استدراكات : 1. قال رحمه الله 6/161 : (قال زفر ابن الهذيل : من صام رمضان وهو لا ينوي صوماً أصلاً ، بل نوى أنه مفطر في كل يوم منه إلا أنه لم يأكل ولم يشرب ولا جامع .. فإنه صائم ويجزئه)
أقول : في هذا تجنٍ على زفر ، فإن المنقول عنه في كتب الأحناف عدم اشتراطه النية لرمضان فقط ، فمن أين له أن من نوى الفطر فصيامه جائز عند زفر؟ والعجب أنه ظاهري ولا يقول ولا حتى بدلالة المفاهيم.
ويجوز في ظني أن يريد زفر بالنية التي لا تشترط في رمضان نية التعيين . والله أعلم.
على أنه قد أنكر الكرخي هذه الرواية عن زفر وزعم أن مذهبه كمذهب مالك كما في (الاختيار) 1/164 ، وهذا أيضاً محتمل لما ذكرناه بأن ينوِ الرجل أول الشهر صيام جميع الشهر من غير تعيين لكون الشهر من رمضان ، فيكون الذي نفاه هو نية التعيين لرمضان ، ويجوز أن يكون نفي اشتراط النية إنما هو عن غير أول الشهر كما هو ظاهر كلام الكرخي. والله أعلم.
2. قال رحمه الله 6/194 : ( أما الحنفيون فأفسد الطباق أقوالاً ، وأسمجها تناقضاً وأبعدها عن المعقول ...) ثم أخذ يعدد ما زعمه تناقضاً وتركاً للقياس .
أقول : الأحناف أوجبوا الكفارة على من تعمد فعلاً مناقضاً للصيام وهي الأكل والشرب والجماع وما كان في معناها ؛ لأن المراد بالصيام هو الإمساك عن هذه الأشياء ، أما غيرها كالاستقاءة مثلاً فلم يعرف إلا بالشرع حتى لو لم يأتِ نص بأن المستقيء عمداً يفطر لم يحكموا بفطره ، بخلاف المذكورات أولاً ؛ فإن الإمساك عنها في الصيام كان معروفاً قبل الإسلام ، وليس هو في معناها ، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : (يدع طعامه وشرابه وشهوته) كيف يدل على أنها مستلذة ومحبوبة للصائم حتى استوجب الإمساك عنها والصبر على تركها ذلك الأجر ، بخلاف الإستقاءة والاستعاط والاحتقان ، حتى لو قيل : (يدع الاستقاءة والسعوط والاحتقان من أجلي الصيام لي وأنا أجزي به) لكان ذالك ضعيفاً سخيفاً في العقل ولم نفهم علة تَرَتُّبِ ذلك الثواب على ترك الاستقاءة والسعوط والحقن وما أشبهها . فإذا اتضح لك ذلك فكل ما لم يكن في معنى الطعام والشراب والجماع مما أوجب الفطر أي كان لا يوجب الكفارة ، لم يعد ثم تناقض في كلامهم أصلاً إلا قوله : (وَلَمْ يُبْطِلُوا صَوْمَ مَنْ لَاطَ بِذَكَرٍ فَأَوْلَجَ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ وَلَا صَوْمَ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ وَلَا صَوْمَ مَنْ أَوْلَجَ فِي دُبُرِ امْرَأَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ وَرَأَوْا صَوْمَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ تَامًّا صَحِيحًا لَا قَضَاءَ فِيهِ وَلَا كَفَّارَةَ)
لكن هذا الذي نقله عن الأحناف ليس مذهبهم ، بل هو مذهبه فيمن فعل جميع ما ذكر لكنه لم يذكر صيامه وإن كان مستحضراً كون فعله معصية ، حتى أنه لو التاط بأبيه أو ابنه بالإكراه لهما وهو متعمد لذلك ثم يتمادى فيه حتى تغرب الشمس وهو في كل ذلك ناسياً لصومه فهو عنده كمن جامع امرأته ناسياً لصومه لا قضاء عليه ولا كفارة.
3. قال رحمه الله 6/205 : (وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ يُنْقِضُ الصَّوْمَ بِالْإِنْزَالِ لِلْمَنِيِّ إذَا تَعَمَّدَ اللَّذَّةَ، وَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ، وَلَا إجْمَاعٌ، وَلَا قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلَا قِيَاسٌ -: ثُمَّ لَا يُوجِبُ بِهِ الْغُسْلَ إذَا خَرَجَ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، وَالنَّصُّ جَاءَ بِإِيجَابِ الْغُسْلِ مِنْهُ جُمْلَةً؟)
أقول : يريد بذلك الأحناف ، وهو كذلك مذهب الحنابلة ، ولهم أن يسألوا : ترى ما وجه العجب ؟ ألا ترى أنا سوينا بين عدم الغسل وعدم الفطر من النازل بغير شهوة ، وبين وجوب الغسل وحصول الفطر من النازل بشهوة ؟
فإن قال : وجه العجب هو إسقاطهم الحكم الواجب بالنص في الغسل وإيجاب ما ليس في النص من القول بالفطر .
أجابوا : نحن قائلون بالقياس والتخصيص به ، وقد قسنا إحدى المسألتين على الأخرى وخصصنا عموم دليلها ، فقلنا : لا غسل بغير الدافق الخارج لغير لذة كما لا فطر به.
فإن قال : القياس كله باطل.
قيل : فالعجب منك إذاً.
ولهم أيضاً أن يقولوا : خصصنا عموم (الماء من الماء) بالعلة المستنبطة من قوله جل وعلا (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) ومن النظر إلى حقيقة المني ما هو؟
أما الأول فإن الجنابة في اللغة على ما قاله صاحب (الهداية) 1/126 ط دار الكتب العلمية مع تخريجه (نصب الراية) : "
والجنابة في اللغة خروج المني على وجه الشهوة ، يقال : أجنب الرجل إذا قضى شهوته من المرأة" وعليه فالمعنى الذي من أجله أمرنا بالتطهير في الآية هو قضاء الشهوة لا نفس خروج المني ، ألا ترى أنه إن أولج ولم يمنِ وجب التطهر من الجنابة أيضاً ، وليس المراد الاستيفاء للشهوة بل حصولها فقط بشرطها المذكور وهو حصول الجنابة بها ، كانفصال المني من مكانه وحصول الإيلاج ولو بغير إنزال.
أما النظر إلى حقيقة المني فقد قال الإمام الموصلي في (الاختيار) 1/18 : "
ولو خرج لا على وجه الدفق والشهوة كما إذا ضرب على ظهره أو سقط من علو أو أصابه مرض يجب الوضوء دون الغسل كما في المذي، فإنه من أجزاء المني" انتهى ، وما ذكره يؤيده العلم اليوم ، وقد يحتوي المذي على حيوانات منوية أيضاً وإن قلت نسبتها ، لذا ربما حصل الحمل مع العزل.
فإن كان المذي في حقيقته منياً أو جزءً منه كان حكمهما واحد ، فما خرج مخرج الدفق بلذة أوجب الغسل ، وما لم يكن كذلك يوجب الوضوء فقط.
فإن قيل : حديث (إنما الماء من الماء) و (نعم إن رأت الماء) قاضيان من جهة العموم بوجوب الغسل من مجرد الإنزال.
قلنا : لو أنكم عملتم بظاهر الحديثين كان خيراً لكم من الاعتراض بظاهرهما ، فالحديث الأول على أصولكم لا يدل على شيء أصلاً ، فليس في الحديث ما هو الماء الأول ومتى يلزم منه الماء الثاني وما هو الماء الثاني وما الذي نفعله به إن حصل الماء الأول.
أما على أصولنا : فالامين في الماءين عهدية فالماء الأول هو ماء الغسل والمراد به الاغتسال به ، والماء الثاني هو ماء الموجب للجنابة وقد تقدم كلامنا عنه ، وهكذا حديث (نعم إن رأت الماء) فعلى أصولكم ليس فيه بيان ماهية ذلك الماء المرأي أهو ماء الشرب أو الطبخ أو الغسل أو الوضوء أو ماء المرأة ، وعلى أصلنا هو الماء النازل منها بشهوة بدليل سؤالها ولما ذكرناها سابقاً.
فإن أرادوا أن يدفعوا المعرة عن أنفسهم ، وقالوا : نحن أيضاً نحمل الماء في الحديثين على ماء الغسل والماء النازل من غير تقييد بلذة ودفق مستدلين بالام العهدية.
قلنا : كلا بل لا عبرة بلام العهدية عندكم حتى زعمتم أن قوله صلى الله عليه وسلم (اغسلي عنك أثر الدم) عام في كل الدماء مع أن العهد قريب مذكور في سؤالها عن دم الاستحاضة يصيب الثوب ، والسياق يصرخ بإرادته ، وقال صلى الله عليه وسلم (وهو يدافع الأخبثين) فزعمتم أنه بول وروث كل حيوان ، والعهد قريب مذكور في قوله (يدافع) فإن الإنسان لا يدافع في بطنه روث الماعز وبعر الحمير والإبل ، بل نجاسته خاصة ، فأبيتم إلا حمل (الأخبثين) على الأعم لمجرد احتماله له لغةً.
فما الذي حملكم هنا على حمل اللام في الماء على العهد ، هلا طردتم كلامكم وقلتم إذا بكى الرجل وذرف من ما عينيه قليلاً أو كثيراً يجب عليه الغسل أو إذا شرب الماء وجب عليه الغسل أو يجب عليه ماء آخر أي كان فإن رأى ماءً في بركة وجب عليه شرب كوب ماء وغير ذلك.
وهكذا المرأة فإنه صلى الله عليه وسلم لما أمر المستحاضة بغسل أثر الدم عن ثوبها لم يفرق ابن حزم بين أن يكون الدم لها أو لغيرها دم استحاضة أم غيره ، فليقل هنا كذلك ، إن رأت ماءً في ثوبها حتى لو علمت أنه لزوجها فيجب عليها الغسل أو نطرد كلامكم ونقول إن رأت أي ماء في ثوبها وجب عليها الغسل.
فبان أن العجب هو من مذهب ابن حزم رحمه الله لا مذهب الأحناف والحنابلة .
والله أعلم.