ولادة لسان قصة قصيرة بقلم : ذ مصطفى بن عمور


نظراته المتسائلة تقابلها نظراتهم القاسية ،مقتحمة جدار جمجمته كأنها تستطلع ما بجوفها .أدار عينيه حوله ...الغرفة فارغة تماما ،والأرض مبلطة بالغبار وقطرات دم جافة كشمس حمراء رسمتها يد فنان يحتضر ...رفع رأسه إلى الأعلى فلمح عنكبوتا يتسلل بكل بطء وخبث ليقتنص ذبابة انقضى اؤؤجلها .انتبه فجأة إلى الصوت إياه من الزاوية الأولى :لماذا تهذر كثيرا ؟ فرد بهدوء :أنا لا أهذر ، أنا أتكلم ،اعبر ،أفكر .فصاح الصوت : بل أنت تزعجنا....تنزع ثيابنا عنا. فقال : لست لصا يا سيدي . صوت آخر ينفجر من الزاوية الثانية : نستطيع أن نجعلك لصا أمام الجميع أو بائع مخدرات . فرد محتجا لماذا ؟؟ فأجابه الصوتان في لحظة واحدة :لأنك تفضحنا .. تكشفنا ...تجعلنا عرضة لسيول من الكراهية ...والشتم ...فتساءل قائلا :بسببي ؟؟ وقفز الصوت الآخر من الزاوية الثالثة : بسبب ما تهذر . – أنا لا أهذر إنني أتك ... فقاطعه الصوت عينه من نفس الزاوية :اووف أنت مزعج حقا ..وتسبب لنا مشاكل ..سندعك الآن ترحل بسلام ..ولا نريد رؤيتك ثانية .. أفهمت ؟ لا نريد أن نرى اسمك ولا نسمع صوتك ....
لا يدري كيف اجتاز هذا المكان المريع فكل الزوايا تسكنها العناكب ، منتظرة قدوم ضحية ضاع مصيرها ، أو اجتذبها حظها التعس إلى شباك الظلام ...أفاق على صوت صديقه يناديه ....سارا معا ...رفعا عينيهما إلى لافتة معلقة يعلكها الهواء في صمت تعلن عن ندوة لم يكملا قراءة عنوانها ...ولكن رغم ذلك وجدا نفسيهما داخل القاعة . استمعا .. وعند نهاية الندوة ... أراد أن يتكلم ...فجذبه صديقه من ذراعه بقوة مؤلمة ...فجحظه بعينين غاضبتين : لماذا ..لماذا ؟؟ فأجابه بصوت خفيض متوجس : لأنك تزعجهم تكشفهم .. تزيل عنهم سرابيلهم ...صاح: هل فعلوا بك أيضا ....؟؟ - نعم مثل ما فعلوه بك أنت . أرجوك إذن لا تتكلم ..هيا نخرج ....الى اللقاء ..
عاد إلى بيته ..كان الليل قد سود الدنيا بظلامه ، أكل قليلا ..ثم اجتاز البهو جيئة وذهابا ..تذكر انه لم يصل مغربا ولا عشاءا ..صلى .. ولج غرفة النوم .. وضع رأسه على الوسادة، وظلت عيناه محدقتين بإمعان في إطار معلق على الجدار المقابل لسريره ، كانت الكلمات تتلالا منه كأنها رنين ضوء مشع في ظلام دامس :( ولا تكتموا الشهادة) . ظل يرددها في أعماق نفسه ...ثم غلبه النوم .
كانت الأمواج تصطرع وتصطخب في أعماقه ، مخلفة رذاذا يرتسم دهشة وعجبا على صفحة وجهه ، وحين يفكر في الكلام تبدأ الأشباح المخيفة بالزحف تلقاءه ، فيرتد لسانه إلى جوفه وقد أوجس فزعا من البتر ... الأمواج تزداد اصطخابا ، ودائرة الدهشة تزداد لها عيناه جحوظا وتحديقا ، وتساؤلات شتى تترى شاردة على نفسه : هل يتكلم ؟ أم يرد لسانه إلى فيه ؟ هل يخرج ما في أعماقه من الثورة والاحتجاج ؟؟....ولكن .. فجأة الأشباح عينها تزحف نحوه من جديد ...رمال عطشى ..جافة وعميقة تبتلع كل القطرات والرذاذ والأمواج ...هل تستطيع أمواجه الثائرة أن تجتاح هذه المساحة العاتية من الرمال الجافة ...أم ؟؟ .. وفجأة فارت الأمواج من داخله ...وغاص في غيبوبة لم يدر زمنها ... وحين أفاق وجد نفسه على بر الأمان لا رمال ولا أشباح .. وإنما وجد أمامه مرآة بلورية صافية أمعن فيها النظر ، ليكتشف صورة وجهه .. وانبجس السؤال :هل حقا فارت أمواجي الثائرة ؟ هل بددت أشباح الرمال .. العطشى ؟. وجاءه جواب من داخل المرآة : أن نعم . ولكن صوتا من الزوايا يصيح فيه كالرعد :كلا ...لا ...لا...كلا ....خذوه ... خذوه .
الغرفة نفسها . رفع رأسه إلى الأعلى : العنكبوت يبتسم بسخرية فالضحية وقعت في خيوطه الواهنة ...أعادوا عليه نفس الأسئلة ..أجاب بالأجوبة عينها ...استدار فجأة إلى الزاوية الرابعة : سكين ومقص ... ويد قاسية عاتية خفية تفتح فكيه بقوة : لسانك ...اخرجوا لسانه ...وشرع الألم يسري في كل جسده كدبيب النار .... ضاع لسانه ...... أفاق مذهولا مروعا .. ضغط زر الضوء ، فانتشر فاضحا ظلمة السواد ، ركض نحو المرآة وهو يرتعش من الهول ..وفتح فمه بصعوبة بالغة فلمح لسانه ينزلق على شفته السفلى معلنا عن نفسه من جديد ،حركه يمينا ويسارا ...تنهد بعمق حامدا الله على السلامة ،وأجال بصره على زوايا بيته ...وعندما تنسم راحة وهدوءا عاد إلى غرفة النوم ...وضع رأسه على الوسادة ،ظل محدقا بالكلمات المتلألئة .... وفي نفسه عزم جديد ،ولسان وليد ....ثم نام .