إذن تعلم الإيمان واجب: أن تعلمت الإيمان خف عليك كل شيء، هذا هو الفرق أو هذا فرق من فروقٍ كثيرة بين جيل الصحابة وبين جيلنا الآن أو الأجيال المتعاقبة بعد الصحابة.مصعب بن عمير الذي كان لا يلبس إلا الحرير، وكان واسع الثراء يوم مات كما في صحيح البخاري كان عليه بردة قصيرة إن غطوا بها رأسه ظهر قدماه، وإن غطوا بها قدميه ظهر رأسه، قال خباب بن الأرت: مات مصعب بن عمير ولم يأكل من أجره شيئا، وقد عرضت علينا الدنيا فأخذنا منها وبكى.
معنى مضى ولم يأكل من أجره شيئا :هذا يبين لك أن الذي يغزو في سبيل الله فيصيب من الغنائم أن هذا من أجره فلو مات ولم يأخذ من الغنائم فقد وقع أجره كله على الله، هذا معنى مات ولم يأكل من أجره، مات في الغزوة، في غزوة أحد مات مصعب، ولم يأكل من أجره شيئا أي مضى ولم يأخذ شيئا من الغنائم، وكان خير كثير وقد علم الناس القرآن وهيأهم لاستقبال هذه الدعوة الإسلامية الجديدة.
دخل النبي r في طريقه إلى المدينة وكان الأنصار كل يوما يقفون على الصخور العاليات ينتظرون مجيء النبي r فما يردهم إلا حر الظهيرة، يوم واثنين وثلاثة ولم يجئ فانتظروه يوما حتى اشتد الحر فرجعوا إلى بيوتهم فخرج رجل من اليهود على أطن من أطانهم.
والأطن: عبارة عن الحصن، الحصون التي كان اليهود يتترسون بها، وسنصفها فيما بعد عندما نذكر المواجهة بين اليهود والمسلمين في المدينة، فخرج هذا اليهودي على أطن من هذه الآطان، فإذا به يرى النبي r وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، مبيضين أي يلبسون الثياب البيض التي أعطاها الزبير النبي r وأصحابه وهما في الطريق إلى المدينة، وكان الزبير رجلا تاجرًا وقد أتى من الشام فبينما هو قادم من الشام إلى مكة إذ قابل النبي r في طريقه إلى المدينة فكساه وكسا أصحابه ثيابا بيضًا، فأول ما رآه اليهودي ما ملك نفسه حتى صرخ بأعلى صوته يا بني قيلفا هذا جدكم قد جاء، المراد بالجد:ليس المقصود بجدكم هو الجد الذي هو أب الأب، المقصود بالجد هنا هو الصاحب، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء الذي يكون بعد الرفع الركوع «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» أي لا ينفع الصاحب صاحبه عندك، والجد أيضًا هو الثراء والغنى أي لا ينفع صاحب الغنى غناه عندك، فهذا جدكم أي هذا صاحبكم قد جاء.فخرج المسلمون بالسلاح خرجوا بالسلاح واستقبلوها وخرج النساء والولدان يقولن قد جاء النبي r.
تنبيه هام: وهنا أنبه على وهم شائع لأن كثير من الناس يتصورون أن الولدان استقبلوا النبي بالدف وهم يقولون:
طلع البدر علينا
من ثنايات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
زاد بعض الرواة
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
هذه القصة غير صحيحة ولا يعلم لها سندٌ صحيح لاسيما وفي ألفاظها اختلاف شديد، وفي بعضه خرجن بالدفوف وكل هذا لا يصح نسبته ولم يحدث قط، إنما ما قاله الولائد الصغار قالوا: قد جاء النبي r فقط هذا ما قيل، وأيضًا الرواية التي تقول إن العواتق وهي الشابات الصغيرات خرجن ينشدن ويقولون:
نحن جواري بني النجار
يا حبذا محمد من جار
هذا أيضا لا يصح ولم يحدث كل ما حدث أن الصحابة استقبلوا النبي r بالسلاح في مقدمه، وأن الولائد صعدن فوق أسطح المنازل وبعضهن استقبل النبي عليه الصلاة والسلام وما زدن أكثر من قد جاء النبي r كما رواه البخاري في صحيحه.
فدخل النبي عليه الصلاة والسلام على بني عمرو بن عوف، وصار أبو بكر يقف ويستقبل الأنصار فكان من لا يعرف النبي r يحي أبا بكر على أساس أنه الرسول عليه الصلاة والسلام بينما قعد. ..... تكريمًا لهم، ونزل وقعد في بني عمرو بن عوف بضعة عشر ليلة، وبنى المسجد الذي أسس على التقوى مسجد قباء.
أول مسجد أسس في المدينة: والدليل على أنه مسجد قباء تمام الآية: ﴿ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا﴾ [التوبة: 108]. وهذه الآية نزلت في بني ساعدة ،أهل قباء، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: «أن الله قد أثنى عليكم بهذا الطهور فماذا تفعلون؟ إننا نستنجي بالماء» وكان عادة العرب أنهما يستخدمون الحجارة في الاستنجاء فهؤلاء رأوا اليهود يفعلون ذلك ففعلوا مثلهم فنزلت هذه الآية.
انظر إلى هذا الموطن الجديد وهو المدينة المنورة التي رحل المسلمون إليها عنوة وأجبروا على ترك ديارهم التي حببت إليهم فإن النبي r عاش في مكة ثلاثة وخمسين عامًا، وها هو اليوم يجبر جبرا على ترك هذا البلد الحبيب إلى قلبه.
دعوة الإسلام أعظم من أن يتمسك الإنسان بتراب: إن الرجل الذي ينشد صلاح قلبه ودعوته لا يتمسك بالتراب إن دعوة الإسلام أعظم من أن يتمسك الإنسان بتراب، الذين يدعون إلى القومية الملحدون الذين لا يعلمون شيئا عن الولاء والبراء، فينشر بعضهم كتابًا موجود في الأسواق اسمه( قبل السقوط) وقد سقط هو قبل السقوط عندما يقول: والله لا يكون المسلم الهندي أقرب إلى قلبي من النصراني المصري لا يرى المسلم الهندي شيئا لأنه هندي، ويرى أن النصراني المصري أفضل من المسلم الهندي، أولئك قوم كل أمانيهم أن يتعلقوا بهذا التراب، الإسلام أعظم من ذلك إن أضطرك الأمر أن تترك هذا التراب، فدعه لدينك فإن هذا الدين أسمى، إنك إن تعلقت به تعلقت بالسماء، وإنك إن تمسكت بالأرض وطئت بالأقدام مثلما يوطأ هذا التراب المتمسك به خرج بعد ثلاث وخمسين عاما من مكة ما يضره أن يخرج في سبيل دينه ودعوته وإرضاء ربه U فلا يصدنك أن تُخرج من بلدك فتقعد انشر الخير حيث كنت،.
ما يدل على شدة حب الصحابة لمكة:كانوا يحبون مكة أشد الحب بدليل أنهم لما دخلوا المدينة مرضوا جميعًا بالحمى، مرض بلال ومرض أبو بكر حتى كان بعضهم يهذي من الحمى بكلام غير مفهوم كما في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لما دخل أبو بكر وبلال مرضا بالحمى وكذا عامر بن فهيرة، الركب مرضوا بالحمى فكان أبو بكر يهذي ويقول:
كل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
كل واحد يصبح في أهله مسرورا جزلانا ويمكن أنه يموت بعد دقيقة واحدة الموت أقرب من شراك نعله الذي يلبسه.
كل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا ارتفعت عنه الحمى يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي وحولي اذخر وجليل
وهل أرد يوما مياه مجنة
وهل يبدوًا لي شامة وطفيل
الشامة والطفيل: عيون من عيون مكة، وبعضهم يقول جبال من جبال مكة، يقول يعني هل أعيش حتى أرى يوما هذه المياه وقد أيقن بالهلاك بعد استحكام الحمى عليه، ومرض كثيرٌ من الصحابة الذين دخلوا هذه المدينة واستوخموها وشعروا بالوخم، هذا شيء خطير جدًا أن نفسك لا تركن إلى المكان الجديد الذي تقيم فيه الدولة.
إن من الأسباب التي تجعلك تنطلق إلى نشر هذه الدعوة: بنفس أن تحب المكان فما بالك وقد مرضوا جميعا وكرهوا المدينة جميعًا وهي مهد الدولة الإسلامية فاستوخموها جميعًا، فقال النبي r: «اللهم حبب إلينا المدينة حبنا لمكة أو أشد اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، اللهم اجعل البركة في المدينة ضعفي البركة في مكة، اللهم انقل حماها إلى الجحفة» الجحفه هذه مهل أهل مصر، مهل لأهل مصر عندما يذهبون إلى الحج فميقاتهم مهلهم في الجحفة، وقد خربت الجحفة وصارت الآن رابغ هي مهل أهل مصر.
«اللهم انقل حماها إلى الجحفة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام فرأيت امرأة سوداء شعثت الشعر خرجت من المدينة واستقرت في الجحفة فأولتها الحمى» وصارت المدينة أحب بلاد الله إلى هؤلاء الأصحاب.
استوخموا المدينة لأنهم كانوا يحبون مكة أشد الحب وأجبروا على تركها، وهذه بركة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام «اللهم انقل حماها إلى الجحفة» فانطلق الصحابة من يومها يسعون إلى نشر هذه الدعوة لاسيما وكان أول شيء بدأ به النبي r أن بنى المسجد، هذا أول شيئا يليق أن يفعل.
الهجرة نصر من أعظم الانتصارات الإسلامية: خروجه عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وفراره من المشركين فهذا النصر يستوجب الشكر، ما هو الشكر الذي فعله؟ بنى المسجد ليعبد الناس إلى ربهم، بخلاف هؤلاء الذين يرقصون ويطبلون للانتصارات، أفراح سيناء ماذا فعلنا حفلات راقصة حتى الصباح وخمور؟ والمصالحات مع الدول العربية حفل راقص؟ انظر إلى هؤلاء وأولئك، ثم اعلم لماذا تخلف نصر الله عنا نحن لسنا جديرين بهذا النصر، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]. أأشكر يكون بالمعصية،؟ ومتى تنوب المعصية عن الطاعة أيها العقلاء؟.
إن من تمام الشكر أن يفعل شيئا يعبد الناس لربهم: ويرجع العاصين إلى حظيرة الإسلام، فأول شيئا فعله بنى المسجد، وستعلمون فيما يأتي من دروس السيرة إن شاء الله كيف كان لهذا المسجد الأثر العظيم في تهيئة نفوس هؤلاء الصحابة لحمل هذه الدعوة.
شبهة والجواب عنها:بقيت نقطة تعد شبهة عند بعض الناس فقال بعضهم عمر بن الخطاب t لما أسلم وأراد أن يهاجر إلى المدينة تحدى المشركين جميعًا وهاجر علنًا، أعمر أشجع من النبي r الذي خرج متخفيًا، لماذا خرج عمر جهارا نهارًا وخرج النبي متخفيًا؟ فهذه شبهة عند بعض الناس، الجواب عنها: أن النبي r مشرع وهو بفعله هذا أعطاك أيها المسلم دليلا على أنك يجوز لك أن تختفي من أعداءك والحرب خدعة وأن تنجو بنفسك لأن التحدي قد يهلكك، فالنبي عليه الصلاة والسلام أفعاله وأقواله كلها تشريع بخلاف غيره لعمر أو لغير عمر أن يختار الطريقة التي تناسبه في الخروج، وكان عمر مهيبًا وشجاعًا وجبارًا في الجاهلية، فرأى أنه من تمام التحدي وكان يعلم قوته وبأسه عند أولئك الناس أن يخرج علنا ما يضره ذلك شيء، إنما النبي عليه الصلاة والسلام بصنيعه هذا يؤتي الأمة تشريعًا إلى يوم القيامة، إذا هو الحجة في كل شيء وألا فلا يعلم أحد وطأ هذه الأرض أشجع من النبي r، قال علي بن أبي طالب فيما رواه البخاري «كانت الحرب إذا قامت على قدم وساق احتمينا بالنبي r، وكان يقف ويجابه ويقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وقد تترس باللئمة كما في غزوة أحد على ما يأتي بيانه إن شاء الله فلا يتصورن أحد بهذه الشبه أن عمر أشجع من النبي عليه الصلاة والسلام لهذا السبب الذي قدمناه.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آت نفوسنا تقواها، وذكها أنت خير من ذكاها أنت وليها ومولاها، اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا وخطأنا وعمدنا وكل ذلك عندنا.
انتهى الدرس الخامس أختكم أم محمد الظن
http://tafregh.a146.com/play.php?catsmktba=30
لتحميل الدرس ملف ورد