* * *
قالت فتاة فقيرة لأخيها الفقير : مالذي تشتهيه نفسك ؟ ، قال :
هل تودّين أن أجيبك على ما تمنيته سالفاً أم حاضراً أم مستقبلاً ؟ ، إن ما تشتهيه نفسي هو المال ، وإن تحرك لسانك وسألني لمَ ؟ سأقول أن المال هو الذي يُغنيني عن عتبات الشوارع المتسخة ، وعن الأزقة النائية التي ألهث حولها بحثاً عن ريالٍ تائه عن بيت صاحبه ، وهو الذي يكفّ يديّ عن التفتيشِ في حاويات النفايات .. لعلي أجد برتقالة مختبئة هاربة من الموت! ، أو كمية من الغذاء أرد بها صحّتي وأتدفأ بها من البَرد .

هل تذكرين الصورة الممزقة التي أدسها تحت منامي بعد أن أتأمل بها ؟ نعم .. تلك السيارة الصارخة التي وجدتها في مزبلةٍ ملوّثةٍ ونفضت عنها غبارها وما تعلق بها ؛ إنها أمنيتي الكبيرة التي لو تحققت سأحملكِ عليها لنرحل عن هذا الفقر الذي أهلك أحلامنا قبلنا لتكون هي السبيل الأول للهروب عن عالمنا التعيس .

قالت له : ثمّ ماذا ؟ ، قال :
ثم نعيش معيشة الأغنياء .. التي كانت تعبر بجانبنا عند أبواب الأسواق إذا تسولنا بها ، كأن غِناهم الشمس .. تنصهر عقولنا كلما مروا مُنية المال المتبقي في المحفظة الصغيرة " بيت المال " .. أترين أمنية ساذجة حقيرة أن يتمنى الإنسان في عمره أن يكون محفظةً للدراهمِ ! أن يشمّ رائحتها وينام معها ويحضر دخولها وذهابها وحضورها وغيابها ؟! .. ثم إذا حصلتُ على النقودِ أغيب عن الحزن حتى أفارقه ذلك الفراق الأبديّ ، لتريني غداً قد تربّعتُ على قائمةِ الأغنياء ، وتتربعين على رؤوس الغنياتِ ، مانحلم به نجده .. لالا بل مايمر بخاطرنا نُحضره لا يمنعنا عنه سوى السير إلى المصرف .

* * *

قالت له : إن حلمك يختلف عن حلمي كثيراً ، قال : وما يكون ؟!
قالت : حلمي أن يذهب البأس عن أمي .. ويشفيها الله وتصبح هي ريالاتنا وضحكاتنا ، هي ليلنا ونهارنا ، هي آمالنا وأحلامنا وأمنياتنا ..
إنك تشتهي هوى سيذهب ولن يبقى ، وهل تضمن بقاءه بين يديك ؟ إن والدي – رحمه الله – ما ضمن إرثه من جدي .. ومرت سنوات يسيرة حتى هَبّت ريح عاتية ونظرَ إلى يديه فإذا بها خالية كالبئر القفر !! .

هاهي أمنا على فراش الموت .. أتعلمُ لماذا تبكي ؟ إنها لا تبكي على مرضها ولا على آلامها ولا على عجزها ؛ بل عليّ وعليك ، إنها تبكي ليس على فراقنا أيضاً !؛ بل على ما ستؤول إليهِ حياتنا ، إنها تبكي على مصيرنا يا أُخيّ ، على ليالينا اليتيمةِ بدونها ، رحَل والدي وما ترك شيئا ، وسترحل هي ولن تترك شيئا سوى حبها في قلوبنا وذكراها ، و .. ومنامها البَالي وحجرتها المنزوية .

قال : وما هو الحل ؟ إنني أرتعد من حديثك !
قالت : أنظر إلى السماء .. إن بها مالنا وسعادتنا وغنانا عن كل نفسٍ ويد .. وبها ربنا سبحانه وتعالى ، أترى .. أترى هذا الكون ! إن كل كبدٍ رطبةٍ رِزقها على الله ، لندَع الفقر وماضينا كله خلفنا ؛ إلا من أبينا .. ولننظر إلى تعبِ أمنا وندعو لها ونساعدها ، أطلب ما شئت من الله وسيحققه لك بشرط! أن تقترب منه وتحبّه بقدر حبّك لحلمك الذي لن يتحقق إلا بأمر من عنده .

يا أخيّ .. إن الحياة ذاهبة ببريقها ونجومها وفرحها وتعاستها وشقائها .. ولن يأتي معك معدن ذهب ولا مقود سيارة ولا حتى ثيابك التي تحتويك كل ثانية!، لن ينير قبرك سوى ما تحمله على كتفك الأيمن : عملك الصالح ، والصالح فقط . كل ما تراه عينيك من ضوءٍ ساطعٍ سينتهي ، الظفر في إرضاء الله والتنافس إلى الجنة .

قامَ وأخرج صورة السيارة ومزقها ، وأخرَج أمنياته المسجونة خلف قضبان الفقر وأطلق سراحها ؛ علها تصادف قلبا جديداً نظيفاً غنياً! خالياً من كل حلمٍ وتسكنه . هَبَّ وأخته إلى أمهما يطعمانها ويسكنان إليها فهي ليلهم وحياتهم ومَالهم.

* * *

وافر السَلام لعبورك ..
سَلمان الجفن