، وإِنك اليوم من وراءِ كل تجارة. قال: فيعطى المُلْك بيمينه، والخُلْد بشِماله، ويوضع على رأْسه تاجُ الوقار، ويُكْسَى والداه حُلَّتَين لا يقوم لهما أَهل الدنيا. فيقولان: بِم كُسِينا هذا؟ فيقال لهما: بأَخْذ ولدكما القرآن. ثم يقال له: اقرأْ واصعد فى دَرَج الجنَّة وغُرَفها. فهو فى صُعُود ما دام يقرأُ، هذّاً كان أَو ترتيلا".
    وعن مُعَاذ قال: "كنت فى سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله حدِّثنا بحديث يُنتفع به، فقال: إِن أَردتم عيش السُّعداء أَو موت الشهداء، والنجاةَ يوم الحشر، والظِّلّ يوم الحَرُور، والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن؛ فإِنَّه كلام الرَّحمن، وحَرس من الشيطان، ورُجْحان فى الميزان" وعن عُقْبة بن عامر قال "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن فى الصُّفَّة، فقال: أَيّكم يحبُّ أَن يغدو كلَّ يوم إِلى بُطْحان أَو العَقيقِ، فيأتىَ بناقتين كَوْماوَين زهراوين فى غير إِثم ولا قطيعة رَحم؟ قلنا كلّنا يا رسول الله يحبُّ ذلك. قال: لأَن يغدو أَحدكم كلَّ يوم إِلى المسجد فيتعلَّم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاثٌ خير له من ثلاث ومِن أَعدادهنَّ من الإِبل" وعن عائشة قالت "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماهر بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البررة. والذى يَتَتَعْتع فيه له أَجران"
    وروى عن أَبى ذرّ "أَنَّه جاءَ إِلى النبىِّ صلِّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إِنِّى أَخاف أَن أَتعلَّم القرآن ولا أَعمل به. فقال صلَّى الله عليه وسلم: "لا يعذِّب الله قلباً أَسكنه القرآن" وعن أنس عن النبي صلَّى الله عليه وسلم أَنَّه قال: "مَن علَّم آية من كتاب الله كان له أَجرها ما تليت" وعن ابن مسعود أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أَراد علم الأَوَّلين والآخرين فليتدبَّر القرآن مؤثراً؟ فإِن فيه علم الأَولين والآخرين؛ أَلم تسمعوا قوله: ما فرطنا فى الكتاب من شَىْءٍ" عن واثلة بن الأَسْقع أَنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أُعطيت السَّبع الطِّوال مكان التوراة، وأُعطِيت المائدة مكان الإِنجيل وأُعطيت المثانى مكان الزَّبور وفُضِّلت بالمفصَّل" وعن عثمان بن عفَّان أَنَّه قال: "خيركم من تعلَّم القرآن وعَلَّمه" قال ابن عبَّاس: افتخرت السماءُ على الأَرض فقالت: أَنا أَفضل، فِىَّ العرش، والكرسيُّ، واللَّوح، والقلم. وفيَّ الجنَّة المأوى وجنَّة عَدْن، وفىَّ الشمس، والقمر، والنجوم. ومنِّى تنزَّلُ أَرزاق الخَلْق. وفىَّ الرَّحمة. فقالت الأَرض وتركتْ أَن تقول: فىَّ الأَنبياء والأَولياءُ وفىَّ بيت الله بل قالت: أَليس تنقلب أضلاعُ حَمَلة القرآن فى بطنى: فقال الله: صَدَقْتِ يا أَرض. وكان افتخارها على السَّماءِ أَن قال لها الرَّب صدقتِ. وعن أَبى موسى الأَشعرىّ عن النبىّ صلى الله عليه وسلم مَثَل الذى "يقرأُ القرآن ويعمل به مثل الأُتْرُجَّة: طعمها طيّب وريحها طيب ومثلُ الذى لا يقرأُ القرآن ويعمل به مثل التَمْرة: طعمها طيِّب، ولا ريح لها. ومثل الذى يقرأُ القرآن ولا يعمل به كمثل الرَّيحانة: لها رائحة، وطعمها مُرٌّ. ومثل الذى لا يقرأُ القرآن ولا يعمل به مثل الحَنْظَلة. لا طعم لها، ولا رائحة".
    وسئل النبى صلى الله عليه وسلم من أَحسن النَّاس صوتاً؟ قال من إِذا سمعته يقرأُ خشية تخشى الله" وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأَصحابه: "اقرءُوا القرآن بحزن؛ فإِنه نزل بحزن" وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هذه القلوب لتصدأُ كما يصدأُ الحديد. قيل فما جِلاؤها يا رسول الله؟ قال: ذكر الموت وتلاوة القرآن: أَلم تسمعوا قوله تعالى {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور} وقال عليه السَّلام: "القرآن هو الدَّواءُ" وقال "لا فاقة بعد القرآن، ولا غنى دونه" وقال: " ما آمن بالقرآن من استحلَّ محارمه" (وقال) "القرآن شافع، أَو ما حِلٌ مصدَّق" وقال: "من قرأَ القرآن وعمل بما فيه لم يُرَدَّ إِلى أَرذل العمر" وقال فى قوله {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} قال يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه ويكِلون ما أَشكل عليهم إِلى عالِمه" ويرى أَنَّ امرأَة مرَّت بعيسى بن مريم فقالت طوبى لبطن حملتك وثدى أَرضعك فقال عيسى لا بل طوبى لمن قرأَ القرآن وعمل به.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (2)
    من صـــ 65 الى صـــ 71

    الفصل الثاني - في ذكر اعجاز القرآن وتمييزه بالنظم المعجز عن سائر الكلام
    فى ذكر إِعجاز القرآن وتمييزه بالنظم المعجز عن سائر الكلام.

    اعلم أَن الإِعجاز إِفعال من العَجْز الَّذى هو زوال القدرة عن الإِتيان بالشىء من عمل أَو رأْى أَو تدبير. والَّذى يظهر على الخلق من هذا المعنى ثلاث درجات: مَخْرقة وكرامة (ومعجزة) .
    وبين المَخْرقة والمعجزة فروق كثيرة.
    منها أَنَّ المَخْرقة لا بقاءَ لها، كعِصِىّ سَحَرة فرعون، والمعجزة باقية، كعصا موسى. ومنها أَنَّ المَخْرقة لا حقيقة لها، ولا معنى؛ لأَنَّ بناءَها على الآلات، والحِيل؛ والمعجزة لا آلة لها، ولا حيلة. ومنها أَنَّ العوامَّ يعجزون عن المَخْرقة، وأَمَّا الحُذَّاق والأَذكياءُ فلا يعجِزون عنها. وأَمَّا المعجزة فالخواصّ والعوامّ على درجة واحدة فى العجز عنها.
    ومنها أَنَّ المَخْرقة متداولة بين النَّاس فى جميع الأَزمان غير مختصَّة بوقت دون وقت، وأَمَّا المعجزة فمختصَّة بزمان النبوّة، خارجة عن العُرْفِ، خارقة للعادة.
    ومنها أَنَّ المَخْرقة يمكن نقضها بأَضدادها، ولا سبيل للنَّقض إِلى المعجزة.
    وأَمَّا الفرق بين المعجزة والكرامة فهو أَنَّ المعجزة مختصَّة بالنبىّ دائما، [و] وقت إِظهارها مردَّد بين الجواز والوجوب، ويُقرن بالتحدِّى، وتحصل بالدُّعاءِ، ولا تكون ثمرةَ المعاملات المَرْضِيَّةِ، ولا يمكن تحصيلها بالكسب والجهد، ويجوز أَن يحيل النبىّ المعجزة إِلى نائبه، لينقلها من مكان إِلى مكان كما فى شمعون الصَّفا الَّذى كان نائباً عن عيسى فى إِحياءٍ الموتى، وأَرسله إِلى الرُّوم، فأَحيا الموتى هناك. وأَيضاً يكون أَثر المعجزة باقيا بحسب إِرادة النبىّ، وأَمَّا الكرامة فموقوفة على الولىِّ، ويكون كتمانها واجباً عليه، وإِن أَراد إِظهارها وإِشاعتها زالت وبطلت. وربما تكون موقوفة على الدعاءِ والتضرع. وفى بعض الأَوقات يعجز عن إِظهارها.
    وبما ذكرنا ظهر الفرق بين المعجزة والكرامة والمَخْرقة.
    وجملة المعجزات راجعة إِلى ثلاثة معان: إِيجاد معدوم، أَو إِعدام موجود، أَو تحويل حال موجود.
    إِيجاد معدوم كخروج الناقة من الجبل بدعاءِ صالح عليه السلام.
    وإِعدام الموجود كإِبراءِ الأَكمه والأَبرص بدعاءِ عيسى عليه السلام.
    وتحويلُ حال الموجود كقلب عصا موسى ثعباناً.

    وكلُّ معجزة كانت لنبىٍّ من الأَنبياءِ فكان مثلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إِظهارها له ميسَّراً مسلماً.
    وأَفضل معجزاته وأَكملها وأَجلُّها وأَعظمها القرآن الذى نزل عليه بأَفصح اللُّغات، وأَصحِّها، وأَبلغها، وأَوضحها، وأَثبتها، وأَمتنها، بعد أَن لم يكن كاتباً ولا شاعراً ولا قارئاً، ولا عارفاً بطريق الكتابة، واستدعاءٍ من خطباءِ العرب العرباءِ وبلغائهم وفصحائهم أَن يأْتوا بسورة من مثله، فأَعرضوا عن معارضته، عجزاً عن الإِتيان بمثله، فتبيَّن بذلك أَن هذه المعجزة أعجزت العالَمِين عن آخرهم.
    ثم اختلف الناس فى كيفيَّة الإِعجاز.
    فقيل: لم يكونوا عاجزين عن ذلك طبعاً، إِلاَّ أَنَّ الله صَرَف همَّتهم، وحبس لسانهم، وسلبهم قدرتهم، لُطْفاً بنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وفضلاً منه عليه. وذلك قوله {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} . وهو قول مردود غير مرضىٍّ.
    وقال آخرون: لم يكن عجزهم عن الإِتيان بمثل لفظه، وإِنما كان عن الإِتيان بمثل معناه.
    وقيل: لم يعجزوا عنهما، وإِنَّما عجزوا عن نظم مثل نظمه؛ فإِن أَنواع كلامهم كانت منحصرة فى الأَسجاع، والأَشعار، والأَراجيز، فجاءَ نظم التنزيل على أُسلوب بديع لا يشبه شيئاً من تلك الأَنواع، فقصُرت أَيدى بلاغاتِهم عن بلوع أَدنى رُتْبَةٍ من مراتب نظمه.
    ومذهب أَهل السُّنة أَنَّ القرآن معجز من جميع الوجوه: نظماً، ومعنى، ولفظا، لا يشبهه شىء من كلام المخلوقين أَصلاً، مميَّز عن خُطَب الخطباءِ، وشعر الشعراء، باثنى عشر معنى، لو لم يكن للقرآن غير معنى واحد من تلك المعانى لكان معجِزاً، فكيف إِذا اجتمعت فيه جميعاً.
    ومجملها إِيجاز اللفظ، وتشبيه الشىءِ بالشىءِ، واستعارة المعانى البديعة؛ وتلاؤم الحروف، والكلمات، والفواصل، والمقاطع فى الآيات، وتجانس الصِّيغ، والأَلفاظ، وتعريف القِصَص، والأَحوال، وتضمين الحِكَم، والأَسرار، والمبالغةُ فى الأَمر، والنهى، وحسن بيان المقاصد، والأَغراض، وتمهيد المصالح، والأَسباب، والإِخبار عما كان، وعما يكون.
    أَمّا إِيجاز اللفظ مع تمام المعنى فهو أَبلغ أَقسام الإِيجاز. ولهذا قيل: الإِعجِاز فى الإِيجاز نهاية إِعجاز. وهذا المعنى موجود فى القرآن إِمّا على سبيل الحذف، وإِما على سبيل الاختصار.
    فالحذف مثل قوله تعالى {وَسْئَلِ القرية} أَى أَهلها {ولاكن البر مَنْ آمَنَ بالله} أَى برّ من آمن. والاختصار {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} هذه أَربع كلمات وستة عشرة حرفاً يتضَّمَّن ما ينيِّف على أَلف أَلف مسأَلة، قد تصدَّى لبيانها علماءُ الشريعة، وفقهاءُ الإِسلام فى مصنَّفاتهم؛ حتَّى بلغوا أُلوفاً من المجلَّدات، ولم يبلغوا بعدُ كنهَها وغايَتَها.
    وأَمَّا تشبيه الشىءِ بالشىءِ فنحو قوله تعالى {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} وكلُّ مَثَل من هذه الأَمثال دُرْج جواهر، وبُرْج زواهر، وكنز شرف، وعالَم عِلم، وحُقُّ حقائق، وبحار دُرَر دِراية، ومصابيح سالكى مسالك السنَّة. ولهذا يقال: الأَمثال سُرج القرآن.
    وأَمَّا استعارة المعنى فكالتعبير عن المضىِّ والقيام بالصَّدع {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} أَى قُم بالأَمر، وكالتعبير عن الهلاك، والعقوبة بالإِقبال والقدوم {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} ، وكالتعبير عن تكوير الليل والنهار بالسَّلخ {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} ولا يخفى ما فى أَمثال هذه الاستعارات من كمال البلاغة، ونهاية الفصاحة. يحكى أَنَّ أَعرابيّاً سمع {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} فلم يتمالك أَن وقع على الأَرض وسجد، فسئل عن سبب سجدته فقال، سجدت فى هذا المقام، لفصاحة هذا الكلام.
    وأَما تلاؤم الكلمات والحروف ففيه جمال المقال، وكمال الكلام؛ نحو قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ} {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} {فأدلى دَلْوَهُ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} ونظائرها.
    وأَمَّا فواصل الآيات ومقاطعُها فعلى نوعين: إِمَّا على حرف كطه؛ فإِنَّ فواصل آياتها على الأَلف، وكاقتربت؛ فإِنَّ مقاطع آياتها على الراء، وإِمَّا على حرفين كالفاتحة؛ فإِنَّها بالميم والنُّون: {الرحمان الرحيم مالك يَوْمِ الدين} ونحو {ق والقرآن المجيد} فإِنَّها بالباءِ والدَّال.
    وأَمَّا تجانس الأَلفاظ فنوعان أَيضاً: إِمَّا من قبيل المزاوجة؛ كقوله {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وأَكِيدُ كَيْداً} {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} وإما من قبيل المناسبة كقوله {ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} .
    وأَمَّا تصريف القِصَص والأَحوال فهو أَنَّ الله تعالى ذكر بحِكَمهِ البالغة أَحوال القرون الماضية، ووقائع الأَنبياءِ، وقصصهم، بأَلفاظ مختلفة، وعبارات متنوِّعة، بحيث لو تأَمّل غوّاصو بحار المعانى، وخوَّاضو لُجَج الحُجَج، وتفكّروا فى حقائقها، وتدبَّروا فى دقائقها، لعلموا وتيقَّنوا (وتحققوا) وتبيَّنوا أَنَّ ما فيها من الأَلفاظ المكرَّرة المعادات، إِنَّما هى لأَسرار، ولطائف لا يرفع بُرْقع حجابها من الخاصَّة إِلاَّ أَوحدُهم وأَخصُّهم، ولا يكشف سِتر سرائرها من النحارير إِلاَّ واسِطتهم وقصهم.
    وأَمَّا تضمين الحِكَم والأَسرار فكقولنا فى الفاتحة: إِن فى {بِسْمِ} التجاءَ الخَلْق إِلى ظلِّ عنايته، وكلمة الجلالة تضمَّنت آثار القدرة والعظمة، وكلمة الرحمن إِشارة إِلى أَنَّ مصالح الخَلْق فى هذه الدَّار منوط بكفايته. وكلمة الرَّحيم بيان لاحتياج العالَمين إِلى فيض من خزائن رحمته. والنِّصف الأَوَّل من الفاتحة يتضمَّن أَحكام الرُّبوبيَّة. والنصف الثَّانى يقتضى أَسباب العبوديَّة. وخُذْ على هذا القياس. فإِنَّ كلَّ كلمة من كلمات القرآن كنزُ معانٍ، وبحر حقائق.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (3)
    من صـــ 71 الى صـــ 77

    ومن جوامع آيات القرآن قوله تعالى: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} فإِنها جامعة لجميع مكارم الأَخلاق، وقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} مستجمعة لجميع أَسباب السِّياسة والإِيالة. وقوله:{أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا} محتوية على حاجات الحيوانات كافَّة. وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إِلى آخر الثلاث الآيات جامعة لجميع الأَوامر والنَّواهى، ومصالح الدُّنيا والآخرة، وقوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} يشتمل على أَمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين.
    وأَمَّا المبالغة فى الأَسماءِ والأَفعال فالأَسماءُ {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} ، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} ، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ، {الملك القدوس} ، {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم} ، {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} ، {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} . والأَفعال {أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} ، {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} ، {وَقَطَّعْناهم فِي الأرض أُمَماً} ، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} ، {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} ، {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} ، {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} .
    وَأَمَّا حُسْن البيان فلتمام العبارة: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، ولبيان فصل الخصومة والحكومة {إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ مِيقَاتاً} ،وللحجّة للقيامة {يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، وللنَّصيحة والموعظة {ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} ، ولثبات الإِيمان والمعرفة: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} ، ولبيان النعت والصِّفة {بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيم} ، {عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِير} ، ودليلاً لثبوت الرِّسالة {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} ، وإِظهاراً للعمل والحكمة {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} ، وللرَّحمة السَّابقة واللاحقة {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِين َ رَحِيماً} ، وبرهاناً على الوَحْدانيَّة والفَرْدانيَّة {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} ، وتحقيقا للجنَّة والنَّار {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ، {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينْ} ، وتحقيقاً للرُّؤية واللِّقاءِ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وتمهيداً لمصالح الطَّهارات {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} ، وللصَّلاة {وَأَقِيمُواْ الصلاة} ولِلزكاة والصيام والحجّ {وَءَاتُوْا الزَّكَاةَ} ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} ، وللمعاملات {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} ، وللصِّيانة والعِفَّة {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} ، وللطلاق والفراق بشرط العِدَّة {فَطَلِّقُوهُن لِعِدَّتِهِنَّ} ، ولرعاية مصلحة النفوس {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ}ولكفارة النُّذور والأَيمان {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} .
    وعلى هذا القياس جميع أَحكام الشريعة تأيَّدت بالآيات القرآنية وأَمَّا الإِخبار عمَّا كان وعمَّا يكون: أَمَّا المتقدِّم فكتخليق العرْش، والكُرْسىّ، وحال الحَملة والخَزنَة، وكيفيَّة اللَّوح والقلم، ووصف السِّدْرة، وطوبى، وسَيْر الكواكب، ودَوْر الأَفلاك، وحكم النيِّرين، والسَّعدين، والنحسين، وقران العُلويَّين والسُّفليين، ورفع السَّماءِ، وتمهيد الأَرض، وتركيب الطَّبائع، والعناصر، وترتيب الأجسام والأَجرام، وحكم المشرق، والمغرب، من الأُفُق الأَعلى إِلى ما تحت الثَرى ممَّا كان، ومما هو كائن، وممَّا سيكون: من أَحوال آدم، وعالَمَىِ الجنِّ، والإِنس، والملائكة، والشياطين. ففى القرآن من كلِّ شىءٍ إِشارة وعبارة تليق به.
    وأَمَّا المتأَخر فكأَخبار الموت، والقبر، والبعث، والنَشْر، والقيامة، والحساب، والعقاب، والعَرْض، والحوض، والسؤال، ووزن الأَعمال، والميزان، والصراط والجَنَّة، والنَّار، وأَحوال المتنعمين، والمعذَّبين فى الدَركات، وأَحوال المقرَّبين فى الدَّرجات، ما بين مُجْمَل ومفصَّل، لا إِجمالا يعتريه شَكّ، ولا تفصيلاً يورث كلالة وملالة.
    كلُّ ذلك على هذا الوجه مذكور فى القرآن، فلا غَرْو أَن يترقَّى هذا الكلام عن إِدراك الأَفهام، وتناول الأوهام، ويُعجز الفصحاءَ والبلغاءَ عن معارضته، ومقابلته.
    وبلغنى عن الأَئمة الرَّاسخين، والعلماء المحققين أَنَّ الَّذى اشتمل عليه القرآن من الدَّقائق، والحقائق، والمبانى، والمعانى، سبعون قسماً.
    وهى المحكم، والمتشابه، والنّاسخ، والمنسوخ، والحقيقة، والمجاز، والمنع، والجواز، والحذف، والزّيادة، والبيان، والكناية، والمقلوب، والمستعار، والإِظهار، والإِضمار، والإِيجاز، والاختصار، والإِخبار، والاستخبار، والخاصّ، والعامّ، والحدود، والأحكام، والتحليل، والتَّحريم، والسَبْر، والتقسيم، والأَمر، والنَّهى، والجحد، والنَّفى، والقَصَص، والأَمثال، والتفصيل، والإِجمال، والزّجر، والتأْديب، والترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، والعطف، والتوكيد، والتحكُّم، والتهديد، والوصف، والتّشبيه، والكشف، والتنبيه، والتقديم، والتأْخير، والتأْويل، والتفسير، والتكرار، والتقرير، والتعريض، والتصريح، والإِشارة، والتلويح، والتجنيس، والتقريب، والتعجيب، والسؤال، والجواب، والدّعاء، والطَّلب، والبِشارة، والنِّذارة، والفاتحة والخاتمة. ولكُّل قسم من ذلك نظائر وشواهد فى القرآن لا نطوِّل بذكرها.

    والغرض من ذكر هذا المجمل التَّنبيه على أَنَّ الكلمات القرآنية كُّل كلمة منها بحر لا قعر له، ولا ساحل، فأَنَّى للمعارض الماحل.
    يحكى أَنَّ جماعة من أَهل اليمامة قدِموا على الصِّديق الأَكبر رضى الله عنه، فسأَلهم عن مُسيلمة، وعَمَّا يدَّعيه أَنه من الوحى النازل عليه، فقرءُوا عليه منه هذه السُّورة (يا ضفدع نِقِّى نِقِّى إِلى كم تَنِقِّين، لا الماءَ تكدِّرين،ولا الطِّين تفارقين ولا العُذُوبةَ تمنعين) فقال الصِّدِّيق رضى الله عنه: والله إِنَّ هذا الكلام لم يخرج من إِلّ. ويحكى عن بعض الأَشقياءِ أنه سمع قوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} فقال مستهزئاً: انظر إِلى (هذا الدَّعوى المُعرَّى) عن المعنى. الَّذى يدَّعيه محمَّد يأَتينا به المِعْوَل والفئوس. فانشقت فى الْحال حَدَقتاه، وتضمخَت بدم عينيه خَدَّاه، ونودى من أَعلاه، قل للمِعْول والفئوس، يأتيان بماءِ عينيك.
    وذكر أَنَّ بعض البلغاء قصد معارضة القرآن، وكان ينظر فى سورة هود، إِلى أَن وصل إِلى قوله تعالى {ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي} الآية فانشقَّت مرارته من هيبة هذا الخطاب، ومات من حينه. ودخل الوليد بن عُقْبة على النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم وقال يا محمد اقرأْ علىَّ شيئاً ممَّا أُنزِل عليك فقرأَ قوله تعالى {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية فقال الوليد: إِنَّ لهذا الكلام لحلاوة، وإِن عليه لطلاوة، وإِنَّ أَسفله لمغدِق، وإِنَّ أَعلاه لمثمر،وإِنَّ لى فيه نظرا، ولا يقول مثل هذا بشر. وفى الآثار أَنه ما نزلت من السَّماءِ آية إِلاَّ سُمع من السَّماءِ صَلصَلة كسِلسِلة جُرَّت فى زجاجة، ولم يبق فى السَّماءِ مَلَك مُقَرَّب إِلاَّ خرُّوا لله ساجدين. وأُغمى على النبىَّ صلَّى الله عليه وسلم من ثقل بُرَحاءٍ الوَحْى. وكان إِذا سُرِّى عنه ارتعدت مفاصله فَرَقاً، وتَصَبَّب وجهه عَرَقاً.
    فهذا طَرَف ممَّا ذكر فى إِعجاز لفظ القرآن.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (4)
    من صـــ 78 الى صـــ 85

    الفصل الثالث - في شرح كلمات لابد من معرفتها قبل الخوض في شرح وجوه التفسير

    اعلم أَنَّ الكلمات الَّتى يُحتاج إِلى معرفتها فى مقدَّمة هذا النَّوع من العلم خمسة عشر كلمة. وهى التأويل، والتفسير، والمعنى، والتَّنزيل، والوحي، والكلام، والقول، والكتاب، والفرقان، والقرآن، والسُّورة، والآية، والكلمة، والمصحف، والحرف.
    أَمَّا التفسير فمن طريق اللغة: الإِيضاح والتَّبيين. يقال: فسَّرت الحديث أَي بيَّنته وأَوضحته. واختلف فى اشتقاقه.
    فقيل: من لفظ التَفْسِرة، وهو نظر الطبيب فى البول لكشف العلَّة والدواءِ، واستخراج ذلك. فَكذلك المفسِّر ينظر فى الآية لاستخراج حكمها ومعناها.
    وقيل: اشتقاقه من قول العرب: فسَرت الفرس وفسَّرته أَى أَجريته وأَعديته إِذا كان به حُصْر، ليستطلِق بطنُه. وكأَن المفسِّر يجرى فرس فكره فى ميادين المعانى ليستخرج شرح الآية، وَيُحلَّ عقْد إِشكالها.
    وقيل: هو مأْخوذ من مقلوبه. تقول العرب: سفَرت المرأَةُ إِذا كشفت قِناعها عن وجهها، وسفرتُ إِذ كَنَسته ويقال للسَّفَر سفَر لأَنه يَسِفر ويكشف عن أَخلاق الرجال. ويقال للسُّفرة سُفْرة لأَنها تُسفَر فيظهر ما فيها؛ قال تعالى: {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} أَى أَضاءَ. فعلى هذا يكون أَصل التفسير التسفير على قياس صعق وصقع، وجذب وجبذ، وما أَطيبه وأَيطبه، ونظائِره؛ ونقلوه من الثلاثىّ إلى باب التفعيل للمبالغة. وكأَنَّ المفسِّر يتتبع سورة سورة، وآية آية، وكلمة كلمة، لاستخراج المعنى. وحقيقته كشف المتغلق من المراد بلفظه، وإِطلاق المحتبس عن الفهم به.
    وأَمَّا التأْويل فصرف معنى الآية بوجه تحتمله الآية، ويكون موافقا لما قبله، ملائماً لما بعده. واشتقاقه من الأوْل وهو الرُّجوع. فيكون التأْويل بيان الشىء الَّذى يرجع إِليه معنى الآية ومقصودها.
    وقيل التأويل إِبداءُ عاقبة الشىءِ. واشتقاقه من المآل بمعنى المرجِع والعاقِبة. فتأْويل الآية ما تئول إِليه من معنى وعاقبة. وقيل: اشتقاقه من لفظ الأَوّل. وهو صرف الكلام إِلى أَوَّله. وهذانِ القولانِ متقاربان. ولهذا قيل: أَوَّل غرض الحكيم آخر فعله.
    وقيل اشتقاقه من الإِيالة بمعنى السياسة. تقول العرب: (أُلْنا وإِيل علينا) أَى سُسْنا وسِيس علينا، أَى ساسنا غيرنا. وعلى هذا يكون معنى التأويل أَن يسلِّط المؤوِّل ذهنه وفكره على تتبّع سِرِّ الكلام إِلى أَن يظهر مقصودُ الكلام، ويتَّضح مراد المتكلِّم.
    والفرق بين التفسير والتأويل أَن التفسير هو البحث عن سبب نزول الآية، والخوض فى بيان موضع الكلمة، من حيث اللغة. والتأويل هو التفحُّص عن أَسرار الآيات، والكلمات، وتعيين أَحد احتمالات الآية. وهذا إِنَّما يكون فى الآيات المحتملة لوجوه مختلفة، نحو {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} وكقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} ، وكقوله: {والشفع والوتر} ، وكقوله: {وشَاهِدٍ وَمَشْهُود} فإِن هذه الآيات ونظائرها تحتمل معانى مختلفة، فإِذا تعيَّن عند المؤوّل أَحدها، وترجَّح، فيقال حينئذ: إِنَّه أَوَّل الآية.
    وأَمَّا المعنى فمن طريق اللغة: المقصد. يقال: عَنَاه يعنيه أَى أَراده وقصده. فيكون معنى الآية: ما به يظهر حكمةُ الحكيم فى نزول الآية. ويكون قصد من يروم سرّ الآية إِلى خمسة.
    وقيل اشتقاق المعنى من العناية، وهى الاهتمام بالأَمر، يقال: فلان مَعْنّى بكذا أَى مهتمٌّ به. فيكون المعنى أَنَّ الباحث عن الآية يصرف عنايته واهتامه إِلى أَن ينكشف له المراد من الآية.
    وقيل اشتقاقه من الْعَنَاءِ، وهو التَّعب والمشقَّة. والمعنى لا يمكن الوصول إِليه إِلاَّ بكدّ الخاطر ومشقَّة الفكر؛ لما فيه من الدقَّة والغموض.
    وأَمَّا التنزيل فتفعيل من النزول، وقد يكون بمعنى التكليم: قال فلان في تنزيله: في تكليمه، لأَنَّ المتكلّم يأتى به نَزْلة بعد نزلة. والنزلة هى المرَّة، قال تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى} أَي مَرَّة أُخرى. وقد يكون بمعنى الإِنزال {وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً} أَي وأَنزلْنا، {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} فقرىءَ بالتشديد والتخفيف.
    وقيل للقرآن: تنزيل من ربّ العالمين لأَنه تكليم من الله الجليل، وإِنزال على لسان جبريل.
    وأَمَّا الوحى فلغةً: الرِّسالة والإِلهام، والإِشارة بالحواجب، والكتابة بالقلم. وَحَى يَحى وَحْياً، فهو واح. وجمع الوحى وُحِىّ كحَلْى وحُلِىّ. ويقال: إِنَّ الوحى مختصّ برسالة مقترِنة بخفَّة وسرعة. فسمّى التنزيل وَحْياً لسرعة جبريل فى أَدائه، وخِفَّة قبوله على الرَّسول. وإِن جعلته من معنى الإِشارة فكأَنَّ الرَّسول اطَّلع على المراد بإِشارة جبريل. وإِن جعلته من معنى الكتابة فكأَنَّ جبريل أَثبت آيات القرآن فى قلب النبىّ، كما يثبت المكتوب في اللّوح بالكتابة. قال تعالى {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين عَلَى قَلْبِكَ} .
    وأَمَّا الكلامُ فإِنَّه اسم لما يصحّ به التكلّم، وضدّه الْخَرَس. والكلام والتكليم مصدران على قياس السلام والتسليم. وقد يطلق الكلام على التكلّم والتكليم. وقيل للقرآن: كلام فى نحو قوله تعالى {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} وقولِه {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} لأَنَّه تكليم وتكلُّم. وأَيضاً هو ما يصحّ به التكلّم. وقيل: الكلام ما اشتمل على أَمر ونهى وإِخبار واستخبار. وقيل: هو معنى قائم بالنَّفس، والعبارات تدلُّ عليه، والإِشارات تجرّ إِليه. وقيل: هو ما ينافى السُّكوت والبهيمية.
    وأَمَّا الكلمة فمشتقة من الكَلْم بمعنى الجرح. وجمعها كَلِم وكَلْم وكلمات. يقال: كَلَمت الصّيد أَى جرحته. فالكلام (والكلمة على قول: ما يؤثِّر في قلب المستمِع بواسطة سماع الآذان كتأثير الكَلْم) فى الصَّيد. وقد يكون الكَلْم بمعنى القطع، فيكون الكلمة اسماً لجمع من الحروف متَّصل بعضها ببعض منقطع عن غيرها من الكلمات. وسيأْتي شرح الكلام والكلمة فى باب الكاف بأَتمَّ من هذا إِن شاءَ الله تعالى.
    وأَمَّا القول ففي أَصل اللغة: النُّطق. وحقيقته من حيث المعنى: كلام مهذَّب مرتَّب على مسموع مفهوم، مؤدًّى بمعنى صحيح. وعلى هذا يصحّ إِطلاق القول على القرآن، فإِنه يتضمَّن التَّهذيب والترتيب، لفظه مسموع، ومعناه مفهوم.
    وأَمَّا الكِتَاب فيكون اسماً - وجمعه كُتُب -، ويكون مصدراً بمعنى الكتابة، فسُمِّى به الْقرآن، لأَنه يُكتب، كما سمِّى الإِمام إِمامَا لأَنَّه يؤتمّ به. ويقال: إِن مادَّة كتب موضوعة بمعنى الْجمع: كتبتُ الْبلغةَ إِذا جمعت بين شُفريها بحلْقة. ويقال للعسكر: الْكتيبة لاجتماع الأَبطال. فسُمِّى الْقرآن كتاباً لأَنه مجتمع الْحروف والْكلمات والسُّوَرِ والآيات. فسيأْتى شرحه فى باب الْكاف.
    وأَمَّا الْفُرقان فاسم على زنة فُعْلان مشتقٌّ من الْفَرْق، وهو الْفصل. والفُرق بالضمّ لغة فيه، قال الراجز: ومُشْرِكيٍّ كافر بالْفُرْق والْفِرق بالكسر: قَطيع من الغنم يتفرَّق من سائرها، وسمِّى الْقرآن فرقاناً لأَنه نزل من السماءِ نجوماً متفرِّقة، ولأَنَّه يَفرق بين الْحقّ والْباطل. وقد يكون الفرقان بمعنى النُّصْرة، قال تعالى: {يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان} أَى يوم النُصرة. فقيل للقرآن: فرقان لما فيه من نُصرة الدِّين وأَهله. وقد يكون الفرقان بمعنى الخروج من الشكِّ والشُّبهة، قال تعالى: {إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} فالقرآن فرقان بمعنى أَنَّه تقوية وهداية، يحصل به الخروج من ظلمات الضَّلالات، والشكوك، والشبهات.
    وأَمَّا القرآن فاسم لما يُقْرَأُ؛ كالْقرْبان: اسم لما يُتقرَّب به إِلى الله. ويقال أَيضاً: إِنه مصدر قرأَ يقرأ (قَرْأ وقِراءَة) وقرآناً. وفي الشرع اسم للكتاب المفتَتح بفاتحة الكتاب، المختَتم بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس} وفيه لغتان: الهمز وتركه. المهموز من القُرْء - بالفتح والضَّم - بمعنى الحيض، والطُّهر. سُمى به لاجتماع الدَّم فيه. والقرآن سمِّى به لاجتماع الحروف، والكلمات، ولأَنه مجتمع الأَحكام، والحقائق، والمعانى، والحكم. وقيل اشتقاقه من القِرَى بمعنى الضيافة؛ لأَن القرآن مَأْدُبة الله للمؤمنين، وقيل القران - بغير همز - مشتقّ من القِرْن بمعنى القرين لأَنه لَفظ فصيح قرِين بالمعنى البديع. وقيل: القرآن اسم مرتجل موضوع، غير مشتقٍّ عن أَصل؛ وإِنَّما هو عَلَم لهذا الكتاب المجيد؛ على قياس الجلالة فى الأَسماء الحسنى.
    وأَمَّا سُورة - بالهمز وبتركه - فبغير الهمز من سَوْرة الأَسد، وسَورة الشراب، بمعنى القُوة؛ لأَنَّ قوَّة السُّورة أَكثر من قوّة الآية؛ أَو من السُّور بمعنى الجماعة: يقال. لفلان سُور من الإِبل أَى جماعة؛ لأَنَّ السُّورة مشتمِلة على جماعة الآيات، أَو من السُّور المحيط بالأَبنية؛ لأَن السُّورة محيطة بالآيات، والكلمات، والحروف، مشتملة على المعانى: من الأَمر والنَّهى، والأَحكام. وإذا قلت بالهمز فيكون من سُؤر الكأْس - وهو ما يبقى فيه من الشراب - لأَن كلَّ سُورة من القرآن بقيَّة منه. ويقال: إِنَّ السُور (بلا همز) بمعنى الرَّفعة والمنزلة، وسُوَر القرآن هكذا: متفاوتة: بعضها فوق بعض من جهة الطُّول، والقصر، وفى الفضل، والشرف، والرُّتبة، قال النَّابغة:
    أَلم تر أَنَّ الله أَعطاك سُورة
    أَى شرفاً ورفعة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (5)
    من صـــ 85 الى صـــ 95

    وأَمَّا آية ففى أَصل اللغة: بمعنى العَجَب، وبمعنى العلامة، وبمعنى الجماعة. سمِّيت آيةُ القرآن آية لأَنها علامة دالَّة على ما تضمَّنته من الأَحكام، وعلامة دالَّة على انقطاعه عمَّا بعده وعمَّا قبله، أَو لأَن فيها عجائب من القِصَص، والأَمثال، والتفصيل، والإِجمال، والتميُّز عن كلام المخلوقين، ولأن كلَّ آية جماعةٌ من الحروف، وكلامٌ متَّصل المعنى إِلى أَن ينقطع، وينفرد بإِفادة المعنى. والعرب تقول: خرج القوم بآياتهم أَى بجماعتهم. وقال شاعرهم:خرجنا من النقبين لا حَىَّ مثلُنا ... بآيتنا نُزْجى اللقاح المَطافلا
    وقال فى معنى العلامة:
    إِذا طلعت شمس النهار فسلِّمى ... فآية تسليمى عليكِ طلوعُها
    وأَصلها أَيَيَة على وزان فَعَلة عند سيبويه، وآيِيَة على مثال فاعلة عند الكسائى، وأَيِيَه على فِعلَة عند بعض، وأَيَّة عند الفرَّاء، وأَأْية بهمزتين عند بعض.
    وأَمَّا الحرف فقد جاءَ لمعان: منها طَرَف الشيىء، وحَدّ السَّيف، وذُروة الجبل، وواحد حروف الهجاء، والنَّاقةُ السَّمينة القويّة، والناقة الضعيفة، وقَسِيم الاسم والفعل. فقيل للحرف: حرف لوقوعه فى طَرَف الكلمة، أَو لضعفه فى نفسه، أَو لحصول قوَّة الكلمة به، أَو لانحرافه؛ فإِن كلَّ حرف من حروف المعجم مختصّ بنوع انحراف يتميَّز به عن سائر الحروف.
    وأَمَّا المصحف فمثَّلثه الميم. فبالضمّ: اسم مفعول من أَصحفه إِذا جمعه، وبالفتح: موضع الصُّحُف أَى مجمع الصَّحائف، وبالكسر: آلة تجمع الصحف.
    والصَّحائف جمع صحيفة، كسفينة وسفائن. والصُّحف (جمع صحيف) كسفين وسُفُن.
    وقيل للقرآن مصحف لأَنَّه جُمع من الصَّحائِف المتفرِّقة فى أيدى الصِّحابة، وقيل: لأَنَّه جَمَع وحوَى - بطريق الإِجمال - جميع ما كان فى كتب الأَنبياء، وصُحُفهم، (لا) بطريق التفصيل.
    هذا بيان الكلمات الَّتى لا بدَّ من معرفتها قبل الخوص فى التفسير. والله ولى التَّيسير.
    الفصل الرابع - فى ذكر أسماء القرآن
    اعلم أَنَّ كثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمَّى، أَو كمالِه فى أَمر من الأمور. أَما ترى أَن كثرة أَسماءِ (الأسد دلَّت على كمال قوُّته، وكثرةَ أَسماء القيامة دلَّت على كمال شدته وصعوبته، وكثرة أَسماء) الدَّاهية دلت على شِدة نِكايتها. وكذلك كثرة أَسماء الله تعالى دلَّت على كمال جلال عظمته؛ وكثرة أَسماء النبى صلى الله عليه وسلم دَلَّت على علّو رتبته، وسموِّ درجته. وكذلك كثرة أَسماء القرآن دلَّت على شرفه، وفضيلته.
    وقد ذكر الله تعالى للقرآن مائة اسم نسوقها على نَسَقٍ واحد. ويأْتى تفسيرها فى مواضعها من البصائر.
    الأول: العظيم {سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} .
    الثانى: العزيز {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} .
    الثالث: العليِّ {لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ} .
    الرابع: المجِيد {بَل هُوَ قُرءانٌ مَجِيد} .
    الخامس: المُهَيمِن {ومُهَيمِناً عَلَيه} .
    السادس: النور {واتَّبَعُوا النُّوْرَ الَّذِى أُنْزِلَ مَعَهُ} .
    السابع: الحقّ {وَقَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ} .
    الثامن: الحكيم {يس والقرآن الحكيم} .
    التاسع: الكريم {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَريمٌ} .
    العاشر: المُبين {حموالكتاب المبين} .
    الحادى عشر: المنير {وَالْكِتَابِ الْمُنِير} .
    الثانى عشر: الهُدَى {هُدًى لِلْمُتَّقِين} .
    الثالث عشر: المبشِّر {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
    الرابع عشر: الشفاءُ {وَشِفَآءٌ لِمَا فِي الصُّدُرِ} .
    الخامس عشر: الرّحمة {وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ } .
    السادس عشر: الكتاب {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} .
    السابع عشر: المبارك {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} .
    الثامن عشر: القرآن {الرحمان عَلَّمَ القرآن} .
    التاسع عشر: الفرقان {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان} .
    العشرون: البرهان {بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} .
    الحادى والعشرون: التبيان {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} .
    الثانى والعشرون: البيان {بَيَانٌ لِلْنَّاسِ} .
    الثالث والعشرون: التَّفصيل {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} .
    الرابع والعشرون: المفصَّل {الْكِتَابُ مُفَصَّلاً} .
    الخامس والعشرون: الفَصْل {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل} .
    السادس والعشرون: الصِّدق {والذي جَآءَ بالصدق} .
    السابع والعشرون: المصدِّق {مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} .
    الثامن والعشرون: ذكرى {وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} .
    التاسع والعشرون: الذكر {وهاذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} .
    الثلاثون: التذكرة {إِنَّ هاذه تَذْكِرَةٌ} .
    الحادى والثلاثون: الحُكْم {أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} .
    الثانى والثلاثون: الحِكْمَةُ {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} .
    الثالث والثلاثون: محكمة {سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} .
    الرابع والثلاثون: الإِنزال {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ} .
    الخامس والثلاثون: التنزيل {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ} .
    السادس والثلاثون: التَّصديق {ولاكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} .
    السابع والثلاثون: المنزَّل {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} .
    الثامن والثلاثون: التبصرة {تَبْصِرَةً وذكرى} .
    التاسع والثلاثون: البصائر {هاذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ} .
    الأربعون: الموعظة {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } .
    الحادى والأربعون: البيِّنة {بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} .
    الثانى والأربعون: البشير {بَشِيرًا وّنَذِيرًا} .
    الثالث والأربعون: الوَحْي {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} .
    الرابع والأربعون: الرِّسالة {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .
    الخامس والأربعون: النَّبَأ {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} .
    السادس والأربعون: القيِّم {قَيِّماً لِيُنْذِرَ} .
    السابع والأربعون: قَيِّمَةٌ {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} .
    الثامن والأربعون: الرُّوح {رُوْحاً مِنْ أَمْرِنَا} .
    التاسع والأربعون: الكلام {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} .
    الخمسون: الكلمات {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} .
    الحادى والخمسون: الكلمة {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} .
    الثانى والخمسون: الآيات {تِلْكَ آيَاتُ اللهِ} .
    الثالث والخمسون: البَيِّنَاتُ {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} .
    الرابع والخمسون: الفضل {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ} .
    الخامس والخمسون: القول {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} .
    السادس والخمسون: القيل {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} .
    السابع والخمسون: الحديث {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} .
    الثامن والخمسون: أَحسن الحديث {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} .
    التاسع والخمسون: العربيُّ {قُرْآناً عَرَبِيّاً} .
    الستون: الحَبْل {واعتصموا بِحَبْلِ الله} .
    الحادى والستون: الخير {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} .
    الثانى والستون: البلاغ {هاذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ} .
    الثالث والستون: البالغة {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} .
    الرابع والستون: الحقّ {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} .
    الخامس والستون: المتشابه والمثاني {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} .
    السادس والستون: الغيب {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} .
    السابع والستون: الصِّرَاط المستقيم {اهدنا الصراط المستقيم} .
    الثامن والستون: المبين {قُرْآنٌ مُبِينٌ} .
    التاسع والستون: الحُجَّة {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} .
    السبعون: العروة الوثقى {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} .
    الحادى والسبعون: القَصَص {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} .
    الثانى والسبعون: المثل {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً} .
    الثالث والسبعون: العَجَب {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} .
    الرابع والسبعون: الأَثارة {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} أَى ما يُؤثَر عن الأَوَّلين، أَى يُرْوى عنهم.
    الخامس والسبعون: القِسط {فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط} .
    السادس والسبعون: الإِمام {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} .
    السابع والسبعون: النجوم {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم} .
    الثامن والسبعون: النعمة {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .
    التاسع والسبعون: الكوثر {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر} .
    الثمانون: الماء {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً} .
    الحادى والثمانون: المتلُوّ {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} .


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (6)
    من صـــ 96 الى صـــ 99

    الثانى والثمانون: المَقروء {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} .
    الثالث والثمانون: العدل {كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} .
    الرابع والثمانون: البشرى {وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } .
    الخامس والثمانون: المسطور {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} .
    السادس والثمانون: الثقيل {قَوْلاً ثَقِيلاً} .
    السابع والثمانون: المرتَّل {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} .
    الثامن والثمانون: التفسير {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} .
    التاسع والثمانون: المثبِّت {مَا نُثَّبِتُ بِهِ فُؤَادَكَ} .
    ومنها الصُحُف، والمكرَّم: والمرفوع، والمطهّر {فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ} .
    ومن أَسماءِ القرآن الواردة فى الحديث النَّبوى القرآن، حَبْل الله المتين، وشفاؤه النَّافع، بحر لا ينقضى عجائبه، والمرشد: مَن عمِل به رَشَد، المعدِّل: من حكم به عَدَل. المعتَصم الهادى: من اعتصم به هُدِى إِلى صراط مستقيم. العِصْمة: عِصْمة لمَن تمَّسك به. قاصم الظَّهر: من بدّله من جَبَّار قصمه الله: مأَدُبة الله فى أَرضه. النجاة. "ونجاة لمن اتَّبعه"النبأُ والخَبَر: "فيه نبأُ ما قبلكم وخَبَر ما بعدكم" الدَّافع: يدفع عن تالى القرآن بَلْوَى الآخرة. صاحب المؤمن (يقول القرآن للمؤمن يوم القيامة: أَنا صاحبك) كلام الرحمن. الحَرَس من الشيطان. الرُّجحان في الميزان.
    فهذا الكتاب الذى أَبَى الله أَن يُؤتى بمثله ولو كان النَّاس بعضهم لبعض ظهيراً. وذلك لأَنَّه كتاب جاءَ من غيب الغيب، بعالَم من العِلْم، وصل إِلى القول، ومن (القول إِلى القلم، ومن القلم إِلى صفحة اللوح، إِلى حدِّ الوحى ومن) الوحى إِلى سفارة الرُّوح الأَمين، ومن سفارته إِلى حضرة النبُّوة العظمى. واتَّصل منها إِلى أَهل الولاية، حتى أَشعلوا سُرُج الهداية، وظفروا منها بكاف الكفاية، فلم يزل متعلِّقةً بحروفها وكلماته الرَّاحةُ، فالرَّحمة، والعزَّة، والنعمة، ففي حال الحياة للمؤمن رقيب، وبعد الوفاة له رفيق، وفى القبر له عَدِيل؛ وفى القيامة له دليل، وميزان طاعته به ثقيل. وفى عَرَصات الحشر له شفيع وكفيل، وعلى الصِّراط له سائق ورَسِيل وفى الجنَّة أَبد الآبدين له أَنيس وخليل. جعله الله لنا شفيعاً، ومَنْزِلنا بالعلم والعمل بما فيه رفيعاً.
    الفصل الخامس - فى ترتيب نزول سور القرآن
    للعلماءِ فى عدد سوره خلاف. والَّذي انعقد عليه إِجماع الأَئمة واتِّفق عليه المسلمون كافَّة، أَن عدد سوره مائة وأَربعة عشر سورة، الَّتى جمعها عثمان رضى الله عنه، وكتب بها المصاحف، وبعث كلَّ مصحف إِلى مدينة من مدن الإِسلام.
    ولا مُعَرَّجَ إِلى ما روى عن أُبَىّ أَنَّ عددها مائة وستَّة عشرة سورة، ولا على قول من قال: مائة وثلاثة عشرة سورة، بجعل الأَنفال وبراءَة سورة. وجَعَل بعضهم سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة. وبعضهم جعل المعوِّذتين سورة. وكلُّ أَقوال شاذَّة لا التفات إِليها.
    وأَمَّا ترتيب نزول السُوَر فاعتمدنا على ما نقله الماورديّ وأَبو القاسم النِّيسابوريّ في تفسيرهما، ولنبتدئ بالسُّور المكِّية.
    اتَّفقوا على أَنَّ أَوّل السُّور المكِّية {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} ، ثمَّ {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} ، ثمَّ سورة المزمِّل، ثمَّ سورة المدَّثِّر، ثمَّ سورة تبَّت، ثم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، ثم {سَبِّحِ اسْمِ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، ثمَّ {والليل إِذَا يغشى} ، ثم {وَالفَجْرِ} ، ثم {وَالضُّحَى} ، ثمَّ {أَلَمْ نَشْرَح} وَزعمت الشِّيعة أَنَّهما واحدَة، ثمَّ {وَالعَصْرِ} ، ثم {وَالعَاديات} ، ثم الكوثر، ثم أَلهاكم، ثم أَرأَيت، (ثم الكافرون) ثمَّ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ} ، ثم الفلق، ثم الناس، ثم قل هو الله أَحد، ثمَّ {وَالنَّجْم} ، ثم عَبَس، ثم القَدر، ثمَّ {والشمس وَضُحَاهَا} ، ثم البروج، ثم {وَالتِّينِ} ، ثم {لإِيلاَفِ} ، ثم القارعة، ثم {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة} ، ثم {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} ، ثم {وَالمُرْسِلات} ، ثم {ق والقرآن المجيد} ، ثم {لاَ أُقْسِمُ بهاذا البلد} ، ثم {والسمآء والطارق} ، ثم {اقْتَرَبَتِ السَّاعَة} ، ثم ص، ثم الأَعراف، ثم {قُلْ أُوْحِىَ} ، ثم يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم مريم، ثم طه، ثم الواقعة، ثم الشعراءُ، ثم النمل، ثم القَصَص، ثم بني إِسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحِجْر، ثم الأَنعام، ثم الصَّافَّات، ثم لقمان، ثم سبأ، (ثم الزمر) ، ثم المؤمن، ثم (حَم السجدة) ،ثم (حَم عسق) ، ثم الزخرف، ثم الدُّخَان، ثم الجاثية، ثم الأَحقاف، ثم الذاريات، ثم الغاشية، ثم الكهف، ثم النَّحل، ثم سورة نوح، ثم سورة إِبراهيم، ثم سورة الأَنبياءِ، ثم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} ، ثم (الم السَّجدة) ، ثم الطور، ثم (تبارك الملك) ، ثم الحاقَّة، ثم سأَل سائل، ثم {عَمَّ يَتَسَآءَلُون} ، ثم النازعات، ثم {إِذَا السمآء انفطرت} ، ثم {إِذَا السمآء انشقت} ، ثم الرُّوم، ثم العنكبوت، ثم المطفِّفين.
    فهذه خمس وثمانون سورة نزلت بمكة.
    (وأَوَّل ما نزل بالمدينة سورة البقرة، ثم سورة الأَنفال، ثم سورة آل عمران، ثم الأَحزاب، ثم الممتحِنة، ثم النساءُ، ثم زلزلت، ثم الحديد، ثم سورة محمد صلَّى الله عليه وسلم، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} ثم الطلاق، ثم لم يكن، ثم الحشر، ثم إِذا جاءَ نصر الله، ثم النور؛ ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم المتحرِّم، ثم الجمعة، ثم التغابن، (ثم الصف) ثم الفتح، (ثم التوبة) ، ثم المائدة.
    فهذه جملة ما نزل بمكة من القرآن، وما نزل بالمدينة. ولم نذكر الفاتحة لأَنَّه مختلَف فيها: أُنزلت بمكة، وقيل بالمدينة؛ وقيل بكلٍّ مرة.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (7)
    من صـــ 100 الى صـــ 107

    الفصل السادس - فيما لابد من معرفته فى نزول القرآن
    اعلم أَن نزول آيات القرآن، وأَسبابَه، وترتيب نزول السُّور المكِّية، والمدنِيَّة، من أَشرف علوم القرآن.
    وترتيب نزول الخواصَّ فى التفسير أَن يَفْرقُ بين الآية التي نزلت: بمكة وحكمُها مدنى، والتى نزلت بالمدينة وحكمها مكى، والتى نزلت بالمدينة فى حق (أَهل مكَّة، والتى نزلت بمكة فى حقّ) أَهل المدينة، والتى نزلت بالْجُحفة، والتى نزلت ببيت المقدس، (والتى نزلت بالطائف) والتى نزلت بالحُدَيْبية، والتى نزلت بالليل، والتى نزلت بالنهار، والآية المكية التى فى سورة (مدنية، والآية المدنية التى فى سورة) مكيةَ؛ والتى حُمِلت من مَكَّة إِلى المدينة، والتى حملت من المدينة إِلى (مكة، أَو حملت من المدينة إِلى) أَرض الحَبَشة، والتى اختُلِف فيها: فذهب بعضهم إِلى أَنَّها مكية، وبعضهم إِلى أَنَّها مدنِيَّة.
    أَمَّا التى نزلت بمكَّة وحكمها مدني ففي سورة الحجرات {ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} نزلت يوم فتح مكَّة، لكن حكمها مدنى؛ لأَنَّها فى سورة مَدَنيَّة وفى سورة المائدة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نزلت يوم عرفة. نزلت فى حال الوقفة والنبى صلَّى الله عليه وسلم على ناقته العَضْباءِ، فسقطت العضباءُ على ركبتيها، من هَيْبة الوحى بها، وسورة المائدة مدنية.
    وأَمَّا التى نزلت بالمدينة وحكمها مكيّ فـ {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} نزلت فى حق حَاطب، خطاباً لأَهل مكَّة. وسورة الرعد مدنية والخطاب مع أَهل مكَّة، وأَول سورة براءَة إِلى قوله {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} خطاب لمشركى مكَّة والسُّورة مدنية.
    وأَما التى نزلت بالجُحْفة فقوله تعالى {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} فى سورة طس القصص.
    وأما التى نزلت ببيت المقدس ففى سورة الزُخرف {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} نزلت ليلة المعراج، لمَّا اقَتدى به الأَنبياءُ في الصلاة في المسجد الأَقصى، وفرغ من الصَّلاة، نزل جبريل بهذه الآية.
    وأما التى نزلت بالطائف ففى سورة الفرقان {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} ، وفى سورة الانشقاق {بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} يعني كفار مكَّة.
    وأَما التى نزلت بالحدَيْبِية ففى سورة الرعد {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمان} لما أَمر النبى صلى الله عليه وسلم أَن يكتب فى أَوَّل كتاب الصُّلح: بسم الله الرحمن الرحيم قال سُهَيل بن عَمرْو: لا نعرف الرحمن إِلاَّ رحمن اليمامة، فنزل قوله تعالى {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمان} .
    وأَمَّا ابتداءُ سورة الحج فنزلت فى غزوة بنى المُصْطَلِق.
    وقوله تعالى {واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} نزلت فى بعض الغَزَوات لما قال صلى الله عليه وسلم: من يحرسني الليلة؟ فنزلت الآية.
    وفى سورة القصص {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} نزلت بالليل وهو فى لِحاف عائشة رضى الله عنها وعن أَبيها.
    وأَمَّا السّور والآيات التى نزلت والملائكة يشيِّعونها ففاتحة الكتاب. نزل بها جبريل وسَبْعمائة أَلف مَلَك يشيِّعها. بحيث امتلأَ منهم ما بين السماءِ والأَرض، طبَّقوا العالم بزَجَل تسبيحهم، وخرَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لهَيْبة ذلك الحال، وهو يقول في سجوده: سبحان الله والحمد لله.
    ونزلت سورة الأَنعام وسبعون ألفَ ملَك يشيِّعها. ونزلت سورة الكهف واثنا عشر ألفَ مَلَك يشيِّعها. ونزلت آية الكرسيّ وثلاثون أَلف مَلَك يشيِّعها. ونزلت يس واثنا عشر ألف مَلَك يشيِّعها.
    وأَما الآيات المَدَنية التى فى سورة مكيَّة فسورة الأَنعام: مكِّية، سوى ست آيات {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} الآيتين {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} نزلت فى عبد الله بن سعد، وفى مسيلمة الكذاب، و {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} إلى آخر الثلاث الآيات نزلت بالمدينة أيضا، وسورة الأَعراف مكِّية، سوى ثلاثِ آيات {وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} إلى آخر الثلاث الآيات. وسورة إِبراهيم مكِّيّة، سوى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله} إِلى آخر الآيتين. وسورة النَّحل مكِّيَّة إِلى قوله {والذين هَاجَرُواْ فِي الله} وباقة السُّورة مدنى، وسورة بنى إِسرائيل مكِّيَّة، سوى {وَإِنْ كَادُوْا لَيَفْتِنُوْنَك َ} . وسورة الكهفِ مكيَّة سوى قوله: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} ، وسورة القصص، مكيَّة سوى قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} نزلت فى أَربعين رجلاً من مؤمنى أَهل الكتاب، قدِموا من الحبشة وأَسلموا مع جعفر. وسورة الزُّمَر مكيّة، سوى قوله {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} والحواميم كلَّها مكية، سوى هذه الآية فى الأَحقاف {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ} نزلت فى عبد الله بن سَلاَم.
    وأَمَّا الآيات المكيّة فى السِّور المدنية ففي سورة الأَنفال {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} يعنى أَهل مكَّة. وسورة التوبة مدنيّة، سوى آيتين مِن آخرها {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلُ} إِلى آخر السُّورة. وسورة الرَّعد مدنيَّة؛ غير قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض} . وسورة الحجِّ مدنيَّة سوى أَربع آيات {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} إِلى آخر الأَربع الآيات. وسورة الماعون مكيَّة إِلى قوله {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّين} . ومنها إِلى آخر السُّورة مدنيَّة.
    وأَمّا الَّذى حُمِل من مكة إِلى المدينة فسورة يوسف أَوَّل سورة حُمِلت من مكّة، ثمّ سورة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} ، ثمّ مِن سورة الأَعراف هذه الآية {ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} إِلى قوله {يَعْدِلُوْن} .
    وَأَمَّا الَّذى حُمِل من المدينة إِلى مكَّة فمن سورة البقرة {يَسْئَلُوْنَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ} ، ثم آية الرِّبا فى شأْن ثَقِيف، ثم تسع آيات من سورة براءَة، أُرسِل بها إِلى مكَّة صحبة على رضى الله عنه، فى ردَّ عهد الكفار عليهم فى الموسم. ومن سورة النِّساءِ {إِلاَّ المُسْتَضْعَفِي نَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} إِلى قوله {غَفُوراً رَحِيماً} فى عُذْر تَخلُّف المستضعفين عن الهجرة.
    وأَمَّا الَّتى حُمِلت من المدينة إِلى الحبشة فهى ستُّ آيات من سورة آل عمران، أَرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى جعفر، ليقرأَها على أَهل الكتاب {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ} إِلى آخر الآيات الستّ. فكان سبب إِسلام النجاشى.
    وأَمَّا الآيات المجملة فهى مثل قوله فى سورة يونس: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} ، وفى سورة هود: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} وفى سورة الحجّ: {وافعلوا الخير لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، وقوله: {ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وقوله: {وَتُوْبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} .
    وأَمَّا الآيات المفسَّرة فمثل قوله: {واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية} و (قوله) {التائبون العابدون} و {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} و {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا} . ومن وجه آخر {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} تفسيره {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} وقوله {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} تفسيره {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} .
    وأَمَّا الآيات المرموزة فمثل طه. قيل: هو الرّجل بلغة عَكٍّ. وقيل: معناه: طُوبَى وهاوية ... . وقيل: معناه: طاهر، يا هادى. وقوله: يس قيل: معناه: يا إِنسان. وقيل: يا سيِّد البشر. وقيل: يا سَنِىَّ القَدْر. وعلى هذا القياس جميع حروف التهجىِّ المذكورة فى أَوائل السُّور.
    وقال عُرْوة بن الزُّبَير: كلّ سورة فيها ضَرْب المِثال، وذكر القرون الماضية فهى مكِّيّة، وكلّ سورة تتضمَّن الفرائض، والأَحكام، والحدود،فهى مدنيَّة، وكلّ عبارة فى القرآن بمعنى التوحيد، ويا أَيُّها النَّاس خطاب لأَهل مكَّة. ويا أَيُّها الَّذين آمنوا خطاب لأَهل المدينة. و (قُل) خطاب للنبىِّ صلَّى الله عليه وسلم.
    هذه جملة ما لا بدَّ من معرفته قبل الشروع فى التفسير. وحسبنا الله ونعم الوكيل.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (8)
    من صـــ 108 الى صـــ 116

    الفصل السابع - في أصناف الخطابات والجوابات التي يشتمل عليها القرآن
    فى أَصناف الخطابات والجوابات التى يشتمل عليها القرآن.

    ولهذا الفصل طرفان: الأَوَّل فى فنون المخاطبات. والثانى فى الابتداءَات والجوابات.
    أَمَّا المخاطَبات فإِنها تَرد فى القرآن على خمسة عشر وجهاً: عامّ، وخاصّ، وجنس، ونوع، وعَين، ومدح، وذمّ، وخطاب الجمع بلفظ الواحد، والواحدِ بلفظ الجمع، وخطاب الجمع بلفظ الاثنين، (وخطاب الاثنين) بلفظ الواحد، وخطاب كَرَامة، وخطاب هوان، وخطاب عَيْن والمراد به غيره، وخطاب تلوّن.
    أَمَّا خطاب العام {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} . وأَما الخِطاب الخاصّ كقوله: {هاذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} ، {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ} ، وخطاب الجنس: يا أَيها الناس، وخطاب النوع: يا بنى آدم. وخطاب العين: يا آدم، ويا نوح، ويا إبراهيم: (وخطاب المدح: يأَيها الذين آمنوا. وخطاب الذم: يأَيها الذين كفروا)وخطاب الكرامة: يأَيها الرسول، يأَيها النبىّ. وخطاب الهوانِ لإِبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} ولأَهل النار. {اخْسَئُوْا فِيْهَا} ، ولأَبى جهل {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيْزُ الكُرِيمُ} . وخطاب الجمع بلفظ الواحد {ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ} ، {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ} . وخطاب الواحد بلفظ الجمع {رَبِّ ارْجِعُون} أَى ارجعنى {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} وهو خطاب نبيّنا صلى الله عليه وسلَّم. وخطاب الواحد والجمع بلفظ التثنية {أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ} . وخطاب الاثنين بلفظ الواحد {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوْسَى} .
    وأَمّا الخطاب العينى الذى يراد به الغير: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} ، {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} .
    وأَمّا التلوّن فعلى وجوه:
    أَمّا الأَول فقوله: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} ، ثم قال {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة} ، وكقوله: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً} ، ثم قال {فأولائك هُمُ المضعفون} ، وكقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر} ثم قال {أولائك هُمُ الراشدون} .
    الثانى أَن ينتقل من الخَبَر إِلى الخطاب، كقوله: {الْحَمْدُ للهِ} ثم قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، وقوله {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} ثم قال {وَإِنَّ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} ثم قال: {إِنَّ هاذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} ، وقوله: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ} ثم قال: {هاذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} .
    الثالث أَن يكون الخطاب لمعين، ثم يُعدَل إِلى غيره، كقوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} ثم قال: {لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} .
    الطرف الثانى من هذا الفصل فى الابتداءَات والجوابات. ويسمى تراجُعَ الخطاب.
    والجواب يكون انتهاء، والسؤال يكون ابتداءً. والسؤال يكون ذَكَراً، والجواب يكون أُنثى، فإِذا اجتمع الذَّكَر والأُنثى يكون منه نتائج وتولُّدات.
    وترد أَنواع الجوابات في نصّ القرآن على أَربعة عشر وجهاً: جواب موصول بابتداءٍ، جواب مفصول عنه، (جواب) مضمر فيه، (جواب) مجرد عن ذكر ابتداءٍ، جوابان لابتداءٍ واحد، جواب واحد لابتداءَين،جواب محذوف، جواب إِلى فصل غير متصل به، جواب في ضمن كلام، (جواب في نهاية كلام) ، جواب مُدَاخَل في كلام؛ جواب موقوف على وقت، جواب بفاء، جواب الأَمر والنهي وغيرهما، جواب شرط، جواب قَسَم.
    أَما الجواب الموصول بابتداءٍ فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونك عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، {وَيَسْأَلُونك عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ، {وَيَسْأَلُونك مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} ، {يَسْأَلُونك عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} ، {وَيَسْأَلُونك عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى} .
    وأَما الجواب المفصول عن الابتداءٍ فنوعان:
    أَحدهما أَن يكون الابتداءُ والجواب فى سورة واحدة، كقوله في الفرقان {وَقَالُواْ مَالِ هاذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} جوابه فيها: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام} ، وكقوله فى البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} جوابه فيها {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
    والثانى أَن يكون الابتداء فى سورة، والجواب فى سورة أُخرى، كقوله فى الفرقان: {قَالُواْ وَمَا الرحمان} جوابه {الرحمان عَلَّمَ القُرْءَان}، وفى الأَنفال، {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هاذا} جوابه فى بنى إِسرائيل {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ} الآية، وفى سورة القَمَرَ {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِر} جوابه فى الصَّافات {مَالَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونْ} .
    وأَما الجواب المضمر ففى سورة الرَّعد {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} جوابه مضمر فيه أَى (لكان هذا القرآن) .
    وأَما الجواب المجرَّد عن ذكر الابتداءِ فكما فى سورة المائدة: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ} فإِنه فى جواب الصحابة: فكيف من شرب الخمر قبل تحريمها ومات. وفى سورة البقرة {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} فى جواب أُناس قالوا كيف: بمن صلَّى إِلى بيت المَقْدِس قبل تحويل القبلة.
    وأَمَّا جوابان لسؤال واحد كقوله فى الزخرف {لَوْلاَ نُزِّلَ هاذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} فله جوابان: أَحدهما {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا} والثانى فى سورة القصص: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ، ونحو قوله {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} أَحد جوابيْه {يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} وثانيهما {ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} وفى سورة الفتح {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} ، وكقوله: {وَقَالُوْا مُعَلَّمٌ مَجنُونٌ} جوابه فى السورة {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجنُونٌ} وجواب ثان فى سورة ن {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجنُونٍ} وجواب ثالث فى سورة الأَعراف: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ} .
    وأَما جواب واحد لابتداءَين فكقوله فى سورة النور {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وابتداءُ هذين الجوابين حديث الإِفك. ونظير هذا فى سورة الفتح "لولا رجال مؤمنون" إلى قوله "لو تَزيَّلُوا" وابتداؤُه صَدُّ الكفار المسلمين عن المسجد الحرام.
    وأَما الجواب المحذوف فكقوله في سورة البقرة {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} جوابه {كَفَرُوْا بِهِ} وهو محذوف ومثل قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} جوابه محذوف أَى حال هذا الرَّجل كحال مَن يريد زينة الحياة الدُّنيا.
    وأَمَّا الجواب الَّذى يكون راجعاً إِلى فصل غير متَّصل بالجواب فكقوله فى سورة العنكبوت {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} جوابه {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ} وهذا فى يس: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} جوابه {وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وعلى هذا القياس مناظرة موسى وفرعون فى سورة الشعراءِ فى قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} .
    وأَمّا الجواب الَّذى يكون فى ضمن كلام فكما فى سورة لمَّا زعم الكفار أَنّ محّمداً غير رسول بالحق نزلت الآية مؤكَّدة بالقسم لتأْكيد رسالته {ص والقرآن ذِي الذكر} إِلى قوله {وعَجِبُوْا} وكذا قال {ق والقرآن المجيد} الى قوله {إِنَّ هاذا شَيْءٌ عَجِيبٌ} وهكذا فى سورة المُلْك {أَمَّنْ هاذا الذي يَرْزُقُكُمْ} جوابه في ضمن هذه الآية {قُلْ هُوَ الرحمان آمَنَّا بِهِ} وأَما الجواب الذى يكون فى نهاية الكلام فكقوله {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَآءَهُمْ} جوابه فى منتهى الفصل {أولائك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} وفي سورة الحج {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} جوابه {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} وفى سورة الكهف {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} جوابه {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} وفى سورة الأَنعام {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}إِلى قوله {مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى} جوابه {قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ} .
    وأَمَّا الجواب المُداخَل ففي سورة يوسف {مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} وفى قصة إِبراهيم {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} .
    وأَما الجواب على وقف الوقت فكقوله {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فقالت الصحابة: متى وقت إِجابة الدعاءِ؟ فنزلت {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وأَيضاً لمَّا نزلت {استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} قالوا: متى وقت الاستغفار؟ فنزلت: {والمستغفرين بالأسحار} .
    وأَما جواب الشرط والجزاءُ بغير فاءٍ فمجزوم كقوله {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ، من يَغْزُ يغنم، من يكظم غيظاً يأْجره الله.
    وأَما جواب الشرط بالفاءِ فمرفوع {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} {فَمَنْ يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً} .
    وأَما جواب الأَمر والنهى والدعاءِ والتمنِّى والاستفهام والعرْض بغير فاءٍ فمجزوم، وبالفاءِ منصوب. والأَمر كقوله {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} لا تضربي أَشتِمْك، اللَّهمَّ أَعطني أَشكرْك وكذا في غيره.
    وأَمَّا بفاءٍ فكقولك زرني فأَكرمَك، {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} ، {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} وكذا فى غيرها لا جواب النفى، فإِنه إذا كان بلا فاءٍ فمرفوع كقوله {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} .
    وأَمَّا جواب القسم فأَقسام القرآن ثلاثة (أَنواع: إِما قَسم بأَسماءِ) الله تعالى، كقوله: {فَوَرَبِّكَ} وإِمَّا بمفعولاته كقوله: {وَالْفَجْرِ} ، {وَالشَّمْسِ} ، {وَالعَصْرِ} . وإِما بأَفعاله كقوله: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا} .
    ولا بد للقسم من جواب إِما بإِثبات أَو بنفى. وتأْكيد الإِثبات يكون بإِنّ وباللاَّم أَو بهما. أَمَّا بإِنَّ فكقوله {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} وقوله: {وَالفَجْرِ} إِلى قوله {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد } . وأَمَّا بهما فكقوله {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} .
    هذه فنون الجوابات، وأَنواع الخطابات التى نطق بها القرآن.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد


    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (9)
    من صـــ 117 الى صـــ 123


    الفصل الثامن - فيما هو شرط من معرفة الناسخ والمنسوخ
    اعلم أَن معرفة النَّاسخ والمنسوخ باب عظيم من علوم القرآن. ومن أَراد أَن يخوض فى بحر التفسير ففَرْضٌ عليه الشروعُ فى طلب معرفته، والاطِّلاع على أَسراره، ليسلَم من الأَغلاط، والخطإِ الفاحش، والتأْويلات المكروهة.
    والكلام فى ذلك على سبيل الإِجمال من عشرة أَوجه: الأَوَّل فى أَصل النسخ ومذاهبِ النَّاس فيه. الثانى فى حَدّ النسخ ومعناه. الثالث في حقيقته من حيث اللُّغة. الرّابع فى حكمته الحقّ، والسرّ فى نسخ أَمرٍ بأَمرٍ.
    الخامس فى بيان ما يجوز نسخه. السَّادس في سبب نزول آية النسخ. السَّابع فى وجوب معرفة النَّاسخ والمنسوخ. الثامن فى أَنواع ما فى القرآن من المنسوخ التَّاسع فى ترتيب نَسْخ أَحكام القرآن أَوَّلا فأَوَّلاً. العاشر فى تفصيل سُوَرِ القرآن الخالية عن الناسخ والمنسوخ.
    أَمَّا أَصل النسخ فالنَّاسَ على مذهبين: مثبتون ومنكِرون. والمنكرون صنفان:
    صنف خارج على مِلَّة الإِسلام. وهم اليهود فإِنهم أَجمعوا على أَنَّه لا نسخ فى شريعة موسى، وحكمُ التوراة باقٍ إِلى انقراض العالَم. وقالوا: إِنَّ النسخ دليل على البداءِ والنَّدامة، ولا يليق بالحكيم ذلك.
    هذا مقالهم، وتحريف التوراة فعالهم. يحرِّفون الكلِم عن مواضعه، ويلبِسون الحقَّ بالباطل، ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً: ولهذا قال تعالى فى حقّهم: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} .
    وصنف ثانٍ من أَهل الإِسلام. وهم الرافضة فإِنهم وافقوا اليهود فى هذه العقيدة، وقالوا: ليس فى القرآن ناسخ ولا منسوخ، وقبيح بالحكيم أَن يبطل كلامه.
    فهم بكلامه يُوَادُّون من حادَّ الله {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود} .
    وأَمَّا أَهل السنَّة وجماهير طوائف المسلمين فقد أَثبتوا النسخ، وأَنّ القرآن مشتمِل على الناسخ والمنسوخ، وأَنَّ الحكمة الرَّبانية تقتضى ذلك، لأَنَّ الله تعالى ربُّ الأَرباب، ومالك الملوك، ومتصرِّف فى الأَعيان، متحكِّم فى الأَشخاص، ونعتُه وصفته: أَحكم الحاكمين، وطبائع الخَلْق مختلِفة؛ والأَزمنة، والأَوقات متفاوِتة، وبناءُ عالَم الكَوْن والفساد على التغيير والتحّول. وأَىُّ حكمة أَبلغُ وأَتمُّ من حكمة عدل على وفق طبائع الناس بناءً على رعاية مصالحهم بحسب الوقت، والزَّمان، كسائر التَّصرُّفات الإلهية فى العالَم:
    من تكوير الليلِ والنَّهار، وتغيير الفصول والأَيَّام، بالبَرْد والحَرِّ، والاعتدال، وتبديل أَحوال العباد بالإِغناء، والإِفقار، والإِصحاح، والإِعلال، وغير ذلك:
    من أَنواع التصرُّفات المختلفة الَّتى فى كلِّ فرد من أَفرادها حكمة بالغة، وإِذا كان تصرُّفه تعالى فى مِلكه ومُلكه يقتضى الحكمة، ولا اعتراض لمخلوق، فكذلك الأمر فى الشرائع والفرائض:
    تارة يأْمُر، وتارة ينهى، ويكلِّف قوماً بشرع ثقيل، كبنى إِسرائيل، وآخرين بشرع خفيف كالأُمَّة المحمَّدية.
    وهو فى كلِّ هذه التصرُّفات مقدَّس الجناب منزَّه الحَضْرة عن لائمة المعترِضين، وسؤال المتعرِّضين. ولما كان محمَّد خاتم الرُّسل، والقرآن خاتم الكتب، وشَرْع القرآن خاتم الشرائع، نُسخ فى عهده بعضُ القرآن ببعض، لِما عند الله من الحكمة البالغة فى ذلك، ولِما يتضمَّن من رعاية ما هو أَصلح للعباد، وأَنفع للمَعَاد. وأَيضاًَ كان النبىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُنسخ بعضُ شرعه ببعض بواسطة الوحى السَّماوى، والسُّنَّة تَقْضِى على القرآن والقرآن لا يَقضى على السُنّة.
    وأَمَّا بعد ما استأْثر اللهُ به (صَلَّى الله عليه وسلَّم) فقد صار القرآن والسنة محروسين من النَّسْخ، والتغيير، بدليل قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
    وأَمَّا حَد النسخ (من حيث المعنَى) فهو رفْع حكم ثابت من قولهم: نسخَت الرِّياحُ الأَثَر إِذا دَرَسَتْه. وقيل "النسخ" قَصْر حُكم على لفظ يختصُّ بأَهل زمان خاصّ؛ كما أَنَّ التخصيص قصر حكم لفظ على بعض الأَشخاص. وقيل "النَّسخ" التَّحويل، والأَجود أَن يقال "النسخ" بيان نهاية تعبُّد بأَمر، أَو نهى مجدَّد، فى حكم خاصّ، بنقله إِلى حكم آخر.
    وللنَّاسخ والمنسوخ خمسة شروط: أَحدها أَن يكون كلٌّ منهما شرعيّاً. الثَّانى أَن يكون النَّاسخ متأَخِّراً عن المنسوخ. الثالث أَن يكون الأَمر بالمنسوخ مطلقاً غير مقيَّدٍ بغاية. والرَّابع أَن يكون النَّاسخ كالمنسوخ فى إِيجاب العلم والعمل. الخامس أَن يكون النَّاسخ والمنسوخ منصوصين بدليل خطاب (أَو بمفهوم خطاب) .
    وأَمَّا حقيقة النسخ لغة فقد جاءَ بمعنيين:
    أَحدهما النقل، كما يقال للكتابة نَسْخ. قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وعلى هذا يكون جميع القرآن منسوخاً، بمعنى أَنه مكتوب نُقِل من اللَّوح المحفوظ إِلى صُحف مرفوعة مطهَّرة، بأَيدى سفرة كرام بررة، ولمَّا نزل من السَّماءِ بواسطة الوحى كتبه الصَّحابة، ونسخوه فى صُحُفهم، ثمَّ لما يزل يُنْسَخ، وينقل إِلى يوم القيامة.
    والقول الثانى أَن يكون لغة بمعنى الرفع والإِزالة. يقال: نسخت الشَّمسُ الظلّ إِذا أَبطلته، ونسخت الريحُ الأَثر إِذا أَذهبته. وعلى هذا قيل لرفع حكم بحكم آخر: نَسْخ، لأَنه إِبطال حكم، وإِثبات حكم مكانه، كالشَّمس مكان الظِّل.
    وأَمَّا الحكمة فى النسخ فذكروا فيها وجوهاً.
    أَوَّلها وأَجلُّها إِظهار الرُّبوبيَّة، فإِنَّ بالنَّسخ يتحقَّق أَن التَّصرُّف فى الأَعيان إِنَّما هو له تعالى: يفعل ما يشاءُ، ويحكم ما يريد.
    الثَّانى بيان لكمال العبوديَّة، كأنَّه منتظِر لإِشارة السيِّد، كيفما وردت وبأَىِّ وجه صدرت. وإِنَّما يظهر طاعةُ العبيد بكمال الخضوع، والانقياد.
    والثالث امتحان الْحرِّيَّة، ليمتاز مَن المتمرِّد من المنقاد، وأَهلُ الطَّاعة من أَهل العناد فالدارُ دار الامتحان، والذهب يُجَرَّب بالذَوَبان، والعبد الصَّالح بالابتلاءِ والهوان.
    الرَّابع إِظهار آثار كُلْفة الطَّاعة، على قدر الطَّاقة، {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} .
    الخامس التيسير، ورفع المشقَّة عن العباد، برعاية المصالح {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} .
    السادس نقل الضعفاءِ من درجة العسر إِلى درجة اليسر {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} .

    وأَمَّا أَنَّ النسخ فيماذا يجوز فالصَّحيح أَنَّ النسخ يتعلَّق بالأَمر والنَّهى فقط. وأَمَّا الأَخبار فمصونة عن النسخ، لأَنَّ المخبِر الصادق يصير بنسخ خبره كاذباً. وقيل: النَّسخ فى الأَمر، والنَّهى، وفى كل خبر يكون بمعنى الأَمر والنَّهى. فالنَّهى مثل قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} . والأَمر مثل قوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} أَى ازرعوا. وشذَّ قوم أَجازوا النسخ فى الأَخبار مطلقا.
    وأَمَّا سبب نزول آية النَّسخ فهو أَنَّ كفَّار مكَّة ويهودَ المدينة لَمَّا صرَّحوا بتكذيب النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم، وقالوا: إِنَّ هذا الكلام مختلَق، لأَنَّه يأْمر بأمر، ثم ينهى عنه، ويقرِّر شرعاً، ثمَّ يرجع عنه، فما هو إِلاَّ من تِلقاءِ نفسه، فنزلت {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ووردت الإِشارة إِلى النسخ فى الآية الأُخرى {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أَى قادر على إِنفاذ قضائه وقَدَره، فيقدِّم من أَحكامه ما أَراد، ويؤخِّر منها ما أَراد، ويثقِّل الحكم على من شاءَ، ويخفَّفه عمَّن شاءَ، وإِليه التَّيسير والتعسير، وبيده التقدير والتقرير، ولا يُنسب فى شىء إِلى العجز والتقصير، ولا مجال لأَحد فى اعتراض وتغيير، إِنَّه حكيم خبير، وبيده التصريف والتدبير، أَلا له الخَلْق والأَمر تبارك الله ربُّ العالمين.
    وأَمَّا وجوب معرفة النَّاسخ والمنسوخ فقال ابن عبَّاس: مَن لم يعرف النَّاسخ من المنسوخ خلط الحلال بالحرام. وعن النبىِّ صلى الله عليه وسلَّم أَنَّ محرِّم الحلال الخ وقال أَيضاً "ما آمن بالقرآن من استحلَّ محارمه" ولمَّا رأَى علىٌّ رضى الله عنه عبد الله بن دَأْب فى مسجد الكوفة وهو يجيب عن المسائل، فقال له: هل تعرف النَّاسخ من المنسوخ قال: لا؛ قال: فما كنيتك؟ قال أَبو يحيى. قال: أَنت أَبو اعرفونى بالجهل. ثمَّ أَخذَ بأُذُنه، وأَقامه عن مجلسه. فقال: لا يحلُّ لك روايةُ الحديث فى هذا المسجد، ولا الجلوس فى مثل هذا المجلس حتَّى تَعْلم النَّاسخ من المنسوخ.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (10)
    من صـــ 123 الى صـــ 127


    وأَمِّا أَنواع منسوخات القرآن فثلاثة:
    أَحدها ما نُسخ كتابتُه وقراءَته. قال أَنس كانت سورةٌ طويلة تقارب سورة براءَة، كنَّا نقرؤها على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فنُسخت بكلِّيتها، لم يبق بين المسلمين منها شئ، سوى هذه الآية:
    لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إِليهما ثالثا، ولو كان ثالثاً لابتغى رابعاً. ولا يملأُ جوفَ ابن آدم إِلاَّ التراب، ويتوب الله على مَن تاب.
    وقال ابن مسعود: لقَّننى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم آية حفِظتها وأَثبتُّها فى المصحف، فأَردتُ فى بعض اللَّيالى أَن أَقرأَها، فلم أَذكُرها، فرجعت إِلى المصحف فوجدت مكانها أَبيض، فأَتيت النبىَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأَخبرته بذلك، فقال:
    يا عبد الله، قد نُسخت تلك الآية.
    فحزِن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حيث لم يذكرها، فنزل جبريل بقوله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} وقيَّدهُ بالمشيئة لئلا يأْمن بالكلِّية فنزلت {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} .
    الثَّانى ما نُسِخ خَطُّه، وكتابته، وحكمه باقٍ؛ مثل (الشيخُ والشيخة إذا زَنَيا فارجموهما البتَّةَ نكالاً من الله والله عزيز حكيم) .
    الثالث ما نُسخ حكمه وخَطّه ثابت. وذلك فى ثلاثة وستين سورة.
    وسيأْتى ترتيبه إِن شاءَ الله.
    وأَمَّا ترتيب المنسوخات فأَوّلها الصّلوات الَّتى صارت من خمسين إِلى خمس، ثمّ تحويل القبلة من بيت المقدس إِلى الكعبة {فَلَنُوَلينك قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ثم صوم يوم عاشوراء، ثم صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر، نُسِخا بفرض صيام رمضان، ثم حكم الزكاة إِلى ربع العشر بعد أَن كان الفاضل عن قُوت العيال، صدقةً، وزكاة، ثمّ الإِعراض عن المشركين والصّفح عنهم نُسخ بآية السّيف: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} .
    ثم الأَمر الخاصّ بقتال أَهل الكتاب {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الى قوله {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} ، ثمّ نُسخ ميراث الوَلاَء بتوريث ذوى الأَرحام، ونسخ ميراث ذوى الأَرحام بالوصيّة، ثمّ نُسخ الوصيّة بآية المواريث وهى قوله {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} ثمّ نفى المشركين من الحَرَم والمسجد الحرام {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هاذا} ثمّ نسخ عهد كان بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين رَدّه عليهم على لسان علىّ يومَ عرفة فى أَوّل سورة براءَة {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} إِلى قوله {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} .
    فهذا ترتيب المنسوخات الأَوّل فالأَوّل.
    وأَمَّا تفصيل السّور (التى فيها الناسخ والمنسوخ والتى ما فيها [نسخ] . فالسُوَر الخالية عن الناسخ والمنسوخ) ثلاثة وأَربعون سورة: فاتحة الكتاب، سورة يوسف، يس، الحجرات، الرَّحمن، الحديد، الصَّف، الجمعة، المتحرّم، المُلْك، الحاقَّة، سورة نوح، المرسَلات، سورة الجِنّ، النبأ، والنَّازعات، الانفطار، التطفيف، الانشقاق، البروج، والفجر، البلد، والشمس، والَّيل، والضحى، أَلم نشرح، القلم، القَدْر، لم يكن، زلزلت، والعاديات، القارعة، التكاثر، الهُمَزة، الفيل، لإِيلاف، أَرأَيت، الكوثر، النصر، تبَّت، الإِخلاص، الفلق، النَّاس.
    والسُّور الَّتى فيها الناسخ وليس فيها المنسوخ ستٌّ: سورة الفتح، الحشر، المنافقون، التَّغابن، الطَّلاق، الأَعلى.
    والَّتى فيها المنسوخ وليس فيها ناسخ أَربعون سورة: الأَنعام، الأَعراف، يونس، هود، الرَّعد، الحِجْر، النَحْل، إِسرائيل، الكهف، طه، المؤمنون، النَّمل، القَصصَ، العنكبوت، الرُّوم، لقمان، المضاجع، الملائكة، الصَّافَّات، ص، الزُّمر، المصابيح، الزُّخرف، الدُّخان، الجاثية، الأَحقاف، سورة محمد صلى الله عليه وسلم، (5) ق، والنَّجم، القمر، الممتحِنة، (5) ن، المعارج، القيامة، الإِنسان، عبس، الطَّارق، الغاشية، والتِّين، الكافرون.
    والسُّوَر الَّتى اجتمع فيها النَّاسخ والمنسوخ خمس وعشرون سورة:
    البقرة، آل عمران، النِّساء، المائدة، (5) الأنفال، التَّوبة، إِبراهيم، مريم، الأَنبياء، الحجّ، النور، الفرقان، الشعراء، الأَحزاب، سبأ،المؤمن، الشُورى، والذَّاريات، والطُّور، الواقعة، المجادلة، المزَّمل، المدثر، التكوير، والعصر.
    وجملة الآيات مئتا آية وأَربع آيات على التفصيل الَّذى ذكرناه.
    هذه الجملة الَّتى لا بدَّ من معرفتها من أَمر الناسخ والمنسوخ.

    "*"
    الطرف الثانى من هذا الباب فى المقاصد المشتملة على جميع سور القرآن من أَوَّله إِلى آخره.
    كلَّ سورة تشتمل على ثمانية متعلِّقة بالسُّورة. الأَول موضع نزولها. الثانى عدد آياتها، وكلماتها، وحروفها، والآيات المختلف، فيها. الثالث بيان مجموع فواصلها. الرَّابع ذكر اسمها، أَو أَسمائه ا. الخامس بيان المقصود من السُّورة، وما تتضمّنه مجملاً. السَّادس بيان ناسخها ومنسوخها. السَّابع فى متشابهها. الثامن فى فضلها وشرفها.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (11)
    من صـــ 128 الى صـــ 132

    الباب الأول - الطرف الثاني - المواقف
    بصيرة في الحمد

    اختلف العلماءُ فى موضع نزولها. فقيل: نزلت بمكَّة وهو الصحيح، لأَنَّه لا يعرف فى الإِسلام صلاة بغير فاتحة الكتاب. وقيل: نزلت بالمدينة مرّة، وبمكة مرّة. ولهذا قيل لها:
    السّبع المثانى؛ لأَنها ثُنِيت فى النّزول.
    وأَمّا عدد الآيات فسبع بالإِجماع؛ غير أَنَّ منهم من عدّ {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} دون البسملة؛ ومنهم مَنْ عكس. وشذَّ قوم وقالوا: ثمان آيات. وشذَّ آخرون فجعلوها ستّ آيات.
    عدد كلماتها خمس وعشرون.
    عدد حروفها مائة وثلاثون وعشرون. وفواصل الآيات (م ن) .
    أسماؤها قريبة من ثلاثين: الفاتحة، فاتحة الكتاب، الحمد، سورة الحمد، الشافية، الشفاء، سورة الشفاء، الأَساس، أَساس القرآن، أُمّ القرآن، أُمّ الكتاب، الوافية، الكافية، الصّلاة، سورة الصّلاة، قال الله تعالى "قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين" الحديث،يعنى فاتحة الكتاب، السّبع المثانى؛ لأنها تُثْنَى فى كل صلاة، أَو لاشتمالها على الثَّناء على الله تعالى، أَو لتثنية نزولها، سورة الفاتحة، سورة الثناء، سورة أُمّ القرآن، سورة أُم الكتاب، سورة الأًساس، الرُّقْية، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وما أَدراك أَنّها رُقْية".
    المقصود من نزول هذه السّورة تعليم العباد التيمُّن والتبّرك باسم الله الرحمن الرحيم فى ابتداء الأُمور، والتّلقين بشكر نعم المنعم؛ والتوكُّل عليه فى باب الرّزق المقسوم، وتقوية رجاء العبد برحمة الله تعالى، والتّنبيه على ترقُّب العبد الحسابَ والجزاءَ يوم القيامة، وإِخلاص العبوديّة عن الشرك، وطلب التوفيق والعصمة من الله، والاستعانة والاستمداد فى أَداء العبادات، وطلب الثبات والاستقامة على طريق خواصّ عباد الله، والرَّغبة فى سلوك مسالكهم، وطلب الأَمان من الغَضب، والضلال فى جميع الأَحوال، والأَفعال، وختم الجميع بكلمة آمين، فإِنها استجابة للدعاء، واستنزال للرَّحمة، وهى خاتَم الرَّحمة الَّتى خَتَم بها فاتحة كتابه.
    وأَمَّا النَّاسخ والمنسوخ فليس فيها شئ منهما.
    وأَمَّا المتشابهات فقوله (الرحمن الرَّحيم ملك) فيمن جعل البسملة منها، وفى تكراره أَقوال.
    قيل: كرّر للتَّأْكيد. وقيل: كُرِّر لأَن المعنى: وجب الحمد لله لأَنه الرَّحمن الرَّحيم. وقيل: إِنما كُرِّر لأَن الرحمة هى الإِنعام على المحتاج وذكر فى الآية الأَولى المنعِم ولم يذكر المنعَم عليهم، فأَعادها مع ذكرهم، وقال:
    ربِّ العالمين، الرحمن بهم أَجمعين الرحيم بالمؤمنين خاصَّة يوم الدين، ينعم عليهم ويغفر لهم، وقيل:
    لمَّا أَراد ذكر يوم الدين لأَنه مِلكه ومالكه، وفيه يقع الجزاءُ، والعقاب، والثواب وفى ذكره يحصل للمؤمن مالا مزيد عليه: من الرعب والخشية، والخوف، والهيبة. قدَّم عليه ذكر الرَّحمن الرحيم تطميناً له، وتأميناً، وتطييباً لقلبه، وتسكيناً، وإِشعاراً بأَن الرَّحمة سابقة غالبة، فلا ييأَس ولا يأْسى فإِن ذلك اليوم - وإِن كان عظيماً عسيراً - فإِنما عُسْره وشِدّته على الكافرين؛ وأَمَّا المؤمن فبَيْن صفتى الرَّحمن الرَّحيم من الآمنين.
    ومنها قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كرّر (إِياك) ولم يقتصر على ذكره مرّة كما اقتصر على ذكر أَحد المفعولين فى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} وفى آيات كثيرة؛ لأَن فى التقديم فائدة وهى قطع الاشتراك، ولو حُذف لم يدلّ على التقدّم؛ لأَنك لو قلت:
    إِيّاك نعبد ونستعين لم يظهر أَن التّقدير: إِياك نعبد وإِيّاك نستعين. وكرّر {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لأَنّه يقرب ممَّا ذكرنا فى {الرحمان الرحيم} . وذلك بأَن الصّراط هو المكان المهيَّأ للسّلوك، فذَكر فى الأَوّل المكان ولم يَذكر السّالكين، فأَعاده مع ذكرهم، فقال:
    {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وهم النبيّون والمؤمنون. ولهذا كرّر أَيضاً فى قوله {إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ الله} لأَنّه ذكر المكان المهيّأ وقوله {عَلَيْهِم} ليس بتكرار لأَنّ كلّ واحد منهما متَّصل بفعل غير الآخر، وهو الإِنعام والغضب، وكلّ واحد منهما يقتضيه، وما كان هذا سبيليه فليس بتكرار، ولا من المتشابِه. والله أعلم.
    وأَمَّا فضلها وشرفها فعن حُذَيفة يرفعه إلى النبىّ صلَّى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ القوم ليبعث الله عزَّ وجلَّ عليهم العذاب حتماً مقضيَّا فيقرأ صبىّ من صبيانهم فى الكُتَّاب:
    الحمد لله ربِّ العالمين، فيسْمَعه الله عزَّ وجلَّ، فيرفع عنهم بذلك العذابَ أَربعين سنة" وروى عن الحسن أَنه قال: أَنزل الله مائة وأَربعة كتب من السَّماء، أَودع علومها أَربعة منها: التَّوراةَ والإِنجيلَ والزَّبورَ والفرقانَ، ثمَّ أَودع علوم القرآن المفصَّل، ثم أَودع علوم المفصَّل فاتحة الكتاب. فمَنْ علِم تفسيرها كان كمن علم تفسير كُتُب الله المنزَّلة.
    ومَنْ قرأَها فكأنَّما قرأَ التَّوراة، والإِنجيل، والزَّبور، والفُرقان، وقال جبرئيل عند نزوله بهذه السّورة: يا محمَّد، ما زلت خائفاً على أُمَّتك حتَّى نزلتُ بفاتحة الكتاب؛ فأَمِنت بها عليهم. وقال مجاهد سمعت ابن عبّاس يقول:
    أَنَّ إِبليسُ أَربع أَنَّات: حين لُعن، وحين أُهبِط من الجنَّة، وحين بُعِث محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، وحين أُنزلتْ فاتحة الكتاب. وعن أَبى هريرة، عن النبى صلَّى الله عليه وسلم، عن الرَّبِّ تبارك وتعالى، أَنه قال:
    "إِذا قال العبد بسم الله الرحمن الرَّحيم يقول الله تعالى: سمَّانى عبدى. وإِذا قال: الحمد لله ربِّ العالمين يقول الله: حمِدنى عبدى. وإِذا قال: الرَّحمن الرَّحيم يقول الله: أَثْنَى علىَّ عبدى. وإِذا قال: مالك يوم الدِّين يقول الله مجَّدنى عبدى. وإِذا قال:
    إِيَّاك نعبد وإِيَّاك نستعين يقول الله: هذا بينى وبين عبدى نصفين. وإِذا قال: اهدنا الصِّراط المستقيم إِلى آخر السُّورة يقول الله: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل. وَروَى علىّ رضى الله عنه عن النبىِّ صلى الله عليه وسلَّم انَّه قال: يا علىّ مَنْ قرأَ فاتحة الكتاب فكأَنَّما قرأَ التوراة، والإِنجيل، والزَّبور، والفرقان، وكأَنَّما تصدَّق بكل آية قرأَها مِلْءَ الأَرض ذهباً فى سبيل الله، وحرم الله جسده على النار، ولا يدخل الجنَّة بعد الأَنبياء أَحدٌ أَغنى منه.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (12)
    من صـــ 133 الى صـــ 141

    بصيرة.. فى ألم. ذلك الكتاب
    هذه السّورة مَدنيَّة. وهى أَول سورة نزلت بعد هجرة النبىِّ صلَّى الله عليه وسلم إِلى المدينة.
    وعدد آياتها مائتان وست وثمانون آية (فى عدِّ) الكوفيِّين، وسبع (فى عدِّ) البصريِّين، وخمس (فى عدِّ) الْحجاز، وأَربع (فى عدِّ) الشاميِّين. وأَعلى الرّوايات وأَصحُّها العَدّ الكوفىُّ، فإِنَّ إِسناده متَّصل بعلىّ بن أَبى طالب رضى الله عنه.
    وعدد كلماته ستَّة آلاف كلمة، ومائة وإِحدى وعشرون كلمة.
    وحروفها خمس وعشرون أَلفاً وخَمْسمائة حرف.
    وآياتها المختلَف فيها اثنتا عشرة آية: أَلم، {عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، مصلحون، خائفين، و {قَوْلاً مَعْرُوفاً} ، {مَاذَا يُنْفِقُوْن} ، {تَتَّفَكَّرُون } ،خَلق، {ياأولي الألباب} ، {الحي القيوم} ، {مِّنَ الظلمات إِلَى النور} ، {وَلاَ شَهِيد} .
    مجموع فواصل آياتها (ق م ل ن د ب ر) ويجمعها (قم لندّبر) . وعلى اللاَّم آية واحدة {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} ، وعلى القاف آية واحدة {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} آخر الآية المائتين.
    وأَمَّا أَسماؤُها فأَربعة: البقرة، لاشتمالها على قِصَّة البقرة. وفى بعض الروايات عن النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم: السورة التى تذكر فيها البقرة. الثَّانى سورة الكرسىِّ، لاشتمالها على آية الكرسىِّ التى هى أَعظم آيات القرآن. الثالث سَنَام القرآن، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: " إِنَّ لكلِّ شىءٍ سَنَاماً وسَنَام القرآن سورة البقرة". الرَّابع الزَّهراءُ، لقوله: "اقرءُوا الزَّهراوَيْن البقرة وآل عمران".
    وعلى الإِجمال مقصود هذه السُّورة مدح مؤمنى أَهل الْكتاب، وذمّ الكفَّار كفَّارِ مكَّة، ومنافقى المدينة، والرّدّ على منكرى النبوّة، وقصة التخليق، والتعليم، وتلقين آدم، وملامة علماءِ الْيهود فى مواضع عدَّة، وقصَّة موسى، واستسقائه، ومواعدته ربّه، ومنَّته على بنى إِسرائيل، وشكواه منهم، وحديث البقرة، وقصة سليمان، وهاروت وماروت،والسحرة، والرّدّ على النَّصارى، وابتلاء إِبراهيم عليه السَّلام، وبناء الكعبة، ووصيَّة يعقوب لأَولاده، وتحويل القبلة، وبيان الصبر على المصيبة، وثوابه، ووجوب السَّعى بين الصفا والمروة، وبيان حُجَّة التَّوحيد، وطلب الحلال، وإِباحة الميتة حال الضرورة، وحكم القِصاص، والأَمر بصيام رمضان، والأَمر باجتناب الحرام، والأَمر بقتال الكفار، والأَمر بالحجِّ والعُمْرة، وتعديد النعم على بنى إِسرائيل وحكم القتال فى الأَشهر الحُرُم؛ والسؤال عن الخمر والْمَيْسِر ومال الأَيتام، والحيض؛ والطلاق؛ والمناكحات، وذكر العِدّة، والمحافظة على الصلوات، وذكر الصَّدقات والنَّفقات، ومُلْك طالوت، وقتل جالوت؛ ومناظرة الخليل عليه السَّلام؛ ونمْرُود، وإِحياء الموتى بدعاءِ إِبراهيم، وحكم الإِخلاص فى النفقة، وتحريم الربا وبيان (الزَّانيات) ، وتخصيص الرّسول صلَّى الله عليه وسلم ليلة المعراج بالإِيمان حيث قال: {ءَامَنَ الرَّسُولُ} إِلى آخر السُّورة.
    هذا معظم مقاصد هذه السُّورة الكريمة.
    وأَمَّا بيان النَّاسخ والمنسوخ ففى ستّ وعشرين آية {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} م {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} ن {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً} م {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } ن وقيل:
    محكمة {فَاعْفُوْا وَاصْفَحُوْا} م {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} إِلى قوله {حتى يُعْطُواْ الجزية} ن {فَاَيْنَمَا تُوَلُّوْا} م {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} ن {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ} م {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ} ن {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} م أُحلَّت لنا ميتتان ودمان، من السُّنة ناسخها ن {الْحَرُّ بِالْحَرِّ} م {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ن {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ } م (آية المواريث) ن {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} م {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام} ن {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} م {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ن {وَلاَ تَعْتَدُوْا} م {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا} ن {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} ن {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام} م {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} ن {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} م بآية السَّيف ن {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ} م {بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} ن {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} م {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ} ن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام} م {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } ن {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} م {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} ن {وَيَسْأَلُونَك مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} م {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ن {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} م {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} وقوله {وَبُعُولَتُهُن َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ن {الطلاق مَرَّتَانِ} م {فَإِنْ طَلَّقَهَا} ن {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} م {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا} ن {والوالدات يُرْضِعْنَ} م {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} ن {وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول} م {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ن {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} م آية السَّيف ن {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} م {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} ن {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} م {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً} وقوله {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} ن.
    المتشابهات:
    (الم) تكررت فى ستّ سور فهى من المتشابه لفظاً. وذهب كثير من المفسِّرين فى قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إِلى أَنَّها هذه الحروف الَّتى فى أَوائل السُّور، فهى من المتشابه لفظاً ومعنًى والموجب لذكره أَوَّلَ البقرة هو بعينه الموجِب لذكره فى أَوائل سائر السُّور.
    وزاد فى الأَعراف صاداً لما جاءَ بعده {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} ولهذا قال بعض المفسِّرين: المص: ألم نشرح لك صدرك. وقيل: معناه: المصوِّر. وزاد فى الرعد راء لقوله بعده {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} .
    قوله {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } وفى يس {وَسَوآءٌ عَلَيْهِمْ} بزيادة واو، لأَن ما فى البقرة جملة هى خبر عن اسم إِنَّ، وما فى يس جملة عُطِفت على جملةٍ.
    قولُه {آمَنَّا بالله وباليوم الآخر} ليس فى القرآن غيره [و] تكرار العامل مع حرف العطف لا يكون إِلاَّ للتأكيد، وهذا حكاية كلام المنافقين وهم أَكَّدوا كلامهم، نَفْياً للرِيبة، وإِبعادا للتُّهمة. فكانوا فى ذلك كما قيل: كاد المُرِيب أَن يقول خذونى. فنفى الله عنهم الإِيمان بأَوكد الأَلفاظ، فقال: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين} ويكثر ذلك مع النفى. وقد جاءَ فى القرآن فى موضعين: فى النّساء {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} ، وفى التوبة {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} .
    قوله {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} ليس فى القرآن غيره؛ لأَنَّ العبادة فى الآية التوحيد، والتوحيد فى أَول ما يلزم العبدَ من المعارف. وكان هذا أَول خطاب خاطب اللهُ به الناس، ثم ذكر سائر المعارف، وبنى عليه العبادات فيما بعدها من السُور والآيات.
    قوله {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} بزيادة (مِن) هنا، وفى غير هذه السورة بدون (من) لأَن (مِن) للتبعيض، وهذه السورة سَنَام القرآن،وأَوّله بعد الفاتحة، فحسُن دخول (مِن) فيها، ليعلم أَن التحدّى واقع على جميع سور القرآن، من أَوله إِلى آخره، وغيرُها من السور لو دخلها (من) لكان التحدى واقعاً على بعض السور دون بعض. والهاء فى (مثله) يعود إِلى القرآن، وقيل: يعود إِلى محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، أَى فأْتوا بسورة من إِنسان مثلِه. وقيل: إِلى الأَنداد، وليس بشئ. وقيل: مثله التوراة، والهاءُ يعود إِلى القرآن، والمعنى: فأْتوا بسورة من التوراة التى هى مثل القرآن لتعلموا وفاقهما.
    قوله {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر} ذكر هذه هاهنا جملة، ثم ذكر فى سائر السور مفصَّلا، فقال فى الأعراف: {إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} وفى الحِجْر {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} وفى سبحان {إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} وفى الكهف {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} وفى طه {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى} وفى ص {إِلاَّ إِبْلِيسَ استكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين} .
    قوله {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ} بالواو، وفى الأَعراف {فَكُلاَ} بالفاء. اسكن فى الآيتين ليس بأَمر بالسُّكون الذى ضده الحركة، وإِنما الذى فى البقرة سكون بمعنى الإِقامة، فلم يصحّ إِلا بالواو؛لأَن المعْنى: اجمعا بين الإِقامة فيها (والأَكل من ثمارها) ، ولو كان الفاء مكان الواو لوجب تأْخير الأَكل إِلى الفراغ من الإِقامة، لأَن الفاء للتَّعقيب والترتيب، والذى فى الأَعراف من السُّكنى التى معناها اتخاذ الموضع مسكنا؛ لأَنَّ الله تعالى أَخرج إِبليس من الجنة بقوله:
    {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً} . وخاطب آدم فقال {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} أَى اتَّخذاها لأَنفسكما مسكناً، وكُلاَ من حيث شئتما، وكان الفاء أَولى، لأَن اتّخاذ المسكن لا يستدِعى زمانا ممتدّا، ولا يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل فيه، بل يقع الأَكلُ عقِيبه. وزاد فى البقرة {رَغَدَا} لما زاد فى الخبر تعظيما: (وقلنا) بخلاف سورة الأَعراف، فإِن فيها (قال) . وذهب الخطيب إِلى أَن ما فى الأَعراف خطاب لهما قبل الدّخول، وما فى البقرة بعده.
    قوله {اهْبِطُوْا} كرّر الأَمر بالهبوط لأَن الأَول {مِنَ الْجَنَّةِ} والثانى من السماءِ.
    قوله {فَمَنِ اتَّبَعَ} ؛ وفى طه {فَمَنِ اتبع} ؛ وتبع واتَّبع بمعنى، وإِنما اختار فى طه (اتَّبع) موافقة لقوله {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِى} .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (13)
    من صـــ 142 الى صـــ 148

    قوله {وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} قدَّم الشَّفاعة فى هذه الآية، وأَخَّر العَدْل، وقدَّم العدل فى الآية الأُخرى من هذه السورة وأَخر الشفاعة. وإنِما قدم الشفاعة قطعَا لطمع من زعم أَن آباءَهم تشفع لهم، وأَن الأَصنام شفعاؤُهم عند الله، وأَخرها فى الآية الأُخرى لأَنَّ التقدير فى الآيتين معاً لا يقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة؛ لأَنَّ النفع بعد القبول.
    وقدَّم العدل فى الآية الأُخرى ليكون لفظ القبول مقدَّما فيها.
    قوله: {يُذَبِّحُونَ} بغير واو هنا على البدل من {يَسُوْمُوْنكم} ومثله فى الأَعراف {يُقَتِّلُونَ} وفى إِبراهيم {وَيُذَبِّحون} بالواو لأَن ما فى هذه السورة والأَعراف من كلام الله تعالى، فلم يرد تعداد المِحَن عليهم، والَّذى فى إِبراهيم من كلام موسى، فعدّد المِحَن عليهم، وكان مأْموراً بذلك فى قوله {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} .
    قوله {ولاكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} هاهنا وفى الأعراف، وقال فى آل عمران {ولاكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأَنَّ ما فى السّورتين إِخبار عن قوم فَاتوا وانقرضوا [وما فى آل عمران] حكاية حال.
    قوله {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هاذه القرية فَكُلُواْ} بالفاء، وفى الأَعراف {وَكُلُوْا} بالواو؛ لأَن الدّخول سريع الانقضاء فيعقبه الأَكل، وفى (الأَعراف) {اسْكُنُوا} والمعنى: أَقيموا فيها، وذلك ممتدّ، فذكر بالواو، أَى اجمعوا بين السكنى والأَكل، وزاد فى البقرة {رَغَداً} لأَنه تعالى أَسنده إِلى ذاته بلفظ التعظيم، بخلاف الأَعراف؛ فإِنَّ فيه {وَإِذْ قِيْلَ} وقدّم {ادْخُلُوْا البَابَ سُجَّدًا} فى هذه السّورة وأَخرها فى الأَعراف لأَن السابق فى هذه السورة {ادْخُلُوْا} فبيّن كيفيّة الدّخول، وفى هذه السّورة {خَطَايَاكُمْ} بالإِجماع وفى الأَعراف {خَطِيئَاتِكُمْ} لأَن خطايا صيغة الجمع الكثير، ومغفرتها أَليق فى الآية بإِسناد الفعل إِلى نفسه سبحانه، وقال هنا (وسنزيد) (بواو، وفى الأَعراف سنزيد) بغير واوٍ؛ لأَنَّ اتصالهما فى هذه السّورة أَشدّ؛ لاتّفاق الَّلفظين، واختلفا فى الأعراف؛ لأَنّ اللائِق به (سنزيد) بحذف الواو؛ ليكون استئنافاً للكلام [وفى هذه السورة {الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً} وفى الأَعراف {ظَلَمُوْا مِنْهُم} موافقة لقوله {ومِنْ قَوْمِ مُوْسَى} ولقوله {مِنْهُمُ الصَّالِحُوْنَ ومِنْهُم دُوْنَ ذَلِكَ} ] .
    وفى هذه السّورة {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِين ظَلَمُوْا} وفى الأَعراف {فَأَرْسَلْنَا} لأَن لفظ الرّسول والرسالة كثرت فى الأَعراف، فجاءَ ذلك على طِبق ما قبله، وليس كذلك فى سورة البقرة.
    قوله {فَانْفَجَرَت} وفى الأَعراف {فَانْبَجَسَتْ} لأَن الانفجار انصباب الماء بكثرة، والانبجاس ظهورُ الماء. وكان فى هذه السورة {وَاشْرَبُوا} فذكر بلفظ بليغ؛ وفى الأَعراف {كُلُوا} وليس فيه {وَاشْرَبُوا} فلم يبالغ فيه.
    قوله {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} فى هذه السّورة؛ وفى آل عمران {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} ؛ وفيها وفى النساءِ {وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} لأَن ما فى البقرة إِشارة إِلى الحقّ الذى أَذِن الله أَن يُقتل النفسُ فيه وهو قوله {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بِالْحَقِّ} ؛ وكان الأَولى بالذكر؛ لأَنه من الله تعالى؛ وما فى آل عمران والنساءِ نكرة أَى بغير حَقّ فى معتقَدهم ودينهم؛ فكان بالتنكير أَولى.
    وجمع {النَّبِيِّينَ} فى البقرة جمع السّلامة لموافقة ما بعده من جمعَى السلامة وهو {الَّذِينَ} {وَالصَّابِئين} . وكذلك فى آل عمران {إِنَّ الَّذِينَ} و {نَاصِرِين} و {مُعْرِضُون} بخلاف الأَنبياء فى السّورتين.
    قوله {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين} وقال فى الحج {والصابئين والنصارى} وقال فى المائدة {والصابئون والنصارى} لأَن النصَّارى مقدَّمون على الصَّابئين فى الرُتْبة؛ لأَنهم أَهل الكتاب؛فقدَّمهم فى البقرة؛ والصَّابئون مقدَّمون على النصارى فى الزمان؛ لأَنهم كانوا قبلهم فقدَّمهم فى الحج، وراعى فى المائدة المعنيين؛ فقدَّمهم فى اللفظ، وأَخرهم فى التقدير؛ لأَن تقديره: والصّابئون كذلك؛ قال الشاعر:
    فمن كان أَمسى بالمدينة رَحْلُه ... فإِنى وقَيَّارٌ بها لغرِيب
    أَراد: إِنى لغريب بها وقيَّارٌ كذلك. فتأَمّل فيها وفى أَمثالها يظهر لك إِعجاز القرآن.
    قوله {أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} وفى آلِ عمران {أَيَّاماً مَّعْدُودَات} لأَنَّ الأَصل فى الجمع إِذا كان واحده مذكَّرا أَن يُقتصَر فى الوصف على التأنيث؛ نحو: سرر مرفوعة وأَكواب موضوعة. وقد يأتى سُرُر مرفوعات (على تقدير ثلاث سرر مرفوعة) وتسع سرر مرفوعات؛ إِلا أَنه ليس بالأَصل. فجاءَ فى البقرة على الأَصل، وفى آل عمران على الفرع.
    وقوله: {فِي أَيَّاماً مَّعْدُودَات} أَى فى ساعات أَيام معدودات. وكذلك {فِي أَيَّاماً مَعْلُوْمَاتٍ} .
    قوله {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} وفى الجُمُعة {وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ } لأَن دعواهم فى هذه السّورة بالغة قاطعة، وهى كون الجَنَّة لهم بصفة الخلوص، فبالغ فى الردّ عليهم بلَنْ، وهو أَبلغ أَلفاظ النفى، ودعواهم فى الجمعة قاصرة مترددة، وهى زعمهم أَنهم أَولياءُ الله، فاقتصر على (لا) .
    قوله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وفى غيرها {لاَ يَعْقِلُوْنَ} {لاَ يَعْلَمُوْنَ} لأَن هذه نزلت فيمَن نقض العهد من اليهود، ثم قال {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ؛ لأَن اليهود بين ناقض عهد، وجاحد حق، إِلا القليلَ، منهم عبدُ الله بن سَلاَم وأَصحابُه، ولم يأت هذان المعنيان معا فى غير هذه السُّورة.
    قوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم} وفيها أَيضاً {مِنْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم} فجعل مكان قوله: (الَّذى) (ما) وزاد (من) ؛ لأَنَّ العلم فى الآية الأُولى عِلْم بالكمال، وليس وراءَه علم؛ لأَنَّ معناه: بعد الذى جاءَك من العلم بالله، وصفاته، وبأَنّ الهدى هدى اللهِ، ومعناه: بأَنَّ دين الله الإِسلام؛ وأَنَّ الْقرآن كلام الله، (وكان) لفظ (الذى) أَليق به من لفظ (ما) لأَنه فى التعريف أَبلغ؛ وفى الوصف أَقعد؛ لأَن (الذى) تعرِّفه صلتُه، فلا ينكَّر قطٌّ، ويتقدَّمه أَسماء الإِشارة؛ نحو قوله {أَمَّنْ هاذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} {أَمَّنْ هاذا الذي يَرْزُقُكُمْ} فيكتنف (الَّذى) بيانان: الإِشارةُ، والصلة، ويلزمُه الأَلِف واللاَّم، ويثنَّى ويُجمع.
    وأَمَّا (ما) فليس له شىء من ذلك؛ لأَنه يتنكَّر مَرّة، ويتعرّف أُخرى، ولا يقع وصفاً لأَسماءِ الإِشارة، ولا يدخله الأَلِف واللام، ولا يثنَّى ولا يجمع. وخُصَّ الثَّانى بـ (ما) لأَنَّ المعنى: من بعد ما جاءَك من الْعلم بأَن قِبلة الله هى الكعبة، وذلك قليل من كثير من الْعلم. وزيدت معه (من) الَّتى لابتداءِ الْغاية؛ لأَن تقديره: من الوقت الذى جاءَك فيه الْعلم بالْقبلة؛ لأَن الْقبلة الأُولى نُسِخت بهذه الآية، وليس الأَوّل موقَّتاً بوقت.
    وقال فى سورة الرّعد: {بَعْدَ مَا جَاءَكَ} فعَبَّر بلفظ (ما) ولم يزد (من) لأَن الْعلم هاهنا هو الْحكم الْعربىّ أَى الْقرآن، وكان بعضاً من الأَوّل، ولم يزد فيه (من) لأَنه غير موقَّت. وقريب من معنى الْقبلة ما فى آل عمران {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} فلهذا جاءَ بلفظ (ما) وزيد فيه (من) .
    قوله: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} هذه الآية والَّتى قبلها متكررتان. وإِنما كُرِّرتا لأَن كل واحدة منهما صادفت معصية تقتضى تنبيهاً ووعظاً؛ لأَن كلّ واحدة منهما وقعت فى غير وقت الأُخرى.
    قوله {رَبِّ اجعل هاذا بَلَداً آمِناً} وفى إِبراهيم {هاذا البلد آمِناً} لأَن (هذا) إِشارة إِلى المذكور فى قوله {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} قبل بناء الكعبة، وفى إِبراهيم إِشارة إلى البلد بعد البناء. فيكون (بلداً) فى هذه السُّورة المفعول الثانى (و (آمِنا) صفة؛ و (البلد) فى إِبراهيم المفعول الأَول و (آمنا) المفعول الثانى) و (قيل) : لأنَّ النكرة اذا تكرَّرت صارت معرفة.
    وقيل: تقديره فى البقرة: هذا البلد (بلدا) آمناً، فحذف اكتفاءً بالإِشارة، فتكون الآيتان سواء.
    قوله {وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا} فى هذه السُّورة وفى آل عمران (علينا) لأَنَّ (إِلى) للانتهاء إِلى الشىء من أَىّ جهة كان، والكُتُب منتهِية إِلى الأَنبياء، وإِلى أُمّتهم جميعاً، والخطاب فى هذه السُّورة للأُمَّة، لقوله تعالى: (قولوا) فلم يصحَّ إِلاَّ (إِلى) ؛ و (على) مختصّ بجانب الفَوْق، وهو مختصّ بالأَنبياء؛ لأَنَّ الكتب منزَّلة عليهم، لا شِركة للأُمة فيها. وفى آل عمران (قل) وهو مختصّ بالنبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم دون أَمَّته؛ فكان الَّذى يليق به (على) وزاد فى هذه السُّورة (وما أُوتى) وحُذف من آل عمران (لأَنَّ) فى آل عمران قد تقدَّم ذكر الأَنبياء حيث قال {لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} .
    قوله {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} كُرِّرت هذه الآية لأَن المراد بالأَول الأَنبياء، وبالثانى أَسلاف اليهود والنَّصارى. قال القَفَّال: الأَول لإِثبات مِلَّة إِبراهيم لهم جميعاً؛ والثانى لنفى اليهوديَّة والنصرانية عنهم.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد




    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (14)
    من صـــ 149 الى صـــ 156

    قوله {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ} هذه الآية مكرَّرة ثلاث مرات. قيل: إِنَّ الأَولى لنسخ القبلة (والثانية للسبب، وهو قوله: {وَإِنَّهُ لِلْحَقِّ مِنْ رَبِّكَ} والثالثة للعلَّة، وهو قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} .
    وقيل: الأُولى فى مسجد المدينة، والثانية (خارج المسجد، والثالثة) خارج البلد. وقيل فى الآيات خروجان: خروج إِلى مكان تُرى فيه القبلة، وخروج إِلى مكان لا تُرى، أَىِ الحالتان فيه سواءَ. وقيل: إِنما كُرر لأَن المراد بذلك الحالُ والزمان والمكان. وفى الآية الأَولى [ {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} وليس فيها] {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} [وفى الآية الثانية {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} ] وليس فيها {حَيْثُ مَا كُنْتُمْ} فجمع فى الآية الثالثة بين قوله {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} وبين قوله {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} ليُعلم أَن النبى والمؤْمنين سواء.
    قوله {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} ليس فى هذه السورة {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} وفى غيرها {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} لأَن قبله {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ} فلو أَعاد أَلْبَس.
    قوله {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} خص العقل بالذكر؛ لأَنه به يُتوصَّل إِلى معرفة الآيات. ومثله فى الرعد والنحل والنور والروم.
    قوله {مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} فى هذه السورة وفى المائدة ولقمان (ما وجدنا) لأَن أَلْفيت يتعدى إِلى مفعولين، تقول: أَلفيت زيداً قائماً، ووجدت يتعدى مرة إِلى مفعول واحد: وجدت الضالة؛ ومرة إِلى مفعولين: وجدت زيداً قائماً؛ فهو مشترك. وكان الموضع الأَول باللفظ الأَخصّ أَولى؛ لأَن غيره إّذا وقع موقعه فى الثانى والثالث عُلم أَنه بمعناه.

    قوله {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً} وفى المائدة {لاَ يَعْلَمُوْنَ} لأَنَّ العِلم أَبلغ درجةً من العقل، ولهذا يوصف تعالى بالعلم، لا بالعقل؛ وكانت دعواهم فى المائدة أبلغ؛ لقولهم {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِءَابَآء َنَا} فادَّعَوا النهاية بلفظ (حَسْبنا) فنفى ذلك بالعلم وهو النِّهاية، وقال فى البقرة: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} ولم يكن النِّهايةَ، فنفى بما هو دون العلم؛ ليكون كلُّ دعوَى منفيّة بما يلائمها.
    قوله {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} قدَّم (به) فى هذه السورة، وأَخّرها فى المائدة، والأَنعام، والنحل؛ لأَن تقديم الباءِ الأَصلُ؛ فإِنها تجرى مَجْرى الأَلِف والتشديدِ فى التَّعدِّى، وكان كحرف من الفعل، وكان الموضع الأَول أَوْلى بما هو الأَصل؛ ليُعلم ما يقتضيه اللفظُ، ثم قدم فيما سواها ما هو المُسْتنكر، وهو الذبح لغير الله، وتقديمُ ما هو الغرض أَولى. ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل، والحال على ذى الحال، والظرف على العامل فيه؛ إِذا كان (أَكثر فى) الغرض فى الإِخبار.
    قوله {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (بالفاءِ وفى السور الثلاث بغير فاء) لأَنه لمّا قال فى الموضع الأَوّل: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} صريحاً كان النفى فى غيره تضميناً؛ لأَنّ قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} يدلّ على أَنه لا إِثم عليه.
    قوله {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وفى الأَنعام {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لأَن لفظ الرب تكرر فى الأَنعام (مرات ولأَن فى الأَنعام) قولَه {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ} الآية وفيها ذكر الحُبُوب والثمار وأَتبعها بذكر الحيوان من الضأْن والمَعْز والإِبل والبقر وبها تربية الأَجسام (وكان) ذكر الرب بها أَليق.
    قوله {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أولائك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} الآية هنا على هذا النسق، وفى آل عمران {أولائك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ} لأَنَّ المنْكَر فى هذه السّورة أَكثر، فالتوعد فيها أَكثر: وإِن شئت قلت: زاد فى آل عمران {وَلاَ يُنْظَرُ إِلَيْهِمْ} فى مقابلة {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} .
    قوله فى آية الوصيَّة {إِنَّ اللهَ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ} خُصَّ السَّمع بالذكر لما فى الآية من قوله {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} ؛ ليكون مطابقاً. وقال فى الآية الأُخرى بعدها {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لقوله {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} فهو مطابق معنًى.
    قوله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} (قيد) بقوله (منكم) وكذلك {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} ولم يقيَّد فى قوله {وَمَنْ كَانَ مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ} اكتفى بقوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ} ؛ لاتَّصاله "به".
    قوله {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} ؛ وقال بعدها: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوْهَا} لأَن (حدود) الأَول نَهْى، وهو قوله: {وَلاَ تُبَاشِرُوْهُنّ َ} وما كان من الحدود نهياً أَمر بترك المقاربة، والحدّ الثَّانى أَمْر وهو بيان عدد الطلاق، بخلاف ما كان عليه العرب: من المراجعة بعد الطلاق من غير عدد، وما كان أَمراً أَمر بترك المجاوزة وهو الاعتداء.
    قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} جميع ما فى القرآن من السؤال وقع الجوابُ عنه بغير فاء إِلاَّ فى قوله {وَيَسْأَلُونك عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا} فَإِنَّه بالفاء؛ لأَن الأَجوبة فى الجميع كانت بعد السّؤال؛ وفى طه قبل السّؤال؛ فكأَنه قيل: إِن سُئِلْت عن الجبال فقل.
    قوله {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} فى هذه السّورة، وفى الأَنفال {كُلَُهُ للهِ} ؛ لأَن القتال فى هذه السُّورة مع أَهل مكَّة، وفى الأَنفال مع جميع الكفار، فقيّده بقوله (كلّه) .
    قوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} وفى آل عمران {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} الآية وفى التوبة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} الآية الأُولى للنبى والمؤمنين، والثانى للمؤمنين، والثالث للمجاهدين. قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدنيا والآخرة} وفى آخر السّورة {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} ومثله فى الأَنعام، لأَنّه لمَّا بيّن فى الأوّل مفعول التفكّر وهو قوله {فِي الدنيا والآخرة} حذفه ممّا بعده للعلم. وقيل (فى) متعلقه بقوله {يُبَيِّنُ الله} .
    قوله {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} بفتح التاء والثّانى بضمّها، لأَن الأَول من (نكحت) والثانى مِن (أنكحت) ، وهو يتعدّى إِلى مفعولين والمفعول الأَول فى الآية (المشركين) والثانى محذوف وهو (المؤمنات) أَى لا تُنكحوا المشركين النسّاء المؤمنات حتى يؤمنوا.
    قوله {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ} أَجمعوا على تخفيفه إِلاَّ شاذّاً. وما فى غير هذه السورة فرئ بالوجهين، لأَن قبله {فَأَمْسِكُوهن} وقَبْل ذلك (فإِمساك) يقتضى ذلك التخفيف.
    قوله {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ} وفى الطَّلاق {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ} الكاف فى ذلك لمجرّد الخطاب، لا محلّ له من الإِعراب فجاز الاقتصار على التَّوحيد، وجاز إِجراؤه على عدد المخاطبين. ومثله {عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} . وقيل: حيث جاء مُوَحَّدا فالخطاب للنبىّ صلَّى الله عليه وسلم. وخُصَّ بالتَّوحيد فى هذه الآية لقوله: {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} ، وجُمع فى الطَّلاق لمّا لم يكن بعدُ (منكم) .
    قوله {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} وقال فى الأُخرى {مِنْ مَعْرُوْفٍ} ؛ لأَن تقدير الأَوَّل فيما فعلن فى أَنفسهنّ (بأَمر الله وهو المعروف والثانى فيما فعلن فى أَنفسهنّ) من فعل من أَفعالهنَّ معروف، أَى جاز فعله شرعاً.
    وقوله {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم} ثمّ قال {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوْا} فكرّر تأْكيداً. وقيل ليس بتكرار؛ لأَن الأَوّل للجماعة، والثانى للمؤمنين. وقيل: كَرّره تكذيبا لمن زعم أَنَّ ذلك لم يكن بمشيئة الله.
    قوله {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} بزيادة (من) موافقة لما بعدها؛ لأَن بعدها ثلاث آيات فيها (مِن) على التوالى؛ وهو قوله: {وَمَا تُنْفِقُوْا مِنْ خَيْرٍ} ثلاث مرات.
    قوله {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} (يغفر) مقدَّم هنا، وفى غيرها إِلا فى المائدة؛ فإِنَّ فيها {يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} لأَنها نزلت فى حقِّ السارق والسارقة، وعذابُهما يقع فى الدنيا فقُدّم لفظ العذاب، وفى غيرها قدّم لفظ المغفرة رحمة منه سبحانَه، وترغيباً للعباد فى المسارعة إِلى موجِبات المغفرة، جَعلَنا منهم آمين.
    فضل السورة
    عن أَبى بُرَيدة عن أَبيه أَنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قال: "تعلَّموا البقرة؛ فإِن أَخذها بركة، وتركها حسرة، ولن يستطيعها البَطَلة". وقال صلَّى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيطان لا يدخل بيتاً يُقرأُ فيه سورة البقرة" وعن عكرمة قال: أَول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة،
    مَنْ قَرأَها فى بيته نهاراً لم يدخل بيتَه شيطانٌ ثلاثة أَيّام. ومن قرأَها فى بيته ليلاً لم يدخله شيطان ثلاث ليال.
    ورُوى أَنَّ من قرأَها كان له بكلّ حرف أَجرُ مرابِطٍ فى سبيل الله. وعن أَنس قال [كان] الرّجل إِذا قرأَ سورة البقرة جَدّ فينا، أَى عَظُم فى أَعيننا.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد




    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (15)
    من صـــ 157 الى صـــ 164

    وعن ابن مسعود قال: كنا نعد من يقرأ سورة البقرة من الفحول. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتى على جماعة من شيوخ الصحابة كان يحسن سورة البقرة. وقال صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما" وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
    "يا على من قرأ سورة البقرة لا تنقطع عنه الرحمة ما دام حيا، وجعل الله البركة فى ماله: فإن فى تعلمها ألف بركة، وفى قراءتها عشرة آلاف بركة، ولا يتعاهدها إلا مؤمن من أهل الجنة، وله بكل آية قرأها ثواب شيث بن آدم عليهما السلام. فمن مات من يوم قرأها إلى مائة يوم مات شهيدا".

    بصيرة فى الم. الله
    من أسمائها سورة آل عمران، والسورة التى يذكر فيها آل عمران، والزهراء.
    وعمران المذكور هو عمران والد موسى وهارون عليهما السلام وهو ابن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب. وأما عمران والد مريم فهو ابن ماتان بن أسعراد بن أبى ثور.

    وهذه السورة مدنية باتفاق جميع المفسرين. وكذلك كل سورة تشتمل على ذكر أهل الكتاب. وعدد آياتها مئتان بإجماع القراء.
    وكلماتها ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون. وحروفها أربعة عشر ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفا.
    والآيات المختلف فيها سبع: الم، {الإنجيل} الثانى، {أنزل الفرقان} {ورسولا إلى بنى إسراءيل} ، {مما تحبون} ، {مقام إبراهيم} ، والإنجيل الأول فى قوله بعضهم.
    مجموع فواصل آياتها (ل ق د اط ن ب م ر) يجمعها قولى: (لقد أطنب مر) والقاف آخر آية واحدة {ذوقوا عذاب الحريق} والهمز آخر ثلاث آيات {لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السمآء} {إنك سميع الدعاء} {كذلك الله يفعل ما يشآء} .
    ومضمون السورة مناظرة وفد نجران، إلى نحو ثمانين آية من أولها، وبيان المحكم، والمتشابه، وذم الكفار، ومذمة الدنيا، وشرف العقبى، ومدح الصحابة، وشهادة التوحيد، والرد على أهل الكتاب، وحديث ولادة مريم، وحديث كفالة زكريا، ودعائه، وذكر ولادة عيسى، ومعجزاته، وقصة الحواريين، وخبر المباهلة، والاحتجاج على النصارى، ثم أربعون آية فى ذكر المرتدين، ثم ذكر خيانة علماء يهود، وذكر الكعبة، ووجوب الحج، واختيار هذه الأمة الفضلى، والنهى عن موالاة الكفار، وأهل الكتاب، ومخالفى الملة الإسلامية.
    ثم خمس وخمسون آية فى قصة حرب أحد، وفى التخصيص، والشكوى من أهل المركز، وعذر المنهزمين، ومنع الخوض فى باطل المنافقين، (وتقرير قصة الشهداء، وتفصيل غزوة بدر الصغرى، ثم رجع إلى ذكر المنافقين) فى خمس وعشرين آية، والطعن على علماء اليهود، والشكوى منهم فى نقض العهد، وترك بيانهم نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور فى التوراة، ثم دعوات الصحابة، وجدهم فى حضور الغزوات، واغتنامهم درجة الشهادة. وختم السورة بآيات الصبر والمصابرة والرباط.
    وأما الناسخ والمنسوخ فى هذه السورة فخمس آيات: {وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} . م بآية السيف ن {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم} إلى تمام ثلاث آيات م {إلا الذين تابوا} ن نزلت فى الستة الذين ارتدوا ثم تابوا وأسلموا {اتقوا الله حق تقاته} {وجاهدوا في الله حق جهاده} م {فاتقوا الله ما استطعتم} ن.
    وأما المتشابهات فقوله: {إن الله لا يخلف الميعاد} وفى آخرها {إنك لا تخلف الميعاد} فعدل من الخطاب إلى لفظ الغيبة فى أول السورة، واستمر على الخطاب فى آخرها؛ لأن ما فى أول السورة لا يتصل بالكلام الأول، كاتصال ما فى آخر السورة به؛ فإن اتصال قوله {إن الله لا يخلف الميعاد} بقوله {إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} معنوى، واتصال قوله {إنك لا تخلف الميعاد} بقوله {ربنا وءاتنا ما وعدتنا} لفظى ومعنوى جميعا؛ لتقدم لفظ الوعد. ويجوز أن يكون الأول استئنافا، والآخر من تمام الكلام.
    قوله {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله} كان القياس: فأخذناهم لكن لما عدل فى الآية الأولى إلى قوله {إن الله لا يخلف الميعاد} عدل فى هذه الآية أيضا لتكون الآيات على منهج واحد. قوله {شهد الله أنه لا إلاه إلا هو} ثم كرر فى آخر الآية، فقال: {لا إلاه إلا هو} لأن الأول جرى مجرى الشهادة، وأعاده ليجرى الثانى مجرى الحكم بصحة ما شهد به الشهود.
    قوله {ويحذركم الله نفسه} كرره مرتين؛ لأنه وعيد عطف عليه وعيد آخر فى الآية الأولى، فإن قوله {وإلى الله المصير} معناه: مصيركم إليه، والعقاب معد له، فاستدركه فى الآية الثانية بوعد وهو قوله {والله رءوف بالعباد} والرأفة أشد من الرحمة.
    قيل: ومن رأفته تحذيره.
    قوله {قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} قدم فى السورة ذكر الكبر واخر ذكر المرأة، وقال فى سورة مريم {وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا} فقدم ذكر المرأة لأن فى مريم قد تقدم ذكر الكبر فى قوله {وهن العظم مني} ، وتأخر ذكر المرأة فى قوله {وإني خفت الموالي من ورآئي وكانت امرأتي عاقرا} ثم أعاد ذكرهما، فأخر ذكر الكبر ليوافق (عتيا) ما بعده من الآيات وهى (سويا) و (عشيا) و (صبيا) .
    قوله {قالت رب أنى يكون لي ولد} وفى مريم {قالت أنى يكون لي غلام} لأن فى هذه السورة تقدم ذكر المسيح وهو ولدها، وفى مريم تقدم ذكر الغلام حيث قال {لأهب لك غلاما زكيا} .
    قوله {فأنفخ فيه} وفى المائدة (فيها) قيل: الضمير فى هذه يعود إلى الطير، وقيل إلى الطين، وقيل إلى المهيأ، وقيل إلى الكاف فإنه فى معنى مثل. وفى المائدة يعود إلى الهيئة. وهذا جواب التذكير والتأنيث، لا جواب التخصيص، وإنما الكلام وقع فى التخصيص وهل يجوز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر أم لا.
    فالجواب أن يقال: فى هذه السورة إخبار قبل الفعل، فوحده؛ وفى المائدة خطاب من الله له يوم القيامة، وقد سبق من عيسى عليه السلام الفعل مرات والطير صالح للواحد والجمع.
    قوله {بإذن الله} ذكره هنا مرتين، وفى المائدة {بإذني} أربع مرات لأن ما فى هذه السورة من كلام عيسى، فما تصور أن يكون من قبل البشر أضافه إلى نفسه، وهو الخلق الذى معناه التقدير، والنفخ الذى هو إخراج الريح من الفم. وما [لا] يتصور أضافه إلى الله وهو قوله {فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص} مما [لا] يكون فى طوق البشر، فإن الأكمه عند بعض المفسرين الأعمش، وعند بعضهم الأعشى، وعند بعضهم من يولد أعمى، وإحياء الموتى من فعل الله فأضافه إليه.
    وما فى المائدة من كلام الله سبحانه وتعالى، فأضاف جميع ذلك إلى صنعه إظهارا لعجز البشر، وأن فعل العبد مخلوق الله. وقيل (بإذن الله) يعود إلى الأفعال الثلاثة. وكذلك الثانى يعود إلى الثلاثة الأخرى.
    قوله {إن الله ربي وربكم} وكذلك فى مريم و [فى] الزخرف فى هذه القصة {إن الله هو ربي وربكم} بزيادة (هو) قال تاج القراء إذا قلت: زيد قائم فيحتمل أن يكون تقديره: وعمرو قائم.
    فإذا قلت زيد هو القائم خصصت القيام به، وهو كذلك فى الآية. وهذا مثاله لأن (هو) يذكر فى هذه المواضع إعلاما بأن المبتدأ مقصور على هذا الخبر (وهذا الخبر) مقصور عليه دون غيره والذى فى آل عمران وقع بعد عشر آيات نزلت فى قصة مريم وعيسى، فاستغنت عن التأكيد بما تقدم من الآيات، والدلالة على أن الله سبحانه وتعالى ربه وخالقه لا أبواه ووالده كما زعمت النصارى.
    وكذلك فى سورة مريم وقع بعد عشرين آية من قصتها. وليس كذلك ما فى الزخرف فإنه ابتداء كلام منه فحسن التأكيد بقوله (هو) ليصير المبتدأ مقصورا على الخبر المذكور فى الآية وهو إثبات الربوبية ونفى الأبوة، تعالى الله عند ذلك علوا كبيرا.
    قوله {بأنا مسلمون} فى هذه السورة، وفى المائدة {بأننا مسلمون} لأن ما فى المائدة أول كلام الحواريين، فجاء على الأصل، وما فى هذه السورة تكرار كلامهم فجاز فيه التخفيف (لأن التخفيف) فرع والتكرار فرع والفرع بالفرع أولى.

    قوله {الحق من ربك فلا تكن} وفى البقرة {فلا تكونن} لأن ما فى هذه السورة جاء على الأصل، ولم يكن فيها ما أوجب إدخال نون التأكيد [فى الكلمة؛ بخلاف سورة البقرة فإن فيها فى أول القصة {فلنولينك قبلة ترضاها} ] بنون التأكيد فأوجب الازدواج إدخال النون فى الكلمة فيصير التقدير: فلنولينك قبلة ترضاها فلا تكونن من الممترين.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (16)
    من صـــ 165 الى صـــ 173


    والخطاب فى الآيتين للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد (به) غيره.
    قوله {قل إن الهدى هدى الله} وفى البقرة {قل إن هدى الله هو الهدى} [الهدى] فى هذه السورة هو الدين، وقد تقدم فى قوله {لمن تبع دينكم} (وهدى الله الإسلام، وكأنه قال بعد قولهم {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} قل إن الدين عند الله الإسلام كما سبق فى أول السورة. والذى فى البقرة معناه القبلة لأن الآية نزلت فى تحويل القبلة، وتقديره أن قبلة الله هى الكعبة.
    قوله {من آمن تبغونها عوجا} ليس هاهنا (به) ولا واو العطف وفى الأعراف {من آمن به وتبغونها عوجا} بزيادة (به) وواو العطف لأن القياس من آمن به، كما فى الأعراف؛ لكنها حذفت فى هذه السورة موافقة لقوله {ومن كفر} فإن القياس فيه أيضا (كفر به) وقوله {تبغونها عوجا} هاهنا حال والواو لا يزيد مع الفعل إذا وقع حالا، نحو قوله {ولا تمنن تستكثر} و {دابة الأرض تأكل} وغير ذلك، وفى الأعراف عطف على الحال؛ والحال قوله (توعدون) و (تصدون) عطف عليه؛ وكذلك {تبغونها عوجا} .
    قوله: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} هاهنا بإثبات (لكم) وتأخير (به) وحذف (إن الله) وفى الأنفال بحذف (لكم) وتقديم (به) وإثبات (إن الله) لأن البشرى للمخاطبين؛ فبين وقال (لكم) وفى الأنفال قد تقدم لكم فى قوله {فاستجاب لكم} فاكتفى بذلك؛ وقدم (قلوبكم) وأخر (به) إزواجا (بين المخاطبين "فقال إلى بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به" وقدم "به" فى الأنفال إزدواجا) بين الغائبين فقال {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به} وحذف (إن الله) هاهنا؛ لأن ما فى الأنفال قصة بدر؛ وهى سابقة على ما فى هذه السورة، فإنها فى قصة أحد فأخبر هناك أن الله عزيز حكيم، فاستقر الخبر. وجعله فى هذه السورة صفة، لأن الخبر قد سبق.
    قوله: {ونعم أجر العاملين} بزيادة الواو لأن الاتصال بما قبلها أكثر من غيرها. وتقديره: ونعم أجر العاملين المغفرة، والجنات، والخلود.
    قوله {رسولا من أنفسهم} بزيادة الأنفس، وفى غيرها {رسولا منهم} لأن الله سبحانه من على المؤمنين به، فجعله من أنفسهم؛ ليكون موجب المنة أظهر. وكذلك قوله: {لقد جآءكم رسول من أنفسكم} لما وصفه بقوله: {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} جعله من أنفسهم ليكون موجب الإجابة والإيمان به أظهر، وأبين.
    قوله {جآءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير} هاهنا بباء واحدة، إلا فى قراءة ابن عامر، وفى فاطر {بالبينات وبالزبر وبالكتاب} بثلاث باءات؛ لأن ما فى هذه السورة وقع فى كلام مبنى على الاختصار، وهو إقامة لفظ الماضى فى الشرط مقام لفظ المستقبل، ولفظ الماضى أخف، وبناء الفعل بالمجهول، فلا يحتاج إلى ذكر الفاعل. وهو قوله: {فإن كذبوك فقد كذب} . [ثم] حذف الباءات ليوافق الأول فى الاختصار بخلاف ما فى فاطر فإن الشرط فيه بلفظ المستقبل والفاعل مذكور مع الفعل وهو قوله: {وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم} ثم ذكر بعده الباءات؛ ليكون كله على نسق واحد.
    قوله: {ثم مأواهم جهنم} وفى غيره: {ومأويهم جهنم} لأن ما قبله فى هذه السورة {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل} (أى ذلك متاع فى الدنيا قليل) ، والقليل يدل على تراخ وإن صغر وقل، و (ثم) للتراخى وكان موافقا. والله أعلم.
    فضل السورة
    عن النبى صلى الله عليه وسلم: "تعلموا البقرة وآل عمران؛ فإنهما الزهراوان، وإنهما يأتيان يوم القيامة فى صورة ملكين، يشفعان لصاحبهما، حتى يدخلاه الجنة" وتقدم فى البقرة (يأتيان كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف، يظلان قارئهما، ويشفعان) ويروى بسند ضعيف: من قرأ سورة آل عمران أعطى بكل آية منها أمانا على جسر جهنم، يزوره فى كل جمعة آدم ونوح وإبراهيم وآل عمران، يغبطونه بمنزلته من الله، وحديث على (رفعه) : من قرأها لا يخرج من الدنيا حتى يرى ربه فى المنام؛ ذكر فى الموضوعات.
    بصيرة فى.. يأيها الناس اتقوا ربكم
    هذه السورة مدنية بإجماع القراء.
    وعدد آياتها مائة وخمس وسبعون، فى عد الكوفى، وست فى عد البصرى، وسبع فى عد الشامى.
    وكلماتها ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون. وحروفها ستة عشر ألفا وثلاثون حرفا.
    والآيات المختلف فيها {أن تضلوا السبيل} ، {عذابا أليما} .

    مجموع فواصل الآيات (م ل ان) يجمعها قولك (ملنا) فعلى اللام آية واحدة (السبيل) وعلى النون آية واحدة (مهين) وخمس آيات منها على الميم المضمومة، وسائر الآيات على الألف.
    واسم السورة سورة النساء الكبرى، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى.
    وأما ما اشتملت عليه السورة مجملا فبيان خلقة آدم وحواء، والأمر [بصلة] الرحم، والنهى عن أكل مال اليتيم، وما يترتب عليه من عظم الإثم، والعذاب لآكليه، وبيان المناكحات، وعدد النساء، وحكم الصداق، وحفظ المال من السفهاء، وتجربة اليتيم قبل دفع المال إليه، والرفق بالأقارب وقت قسمة الميراث، وحكم ميراث أصحاب الفرائض، وذكر ذوات المحارم، وبيان طول الحرة، وجواز التزوج بالأمة، والاجتناب عن الكبائر، وفضل الرجال على النساء، وبيان الحقوق،
    وحكم السكران وقت الصلاة، وآية التيمم، وذم اليهود، وتحريفهم التوراة، ورد الأمانات إلى أهلها، وصفة المنافقين فى امتناعهم عن قبول أوامر القرآن، والأمر بالقتال، ووجوب رد السلام، والنهى عن موالاة المشركين، وتفصيل قتل العمد والخطأ، وفضل الهجرة، ووزر المتأخرين عنها، والإشارة إلى صلاة الخوف حال القتال، والنهى عن حماية الخائنين، وإيقاع الصلح بين الأزواج والزوجات، وإقامة الشهادات، ومدح العدل، وذم المنافقين، وذم اليهود، وذكر قصدهم قتل عيسى عليه السلام، وفضل الراسخين فى العلم، وإظهار فساد اعتقاد النصارى، وافتخار الملائكة والمسيح بمقام العبودية، وذكر ميراث الكلالة،
    والإشارة إلى أن الغرض من بيان الأحكام صيانة الخلق من الضلالة، فى قوله {يبين الله لكم أن تضلوا} أى كراهة أن تضلوا. وأما الناسخ والمنسوخ فى هذه السورة ففى أربع وعشرين آية {وإذا حضر القسمة} م {يوصيكم الله في أولادكم} ن {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم} الآية م {فمن خاف من موص جنفا أو إثما} ن {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما} م {قل إصلاح لهم خير}
    ن {واللاتي يأتين الفاحشة من نسآئكم} م (الثيب بالثيب) ن {واللذان يأتيانها منكم} م {الزانية والزاني فاجلدوا} ن {إنما التوبة على الله} بعض الآية م {وليست التوبة للذين يعملون السيئات} ن والآيتان مفسرتان بالعموم والخصوص {لا يحل لكم أن ترثوا النسآء كرها} م والاستثناء فى قوله {إلا ما قد سلف} ن وقيل الآية محكمة {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ آتيتموهن} م والاستثناء فى قوله {إلا أن يأتين بفاحشة} ن {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النسآء} م والاستثناء فى قوله: {إلا ما قد سلف} ن وقيل الآية محكمة {وأن تجمعوا بين الأختين} م والاستثناء منه ن فيما مضى {فما استمتعتم به منهن} م {والذين هم لفروجهم حافظون} وقول النبى صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنى حرمت المتعة" ن {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} م {ليس على الأعمى حرج} ن أراد مؤاكلتهم {والذين عقدت أيمانكم} م {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} ن {فأعرض عنهم وعظهم} م آية السيف
    ن {واستغفر لهم الرسول} م {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} ن {خذوا حذركم} م {لينفروا كآفة} ن {فمآ أرسلناك عليهم حفيظا} م آية السيف ن {ستجدون آخرين} م {فاقتلوا المشركين} ن {فإن كان من قوم عدو لكم} م {برآءة من الله} ن {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} م {إن الله لا يغفر أن يشرك به} ن وقوله {والذين لا يدعون} إلى قوله {ومن تاب} ن {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} م {إلا الذين تابوا} ن {فما لكم في المنافقين فئتين} وقوله {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} م آية السيف ن.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد




    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (17)
    من صـــ 173 الى صـــ 181

    المتشابهات فى هذه السورة:
    {والله عليم حليم} ليس غيره أى عليم بالمضارة، حليم عن المضارة.
    قوله: {خالدين فيها وذلك الفوز العظيم} بالواو، وفى براءة (ذلك) بغير واو، لأن الجملة إذا وقعت بعد أجنبية لا تحسن إلا بحرف العطف. وإن كان بالجملة الثانية ما يعود إلى الجملة الأولى حسن إثبات حرف العطف، وحسن الحذف؛ اكتفاء بالعائد. ولفظ (ذلك) فى الآيتين يعود إلى ما قبل الجملة، فحسن الحذف والإثبات فيهما. ولتخصيص هذه السورة بالواو وجهان لم يكونا فى براءة: أحدهما موافقة ما قبلها، وهى جملة مبدوءة بالواو، وذلك قوله {ومن يطع الله} ؛ والثانى موافقة ما بعدها، وهو قوله: (وله) بعد قوله: {خالدا فيها} وفى براءة [أوعد] أعداء الله بغير واو، ولذلك قال (ذلك) بغير واو.
    وقوله: {محصنين غير مسافحين} فى أول السورة، وبعدها {محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان} وفى المائدة {محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} لأن ما فى أول السورة وقع فى حق الأحرار المسلمين، فاقتصر على لفظ {غير مسافحين} والثانية فى الجوارى، وما فى المائدة فى الكتابيات فزاد {ولا متخذي أخدان} حرمة للحرائر المسلمات، ولأنهن إلى الصيانة أقرب، ومن الخيانة أبعد، ولأنهن لا يتعاطين ما يتعاطاه الإماء والكتابيات من اتخاذ الأخدان.
    قوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} فى هذه السورة وزاد فى المائدة (منه) لأن المذكور فى هذه بعض أحكام الوضوء والتيمم، فحسن الحذف؛ والمذكور فى المائدة جميع أحكامهما، فحسن الإثبات والبيان.
    قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} ختم الآية مرة بقوله (فقد افترى) ومرة بقوله (فقد ضل) لأن الأول نزل فى اليهود، وهم الذين افتروا على الله ما ليس فى كتابهم، والثانى نزل فى الكفار، ولم يكن لهم كتاب فكان ضلالهم أشد.
    قوله {يا أيهآ الذين أوتوا الكتاب} وفى غيرها (يأهل الكتاب) لأنه سبحانه استخف بهم فى هذه الآية، وبالغ، ثم ختم بالطمس، ورد الوجوه على الأدبار، واللعن، وأنها كلها واقعة بهم.
    قوله {درجة} ثم فى الاية الأخرى {درجات} لأن الأولى فى الدنيا والثانية فى الجنة. وقيل: الأولى بالمنزلة، والثانية بالمنزل. وهى درجات. وقيل: الأولى على القاعدين بعذر، والثانية على القاعدين بغير عذر.
    قوله: {ومن يشاقق الرسول} بالإظهار هنا وفى الأنفال، وفى الحشر بالإدغام، لأن الثانى من المثلين إذا تحرك بحركة لازمة وجب إدغام الأول فى الثانى؛ ألا ترى أنك تقول اردد بالإظهار، ولا يجوز ارددا وارددوا وازددى، لأنها تحركت بحركة لازمة (والألف واللام فى "الله" لازمتان، فصارت حركة القاف لازمة) و (ليس) الألف واللام فى الرسول كذلك. وأما فى الأنفال فلانضمام (الرسول) إليه فى العطف لم يدغم؛ لأن التقدير فى القاف أن قد اتصل بهما؛ فإن الواو يوجب ذلك.
    قوله {كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله} ، وفى المائدة: {قوامين لله شهدآء بالقسط} لأن (الله) فى هذه السورة متصل ومتعلق بالشهادة، بدليل قوله: {ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} أى ولو تشهدون عليهم، وفى المائدة متصل ومتعلق بقوامين، والخطاب للولاة بدليل قوله: {ولا يجرمنكم شنئان قوم} الآية.
    قوله: {إن تبدوا خيرا أو تخفوه} وفى الأحزاب {إن تبدوا شيئا} لأن هنا وقع الخير فى مقابلة السوء فى قوله: {لا يحب الله الجهر بالسوء} والمقابلة اقتضت أن يكون بإزاء السوء الخير، وفى الأحزاب بعد (ما فى قلوبهم) فاقتضى العموم، وأعم الأسماء شىء. ثم ختم الآية بقوله: {فإن الله كان بكل شىء عليما} .
    قوله: {وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض} وباقى ما فى هذه السورة {ما في السماوات وما في الأرض} لأن الله سبحانه ذكر أهل الأرض فى هذه الآية تبعا لأهل السماوات، ولم يفردهم بالذكر لانضمام المخاطبين إليهم ودخولهم فى زمرتهم وهم كفار عبدة الأوثان، وليسوا المؤمنين ولا من أهل الكتاب لقوله {وإن تكفروا} فليس هذا قياسا مطردا بل علامة.
    قوله {ويستفتونك في النسآء} بواو العطف وقال فى آخر السورة {يستفتونك} بغيرواو، لأن الأول لما اتصل بما بعده وهو قوله: {في النسآء} وصله بما قبله بواو العطف والعائد جميعا، والثانى لما انفصل عما بعده اقتصر من الاتصال على العائد وهو ضمير المستفتين و [ليس] فى الآية متصل بقوله: {يستفتونك} لأن ذلك يستدعى: قل الله يفتيكم فيها أى فى الكلالة، والذى يتصل بيستفتونك محذوف، يحتمل أن يكون (فى الكلالة) ، ويحتمل أن يكون فيما بدالهم من الوقائع.
    فضل السورة
    روى عن النبى صلى الله عليه وسلم: من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل من ورث ميراثا، وأعطى من الأجر كمن اشترى محررا، وبرئ من الشرك، وكان فى مشيئة الله من الذين يتجاوز عنهم. وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ هذه السورة كان له بعدد كل امرأة خلقها الله قنطارا من الأجر، وبعددهن حسنات ودرجات، وتزوج بكل حرف منها زوجة من الحور العين. ويروى: يا على، من قرأ سورة النساء كتب له مثل ثواب حملة العرش، وله بكل آية قرأها مثل ثواب من يموت فى طريق الجهاد.
    هذه الأحاديث ضعيفة جدا وبالموضوعات أشبه والله أعلم.
    بصيرة فى.. يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود
    اعلم أن هذه السورة مدنية بالإجماع سوى آية واحدة {اليوم أكملت لكم دينكم} فإنها نزلت يوم عرفة فى الموقف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكب على ناقته العضباء، فسقطت الناقة على ركبتيها من ثقل الوحى، وشرف الآية.
    عدد آياتها مائة وعشرون فى عد الكوفى، واثنتان وعشرون فى عد الحجاز والشأم، وثلاث وعشرون فى عد البصرى.
    وكلماتها ألفان وثمان مائة وأربع، وحروفها أحد عشر ألفا، وتسع مائة وثلاثة وثلاثون حرفا.
    المختلف فيها ثلاث: العقود، {ويعفوا عن كثير} ، {فإنكم غالبون} .
    وفواصل آياتها (ل م ن د ب ر) يجمعها (لم ندبر) اللام فى ثلاث كلها سبيل.
    واسمها سورة المائدة، لاشتمالها على قصة نزول المائدة من السماء، وسورة الأحبار؛ لاشتمالها على ذكرهم فى قوله: {والربانيون والأحبار} وقوله: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار} .
    وجملة مقاصد السورة المشتملة عليها: الأمر بوفاء العهود، وبيان ما أحله الله تعالى من البهائم، وذكر تحريم المحرمات، وبيان إكمال الدين، وذكر الصيد، والجوارح، وحل طعام أهل الكتاب، وجواز نكاح المحصنات منهن، وتفصيل الغسل، والطهارة، والصلاة، وحكم الشهادات، والبينات وخيانة أهل الكتاب القرآن، ومن أنزل عليه، وذكر المنكرات من مقالات النصارى، وقصة بنى إسرائيل مع العمالقة، وحبس الله تعالى إياهم فى التيه بدعاء بلعام، وحديث قتل قابيل أخاه هابيل، وحكم قطاع الطريق، وحكم السرقة، وحد السراق، وذم أهل الكتاب، وبيان نفاقهم، وتجسسهم وبيان الحكم بينهم، وبيان القصاص فى الجراحات، وغيرها، والنهى عن موالاة اليهود والنصارى، والرد على أهل الردة، وفضل الجهاد، وإثبات ولاية الله ورسوله للمؤمنين، وذم اليهود (فى) قبائح أقوالهم، وذم النصارى بفاسد اعتقادهم، وبيان كمال عداوة الطائفتين للمسلمين، ومدح أهل الكتاب الذين قدموا من الحبشة، وحكم اليمين، وكفارتها، وتحريم الخمر، وتحريم الصيد على المحرم، والنهى عن السؤالات الفاسدة،وحكم شهادات أهل الكتاب، وفصل الخصومات، ومحاورة الأمم رسلهم فى القيامة، وذكر معجزات عيسى، ونزول المائدة، وسؤال الحق تعالى إياه فى القيامة تقريعا للنصارى، وبيان نفع الصدق يوم القيامة للصادقين.
    الناسخ والمنسوخ:
    فى هذه السورة تسع آيات {لا تحلوا شعآئر الله} م [ {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ن {إنما جزآء الذين يحاربون الله ورسوله} م] {إلا الذين تابوا} ن للعموم {فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} م {وأن احكم بينهم} ن للتخيير: وقيل: هى محكمة {ما على الرسول إلا البلاغ} م آية السيف ن {عليكم أنفسكم} م آخر الآية ن جمع فيها الناسخ [والمنسوخ] وهى من نوادر آيات القرآن {شهادة بينكم} فى السفر من الدين م {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ن نسخت لشهاداتهم فى السفر والحضر {فإن عثر} م ذوى عدل منكم ن {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة} م شهادة أهل الإسلام ن.
    المتشابهات:
    قوله {واخشون اليوم} بحذف الياء، وكذلك {واخشون ولا تشتروا} وفى البقرة وغيرها {واخشونى} بإثبات الياء، لأن الإثبات هو الأصل، وحذف و {واخشون اليوم} من الخط لما حذف من اللفظ، وحذف {واخشون} و (لا) موافقة لما قبها.
    قوله: {واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور} ثم أعاد فقال: {واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} لأن الأول وقع على النية، وهى ذات الصدور، والثانى على العمل. وعن ابن كثير أن الثانية نزلت فى اليهود، وليس بتكرار.
    قوله: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم} وقال فى الفتح {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وقع ما فى هذه السورة موافقة لفواصل الآى، ونصب ما فى الفتح موافقة للفواصل أيضا، ولأنه مفعول (وعد) ، وفى مفعول (وعد) فى هذه السورة أقوال: أحدها محذوف دل عليه (وعد) ، خلاف ما دل عليه أوعد أى خيرا. وقيل: محذوف، وقوله: {لهم مغفرة} تفسيره. وقيل: {لهم مغفرة} جملة وقعت موقع المفرد، ومحلها نصب، كقول الشاعر:
    وجدنا الصالحين لهم جزاء ... وجنات وعينا سلسبيلا
    فعطف (جنات) على (لهم جزاء) . وقيل: رفع على الحكاية، لأن الوعد قول؛ وتقديره قال الله: لهم مغفرة. وقيل: تقديره: أن لهم مغفرة، فحذف (أن) فارتفع ما بعده.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد



    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (18)
    من صـــ 181 الى صـــ 188


    قوله: {يحرفون الكلم عن مواضعه} وبعده {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} لأن الأولى فى أوائل اليهود، والثانية فيمن كانوا فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم، أى حرفوها بعد أن وضعها الله مواضعها، وعرفوها وعملوا بها زمانا.
    قوله: {ونسوا حظا مما ذكروا به} كرر لأن الأولى [فى اليهود] والثانية فى حق النصارى. والمعنى: لن ينالوا منه نصيبا. وقيل: معناه: تركوا بعض ما أمروا به.
    قوله: {يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم} ثم كررها، فقال: {يا أهل الكتاب} لأن الأولى نزلت فى اليهود حين كتموا (صفات النبى صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم من التوراة، والنصارى حين كتموا) بشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم فى الإنجيل، وهو قوله: {يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب} ثم كرر فقال: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} فكرر {يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم} أى شرائعكم فإنكم على ضلال لا يرضاه الله، {على فترة من الرسل} أى على انقطاع منهم ودروس مما جاءوا به.
    قوله: {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشآء} ،ثم كرر فقال: {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير} لأن الأولى نزلت فى النصارى حين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، فقال: ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ليس فيهما معه شريك، ولو كان عيسى إلها لاقتضى أن يكون معه شريكا، ثم من يذب عن المسيح وأمه وعمن فى الأرض جميعا إن أراد إهلاكهم، فإنهم مخلوقون له، وإن قدرته شاملة عليهم، وعلى كل ما يريد بهم. والثانية نزلت فى اليهود والنصارى حين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فقال: ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، والأب لا يملك ابنه ولا يعذبه، وأنتم مصيركم إليه، فيعذب من يشاء منكم، ويغفر لمن يشاء.
    قوله: {وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا} وقال فى سورة إبراهيم {وإذ قال موسى لقومه اذكروا} لأن تصريح اسم المخاطب مع حرف الخطاب يدل على تعظيم المخاطب به و [لما] كان ما فى هذه السورة نعما جساما ما عليها من مزيد وهو قوله {جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} صرح، فقال: يا قوم، ولموافقة ما قبله وما بعده من النداء وهو {ياقوم ادخلوا} {ياموسى إن فيها} {ياموسى إنا} ولم يكن ما فى إبراهيم بهذه المنزلة فاقتصر على حرف الخطاب.
    قوله: {ومن لم يحكم بمآ أنزل الله} كرره ثلاث مرات، وختم الأولى بقوله: الكافرون، والثانية بقوله: الظالمون، والثالثة بقوله: الفاسقون، قيل: لأن الأولى نزلت فى حكام المسلمين، والثانية فى اليهود، والثالثة فى النصارى. وقيل: الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد، وهو الكفر، عبر عنه بألفاظ مختلفة؛ لزيادة الفائدة، واجتناب صورة التكرار. وقيل: ومن لم يحكم بما أنزل الله إنكارا له فهو كافر، ومن لم يحكم بالحق جهلا وحكم بضده فهو فاسق، ومن لم يحكم بالحق مع اعتقاده وحكم بضده فهو ظالم، وقيل: ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر بنعمة الله، ظالم فى حكمه، فاسق فى فعله.
    قوله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} كرر لأن النصارى اختلفت أقوالهم، فقالت اليعقوبية: الله تعالى ربما تجلى فى بعض الأزمان فى شخص، فتجلى يومئذ فى شخص عيسى، فظهرت منه المعجزات، وقالت الملكانية الله اسم يجمع أبا وابنا وروح القدس، اختلف بالأقانيم والذات واحدة. فأخبر الله عز وجل أنهم كلهم كفار.
    قوله: {لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} ذكر فى هذه السورة هذه الخلال جملة؛ لأنها أول ما ذكرت، ثم فصلت.
    فضل السورة
    عن ابن عمر أنه قال: نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على راحلته، فلم يستطع أن تحمله، حتى نزل عنها. ويروى بسند ضعيف: من قرأ هذه السورة أعطى من الأجر بعدد كل يهودى ونصرانى فى دار الدنيا عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات. وفى رواية: من قرأ هذه السورة أعطى بكل يهودى ونصرانى على وجه الأرض ذرات، بكل ذرة منها حسنة، ودرجات كل درجة منها أوسع من المشرق إلى المغرب سبعمائة ألف ألف؛ ضعيف. ويروى أنه قال: يا على من قرأ سورة المائدة شفع له عيسى، وله من الأجر مثل أجور حواريى عيسى، ويكتب له بكل آية قرأها مثل ثواب عمار بيت المقدس.
    بصيرة فى.. الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض
    هذه السورة مكية، سوى ست آيات منها: {وما قدروا الله حق قدره} إلى آخر ثلاث آيات {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم} إلى آخر ثلاث آيات. هذه الآيات الست نزلت بالمدينة فى مرتين، وباقى السورة نزلت بمكة دفعة واحدة.
    عدد آياتها مائة وخمس وستون آية عند الكوفيين، وست عند البصريين والشأميين، وسبع عند الحجازى.
    وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة وعدد حروفها اثنا عشر ألفا ومائتان وأربعون.
    والمختلف فيها أربع آيات {الظلمات والنور} {بوكيل} {كن فيكون} {إلى صراط مستقيم} .
    فواصل آياتها (ل م ن ظ ر) يجمعها (لم نظر) .
    ولهذه السورة اسمان: سورة الأنعام، لما فيه من ذكر الأنعام مكررا {وقالوا هاذه أنعام وحرث} {ومن الأنعام حمولة وفرشا} {وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها} ، وسورة الحجة؛ لأنها مقصورة على ذكر حجة النبوة. وأيضا تكررت فيه الحجة {وتلك حجتنآ آتيناهآ إبراهيم} {قل فلله الحجة البالغة} .
    مقصود السورة على سبيل الإجمال، ما اشتمل على ذكره: من تخليق السماوات والأرض، وتقدير النور والظلمة، وقضاء آجال الخلق، والرد على منكرى النبوة، وذكر إنكار الكفار فى القيامة، وتمنيهم الرجوع إلى الدنيا، وذكر تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيب المكذبين، وإلزام الحجة على الكفار، والنهى عن إيذاء الفقراء، واستعجال الكفار بالعذاب، واختصاص الحق تعالى بالعلم المغيب، وقهره، وغلبته على المخلوقات، والنهى عن مجالسة الناقضين ومؤانستهم، وإثبات البعث والقيامة، وولادة الخليل عليه السلام، وعرض الملكوت عليه، واستدلاله، حال خروجه من الغار، ووقوع نظره على الكواكب، والشمس، والقمر، ومناظرة قومه، وشكاية أهل الكتاب، وذكرهم حالة النزع، وفى القيامة، وإظهار برهان التوحيد ببيان البدائع والصنائع،والأمر بالإعراض عن المشركين، والنهى عن سب الأصنام، وعبادها، ومبالغة الكفار فى الطغيان، والنهى عن أكل ذبائح الكفار، ومناظرة الكفار، ومحاورتهم فى القيامة، وبيان شرع عمرو بن لحى فى الأنعام بالحلال والحرام، وتفصيل محرمات الشريعة الإسلامية، ومحكمات آيات القرآن، والأوامر والنواهى من قوله تعالى {قل تعالوا} إلى آخر ثلاث آيات، وظهور أمارات القيامة، وعلاماتها فى الزمن الأخير، وذكر جزاء الإحسان الواحد بعشرة، وشكر الرسول على تبريه من الشرك، والمشركين، ورجوعه إلى الحق فى محياه ومماته، وذكر خلافة الخلائق، وتفاوت درجاتهم، وختم السورة بذكر سرعة عقوبة الله لمستحقيها، ورحمته، ومغفرته لمستوجبيها، بقوله {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد




    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (19)
    من صـــ 189 الى صـــ 195

    الناسخ والمنسوخ
    الآيات المنسوخة فى السورة أربع عشرة آية {إني أخاف إن عصيت ربي} م {ليغفر لك الله} ن {قل لست عليكم بوكيل} م آية السيف ن {وإذا رأيت الذين يخوضون} إلى قوله {وما على الذين يتقون} م {فلا تقعدوا معهم} ن {وذر الذين اتخذوا دينهم} م {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} ن {قل الله ثم ذرهم} م آية السيف ن {فمن أبصر فلنفسه} م آية السيف ن {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} م آية السيف ن {فذرهم وما يفترون} م آية السيف ن {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} م {اليوم أحل لكم الطيبات} ن {اعملوا على مكانتكم} م آية السيف ن {إن الذين فرقوا دينهم} م آية السيف ن.
    المتشابهات
    قوله: {فقد كذبوا بالحق لما جآءهم فسوف يأتيهم أنباء} وفى الشعراء {فقد كذبوا فسيأتيهم} لأن سورة الأنعام متقدمة فقيد التكذيب بقوله: {بالحق لما جآءهم} ثم قال: {فسوف يأتيهم} على التمام، وذكر فى الشعراء {فقد كذبوا} مطلقا؛ لأن تقييده فى هذه السورة يدل عليه، ثم اقتصر على السين هناك بد (فسوف) ليتفق اللفظان فيه على الاختصار.
    قوله {ألم يروا كم أهلكنا} فى بعض المواضع بغير واو؛ كما فى هذه السورة، وفى بعضها بالواو، وفى بعضها بالفاء؛ هذه الكلمة تأتى فى القرآن على وجهين: أحدهما متصل بما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة، فذكره بالألف والواو، ليدل الألف على الاستفهام، والواو على عطف جملة على جملة قبلها، وكذا الفاء، ولكنها أشد اتصالا بما قبلها، والثانى متصل بما الاعتبار فيها بالاستدلال، فاقتصر على الألف دون الواو والفاء، ليجرى مجرى الاستئناف؛ ولا ينقص هذا الأصل قوله {ألم يروا إلى الطير} فى النحل؛ لاتصالها بقوله {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم} وسبيله الاعتبار بالاستدلال، فبنى عليه {ألم يروا إلى الطير} .
    قوله {قل سيروا في الأرض [ثم انظروا} فى هذه السورة فحسب. وفى غيرها: {سيروا في الأرض] فانظروا} لأن ثم للتراخى، والفاء للتعقيب، وفى هذه السورة تقدم ذكر القرون فى قوله {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} ثم قال {وأنشأنا من بعدهم قرناءاخرين} فأمروا باستقراء الديار، وتأمل الآثار، وفيها كثرة فيقع ذلك (فى) سير بعد سير، وزمان بعد زمان، فخصت بثم الدالة على التراخى بعد الفعلين، ليعلم أن السير مأمور به على حدة؛ ولم يتقدم فى سائر السور مثلها، فخضت بالفاء الدالة على التعقيب.
    قوله {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} ليس بتكرار لأن الأول فى حق الكفار، (والثانى) فى حق أهل الكتاب.
    قوله {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه [لا يفلح الظالمون} وقال فى يونس (فمن) بالفاء، وختم الآية بقوله {إنه] لا يفلح المجرمون} لأن الآيات التى تقدمت فى هذه السورة عطف بعضها على بعض بالواو، وهو قوله {وأوحي إلي هاذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ... وإنني بريء} ثم قال: {ومن أظلم} وختم الآية بقوله: {الظالمون} ليكون آخر الآية [موافقا للأول. وأما فى سورة يونس فالآيات التى تقدمت عطف بعضها على بعض بالفاء وهو قوله: {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} ثم قال: فمن أظلم (بالفاء وختم الآية] بقوله: {المجرمون} أيضا موافقة لما قبلها وهو قوله: {كذلك نجزي القوم المجرمين} فوصفهم بأنهم مجرمون، وقال بعده {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم} فختم الآية بقوله: المجرمون ليعلم أن سبيل (هؤلاء سبيل) من تقدمهم.
    قوله: {ومنهم من يستمع إليك} وفى يونس {يستمعون} لأن ما فى هذه السورة نزل فى أبى سفيان، والنضر بن الحارث، وعتبة، وشيبة، وأمية، وأبى بن خلف، فلم يكثروا ككثرة قوله (من) فى يونس لأن المراد بهم جميع الكفار، فحمل هاهنا مرة على لفظ (من) فوحد؛لقلتهم، ومرة على المعنى، فجمع؛ لأنهم وإن قلوا جماعة. وجمع ما فى يونس ليوافق اللفظ المعنى. وأما قوله فى يونس: {ومنهم من ينظر إليك} فسيأتى فى موضعه إن شاء الله تعالى.
    قوله: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} ثم أعاد فقال: {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} لأنهم أنكروا النار فى القيامة، وأنكروا الجزاء والنكال، فقال فى الأولى: {إذ وقفوا على النار} ، وفى الثانية {على ربهم} أى جزاء ربهم ونكاله فى النار، وختم بقوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} .
    قوله: {إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} ليس غيره. وفى غيرها بزيادة (نموت ونحيا) لأن ما فى هذه السورة عند كثير من المفسرين متصل بقوله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولم يقولوا ذلك، بخلاف ما فى سائر السور؛ فإنهم قالوا ذلك؛ فحكى الله تعالى عنهم.
    قوله: {وما الحياة الدنيآ إلا لعب ولهو} قدم اللعب على اللهو فى موضعين هنا، وكذلك فى القتال، والحديد، وقدم اللهو على اللعب فى الأعراف، والعنكبوت، وإنما قدم اللعب فى الأكثر لأن اللعب زمانه الصبا واللهو زمانه الشباب، وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب. يبينه ما ذكر فى الحديد {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب} كلعب الصبيان {ولهو} كلهو الشبان {وزينة} كزينة النسوان {وتفاخر} كتفاخر الإخوان {وتكاثر} كتكاثر السلطان. وقريب من هذا فى تقديم لفظ اللعب على اللهو قوله {وما بينهما لاعبين لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنآ} وقدم اللهو فى الأعراف لأن ذلك فى القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى، وبدأ بما به الإنسان انتهى من الحالتين. وأما العنكبوت فالمراد بذكرها زمان الدنيا، وأنه سريع الانقضاء، قليل البقاء، وإن الدار الآخرة لهى الحيوان أى الحياة التى لا بداية لها، ولا نهاية لها، فبدأ بذكر اللهو؛ لأنه فى زمان الشباب، وهو أكثر من زمان اللعب، وهو زمان الصبا.
    قوله: {أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة} ثم قال: {أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة} وليس لهما ثالث. وقال: فيما بينهما {أرأيتم} وكذلك فى غيرها، ليس لهذه الجملة فى العربية نظير، لأنه جمع بين علامتى خطاب، وهما التاء والكاف، والتاء اسم بالإجماع، والكاف حرف عند البصريين يفيد الخطاب فحسب، والجمع بينهما يدل على أن ذلك تنبيه على شىء، ما عليه من مزيد، وهو ذكر الاستئصال بالهلاك، وليس فيما سواهما ما يدل على ذلك، فاكتفى بخطاب واحد والله أعلم.
    قوله {لعلهم يتضرعون} فى هذه السورة، وفى الأعراف: {يضرعون} بالإدغام لأن هاهنا وافق ما بعده وهو قوله: {جاءهم بأسنا تضرعوا} ومستقبل تضرعوا يتضرعون لا غير. قوله: {انظر كيف نصرف الآيات} مكرر؛ لأن التقدير: انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون عنها؛ فلا نعرض عنهم بل نكررها لعلهم يفقهون.
    قوله: {قل لا أقول لكم عندي خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} فكرر {لكم} وقال فى هود {ولا أقول إني ملك} فلم يكرر {لكم} لأن فى هود تقدم {إني لكم نذير} وعقبه {وما نرى لكم} وبعده {أن أنصح لكم} فلما تكرر {لكم} فى القصة أربع مرات اكتفى بذلك.
    قوله: {إن هو إلا ذكرى للعالمين} فى هذه السورة، وفى سورة يوسف: {إن هو إلا ذكر للعالمين} منونا؛ لأن فى هذه السورة تقدم {بعد} {ولكن ذكرى} فكان {الذكرى} أليق بها.
    قوله: {يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي} فى هذه السورة؛ وفى آل عمران: {وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي}كذلك فى الروم، ويونس {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} لأن [ما] فى هذه السورة وقعت بين أسماء الفاعلين وهو فالق الحب، فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا، واسم الفاعل يشبه الاسم من وجه، فيدخله الألف واللام، والتنوين، والجر (من وجه) وغير ذلك، ويشبه الفعل من وجه، فيعمل عمل الفعل، ولا يثنى و (لا) يجمع إذا عمل، وغير ذلك. ولهذا جاز العطف عليه بالاسم نحو قوله: الصابرين والصادقين، وجاز العطف عليه بالفعل نحو قوله: {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا} ، ونحو قوله: {سوآء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} فلما وقع بينهما ذكر {يخرج الحي من الميت} بلفظ الفعل و {ومخرج الميت من الحي} بلفظ الاسم؛ عملا بالشبهين وأخر لفظ الاسم؛ لأن الواقع بعده اسمان، والمتقدم اسم واحد، بخلاف ما فى آل عمران؛ لأن ما قبله وما بعده أفعال. وكذلك فى يونس والروم قبله وبعده أفعال. فتأمل فيه؛ فإنه من معجزات القرآن.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي ----متجدد




    بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز
    ـ مجد الدين محمد بن الفيروز آبادي
    المجلد الاول
    (20)
    من صـــ 196 الى صـــ 202

    قوله {قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} ثم قال: {قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} وقال بعدهما {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} لأن من أحاط علما بما فى الآية الأولى صار عالما، لأنه أشرف العلوم، فختم بقوله: يعلمون؛ والآية الثانية مشتملة على ما يستدعى تأملا وتدبرا، والفقه علم يحصل بالتفكر والتدبر، ولهذا لا يوصف به الله سبحانه وتعالى، فختم الآية بقوله: {يفقهون} ومن أقر بما فى الآية الثالثة صار مؤمنا حقا، فختم الآية بقوله {يؤمنون} وقوله {ذلكم لآيات} فى هذه السورة، لظهور الجماعات وظهور الآيات (عم جميع) الخطاب وجمع الآيات.
    قوله: {أنشأكم} ، وفى غيرها {خلقكم} لموافقة ما قبلها، وهو {أنشأنا من بعدهم} وما بعدها {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} .
    قوله: {مشتبها وغير متشابه} ، وفى الآية الأخرى {متشابها وغير متشابه} لأن أكثر ما جاء فى القرآن من هاتين الكلمتين جاء بلفظ التشابه، نحو قوله: {وأتوا به متشابها} {إن البقر تشابه علينا} {تشابهت قلوبهم} {وأخر متشابهات} فجاء {مشتبها وغير متشابه} فى الآية الأولى و {متشابها وغير متشابه} فى الآية الأخرى على تلك القاعدة. ثم كان لقوله "تشابه" معنيان: أحدهما التبس، والثانى تساوى، وما فى البقرة معناه: التبس فحسب، فبين بقوله: {مشتبها} ومعناه: ملتبسا أن ما بعده من باب الالتباس أيضا، لا من باب التساوى والله أعلم.
    قوله: {ذلكم الله ربكم لا إلاه إلا هو خالق كل شيء} فى هذه السورة، وفى المؤمن {خالق كل شيء لا إلاه إلا هو} ؛ لأن فيها قبله ذكر الشركاء، والبنين، والبنات، فدفع قول قائله بقوله: لا إله إلا هو، ثم قال {خالق كل شيء} وفى المؤمن قبله ذكر الخلق وهو {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} لا على نفى الشريك، فقدم فى كل سورة ما يقتضيه ما قبله من الآيات.
    قوله: {ولو شآء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} وقال فى الآية الأخرى من هذه السورة: {ولو شآء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون} لأن قوله: {ولو شآء ربك} وقع عقيب آيات فيها ذكر الرب مرات وهى {جآءكم بصآئر من ربكم} الآيات ... فختمها بذكر الرب؛ ليوافق {أخراها أولاها} .
    قوله: {ولو شآء الله ما فعلوه} وقع بعد قوله {وجعلوا لله مما ذرأ} فختم بما بدأ.
    قوله: {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله} وفى ن: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} بزيادة الباء، ولفظ الماضى؛ لأن إثبات الباء هو الأصل؛ كما فى {ن والقلم} وغيرها من السور؛ لأن المعنى لا يعمل فى المفعول به، فقوى بالباء. وحيث حذفت أضمر فعل يعمل فيما بعده. وخصت هذه السورة بالحذف موافقة لقوله: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} وعدل إلى لفظ المستقبل؛ لأن الباء لما حذفت التبس اللفظ بالإضافة - تعالى الله عن ذلك - فنبه بلفظ المستقبل على قطع الإضافة؛ لأن أكثر ما يستعمل بلفظ (أفعل من) يستعمل مع الماضى؛ أعلم من دب ودرج، وأحسن من قام وقعد، وأفضل من حج واعتمر. فتنبه فإنه من أسرار القرآن.
    قوله: {فسوف تعلمون} بالفاء حيث وقع، وفى هود {سوف تعلمون} بغير فاء؛ لأنه تقدم فى هذه السورة وغيرها (قل) فأمرهم أمر وعيد بقوله (اعملوا) أى اعملوا فستجزون، ولم يكن فى هود (قل) فصار استئنافا. وقيل: {سوف تعلمون} فى سورة هود صفة لعامل، أى إنى عامل سوف تعلمون، فحذف الفاء.
    قوله {سيقول الذين أشركوا لو شآء الله مآ أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} ، وقال فى النحل: {وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء} فزاد {من دونه} مرتين، وزاد (نحن) لأن لفظ الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته، ودل على تحريم أشياء، وتحليل أشياء من دون الله، فلم يحتج إلى لفظ {من دونه} ؛ بخلاف لفظ العبادة؛ فإنها غير مستنكرة، وإنما المستنكرة عبادة شىء مع الله سبحانه وتعالى ولا يدل على تحريم شئ مما دل عليه (أشرك) ، فلم يكن بد (من تقييده بقوله: "من دونه". ولما حذف "من دونه" من الآية مرتين حذف معه (نحن) لتطرد الآية فى حكم التخفيف.
    قوله: {نحن نرزقكم وإياهم} وفى سبحان {نحن نرزقهم وإياكم} على الضد؛ لأن التقدير: من إملاق [بكم] نحن نرزقكم وإياهم وفى سبحان: خشية إملاق يقع بهم نحن نرزقهم وإياكم.
    قوله: {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} وفى الثانية {لعلكم تذكرون} وفى الثالثة {لعلكم تتقون} لأن الآية (الأولى) مشتملة على خمسة أشياء، كلها عظام جسام، وكانت الوصية بها من أبلغ الوصايا، فختم الآية بما فى الإنسان من أشرف السجايا (وهو العقل) الذى امتاز به الإنسان عن سائر الحيوان؛ والآية الثانية مشتملة على خمسة أشياء يقبح تعاطيها وارتكابها، وكانت الوصية بها تجرى مجرى الزجر والوعظ، فختم الآية بقوله: {تذكرون} أى تتعظون بمواعظ الله؛ والآية الثالثة مشتملة على ذكر الصراط المستقيم، والتحريض على اتباعه، واجتناب منافيه، فختم الآية بالتقوى التى هى ملاك العمل وخير الزاد.
    قوله: {جعلكم خلائف الأرض} فى هذه السورة، وفى يونس والملائكة {جعلناكم خلائف في الأرض} لأن فى هذه العشر الآيات تكرر ذكر المخاطبين مرات، فعرفهم بالإضافة؛ وقد جاء فى السورتين على الأصل، وهو {جاعل في الأرض خليفة} {جعلكم مستخلفين فيه} . قوله: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} وقال فى الأعراف {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} لأن ما فى هذه السورة وقع بعد قوله {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وقوله: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} فقيد قوله: {غفور رحيم} باللام ترجيحا للغفران على العقاب. ووقع ما فى الأعراف بعد قوله: {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} وقوله: {كونوا قردة خاسئين} فقيد العقاب باللام لما تقدم من الكلام، وقيد المغفرة أيضا بها رحمة منه للعباد؛ لئلا يترجح جانب الخوف على الرجاء. وقدم {سريع العقاب} فى الآيتين مراعاة لفواصل الآى.
    فضل السورة
    عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نزلت على سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح، والتحميد فمن قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك، بعدد كل آية من الأنعام، يوما وليلة، وخلق الله من كل حرف ملكا يستغفرون له إلى يوم القيامة" وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرأ ثلاث مرات من أول سورة الأنعام إلى قوله: {ونعلم ما تكسبون} وكل الله به أربعين ألف ملك، يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة، ونزل ملك من السماء السابعة، ومعه مرزبة من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس ويوحى فى قلبه شيئا ضربه بها ضربة كانت بينه وبينه سبعون حجابا، فإذا كان يوم القيامة يقول الرب تبارك وتعالى: عش فى ظلى وكل من ثمار جنتى، واشرب من ماء الكوثر، واغتسل من ماء السلسبيل، وأنت عبدى، وأنا ربك". وقال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ هذه السورة كان له نور من جميع الأنعام التى خلقها الله فى الدنيا ذرا بعدد كل ذر ألف حسنة ومائة ألف درجة" ويروى أن هذه السورة معها من كل سماء ألف ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتهليل، فمن قرأها تستغفر له تلك الليلة. وعن جعفر الصادق أنه قال:من قرأ هذه السورة كان من الآمنين يوم القيامة. وإن فيها اسم الله [فى] تسعين موضعا. فمن قرأها يغفر له سبعين مرة. وعن النبى صلى الله عليه وسلم: "يا على من قرأ سورة الأنعام كتب اسمه فى ديوان الشهداء، ويأخذ ثواب الشهداء، وله بكل آية قرأها مثل ثواب الراضين بما قسم الله لهم". وقال كعب الخير فتحت التوراة بقوله (الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض) وختمت بقوله {الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا} .

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •