تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 75

الموضوع: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"

    مختارات من تفسير


    مثنى محمد الهبيان


    [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2}
    السؤال الأول:
    ما معنى الحمد ؟ وما الفرق بين الحمد والمدح ؟
    الجواب:
    معنى الحمدِ: الثناء على الجميل من النعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية، كالعلم والصبر والرحمة ،أم على عطائه وتفضُّله على الآخرين. ولا يكون الحمد إلا للحي العاقل.
    وهذا أشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جماداً ولكن لا تحمده .
    وقد ثبت أنّ المدح أعم من الحمد, فالمدح قد يكون قبل الإحسان وبعده , أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان. فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات أو الفعل فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد , أمّا المدح فقد يكون قبل ذلك؛ فقد تمدح إنسانا ولم يفعل شيئاً من المحاسن والجميل؛ ولذا كان المدح منهياً عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «احثوا التراب في وجه المداحين» بخلاف الحمد فإنه مأمور به؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من لم يحمد الناس لم يحمد الله».
    وبذا علمنا من قوله: {الحَمْدُ للهِ }أن الله حيٌّ له الصفات الحسنى والفعل الجميل، فحمدناه على صفاته وعلى فعله وإنعامه, ولو قال : (المدح لله) لم يفد شيئاً من ذلك، فكان اختيار الحمد أولى من اختيار المدح.
    السؤال الثاني :
    لِمَ لم يقل سبحانه (الشكر لله) ؟
    الجواب:
    لأنّ الشكر لا يكون إلا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية، فإنك لا تشكر الشخص على علمه أو قدرته , وقد تحمده على ذلك .
    وقد جاء في «لسان العرب» : (والحمد والشكر متقاربان، والحمد أعمُّهما لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته, فكان اختيار الحمد أولى أيضا من الشكر لأنه أعم، فإنك تثني عليه بنعمه الواصلة إليك وإلى الخلق جميعاً, وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية , وإن لم يتعلق شيء منها بك، فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر.
    السؤال الثالث:
    قوله تعالى {الحَمْدُ للهِ }ولِمَ لم يقل (أحمد الله) أو (نحمد الله) ؟
    الجواب:
    قوله تعالى : {الحَمْدُ للهِ }أولى من وجوه عدة:
    1ـ أنّ القول (أحمد الله) أو (نحمد الله) مختص بفاعل معين، ففاعل (أحمد) هو المتكلم وفاعل (نحمد) هم المتكلمون , في حين أنّ عبارة (الحمد لله) مطلقةٌ لا تختص بفاعل معين وهذا أولى , فإنك إذا قلت : (أحمد الله) أخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أنّ غيرك حمده , وإذا قلت : (نحمد الله) أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أنّ غيركم حمده , في حين أنّ عبارة (الحمد لله) لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الإطلاق منك ومن غيرك.
    2ـ وقول (أحمد الله) تخبر عن فعلك أنت ولا يعني ذلك أنّ من تحمده يستحق الحمد، في حين إذا قلت (الحمد لله) أفاد ذلك استحقاق الحمدِ للهِ وليس مرتبطاً بفاعل معين.
    3ـ وقول (أحمد الله) أو (نحمد الله) مرتبط بزمن معين؛ لأنّ الفعل له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال ومعنى ذلك أنّ الحمد لا يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه.
    ولا شك أنّ الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمد فيه محدود، وهكذا كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن، وإنّ أقصى ما يستطيع أن يفعله أنْ يكون مرتبطاً بعمره ولا يكون قبل ذلك وبعده فعل، فيكون الحمد أقل مما ينبغي, وحمد الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يحد بفاعل أو بزمان , ولذلك فإنّ عبارة {الحَمْدُ للهِ } مطلقة غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين، فالحمد فيها مستمر غير منقطع.
    جاء في «تفسير الرازي» أنه لو قال :(أحمد الله) أفاد ذلك كون القائل قادراً على حمده، أمّا لما قال (الحمد لله) فقد أفاد ذلك أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين، فهؤلاء سواء حمدوا أم لم يحمدوا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.
    وقول (أحمد الله) جملة فعلية و(الحمد لله) جملة اسمية , والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد في حين أنّ الجملة الاسمية دالة على الثبوت، وهي أقوى وأدوم من الجملة الفعلية. فاختيار الجملة الاسمية أولى من اختيار الجملة الفعلية ههنا؛ إذ هو أدل على ثبات الحمد واستمراره.
    4ـ وقول (الحمد لله) معناه أن الحمد والثناء حقٌّ لله وملكه، فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلآئه على العباد. فقولنا: (الحمد لله) معناه : أنّ الحمد لله حق يستحقه لذاته، ولو قال :(أحمد الله) لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته, ومعلوم أنّ اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أنّ شخصاً واحدا حمده.
    والحمد عبارة عن صفة القلب، وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلاً منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال. فإذا تلفَّظَ الإنسان بقوله : (أحمد الله) مع أنه كان قلبه غافلاً عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذباً لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك.
    أما إذا قال: (الحمد لله) سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأنّ معناه: أنّ الحمد حق لله وملكه , وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والاجلال أو لم يكن. فثبت أنّ قوله (الحمد لله) أولى من قوله (أحمد الله) أو من (نحمد الله).
    ونظيره قولنا {لَا إِلَهَ إِلَّا} فإنه لا يدخل في التكذيب، بخلاف قولنا "أشهد أن لا اله إلا الله" لأنه قد يكون كاذباً في قوله "أشهد" ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} {المنافقون:1} .
    السؤال الرابع:
    لماذا لم يقل{الحَمْدُ للهِ }بالنصب أي ( الحمد َ لله )؟
    الجواب:
    إن قراءة الرفع أولى من قراءة النصب، ذلك أنّ قراءة الرفع تدل على أنّ الجملة اسمية، في حين أنّ قراءة النصب تدل على أنّ الجملة فعلية، بتقدير"نحمد" أو "أحمد" او «احمدوا» بالامر، والجملةُ الاسمية أقوى وأثبت من الجملة الفعلية؛ لأنها دالة على الثبوت.
    وقد يقال : أليس تقدير فعل الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع بمعنى «احمدوا الحمد لله» كما تقول: «الإسراع في الأمر» بمعنى أسرعوا؟
    والجواب: لا . فإن قراءة الرفع أولى أيضاً ذلك لأنّ الأمر بالشيء لا يعني أنّ المأمور به مستحق للفعل، وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أمر به فكان {الحَمْدُ للهِ } بالرفع أولى من ( الحمد َ لله ) بالنصب في الإخبار والأمر.
    السؤال الخامس:
    لماذا لم يقل «حمداً لله»؟
    الجواب:
    الحمد لله معرَّفةٌ بأل، وحمداً نكرة, والتعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير، ذلك أن «أل» قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أنّ الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الأحمدة كلها، ورجح بعضهم المعنى الأول ورجح بعضهم المعنى الثاني، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : «اللهم لك الحمد كله» فدل على استغراق الحمد كله، فعلى هذا يكون المعنى: أنّ الحمد المعروف بينكم هو لله على سبيل الاستغراق والإحاطة فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه.
    السؤال السادس:
    {الحَمْدُ للهِ } أهي خبر أم انشاء؟
    الجواب:
    الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب , والإنشاء هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب.
    قال أكثر النحاة والمفسرين :إنّ (الحمد لله) إخبار كأنه يخبر أنّ الحمد لله سبحانه وتعالى، وقسم قال : إنها إنشاء؛ لأنّ فيها استشعار المحبة، وقسم قال : إنها خبر يتضمن إنشاء.
    وأحيانا يحتمل أنْ تكون التعبيرات خبراً أو إنشاء بحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه, فعلى سبيل المثال قد نقول : (رزقك الله) ونقصد بها الدعاء وهذا إنشاء، وقد نقول: (رزقك الله وعافاك) والقصد منها: أفلا تشكره على ذلك؟ وهذا خبر.
    والحمد لله هي من العبارات التي يمكن أنْ تستعمل خبراً وإنشاء بمعنى الحمد لله خبر, ونستشعر نعمة الله علينا ونستشعر التقدير كأنْ نقولها عندما نستشعر عظمة الله سبحانه في أمر ما فنقول : الحمد لله.
    السؤال السابع:
    لماذا لم يقل سبحانه : إنّ الحمد لله؟
    الجواب:
    لا شك إنّ الحمد لله , لكن هناك فرق بين التعبيرين أنْ نجعل الجملة خبراً محضاً في قول{الحَمْدُ للهِ } حيث (تعمل للخبر أو الإنشاء) ولكن عندما تدخل عليه (إنّ) لا يمكن إلا أنْ يكون إنشاء , لذا فقول : (الحمد لله) أولى لما فيه من الإجلال والتعظيم والشعور بذلك , لذا جمعت {الحَمْدُ للهِ }بين الخبر والإنشاء ومعناهما. مثلا نقول : رحمة الله عليك (هذا دعاء) وعندما نقول : إنّ رحمة الله عليك، فهذا خبر وليس دعاء .
    ومن المعلوم أنه في اللغة قد تدخل بعض الأدوات على عبارات فتغير معناها مثال: رحمه الله (دعاء) أما: قد رحمه الله (إخبار) , رزقك الله (دعاء) أما : قد رزقك الله (إخبار)
    السؤال الثامن:
    لماذا لم يقل سبحانه : لله الحمد؟
    الجواب:
    لله الحمد : تقال إذا كان هناك كلام يراد تخصيصه ,مثال(لفلانٌ الكتاب) تقال للتخصيص والحصر, وإذا قُدِّمَ الجارُ والمجرورُ على اسم العلم يكون بقصد الاختصاص والحصر (لإزالة الشك أنّ الحمد سيكون لغير الله)
    الحمد لله في الدنيا ليست مختصة لله سبحانه وتعالى. الحمد في الدنيا قد تقال لأستاذ أو سلطان عادل , وأمّا العبادة فهي قاصرة على الله سبحانه وتعالى .
    والمقام في الفاتحة ليس مقام اختصاص أصلاً , وليست مثل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أو {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقد وردت في القران الكريم{فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] .
    لا أحد يمنع التقديم، لكنّ التقديم والتأخير في القرآن الكريم يكون حسب ما يقتضيه السياق. والمقام في سورة الفاتحة هو مقام مؤمنين يقرون بالعبادة ويطلبون الاستعانة والهداية , أمّا في سورة الجاثية فالمقام في الكافرين وعقائدهم وقد نسبوا الحياة والموت لغير الله سبحانه، لذا اقتضى ذكر تفضله سبحانه بأنه خلق السموات والأرض وأثبت لهم أنّ الحمد الأول لله سبحانه على كل ما خلق لنا، فهو المحمود الأول، لذا جاءت (فلله الحمد) مقدَّمةً حسب ما اقتضاه السياق العامُّ للآيات في السورة.
    السؤال التاسع:
    لماذا التفصيل في الجاثية { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] ولم ترد في الفاتحة؟
    الجواب:1ـ في الجاثية : تردَّدَ ذكر السموات والأرض وما فيهن وذكر ربوبية الله تعالى لهما, فقد جاء في أول السورة {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الجاثية:3] فلو نظرنا في جوِّ سورة الجاثية نلاحظ ربوبية الله تعالى للسموات والأرض والخلق والعالمين مستمرة في السورة كلها. قال تعالى : {وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الجاثية:27 يعني هو ربُّهما {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ} [الجاثية:27 إذن هو رب العالمين {وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ} [الجاثية:22] فهو ربهما {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية:22] فهو ربُّ العالمين. {فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] فجمع الربوبية في السموات والارض والعالمين في آية واحدة , أمّا في الكلام في الفاتحة فهو عن العالمين فقط وذكر أصناف الخلق من العالمين {المؤمِنينَ} ، {الضَآلِينَ}.. لذا ناسب التخصيص في الجاثية وليس في الفاتحة.
    يتبع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"



    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (1)


    المهندس مثنى محمد هبيان





    الاستعاذة

    قال الله تعالى : [خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ(199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200) ]. {الأعراف}.

    [وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ(97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ(98) ]. {المؤمنون}.

    [... ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ(36) ]. {فصِّلت}.

    فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها , وهو أنّ الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عن طبعه ـ الطيِّب في الأصل ـ إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة من العدوِّ الشيطانيِّ لا محالة , إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً , ولا يبتغي غير هلاكِ ابنِ آدم لشدَّةِ العداوة بينه وبين أبيه آدمَ عليه السلام من قبل .

    والشيطان في لغة العرب : مشتَقٌّ من ـ شطن ـ إذا بَعُدَ , فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر وبعيد بفسقه عن كل خير , وقيل هو مشتَقٌّ من ـ شاط ـ لأنه مخلوق من النار .

    روى مطعم بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال : «الله أكبر كبيراً، ثلاث مرات، والحمد لله كثيراً، ثلاث مرات، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً»، ثلاث مرات ثم قال صلى الله عليه وسلم : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من هَمزِه ونَفخِه ونَفثِه» .

    والرَّجيمُ: معناه المرجومُ أي: ملعونٌ، كما قال تعالى للشيطان:[قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ] {الحجر:34}

    والاستعاذة هي: الالتجاء والاستجارة إلى الله تعالى لتجنُّب ودفع كل ذي شر، ولطلب كل ذي خير , وجاء بالصيغة الفعلية لتدلَّ على الحدوث والتجدُّد .

    والاستعاذة لا تتمُّ إلا بعلم العبد بكونه عاجزاً عن جلب المنافع الدينية والدنيوية, وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية , وأنّ الله تعالى وحده هو القادر على إيجاد جميع المنافع ودفع جميع المضار , فإذا حصل هذا العلم , حصل للقلب انكسار وتواضع وخضوع .

    والآياتُ تطلب منا الاستعاذة من الشيطان قبل أن نقرأ القرآن ؛ ذلك لأن كل مخلوق إذا اتجه إلى خالقه واستعاذ به يكون هو الأقوى برغم ضعفه لأنك جعلت الله في جانبك , ونحن حينما نصفي جهاز استقبالنا لحسن استقبال كلام الله ,لا نفعل ذلك بقدراتنا نحن ولا بقوتنا ولكن بالاستعانة بقوة وقدرة الله , لماذا؟ لأن معوِّقات المنهَج عند الإنسان المؤمن إنما هي من عمل الشيطان.

    وعطاء الله في القرآن الكريم متساوٍ لجميع الخلق ولكن كل إنسان يأخذ على قدر إيمانه، فالقرآن يُقرأ والناس تسمع , ولكن هل يتقبل الجميع القرآن تقبُّلاً متساوياً ؟ بالطبع لا.

    والله سبحانه يريدنا عندما نقرأ القرآن أن نُبعِدَ الشيطانَ عن أنفسنا قبل أن يُبعِدَنا هو عن منهج الله وعن آياته .

    وبما أننا لا نرى الشيطان وهو يرانا ولا نعرف أين هو, بينما هو يعرف أين نحن , فلا بد من أن نستعيذ بقوةٍ تستطيع أن تقهره , فطلب الله منا أن نستعيذ به وأن نلجأ إليه لأنه هو القادر على أن يحمينا ويصفي قلوبنا ونفوسنا من همزات الشياطين ، فيحسن استقبالنا للقرآن وآياته فتمسّ آياتُه قلبَك ونفسَك وتكون لك هدىً ونوراً .

    سؤال : هل من فرق بين الرجيم والمرجوم؟

    جواب : عندنا لغتان: فعيل ومفعول. فعيل نسميها صفةً مشبَّهةً كأن الرجم لازم له . وعندما نقول : مرجوم، في لغة تميم تقول: مفعول، وفي لغة الحجاز تقول أحياناً: فعيل , لكن هنا ليست بفارق اللغة، وإنما اختيرت الصفة المشبهة التي تدل في الغالب على الثبات , وهذا يعني أنّ صفة الرجم لاصقة به. أمّا المرجوم فقد يكون مرجوماً الآن لكن لا يكون مرجوماً بعد ساعة، بينما (رجيم ) هو صفته اللاصقةُ به أي أن عليه هذا الرجم دائماً.

    سؤال : ما الفرق بين الفعلين ( أعوذ ) و ( ألوذ ) ؟

    جواب : العياذ : للفرار من الشر , و اللياذ : لطلب الخير . قال الشاعر :

    يا من ألوذ به فيما أؤمله=ومن أَعوذ به مما أُحاذره

    من لطائف الاستعاذة :

    1ـ في قوله :(أعوذ بالله) عروج من الخلق إلى الخالق .

    2ـ الاستعاذة اعترافٌ بعجز النفس وبقدرة الرب .

    3ـ أنّ الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان .

    4ـ أنّ سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك .

    5ـ الشيطان عدوٌّ للإنسان .

    6ـ الاستعاذة طهور للفم مما كان يتعاطاه العبد من اللَّغو والرَّفث وتطييبٌ له وهو يتهيأ لتلاوة كلام الله , وهي أيضاً تنظيف للقلب من لَوث وسوسة الشيطان .

    7ـ إنما قال : (أعوذ بالله) ولم يذكر اسماً آخر بل ذكر (الله)؛ لأنّ هذا الاسم أبلغُ في كونه زاجراً عن المعاصي عن سائر الأسماء والصفات؛ ولأنه فقط الإله المستحق للعبادة.

    8ـ عندما يقول العبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) دلّ ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان .

    9ـ الشيطان اسم، والرجيم صفةٌ، فذكر الحق سبحانه الاسم والصفة , فكأنّ الله يقول لك إنّ هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفاً من السنين فلما تكبر رجمناه وطردناه , وأنت لو جلس معك لحظة واحدة لألقاك في النار، فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه، فقل: ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ).

    10ـ للعبد عَدُوَّان : أحدهما ظاهرٌ والآخر باطنٌ وهو مأمور بمحاربتهما لكن محاربةُ العدو الباطن ـ وهو الشيطان ـ أولى؛ لأنه إن وجد فرصةً فهي في الدين واليقين، وإنْ غلبك كنت مفتوناً , وأمّا العدو الظاهر ففي متاع الحياة الدنيا، وإنْ غلبك كنت مأجوراً.

    11ـ أدخَلَ الألفَ واللامَ في (الشيطان) ليكونَ تعريفاً للجنس؛ لأن الشياطين كثيرة مرئيةٌ وغير مرئيةٍ .


    12ـ كأنه تعالى يقول : (إنه شيطان رجيم , وأنا رحمن رحيم) فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم .

    13ـ أعوذ : فعل مضارع يصلحُ للحال حقيقةً وللمستقبل مجازاً .

    والله أعلم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"


    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (2)


    المهندس مثنى محمد هبيان

    البسملة ومقاصد سورة القاتحة وأسماؤها وفضلها



    القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها , نزل مقروناً باسم الله سبحانه وتعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1} ونحن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية .


    وإننا مطالبون أن نبدأ كل عمل باسم الله؛ لأننا لا بدّ أن نحترم عطاء الله في كونه , فحين نزرع الأرض مثلاً لا بدّ أن نبدأ باسم الله؛ لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها، ولا خلقنا البذرة التي نبذرها، ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع ،وهكذا.

    وأنت حين تبدأ كل شيء باسم الله كأنك تجعل الله في جانبك يعينك .

    ومن رحمة الله سبحانه أنه علّمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله ؛ لأنّ الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه, والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة , فلو أنّ الله لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها، كأن تقول : باسم القوي، وباسم الرزاق، وباسم المجيب، وباسم القادر، إلى غير ذلك من الأسماء والصفات، ولكنّ الله تعالى جعلنا نقول : {بسم الله} الجامع لكل هذه الصفات.

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» أي: عمل ناقص فيه شيء ضائع , لأنك حين لا تبدأ العمل باسم الله قد يصادفك الغرور بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك, وحين لا تبدأ العمل باسم الله فليس عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا وبترت عطاءه في الآخرة , أمّا إذا أردت عطاء الدنيا والآخرة فأقبل على كل عمل باسم الله .

    وعندما تبدأ قراءة القرآن باسم الله الذي آمنت به رباً وإلهاً والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما نهى , وأنه خلق وأوجد , ويحيي ويميت, وله الأمر في الدنيا والآخرة, وأنه سيثيبك في الآخرة تشعر أنّ البداية من الله والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى.

    ونلاحظ أنّ هناك ثلاثة أسماء لله قد تكررت في البسملة وفي سورة الفاتحة، وهذه الأسماء هي : (الله ـ الرحمن ـ الرحيم) ونقول إنه ليس في القرآن تكرار, وإذا تكرر اللفظ فإنّ معناه في كل مرة يوحي بدلالة جديدةعن معناه في المرة السابقة؛ لأنّ الله هو المتكلم ؛ لذلك فهو يضع اللفظ في مكانه الصحيح وفي معناه الصحيح .

    وقولنا: {بسم الله الرحمن الرحيم} هو استعانة بقدرة الله حين نبدأ فعل الأشياء، وهي كذلك طلب العون من الله بكل كمال صفاته .

    و{الرحمن الرحيم} في البسملة لها معنى غير {الرحمن الرحيم} في الفاتحة ففي البسملة هي تذكرنا برحمة الله وغفرانه وتوفيقه حتى لا نستحي من أن نستعين به إن كنا قد فعلنا معصية, والله يريدنا أن نستعين باسمه دائماً في كل أعمالنا , فاذا سقط واحد منا في معصية , قال: كيف أستعين باسم الله وقد عصيته؟

    نقول له: ادخل عليه من باب الرحمة يغفر لك واستعن به يجبك , وأنت حين تسقط في معصية تستعيذ برحمة الله من عدله؛ لأنّ عدل الله لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها , ولولا أن رحمة الله سبقت عدله ما بقي للناس نعمة وما عاش أحد على ظهر الأرض , فالله يقول في سورة النحل :[وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {النحل:61} والإنسان خلق هلوعاً ضعيفاً وذنوبه كثيرة , ولا يمكن لأحد أن ينسب الكمال إلى نفسه حتى الذين يبذلون أقصى جهدهم في الطاعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».

    ولكن {الرحمن الرحيم} في الفاتحة مقترنةٌ برب العالمين الذي أوجدك من عدم وأمدك بِنِعَمٍ لا تعد ولا تحصى، فأنت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله في ربوبيته , ذلك أنّ الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة.

    والله سبحانه رب للمؤمن والكافر، وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه، وهذه رحمة تستوجب الشكر، لذلك في الفاتحة تأتي {الرحمن الرحيم} بمعنى رحمة الله في ربوبيته لخلقه؛ فهو يمهل العاصي ويفتح أبواب التوبة لكل من يلجأ إليه.

    كذلك علَّمنا الحق أن نقول:{بسم الله الرحمن الرحيم} لكي نعرف أنّ الباب مفتوح للاستعانة بالله , وأنّ المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل باسم الله؛ لأنه رحمن رحيم .

    الفاتحة

    أولاً ـ هدف السورة: شاملة لأهداف القرآن :

    سُمِّيت الفاتحة، وأم الكتاب، والشافية، والوافية، والكافية، والأساس، والحمد، والسبع المثاني، والقرآن العظيم , كما ورد في «صحيح البخاريِّ» أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلّى: «لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمدُ لله ربِّ العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وقد وصفها الله تعالى بالصلاة.

    فما سِرُّ هذه السورة؟

    سورة الفاتحة مكية، وآياتها سبع بالإجماع , وسميت الفاتحة لافتتاح الكتاب العزيز بها فهي أول القرآن ترتيبا لا تنزيلاً, وهي على قصرها حوت معاني القرآن العظيم واشتملت مقاصده الأساسية بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه: العقيدة، العبادة، التشريع، الاعتقاد باليوم الآخر، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء والتوجه إليه جلّ وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم, والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين وفيها الإخبار عن قصص الأمم السابقة والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه وغير ذلك من مقاصد وأهداف، فهي كالأم بالنسبة لباقي السور الكريمة، ولهذا تسمى بأمِّ الكتاب.

    إذن اشتملت سورة الفاتحة على كلِّ معاني القرآن، فهدف السورة الاشتمالُ على كل معاني وأهداف القرآن.

    والقرآن نصَّ على : العقيدة والعبادة ومنهج الحياة. والقرآن يدعو للاعتقاد بالله، ثم عبادته، ثم حدد المنهج في الحياة، وهذه نفسها محاور سورة الفاتحة:

    1ـ العقيدة:[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) ]. {الفاتحة}.

    2ـ العبادة:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.

    3ـ مناهج الحياة:[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7) ]. {الفاتحة}.

    وكل ما يأتي في كل سور وآيات القرآن هو شرح لهذه المحاور الثلاث.

    4ـ تذكِّرُ سورة الفاتحة بأساسيات الدين؛ ومنها:

    آ ـ شكرُ نعم الله {الحمد لله}.

    ب ـ الإخلاص لله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.

    ج ـ الصحبة الصالحة:[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] {الفاتحة:7} .

    د ـ وتذكُّرُ أسماء الله الحسنى وصفاته: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:3}.

    هـ ـ الاستقامة:[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6} .

    و ـ الآخرة: [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] {الفاتحة:4} ويوم الدين هو يوم الحساب.

    ز ـ أهمية الدعاء.

    ح ـ وحدة الأمَّة:{نعبدُ} {نَسْتَعيِنُ} [الفاتحة:5] ورد الدعاء بصيغة الجمع مما يدل على الوحدة، ولم يرد بصيغة الافراد.

    إذن سورة الفاتحة تُسَلسِلُ مبادئَ القرآن (عقيدة، عبادة، منهج حياة) وهي تثني على الله تعالى وتدعوه؛ لذا فهي اشتملت على كل أساسيات الدين.

    أنزل الله تعالى الكتب الثلاثة (الزبور، التوراة، والإنجيل) ثم جمع هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع القرآن في الفاتحة، وجُمعت الفاتحة في الآية:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.

    وقد افتتح القرآن بها فهي مفتاح القرآن، وتحوي كل كنوز القرآن، وفيها مدخلٌ لكل سورة من باقي سور القرآن , وبينها وبين باقي السور تسلسلٌ بحيث إنه يمكن وضعها قبل أي سورة من القرآن ويبقى التسلسل بين السور والمعاني قائماً.

    ثانياً ـ أسماء هذه السورة :

    1ـ فاتحة الكتاب.

    2ـ سورة الحمد.

    3ـ أم القرآن.

    4ـ السبع المثاني.

    5ـ الوافية.

    6ـ الواقية.

    7ـ الأساس.

    8ـ الشفاء.

    9ـ الصلاة : في الحديث القدسي « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ».

    10ـ سورة الشكر.

    11ـ سورة الدعاء.

    وهناك أسماء أخرى , وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى .

    ثالثاً ـ فضل السورة :

    الآن وقد عرفنا أهداف سورة الفاتحة التي نكررها (17) مرة في صلاة الفريضة يومياً ما عدا النوافل, لا شك أننا سنستشعر هذه المعاني ونتدبر معانيها ونحمد الله تعالى ونثني عليه وندعوه بالهداية لصراطه المستقيم.

    وسورة الفاتحة مكية على قول أكثر العلماء، وفي فضائلها ذكر العلماء أنّ منها :

    آ ـ نزلت من كنز تحت العرش .

    ب ـ قال الحسين رضي الله عنه : أودع الله سبحانه العلوم في الكتب الأربعة : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المُفصَّلِ، ثم أودع علوم المفصَّلِ في الفاتحة .

    ج ـ فاتحة الكتاب شفاءٌ من السُّمِّ، كما في حديث حذيفة بن اليمان .

    د ـ وسورة الفاتحة تعلمنا كيف نتعامل مع الله، فأولها ثناء على الله تعالى:[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2} ، وآخرها دعاء لله بالهداية: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6} ولو قسَّمنا حروف سورة الفاتحة لوجدنا أنّ نصف عدد حروفها ثناء (63 حرفاً) من : {الحَمْدُ لِله} إلى {وإيَّاك نَسْتَعينُ} ، ونصف عدد حروفها دعاء (63 حرفاً) من {اهدِنا الصِرَاطَ} إلى {ولا الضَّآلينَ}وكأنها إثبات للحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فاذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) ، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله عز وجل: أثنى علي عبدي، وإذا قال : (مالك يوم الدين)، قال عز وجل: مجَّدني عبدي، وقال مرَّةً: فوّض إلي عبدي، فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» فسبحان الله العزيز الحكيم الذي قدّر كلَّ شيء.


    وقد سُئِلَ عمرُ بن عبد العزيز رضي الله عنه : لماذا تقف بعد كل آية من آيات سورة الفاتحة؟ فأجاب : لأستمتع بردِّ ربي.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"


    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (3)


    المهندس مثنى محمد هبيان

    اللمسات البيانية في البسملة



    [بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:1}

    السؤال الأول:

    ما معنى الباء في قوله تعالى: {بِسمِ} ؟ وما متعلَّقُها؟

    الجواب:

    البصريون يسمونها باء الإلصاقِ، والكوفيون يسمونها باء الآلة، ويسميها قومٌ باء التضمين وهي متعلِّقةٌ بمضمرٍ لا محالة، و قد يكون اسماً وقد يكون فعلاً, وعلى التقديرين يجوز أن يكون متقدِّماً ويجوز أن يكون متأخراً نحو :

    ـ ابتداء الكلام باسم الله , أو : باسم الله ابتدائي المضمر اسم

    ـ أبدأ باسم الله , أو : باسم الله أبدأ المضمر فعل

    السؤال الثاني:

    لماذا حُذفت الهمزة من ( باسم ) وتكتب{بِسمِ} ؟

    الجواب:

    للوصل فأصبحت تكتب وتلفظ {بَسمِ} .

    السؤال الثالث:

    ما دلالة جمع الصيغتين: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:3} معاً في البسملة ؟

    الجواب:

    قد يجمع القران الكريم صيغتين من مادة واحدة احتياطاً للمعنى كقوله: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] وذلك:

    1 ـ صيغة «فعلان»: تدل على الصفات المتجددة نحو: عطشان وجوعان وغضبان , وهذه الصفات ليست ثابتةً بل تزول وتتحول .

    2 ـ صيغة «فعيل» تدل على الثبوت نحو : كريم وبخيل وطويل وجميل ، وفي لغتنا الدارجة تقول : هو ضعفان، إذا أردت الحدوث , فإن أردت الثبوت تقول : هو ضعيف، وكذلك «طولان و طويل».

    3 ـ جمع الله لذاته الوصفين : إذ لو اقتصر على (رحمن) لظنَّ ظانٌّ أنّ هذه صفة طارئة قد تزول كعطشان وريّان , ولو اقتصر على (رحيم) لظَنَّ أنّ هذه صفة ثابتة، ولكن ليس معناها استمرار الرحمة وتجددها , إذ قد تمرُّ على الكريم أوقات لا يكرم فيها, وقد تمر على الرحيم أوقات كذلك .

    والله سبحانه متصف بأوصاف الكمال، فجمع بينهما حتى يعلم العبد أنّ صفته الثابتة هي الرحمة، وأنّ رحمته مستمرة متجددة لا تنقطع , وحتى لا يستبد به الوهم بأنّ رحمته تعرض ثم تنقطع, أو قد يأتي وقت لا يرحم فيه سبحانه , فجمع الله كمال الاتصاف بالرحمة لنفسه .

    4ـ واعلم أنه لما تفرَّدَ الربُّ سبحانه بعظم رحمته لم يُسَمِّ بالرحمن ـ بالألف واللام ـ أحداً غيره.

    وعندما ندعو الله سبحانه : يارحمن الدنيا ورحيم الآخرة , فإن رحمة الله في الدنيا هي للمؤمن والكافر, أمّا رحمته في الآخرة فهي للمؤمن فقط.

    السؤال الرابع:

    ما الأحرف الأبجدية التي لم ترد في هذه السورة ؟وما دلالة ذلك ؟

    الجواب:

    هذه السورة لم يحصل فيها سبعةٌ من الحروف وهي (الثاء ـ الجيم ـ الخاء ـ الزاي ـ الشين ـ الظاء ـ والفاء) .

    وقالوا : إن هذه الحروف السبعةَ مشعرةٌ بالعذاب مثل (الثبور ـ جهنم ـ الخزي ـ الشقاء ـ ظل ذي ثلاث شعب، و لظى ـ الفراق) كما قال تعالى: [يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ] {الرُّوم:14}.

    ونقول: ربما تكون الحكمة : أنّ الله تعالى ذكر في كتابه أنّ لجهنم سبعة أبواب , والله أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة وهي أوائل ألفاظ تدل على العذاب تنبيهاً على أنّ من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمناً من الدركات السبع في جهنم، والله أعلم.

    السؤال الخامس :

    ما خصائص مكونات لفظ الجلالة ( الله ) ؟

    الجواب :

    اسم لفظ الجلالة ( الله) مكونات حروفه هي دون الأسماء جميعها, ويأتي لفظها من خالص الجوف , لا من الشفتين , ولفظ الجلالة ( الله ) لا تنطق به الشفاه لخلوه من النقاط .

    ومن المعلوم أنّ لفظ الجلالة ( اللهُ ) مضموم الهاء , ومن إعجاز اسم الجلالة

    ( الله ) أنه مهما نقصت حروفه فإنّ الاسم يبقى كما هو :

    1ـ إذا حذفنا أول حرف يكون لدينا ( لله ) كما في الآية: [وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] {الأعراف:180} .

    2ـ وإذا حذفنا الألف واللام الأولى بقيت ( له ) كما في الآية : [مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] {البقرة:255}.

    3ـ وإذا حذفنا الألف واللام الأولى واللام الثانية بقيت الهاء مضمومة ( هـُ ) ورغم ذلك تبقى الإشارة له كما في الآية: [هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ] {الحشر:22}.

    4ـ وإذا حذفنا اللام الأولى فقط بقيت ( إله ) كما في الآية:[وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ] {الزُّخرف:84}.

    لذلك مهما نقصت حروف لفظ الجلالة ( الله ) فإنّ الاسم يبقى كما هو .

    فسبحان الله العظيم .

    السؤال السادس:

    ما دلالة رسم كلمة: {بِسْمِ} بدون ألف الوصل ورسمها بألف الوصل {بِاسْمِ} في القرآن الكريم ؟

    الجواب:

    وردت كلمة: {بِسْمِ} بدون ألف الوصل ثلاث مرات في القرآن الكريم (بخلاف فواصل السور ) في الآيات التالية :

    [بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:1}

    [بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا] {هود:41}

    [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ ] {النمل:30} [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] {النمل:30}

    ووردت كلمة: {بِاسْمِ} بألف الوصل أربع مرات في القرآن على النحو التالي :

    [فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ] {الواقعة:74}

    [فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ] {الواقعة:41}

    [فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ] {الحاقة :52}

    [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1}

    وحين نتدبر الآيات التي وردت فيها: {بِسْمِ} بدون ألف وصل , نلاحظ أنه جاء بعدها لفظ الجلالة: {اللهِ} كما نلاحظ أنه تعني الابتداء , أي : نبدأ{بِسْمِ اللهِ} ويوحي حذف الألف في: {بِسْمِ} أنه يجب علينا عمل الصلة مع الله فقط بأقصر الطرق وأسرعها .


    أمّا الحالات التي جاءت فيها: {بِاسِمِ} بألف الوصل فإننا نلاحظ أنها جاءت بقصد التسبيح أو القراءة , وهي أمور تحتاج إلى التفكر والتدبر والتمهل . والله أعلم .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"


    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (4)


    المهندس مثنى محمد هبيان



    [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2}

    السؤال الأول:

    ما معنى الحمد ؟ وما الفرق بين الحمد والمدح ؟

    الجواب:

    معنى الحمدِ: الثناء على الجميل من النعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية، كالعلم والصبر والرحمة ،أم على عطائه وتفضُّله على الآخرين. ولا يكون الحمد إلا للحي العاقل.

    وهذا أشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جماداً ولكن لا تحمده .

    وقد ثبت أنّ المدح أعم من الحمد, فالمدح قد يكون قبل الإحسان وبعده , أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان. فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات أو الفعل فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد , أمّا المدح فقد يكون قبل ذلك؛ فقد تمدح إنسانا ولم يفعل شيئاً من المحاسن والجميل؛ ولذا كان المدح منهياً عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «احثوا التراب في وجه المداحين» بخلاف الحمد فإنه مأمور به؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من لم يحمد الناس لم يحمد الله».

    وبذا علمنا من قوله: {الحَمْدُ للهِ }أن الله حيٌّ له الصفات الحسنى والفعل الجميل، فحمدناه على صفاته وعلى فعله وإنعامه, ولو قال : (المدح لله) لم يفد شيئاً من ذلك، فكان اختيار الحمد أولى من اختيار المدح.

    السؤال الثاني :

    لِمَ لم يقل سبحانه (الشكر لله) ؟

    الجواب:

    لأنّ الشكر لا يكون إلا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية، فإنك لا تشكر الشخص على علمه أو قدرته , وقد تحمده على ذلك .

    وقد جاء في «لسان العرب» : (والحمد والشكر متقاربان، والحمد أعمُّهما لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته, فكان اختيار الحمد أولى أيضا من الشكر لأنه أعم، فإنك تثني عليه بنعمه الواصلة إليك وإلى الخلق جميعاً, وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية , وإن لم يتعلق شيء منها بك، فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر.

    السؤال الثالث:

    قوله تعالى {الحَمْدُ للهِ }ولِمَ لم يقل (أحمد الله) أو (نحمد الله) ؟

    الجواب:

    قوله تعالى : {الحَمْدُ للهِ }أولى من وجوه عدة:

    1ـ أنّ القول (أحمد الله) أو (نحمد الله) مختص بفاعل معين، ففاعل (أحمد) هو المتكلم وفاعل (نحمد) هم المتكلمون , في حين أنّ عبارة (الحمد لله) مطلقةٌ لا تختص بفاعل معين وهذا أولى , فإنك إذا قلت : (أحمد الله) أخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أنّ غيرك حمده , وإذا قلت : (نحمد الله) أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أنّ غيركم حمده , في حين أنّ عبارة (الحمد لله) لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الإطلاق منك ومن غيرك.

    2ـ وقول (أحمد الله) تخبر عن فعلك أنت ولا يعني ذلك أنّ من تحمده يستحق الحمد، في حين إذا قلت (الحمد لله) أفاد ذلك استحقاق الحمدِ للهِ وليس مرتبطاً بفاعل معين.

    3ـ وقول (أحمد الله) أو (نحمد الله) مرتبط بزمن معين؛ لأنّ الفعل له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال ومعنى ذلك أنّ الحمد لا يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه.

    ولا شك أنّ الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمد فيه محدود، وهكذا كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن، وإنّ أقصى ما يستطيع أن يفعله أنْ يكون مرتبطاً بعمره ولا يكون قبل ذلك وبعده فعل، فيكون الحمد أقل مما ينبغي, وحمد الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يحد بفاعل أو بزمان , ولذلك فإنّ عبارة {الحَمْدُ للهِ } مطلقة غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين، فالحمد فيها مستمر غير منقطع.

    جاء في «تفسير الرازي» أنه لو قال :(أحمد الله) أفاد ذلك كون القائل قادراً على حمده، أمّا لما قال (الحمد لله) فقد أفاد ذلك أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين، فهؤلاء سواء حمدوا أم لم يحمدوا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.

    وقول (أحمد الله) جملة فعلية و(الحمد لله) جملة اسمية , والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد في حين أنّ الجملة الاسمية دالة على الثبوت، وهي أقوى وأدوم من الجملة الفعلية. فاختيار الجملة الاسمية أولى من اختيار الجملة الفعلية ههنا؛ إذ هو أدل على ثبات الحمد واستمراره.

    4ـ وقول (الحمد لله) معناه أن الحمد والثناء حقٌّ لله وملكه، فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلآئه على العباد. فقولنا: (الحمد لله) معناه : أنّ الحمد لله حق يستحقه لذاته، ولو قال :(أحمد الله) لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته, ومعلوم أنّ اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أنّ شخصاً واحدا حمده.

    والحمد عبارة عن صفة القلب، وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلاً منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال. فإذا تلفَّظَ الإنسان بقوله : (أحمد الله) مع أنه كان قلبه غافلاً عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذباً لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك.

    أما إذا قال: (الحمد لله) سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأنّ معناه: أنّ الحمد حق لله وملكه , وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والاجلال أو لم يكن. فثبت أنّ قوله (الحمد لله) أولى من قوله (أحمد الله) أو من (نحمد الله).

    ونظيره قولنا {لَا إِلَهَ إِلَّا} فإنه لا يدخل في التكذيب، بخلاف قولنا "أشهد أن لا اله إلا الله" لأنه قد يكون كاذباً في قوله "أشهد" ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} {المنافقون:1} .

    السؤال الرابع:

    لماذا لم يقل{الحَمْدُ للهِ }بالنصب أي ( الحمد َ لله )؟

    الجواب:

    إن قراءة الرفع أولى من قراءة النصب، ذلك أنّ قراءة الرفع تدل على أنّ الجملة اسمية، في حين أنّ قراءة النصب تدل على أنّ الجملة فعلية، بتقدير"نحمد" أو "أحمد" او «احمدوا» بالامر، والجملةُ الاسمية أقوى وأثبت من الجملة الفعلية؛ لأنها دالة على الثبوت.

    وقد يقال : أليس تقدير فعل الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع بمعنى «احمدوا الحمد لله» كما تقول: «الإسراع في الأمر» بمعنى أسرعوا؟

    والجواب: لا . فإن قراءة الرفع أولى أيضاً ذلك لأنّ الأمر بالشيء لا يعني أنّ المأمور به مستحق للفعل، وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أمر به فكان {الحَمْدُ للهِ } بالرفع أولى من ( الحمد َ لله ) بالنصب في الإخبار والأمر.

    السؤال الخامس:

    لماذا لم يقل «حمداً لله»؟

    الجواب:

    الحمد لله معرَّفةٌ بأل، وحمداً نكرة, والتعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير، ذلك أن «أل» قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أنّ الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الأحمدة كلها، ورجح بعضهم المعنى الأول ورجح بعضهم المعنى الثاني، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : «اللهم لك الحمد كله» فدل على استغراق الحمد كله، فعلى هذا يكون المعنى: أنّ الحمد المعروف بينكم هو لله على سبيل الاستغراق والإحاطة فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه.

    السؤال السادس:

    {الحَمْدُ للهِ } أهي خبر أم انشاء؟

    الجواب:

    الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب , والإنشاء هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب.

    قال أكثر النحاة والمفسرين :إنّ (الحمد لله) إخبار كأنه يخبر أنّ الحمد لله سبحانه وتعالى، وقسم قال : إنها إنشاء؛ لأنّ فيها استشعار المحبة، وقسم قال : إنها خبر يتضمن إنشاء.

    وأحيانا يحتمل أنْ تكون التعبيرات خبراً أو إنشاء بحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه, فعلى سبيل المثال قد نقول : (رزقك الله) ونقصد بها الدعاء وهذا إنشاء، وقد نقول: (رزقك الله وعافاك) والقصد منها: أفلا تشكره على ذلك؟ وهذا خبر.

    والحمد لله هي من العبارات التي يمكن أنْ تستعمل خبراً وإنشاء بمعنى الحمد لله خبر, ونستشعر نعمة الله علينا ونستشعر التقدير كأنْ نقولها عندما نستشعر عظمة الله سبحانه في أمر ما فنقول : الحمد لله.

    السؤال السابع:

    لماذا لم يقل سبحانه : إنّ الحمد لله؟

    الجواب:

    لا شك إنّ الحمد لله , لكن هناك فرق بين التعبيرين أنْ نجعل الجملة خبراً محضاً في قول{الحَمْدُ للهِ } حيث (تعمل للخبر أو الإنشاء) ولكن عندما تدخل عليه (إنّ) لا يمكن إلا أنْ يكون إنشاء , لذا فقول : (الحمد لله) أولى لما فيه من الإجلال والتعظيم والشعور بذلك , لذا جمعت {الحَمْدُ للهِ }بين الخبر والإنشاء ومعناهما. مثلا نقول : رحمة الله عليك (هذا دعاء) وعندما نقول : إنّ رحمة الله عليك، فهذا خبر وليس دعاء .

    ومن المعلوم أنه في اللغة قد تدخل بعض الأدوات على عبارات فتغير معناها مثال: رحمه الله (دعاء) أما: قد رحمه الله (إخبار) , رزقك الله (دعاء) أما : قد رزقك الله (إخبار)

    السؤال الثامن:

    لماذا لم يقل سبحانه : لله الحمد؟

    الجواب:

    لله الحمد : تقال إذا كان هناك كلام يراد تخصيصه ,مثال(لفلانٌ الكتاب) تقال للتخصيص والحصر, وإذا قُدِّمَ الجارُ والمجرورُ على اسم العلم يكون بقصد الاختصاص والحصر (لإزالة الشك أنّ الحمد سيكون لغير الله)

    الحمد لله في الدنيا ليست مختصة لله سبحانه وتعالى. الحمد في الدنيا قد تقال لأستاذ أو سلطان عادل , وأمّا العبادة فهي قاصرة على الله سبحانه وتعالى .

    والمقام في الفاتحة ليس مقام اختصاص أصلاً , وليست مثل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أو {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقد وردت في القران الكريم{فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] .

    لا أحد يمنع التقديم، لكنّ التقديم والتأخير في القرآن الكريم يكون حسب ما يقتضيه السياق. والمقام في سورة الفاتحة هو مقام مؤمنين يقرون بالعبادة ويطلبون الاستعانة والهداية , أمّا في سورة الجاثية فالمقام في الكافرين وعقائدهم وقد نسبوا الحياة والموت لغير الله سبحانه، لذا اقتضى ذكر تفضله سبحانه بأنه خلق السموات والأرض وأثبت لهم أنّ الحمد الأول لله سبحانه على كل ما خلق لنا، فهو المحمود الأول، لذا جاءت (فلله الحمد) مقدَّمةً حسب ما اقتضاه السياق العامُّ للآيات في السورة.

    السؤال التاسع:

    لماذا التفصيل في الجاثية { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] ولم ترد في الفاتحة؟

    الجواب:

    1ـ في الجاثية : تردَّدَ ذكر السموات والأرض وما فيهن وذكر ربوبية الله تعالى لهما, فقد جاء في أول السورة {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الجاثية:3] فلو نظرنا في جوِّ سورة الجاثية نلاحظ ربوبية الله تعالى للسموات والأرض والخلق والعالمين مستمرة في السورة كلها. قال تعالى : {وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الجاثية:27 يعني هو ربُّهما {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ} [الجاثية:27 إذن هو رب العالمين {وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ} [الجاثية:22] فهو ربهما {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية:22] فهو ربُّ العالمين. {فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] فجمع الربوبية في السموات والارض والعالمين في آية واحدة , أمّا في الكلام في الفاتحة فهو عن العالمين فقط وذكر أصناف الخلق من العالمين {المؤمِنينَ} ، {الضَآلِينَ}.. لذا ناسب التخصيص في الجاثية وليس في الفاتحة.


    يتبع





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"

    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (5)


    المهندس مثنى محمد هبيان



    {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة:2]

    2ـ قوله تعالى:{وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [الجاثية:37] ولم يذكر الكبرياء في الفاتحة؛ لأنه جاء في الجاثية ذكر المستكبرين بغير حق كما في الآيات:{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(9) }. [الجاثية]. فدلّ على مظهر من مظاهر الاستكبار, لذا ناسب أن يرد ذكر الكبرياء في السموات والأرض، فسبحانه تعالى يضع الكلام بميزان دقيق بما يتناسب مع السياق العام للآيات.

    السؤال العاشر:

    في قوله تعالى{الحَمْدُ للهِ }جاء سبحانه وتعالى باسمه العلم{اللهِ}ولم يقل الحمد للخالق أو القدير أو أي اسم آخر من أسمائه الحسنى، فلماذا جاء باسمه العلم؟

    الجواب:

    1ـ لأنه إذا جاء بأي اسم آخر غير العَلَمِ لدلَّ على أنه تعالى استحقَّ الحمد فقط بالنسبة لهذا الاسم خاصة، فلو قال: الحمد للقادر، لفهمت على أنه يستحق الحمد للقدرة فقط، لكن عند ذكر الذات {اللهُ}فإنها تعني أنه سبحانه يستحق الحمد لذاته لا لوصفه.

    2ـ من ناحية أخرى: الحمد لله مناسبة لما جاء بعدها{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] لأنّ العبادة كثيراً ما تختلط بلفظ الله، فلفظ الجلالة {اللهُ} يعنى الإله المعبود، مأخوذة من أَلِهَ (بكسر اللام) ومعناها: عُبِدَ ، ولفظ الله مناسب للعبادة، وأكثر اسم اقترن بالعبادة هو لفظ الله تعالى (وللعلم فإنّ أكثر من 50 مرة اقترن لفظ الله بالعبادة في القرآن) لذا فالحمد لله مناسب لأكثر من جهة.

    لذلك نجد أنّ الحمد{للهِ}أولى من قول: الحمد للسميع، أو العليم، أو غيرها من أسماء الله الحسنى. وقولُ: الحمد لله، أولى من قول: أحمد الله، أو الحمدَ لله، أو حمداً لله، أو أنّ الحمدَ لله، أو الحمدُ للحيِّ، أو القادر، أو السميع، أو البصير. جلَّت حكمة الله سبحانه وتعالى وجلّ قوله العزيز.

    السؤال الحادي عشر:

    ما السور التي بدأت بقوله{الحَمْدُ للهِ }؟

    الجواب:

    1ـ السور التي بُدئت بالحمد هي خمسُ سور أولها الفاتحة، ثم: الأنعام، الكهف، سبأ، وفاطر. ثم نجدها تتكرر في داخل عدد من السور في سبع عشرة مرة.

    و هذه البدايات تبيّن نماذج من الحمد، وعلى الأغلب أنّ {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة:2] في الفاتحة هو جنس الحمد، وهناك نماذج أخرى يُحمَد الله عز وجل لآلائه ، فهنا من رحمته، وهنا من فضله، وهنا من علمه، وهنا من إعطائه العلم للآخرين، وهنا من رحمته بهم، وهنا من خلقه السموات والأرض.

    والسور الأربع كأن بداياتها متكاملة:

    آ ـ الأولى:{الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].

    والآية تكلمت عن الأمور المنظورة والكلام فيها عن الخلق بمعنى البدء، لكن غالباً فيه معنى التقدير والتصوير, لأنهم يقولون: هذا الصانع خلق القماش، يعني قدّره قبل أنْ يقصه، والخلق غير التكوين والإنشاء, والتصوير يصور الشيء، والكلام هنا خاص عن خلق السموات والأرض ومن رحمة الله سبحانه تعالى جعل الظلمات والنور، معناه: نظّم السموات والأرض بما فيها من ظلمات ونور مبنية على الحركة وعلى وجود الإشعاع من داخل بعضها، وبعضها خال من الإشعاع.

    ب ـ الثانية:{الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1] هذه الآية تكلمت عن الأمور غير المنظورة كالملائكة.

    ج ـ الثالثة:{الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} [سبأ:1] الآية تكلمت عن ملك الله تعالى للسموات والأرض، وكل ما في السموات والأرض هو ملك لله سبحانه وتعالى وحده.

    د ـ ثم الرابعة: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف:1] الآية تكلمت عن الكتاب الذي يجمع كل القيم ويبين المنهج الإلهي.

    فهذه نماذج من آلاء الله سبحانه وتعالى ونعمه التي يجب أن يُحمد عليها, لكن لكل حمدٍ في كل سورة حيثيةٌ خاصةٌ.

    2ـ أمّا {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة:2] في سورة الفاتحة فجمعت كل الحيثيات فجاءت شاملةً للكون كله، وجاء بلفظ {الحَمْدُ} لتدل على جنس الحمد كلِّه، بينما توجد حيثياتٌ جزئيةٌ في بدايات السور الأربع، وبينها نوع من التلازم والتشابك.

    3ـ عندما ننتقل إلى عموم سور القرآن الكريم نجد في كل موضع كلمة {الحَمْدُ للهِ} لها معناها ولها مدلولها لكن يجمعها جميعاً حتى في هذا الموضع ( آية الفاتحة 2 ) أنه ليس فيها معنى الحصر وقصر الحمد على الله سبحانه وتعالى وليس فيها دعوة إلى أنْ لا يحمد سواه.

    لكن سنجد في آيات أخرى هناك قصر {لَهُ الحَمْدُ}، ففي الأماكن التي يقول الله فيها: {الحَمْدُ للهِ} يفسح المجال فيها لأن يحمد الإنسان غير الله سبحانه وتعالى للبشر مثلاً على خُلُقِه، على علمه، على كرمه، لكنْ في الأماكن التي يُطلب فيها أنْ يكون الحمد حصراً وقصراً لله سبحانه وتعالى يقول: {فَللهِ الحَمْدُ} أو {لَهُ الحَمْدُ}.

    السؤال الثاني عشر:

    ما الخماسيات الأخرى الموجودة في افتتاح سور القرآن الكريم؟

    الجواب:

    في القرآن الكريم توجد سبع خماسيات في افتتاح سور القرآن الكريم وهي:

    1ـ الخماسية الأولى: المفتتحة بالتحميد، وهي السور المذكورة في السؤال السابق، وهي: الفاتحة ـ الأنعام ـ الكهف ـ سبأ ـ فاطر. وكلها مكية.

    2ـ الخماسية الثانية: المفتتحة بالتسبيح، وهي: الحديد ـ الحشر ـ الصف ـ الجمعة ـ التغابن. وكلها مدنية.

    3ـ الخماسية الثالثة: المفتتحة بأحرف (الر)، وهي يونس ـ هود ـ يوسف ـ إبراهيم ـ الحجر. وكلها مكية.

    4ـ الخماسية الرابعة: المفتتحة بالنداء، وهي: النساء ـ المائدة ـ الحج ـ الحجرات ـ الممتحنة. وكلها مدنية.

    5ـ الخماسية الخامسة: المفتتحة بنداء الرسول عليه السلام، وهي: الأحزاب ـ الطلاق ـ التحريم ـ المزمل ـ المدثر. وكلها مكية.

    6ـ الخماسية السادسة: المفتتحة بالاستفهام، وهي: الإنسان ـ الغاشية ـ الشرح ـ الفيل ـ الماعون. وكلها مكية.

    7ـ الخماسية السابعة: المفتتحة بالأمر(قل)، وهي: الجن ـ الكافرون ـ الإخلاص ـ الفلق ـ الناس. وكلها مكية.

    والله أعلم.

    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"


    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (6)


    المهندس مثنى محمد هبيان

    قوله تعالى: {ربِ العَالمِين}



    السؤال الأول: ما معنى الرَّبِّ في اللغة ؟

    الجواب:

    الرَّبُّ هو المالك والسيد والمربي والمنعم والقيّم، فإذن رب العالمين هو ربهم ومالكهم وسيدهم ومربيهم والمنعم عليهم وقَيِّمُهم، لذا فهو أولى بالحمد من غيره، وذكر{ربِ العَالمِين} هي أنسب ما يمكن وضعه بعد {الحَمْدُ للهِ}.

    رب العالمين يقتضي كل صفات الله تعالى ويشمل كل أسماء الله الحسنى.

    السؤال الثاني: ما دلالة كلمة {العَالَمِينَ}؟

    الجواب:

    العالمين: جمع عَالَم , والعالم هو كل موجود سوى الله تعالى , والعالم يجمع على العوالم وعلى العالمين, لكن اختيار العالمين على العوالم أمر بلاغيٌّ، ويعني ذلك أنّ العالمين خاص للمكلفين وأولي العقل (أي: لا تشمل غير العقلاء) بدليل قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] ومن المؤكد أنه ليس نذيراً للبهائم والجماد. وبهذا استدلوا على أنّ المقصود بالعالمين أولو العقل وأولو العلم أو المكلفون.

    و{العَالَمِينَ}جمع عالم بكل أصنافه لكن يغلُب العقلاء على غيرهم فيقال لهم: (العالمين) ولا يقال لعالم الحشرات أو الجماد أو البهائم : {العَالَمِينَ} وعليه فلا تستعمل كلمة العالمين إلا إذا اجتمع العقلاء مع غيرهم وغلبوا عليهم.

    أمّا العوالم قد يطلق على أصناف من الموجودات ليس منهم البشر أو العقلاء أو المكلفون: تقال للحيوانات والحشرات والجمادات.

    السؤال الثالث: لماذا لم تجمع عالم على عوالم ؟ وما الفرق بين عوالم وعالمين و علاّم؟

    الجواب:

    1ـ القاعدة اللغوية :

    صيغة الجمع ( فواعل ) هي جمع تكسير، وهي إمّا أنْ تكون :

    آ ـ جمعاً لمؤنث بصيغة فاعلة , نحو : كافرة وكوافر ـ ساجدة وسواجد ـ نازلة ونوازل.

    ب ـ أو جمعاً لغير العاقل بصيغة فاعل، نحو : قارض وقوارض ـ زاحف وزواحف ـ ناقص ونواقص.

    2ـ (عالمين) :

    ومفردها (عالم) ولم تجمع على عوالم في القرآن الكريم حسب القاعدة اللغوية أعلاه , والسبب في ذلك أنّ المقصود بها في السياقات القرآنية هو العاقلون ، فأحياناً المقصود منها هو عالم الناس , وأحياناً عالم الإنس والجن (الثقلان)، وأحياناً عالم الملائكة والشياطين ، وأحياناً يتسع معناها فتشمل المخلوقات كافة, العاقلين وغير العاقلين لذلك ينبغي أنْ تجمع كلمة (عالم) على (عالمين) إشارةً إلى العاقلين من الإنس والجن والملائكة والشياطين لتمييزها عن العوالم غير العاقلة.

    قال الفرّاء وأبو عبيدة : العالم عبارةٌ عما يعقل من (الإنس والجن والملائكة والشياطين) ولا يقال للبهائم : عالم .

    3ـ علاّم :

    وردت في القرآن الكريم أربع مرات في آيات ( المائدة 109و 116 ، التوبة 78، سبأ 48) وهي مبالغة من عالم , وقد تكون علاّمة بزيادة تاء التأنيث للمبالغة لكن لا تستعمل مع الله تعالى , ولم يقل القرآن : علاّمة ، لأنّ علم الله لا يترقى بلاغة ولا كمية . والله أعلم.

    السؤال الرابع: ما سبب اختيار كلمة {رَبِّ} و {العَالَمِينَ} في الآية؟

    الجواب:

    1ـ اختيار كلمة العالمين له سببه في سورة الفاتحة، فــ (العالمين) تشمل جيلاً واحداً، أو قسماً من جيل , وقد تشمل كل المكلفين, وفي الآية : {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العَالَمِينَ} [الحجر:70] في قصة سيدنا لوط جاءت هنا بمعنى: قسم من الرجال.

    واختيار العالمين أيضاً لأنّ السورة كلها في المكلفين , وفيها طلب الهداية وإظهار العبودية لله وتقسيم الخلق، وكله خاص بأولي العقل والعلم , لذا كان من المناسب اختيار العالمين على غيرها من المفردات أو الكلمات، وقد ورد في آخر الفاتحة ذكر المغضوب عليهم وهم اليهود، و(العالمين) رد على اليهود الذين ادعوا أن الله تعالى هو رب اليهود فقط، فجاءت {رَبِّ العَالَمِينَ} لتشمل كل العالمين لا بعضهم.

    2ـ أمّا اختيار كلمة{رَبِّ} فلأنها تناسب ما بعدها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] لأنّ من معاني الرب (المربي)، وهي أشهر معانيه وأولى مهام الرب الهداية , لذا اقترنت الهداية كثيراً بلفظ الرب , كما اقترنت العبادة بلفظ الله تعالى كما في الآيات :{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50) }. [طه].

    {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3) }. [الأعلى]. {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام:161] { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24] ، {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصَّفات:99] ، {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22] لذا ناسب لفظ رب مع اهدنا الصراط المستقيم وفيها طلب الهداية.

    السؤال الخامس: أين وردت {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} كاملة في القرآن الكريم ؟

    الجواب:

    1ـ وردت {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}كاملة في القرآن الكريم في ستة مواضع هي : الفاتحة 2، الأنعام 45 ، يونس 10، الصافات 182، الزمر 75 ، غافر 65 .

    {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} في بداية الفاتحة بعد البسملة معناه بداية عمل.

    وفي نهاية سورة الصافات بعد الحديث عن الكون وما يضم إلى قيام الساعة انتهاء الحياة {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180) وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ(181 ) وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(181) } [الصَّافات] النهاية.

    كذلك في نهاية سورة الزمر {وَتَرَى المَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الزُّمر:75] والأنعام {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44) فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(45) } [الأنعام] في نهاية الحياة، وفي نهاية السور التي تشير إلى نهاية الحياة، أونهاية مواقف معينة تأتي {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}وفي الأنعام نهاية عمل وانتهى أمرهم.

    و{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} فيها كلام عن الناس، لاحظ الآية الأولى {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [يونس:10] هذا في يوم القيامة في الجنة، وقوله تعالى في سورة غافر {هُوَ الحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [غافر:65] هنا في آخر الدعاء , وهنا يحتمل أوله وآخره {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } كأنما الحمد في الأولى والآخرة.

    والفائدة التي نقولها أنّ كلمة {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} جاءت في أول الفاتحة تحميداً وتمجيداً لله سبحانه وتعالى وبها يختم العمل والدعاء وتأتي في سور أخرى في الآخرة أي: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} في البدء وفي الختام.


    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"


    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (7)


    المهندس مثنى محمد هبيان

    حول معنى قوله تعالى {الرحمن الرحيم}



    السؤال الأول:

    كلمتا ( الرحمن،الرحيم) كل منهما مشتق من الرحمة. فما الفرق بينهما في قوله تعالى {الرحمن الرحيم} ؟

    الجواب:

    {الرحمن} على وزن فعلان، والرحيم على وزن فعيل, ومن المقرر في علم التصريف في اللغة العربية أنّ صفة (فعلان) تمثل الحدوث والتجدد والامتلاء والاتصاف بالوصف إلى حده الأقصى، فيقال: غضبان، بمعنى امتلأ غضباً {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86] لكنّ الغضب زال {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ} [الأعراف:154] ومثل ذلك عطشان، ريان، جوعان، فيكون عطشان فيشرب فيذهب العطش .

    أما صيغة (فعيل) فهي تدل على الثبوت سواء كان خٍلقة , مثل طويل، جميل، قبيح، فلا يقال : خطيب، لمن ألقى خطبة واحدة، وإنما تقال لمن يمارس الخطابة، وكذلك الفقيه.

    هذا الإحساس اللغوي بصفات فعلان وفعيل لا يزال في لغتنا الدارجة إلى الآن فنقول لمن بدا عليه الطول (طولان) فيرد : هو طويل (صفة ثابتة)، فلان ضعفان (حدث فيه شيء جديد لم يكن) فيرد : هو ضعيف (هذه صفته الثابتة فهو أصلاً ضعيف) .

    ولذا جاء سبحانه وتعالى بصفتين تدلان على التجدد والثبوت معاً، فلو قال : {الرحمن} فقط لتوهم السامع أنّ هذه الصفة طارئة قد تزول كما يزول الجوع من الجوعان والغضب من الغضبان وغيره، ولو قال : {الرحيم} وحدها لفهم منها أنّ صفة رحيم مع أنها ثابتة لكنها ليست بالضرورة على الدوام ظاهرة إنما قد تنفك، مثلاً عندما يقال : فلان كريم، فهذا لا يعني أنه لا ينفك عن الكرم لحظة واحدة، إنما الصفة الغالبة عليه هي الكرم.

    وجاء سبحانه بالصفتين مجتمعتين ليدل على أنّ صفاته الثابتة والمتجددة هي الرحمة , ويدل على أنّ رحمته لا تنقطع , وهذا يأتي من باب الاحتياط للمعنى، وجاء بالصفتين الثابتة والمتجددة لا ينفك عن إحداهما فهذه الصفات مستمرة ثابتة لا تنفك البتة وغير منقطعة.

    {الرحمن}: والرحمن معناه كثير الرحمة، أو ذو الرحمة العامة الشاملة، ولذلك يقولون: كلمة الرحمن معناها : هو رحمن في الدنيا والآخرة، وهو رحمن بكل خلقه مؤمنهم وكافرهم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يحرم الكافر من رحمته، وفي الحديث: «لو كانت هذه الدنيا تعدل جناح بعوضة عند ربكم ما سقى كافراً فيها شربة ماء». لكن يسقي الكافر ويعطيه الصحة ويعطيه النظر ويعطيه السمع ويعطيه الاستقامة وهو يكفر بالرحمن، ومع ذلك يرحمه الله في هذه الدنيا، ولكن سيأتي الوقت الذي يحاسبه عليه، فهو رحمن في الدنيا والآخرة للجميع.

    {الرحيم}: أما اسم {الرحيم} فجاء في المرتبة الثالثة في السورة: الله، الرحمن، الرحيم. يقول علماؤنا: الرحيم بالمؤمنين .

    و لذلك لاحظ كلمة الرحمن لأنها المرحلة الثانية بعد لفظ الله، جاءت مثل لفظة (الله) التي لا يُسمّى بها مخلوق , كذلك كلمة (الرحمن) لا يسمى بها مخلوق ولا حتى بالإضافة ، لذلك لما مسيلمة الكذاب سُمِّيَ : رحمن اليمامة أخزاه الله سبحانه وتعالى.

    لكن كلمة (الرحيم) يمكن أنْ يوصف بها البشر أيضاً؛ لأنها رحمة قليلة بالقياس إلى الرحمن ولا تقارن برحمة الله سبحانه وتعالى , وقد وصِفَ محمد صلى الله عليه وسلم بالرحيم في الآية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وأنت يمكن أن تقول : هذا إنسان رحيم، لكن لا يمكن أنْ تقول: هذا إنسان رحمن، هذا التدرج يفيد الانتقال من الكل إلى الجزئيات.

    السؤال الثاني:

    لماذا إذن قدّم سبحانه (الرحمن) على (الرحيم)؟

    الجواب:


    قدّم صيغة الرحمن، والتي هي الصفة المتجددة وفيها الامتلاء بالرحمة لأبعد حدودها؛ لأنّ الإنسان في طبيعته عجول , وكثيرا ما يؤثر الإنسان الشيء الآتي السريع وإنْ قل على الشيء الذي سيأتي لاحقا وإنْ كثر , ووقوع كلمة (الرحيم) بعد كلمة الرَّبِّ يدلنا على أنّ الرحمة هي من صفات الله تعالى العليا, وفيها إشارة إلى أنّ المربي يجب أنْ يتحلى بالرحمة وتكون من أبرز صفاته وليست القسوة ، والرَّبُّ بكل معانيه ينبغي أنْ يتصف بالرحمة سواء كان مربياً أو سيداً أو قيماً وقد وصف الله تعالى رسوله بالرحمة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"


    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (8)


    المهندس مثنى محمد هبيان

    حول معنى قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}



    السؤال الأول: ماذا عن القراءة الثانية ( مَلِكِ ) ؟

    الجواب:

    هناك قراءة متواترة {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وبعض المفسرين يحاولون تحديد أي القراءتين أولى وتحديد صفة كلٍّ منهما , لكنْ في الحقيقة ليس هناك قراءة أولى من قراءةٍ فكلتا القراءتين متواترة نزل بهما الروح الأمين ليجمع بين معنى المالك والمَلِكِ.


    السؤال الثاني: ما الفرق بين المَلِكِ والمالك ؟

    الجواب:

    المالك من التملُّكِ، والمَلِك بكسر اللام (بمعنى الذي يملك المِلكَ) .

    ومَلِكٌ -بكسر اللام- من (المُلك) -بضم الميم- أي الحُكمِ كما في الآية {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزُّخرُف:51] ـ المُلكُ هنا بمعنى الحكم , والحاكم الأعلى هو الله تعالى.

    المالك قد يكون ملكاً وقد لا يكون , والمَلِك قد يكون مالكاً وقد لا يكون. المالك يتصرَّفُ في ملكه كما لا يتصرف المَلِكُ (بكسر اللام) , والمالك عليه أن يتولى أمر مملوكه من الكسوة والطعام , والملِك ينظر للحكم والعدل والإنصاف.

    المالك أوسع لشموله العقلاء وغيرهم، والملِك هو المتصرف الأكبر وله الأمر والإدارة العامة في المصلحة العامة , فنزلت القراءتان لتجمع بين معنى المالك والمَلِك وتدل على أنه سبحانه هو المالك وهو المَلِك {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ } [آل عمران:26] ـ المُلكُ ملكُه سبحانه وتعالى , فجمع بين معنى المِلكية والمُلكِ .

    السؤال الثالث: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لِمَ لمْ يذكر الدنيا؟ سواء كان مالكاً أو مَلِكاً فلماذا لم يقل (مالك يوم الدين والدنيا)؟

     الجواب:

    أولاً : قال:{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} فهو مالكهم ومَلِكُهم في الدنيا وهذا شَمَلَ الدنيا. (مالك يوم الدين) هو مالك يوم الجزاءِ، ويعني مَلَكَ ما قبله من أيام العمل ,والعمل يكون في الدنيا، فقد جمع في التعبير يوم الدين والدنيا, وبقوله: (يوم الدين) شمل فيه الدنيا أيضاً.

    السؤال الرابع: لِمَ قال : يوم الدين، ولم يقل : يوم القيامة؟


    الجواب:

    الدِّين بمعنى الجزاء، وهو يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور إلى السرمد الدائم , ويشمل الجزاء والحساب والطاعة والقهر وكلها من معاني الدين, وكلمة (الدين) أنسب للفظ (رَبِّ العالمين) وأنسب للمكلفين (الدِّين يكون لهؤلاء المكلفين) فهو أنسب من يوم القيامة؛ لأنّ القيامة فيها أشياء لا تتعلق بالجزاء، أمّا الدين فمعناه الجزاء وكل معانيه تتعلق بالمكلفين؛ لأنّ الكلام من أوله لآخره عن المكلفين، لذا ناسب اختيار كلمة الدين عن القيامة.

    السؤال الخامس: لماذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ } فأضاف الملك إلى اليوم، واليوم لا يُملَكُ ؟

    الجواب:

    اليوم لا يملك لكن ما فيه يملك , والسبب لقصد العموم, ومالك اليوم هو مالك لكل ما فيه وكل من فيه , فهو أوسع، وهو ملكية كل ما يجري وما يحدث في اليوم وكل ما فيه ومن فيه, فهي إضافة عامة شاملة جمع فيها ما في ذلك اليوم ومن فيه وأحداثه وكل ما فيه من باب المِلكية (بكسر الميم) والمُلكية (بضم الميم).

    السؤال السادس : ما أسماء يوم القيامة التي وردت في القرآن ؟

    الجواب:

    عدد أسماء يوم القيامة في القرآن ما يقارب أربعة وعشرين اسماً ، وهي :

    1ـ يوم الدين . [الفاتحة: 4]

    2ـ الآخرة . [البقرة: 4]

    3ـ القيامة . [البقرة: 85]


    4ـ الدار الآخرة . [البقرة: 94]

    5ـ اليوم الآخر . [البقرة: 177]

    6ـ الساعة . [الأنعام: 31]

    7ـ يوم الحسرة . [مريم: 39]

    8ـ يوم البعث . [الروم :56]

    9ـ يوم الفصل . [الصافات :21]

    10ـ يوم التلاق . [غافر: 15]

    11ـ يوم الآزفة . [غافر: 18]

    12ـ يوم الحساب . [غافر :27 ]

    13ـ يوم التناد . [غافر: 32 ]

    14ـ يوم الجمع . [الشورى : 7 ]

    15ـ يوم الوعيد . [ق :20 ]

    16ـ يوم الخلود . [ق : 34 ]

    17ـ يوم الخروج . [ق : 42 ]

    18ـ الواقعة . [الواقعة : 1]

    19ـ يوم التغابن . [التغابن : 9 ]

    20ـ الحاقة . [الحاقة : 1 ]

    21ـ القارعة . [الحاقة: 4]

    22ـ الطامة الكبرى . [النازعات : 34]

    23ـ الصاخة . [عبس: 33]

    24ـ الغاشية . [الغاشية: 1]

    لذلك كان اقتران الحمد بهذه الصفات في الآيات السابقة أحسن اقتران وأجمله:

    ـ {الحَمْدُ للهِ} فالله محمود بذاته وصفاته على العموم والله هو الاسم العلم , ثم محمود بكل معاني الربوبية .

    ـ { رَبِّ العَالَمِينَ} لأنّ من الأرباب من لا تحمد عبوديته.

    ـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فهو محمود في كونه رحمن رحيم، محمود في رحمته لأنّ الرحمة لو وضعت في غير موضعها تكون غير محمودة, فالرحمة إذا لم توضع في موضعها لم تكن مدحاً لصاحبها، أمّا الله فمحمود في رحمته يضعها حيث يجب أنْ توضع وهو محمود يوم الدين محمود في تملكه وفي مالكيته.

    ـ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} محمود في ملكه ذلك اليوم كما في قراءة (مَلِكِ يوم الدين).

    فاستغرق الحمد كل الأزمنة فلم يترك سبحانه زمناً لم يدخل فيه الحمد أبداً من الأزل إلى الأبد , فقد استغرق الحمد قبل الخلق {الحَمْدُ للهِ} حين كان تعالى ولم يكن معه شيء قبل حمد الحامدين وقبل وجود الخلق والكائنات، فاستغرق الحمد هنا الزمن الأول وعند خلق العالم {رَبِّ العَالَمِينَ}. واستغرق الحمد وقت كانت الرحمة تنزل ولا تنقطع {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} واستغرق الحمد يوم الجزاء كله، ويوم الجزاء لا ينتهي لأنّ الجزاء لا ينتهي، فأهل النار خالدون فيها وأهل الجنة خالدون فيها لا ينقضي جزاؤهم، فاستغرق الحمد كل الأزمنة من الأزل إلى الأبد كقوله تعالى { لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ } فهذه الآيات جمعت أعجب الوصف.

    يتبع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"




    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (9)

    حول معنى قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

    مثنى محمد هبيان





    السؤال الأول:

    لِمَ قدَّمَ مفعولي الفعلين (نعبد) و(نستعين) ؟

    الجواب:

    قدّم هنا في الآية المفعولين لنعبد ونستعين, وهذا التقديم هو للاختصاص لأنه سبحانه وتعالى وحده له العبادة , لذا لم يقل : نعبدك ونستعينك؛ لأنها لا تدل على التخصيص بالعبادة لله تعالى , أمّا قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فتعني تخصيص العبادة لله تعالى وحده، وكذلك في الاستعانة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}تكون بالله حصراً وكما في الآية {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} [الممتحنة:4] فكلها مخصوصة لله وحده حصـراً، فالتوكل والإنابة والمرجع كله إليه سبحانه {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [إبراهيم:11] .

    أمّا قوله تعالى :{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [المُلك:29] فإن تقديم الإيمان على الجار والمجرور هنا لأن الإيمان ليس محصوراً بالله وحده فقط، بل علينا الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر, لذا لم تأت (به آمنا) ، أمّا في التوكل فجاءت {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [المُلك:29] لا (توكلنا عليه) لأنّ التوكل محصور بالله تعالى وحده.

    السؤال الثاني:

    لماذا كُرِّرت: {إيَّاكَ} مع فعل الاستعانة ولم يقل (إياك نعبد ونستعين)؟

    الجواب:

    التكرار يفيد التنصيص على حصر المستعان به, ولو اقتصرنا على ضمير واحد (إياك نعبد ونستعين) لم يعن المستعان إنما عنى المعبود فقط , ولو اقتصرنا على ضمير واحد لفهم من ذلك أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بين العبادة والاستعانة, بمعنى أنه لا يعبد بدون استعانة ولا يستعان به بدون عبادة. ويفهم من الاستعانة مع العبادة مجموعة ربط الاستعانة بالعبادة , وهذا غير وارد، وإنما هو سبحانه نعبده على وجه الاستقلال , ونستعين به على وجه الاستقلال . وقد يجتمعان , لذا وجب التكرار في الضمير: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .

    والتكرار توكيد في اللغة، وفي التكرار من القوة والتوكيد للاستعانة فيما ليس في الحذف.

    السؤال الثالث:

    ما دلالة إطلاق فعل الاستعانة وعدم تقييده بشيء معين ؟

    الجواب:

    أطلق سبحانه فعل الاستعانة ولم يحدد بأن نستعين على شيء معين، أو نستعين على طاعة معينة، أو غيره، إنما أطلقها لتشمل كل شيء، فهي ليست محددة بأمر واحد من أمور الدنيا بل وتشمل كل شيء يريد الإنسان أن يستعين بربه؛ لأن الاستعانة غير مقيدة بأمر محدد.

    السؤال الرابع:

    ما دلالة استعمال ضمير الجمع: { نَعْبُدُ } { نَسْتَعِينُ}ولم يستعمل ضمير المفرد ؟

    الجواب:

    لقد عبّر سبحانه عن الاستعانة والعبادة بلفظ ضمير الجمع{نَعْبُدُ} و {نَسْتَعِينُ}وليس بالتعبير المفرد (أعبد) و(أستعين) ، وفي هذا إشارة إلى أهمية الجماعة في الاسلام ,لذا تلزم قراءة هذه السورة في الصلاة , وتلزم أنّ صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة ,وفيها دليل على أهمية الجماعة عامة في الإسلام مثل الحج وصلاة الجماعة، الزكاة، الجهاد،الأعياد، والصيام, إضافة إلى أنّ المؤمنين إخوة، فلو قال : إياك أعبد؛ لأغفل عبادة إخوته المؤمنين ,ولذلك عندما نقول : إياك نعبد، نذكر كل المؤمنين ويدخل القائل في زمرة المؤمنين أيضاً.

    السؤال الخامس:

    لماذا قرن العبادة بالاستعانة؟

    الجواب:

    1ـ ليدل على أنّ الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله إلا بإعانة الله له وتوفيقه، فهو إذن شعار وإعلان أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعمل شيئاً إلا بعون الله .

    2ـ وهو إقرار بعجز الإنسان عن القيام بالعبادات وعن حمل الأمانة الثقيلة إذا لم يعنه الله تعالى على ذلك، فالاستعانة بالله علاج لغرور الإنسان وكبريائه واعتراف الإنسان بضعفه.

    السؤال السادس:

    لماذا قدم العبادة على الاستعانة؟

    الجواب:

    1ـ العبادة هي علة خلق الإنس والجن: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] والاستعانة إنما هي وسيلة للعبادة، فالعبادة أولى بالتقديم.

    2ـ العبادة هي حق الله، والاستعانة هي مطلب من مطالبه، وحق الله أولى من مطالبه.

    السؤال السابع:

    تبدأ السورة بـ: [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) ]. {الفاتحة}.وهذه كلها من أسلوب الغَيبَةِ، أي كلها للغائب، ثم انتقل إلى الخطاب المباشر بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فلو قسنا على سياق الآيات الأولى لكان أولى القول : (إياه نعبد وإياه نستعين) فلماذا لم يقل سبحانه هذا؟

    الجواب:

    في البلاغة يسمى هذا الانتقال من الغائب للمخاطب أو العكس : الالتفات. وللالتفات فائدة عامة وفائدة في المقام، أمّا الفائدة العامة فهي تطرية لنشاط السامع وتحريك الذهن للإصغاء والانتباه.

    وأمّا الفائدة التي يقتضيها المقام فهي إذا التفت المتكلم البليغ يكون لهذه الالتفاتة فائدة غير العامة نحو قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22] فيها التفات فلم يقل : وجرين بكم , لأنهم عندما ركبوا في البحر وجرت بهم الفلك أصبحوا غائبين وليسوا مخاطبين.

    وعندما قال سبحانه : {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فهو حاضر دائماً، فنودي بنداء الحاضر المخاطب.

    والكلام من أول الفاتحة إلى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] كله ثناء على الله تعالى، والثناء يكون في الحضور والغيبة , والثناء في الغيبة أصدق وأولى أمّا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فهو دعاء , والدعاء في الحضور أولى وأجدى ، إذن الثناء في الغيبة أولى والدعاء في الحضور أولى والعبادة تؤدى في الحاضر وهي أولى.

    السؤال الثامن:

    هل بالإمكان أن يقال في غير القرآن (وبك نستعين)؟

    الجواب:

    قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: الفعل يتعدّى بنفسه (اِستَعَانَهُ) أو يتعدى بحرف الجر (استعانَ به) وهو متعدٍّ في الحالتين استعنتَهُ أو استعنتَ به. وإذا تقدَّمَت (بك نستعين) سيكون معنى الحصر أيضاً في (إياك) وفي (بك) , لكن لماذا فُضّلت (إياك) على (بك)؟ وما الفائدة؟

    نلاحظ أنّ الآيات السابقة هي نوع من التربية والتوجيه وليس فيها موضع شَكٍّ، والتأكيد يكون في مواضع الشك، أنت تقول : نجح زيد، إذا كان السامع خالي الذهن، لكن إذا كنت تعلم أنّ لديه بعض الشك في نجاح زيد فتقول له: لقد نجح زيد، فتستعمل مؤكِّدات مثل : إنّ زيداً ناجح، أو إنّ زيداً لناجح , بحسب ما تعتقده من شك في نفسه، فلمّا كان الفعل يتعدّى بنفسه فهذه الباء لم تزده معنى , يعني هي ليست مثلاً للمصاحبة أو الوسيلة كما تقول : كتبت بالقلم، فلما لم تأتِ لزيادةِ معنى فهي للتأكيد. تقول: ليس زيدٌ مسافراً , نفيتَ السفر عن زيد , فإذا أردت التأكيد تقول: ليس زيد بمسافرٍ، وكما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزُّمر:36] فهنا فيها تأكيد.

    والموضع في آية الفاتحة ليس موضعَ تأكيد , يعني ليس هناك شك في أنّ الله سبحانه وتعالى يعلِّمُ المؤمنين أن يقصروا الاستعانة عليه سبحانه، فلما كان ليس فيها شك لا يستعمل الباء (بك نستعين) فجاءت: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأنه لو جاءت (إياك نعبد وبك نستعين) كأنه يريد أنْ يزيل شكاً بهذا التأكيد والشك هنا غير وارد، بينما قوله تعالى {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } كان هناك شك وإلا كان يقول: (أليس الله كافياً عبده) فلمّا أكد معناه أراد أن يزيل شكاً في نفوس المتلقِّين وهذه لغة العرب.

    هذا شيءٌ، والشيء الثاني لو قال: (إياك نعبد وبك نستعين) تفوتُ هذه المناسبة والملاءمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:] إياك وإياك. وهذه مسألة ثانويةٌ لكنّ المسألة الأساسية ترتبط بالمعنى {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"

    من روائع البيان في سور القرآن" (10)

    حول معنى قوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}

    مثنى محمد هبيان



    السؤال الأول:

    هل قوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} هو صيغة دعاء ؟

    الجواب:

    هذا دعاء، ولا دعاء مفروض على المسلم قوله غير هذا الدعاء، فيتوجب على المسلم قوله عدة مرات في اليوم، وهذا بدوره يدلّ على أهمية الطلب، وهذا الدعاء له أثره في الدنيا والآخرة، ويدلّ على أنّ الإنسان لا يمكن أن يهتدي للصراط المستقيم بنفسه إلا إذا هداه الله تعالى لذلك. وإذا تُرك الناس لأنفسهم لذهب كل إلى مذهبه ولم يهتدوا إلى الصراط المستقيم ,وبما أنّ هذا الدعاء في الفاتحة ولا صلاة بدون فاتحة؛ فلذا يجب الدعاء به في الصلاة الفريضة , وهذا غير دعاء السنة كما في قوله تعالى: [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] [البقرة:201].

    السؤال الثاني:

    ما معنى الهداية ؟ وهل فعل (هدى) لازمٌ أم متعدٍّ؟

    الجواب:

    الهداية : هي الإلهام والدلالة، وهي الإرشاد لطريق الحقِّ والهدى والدلالة عليه والتبيين , وفعل الهداية ( هدى يهدي ) في العربية قد يتعدَّى بثلاث طرق :

    آ ـ بنفسه دون حرف جر، مثل قوله تعالى{اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} حيث تعدى الفعل بنفسه.

    ب ـ وقد يتعدى بإلى، كقوله تعالى: [وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] [الشورى:52] [وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى] [النازعات:19] .

    ج ـ وقد يتعدى باللام: [الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا] [الأعراف:43] [بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ] [الحُجُرات:17].

    وذكر أهل اللغة أنّ الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية بالفعل نفسه هو :

    1ـ التعدية بدون حرف تقال لمن يكون في الطريق أو الصراط ولمن لا يكون فيه، كقولنا : هديته الطريقَ، قد يكون هو في الطريق فنعرّفه به، وقد لا يكون في الطريق فنوصله إليه.

    شواهد قرآنية :

    آ ـ استعملت لمن هم خارج الطريق أو الصراط :

    [فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا] [مريم:43] الآية خطاب لأبي إبراهيم عليه السلام، وأبو سيدنا إبراهيم لم يكن في الطريق.

    [وَلَهَدَيْنَاهُ مْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] [النساء:68] والمنافقون ليسوا في الطريق.

    ب ـ واستعملت لمن هم في الصراط :

    [وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا] [إبراهيم:12] قيلت في رسل الله تعالى.

    [وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] [الفتح:2] الآية خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول مالك للصراط, فاستعمل الفعل المعدّى بنفسه في الحالتين.

    2 ـ أنّ التعدية بالحرف تستعمل عندما لا تكون الهداية فيه، بمعنى أنّ المهديَّ كان خارج الصراط فهداه الله له فيصل بالهداية إليه، لذلك فإن التعدية ( باللام وإلى) لمن لم يكن في الصراط، كقوله تعالى: [فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ] [ص:22] [قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ] [يونس:35].

    وتستعمل (هداه له) بمعنى (بينه له).

    السؤال الثالث:

    ما مراحل الهداية؟

    الجواب:

    الهداية على مراحل وليست هداية واحدة , فالبعيد عن الطريق (الضال ) يحتاج من يوصله إليه ويدله عليه (فنستعمل هداه إليه) والذي يصل إلى الطريق يحتاج إلى هادٍ يعرّفه بأحوال الطريق وأماكن الأمن والنجاة والهلاك للثقة بالنفس, ثم إذا سلك الطريق في الأخير يحتاج إلى من يريه ويبين غايته, واستعمل سبحانه اللام [الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ] [الأعراف:43] وهذه خاتمة الهدايات.

    ونلخِّص ما سبق على النحو التالي:

    -إنسان بعيد يحتاج من يوصله إلى الطريق نستعمل الفعل المتعدي بإلى .

    -إذا وصل إلى الطريق ويحتاج إلى من يعرّفه بالطريق وأحواله نستعمل الفعل المتعدي بنفسه.

    -إذا سلك الطريق ويحتاج إلى من يبلغه مراده وغايته نستعمل الفعل المتعدي باللام.

    والهداية مع اللام لم تستعمل مع السبيل أو الصراط أبداً في القرآن؛ لأنّ الصراط ليس غاية وإنما وسيلة توصل للغاية , واللام إنما تستعمل عند الغاية. وقد اختص سبحانه الهداية باللام له وحده أو للقرآن لأنها خاتمة الهدايات كقوله: [إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] [الإسراء:9] وقوله : [يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ] [النور:35].

    السؤال الرابع:

    هل جاءت الهدايات كلها بمعنى واحد مع اختلاف الحروف ؟

    الجواب:

    لا ، والأمثلة التالية تبين الفرق :

    آ ـ قوله تعالى: [قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى] [يونس:35].

    جاءت يهدي للحق المقترنة بالله تعالى؛ لأنّ معنى الآيات تفيد : (هل من شركائكم من يوصل إلى الحق، قل الله يهدي للحق) الله وحده يرشدك ويوصلك إلى خاتمة الهدايات، ويعني أنّ الشركاء لا يعرفون أين الحق, ولا كيف يرشدون إليه ويدلون عليه.

    ب ـ قوله تعالى :[يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] [المائدة:16].

    استعمل الهداية معدّاة بنفسها بدون حرف، واستعملها في سياق واحد مع الفعل المعدّى بإلى لأنّ معنى الآيات : أنه من اتبع رضوان الله وليس بعيداً ولا ضالاً استعمل له الفعل المعدى بنفسه , والذي في الظلمات هو بعيد عن الصراط ويحتاج إلى من يوصله إلى الصراط ؛ لذا قال : [وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] استعمل الفعل المعدى بإلى .

    السؤال الخامس:

    في آية الفاتحة تعدّى فعل الهداية بنفسه؛ فما دلالة ذلك ؟

    الجواب:

    في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفعل معدّى بنفسه) وهنا استعمل هذا الفعل المعدّى بنفسه لجمع عدة معانٍ، فالذي انحرف عن الطريق نطلب من الله تعالى أن يوصله إليه، والذي في الطريق نطلب من الله تعالى أن يبصّره بأحوال الطريق والثبات والتثبيت على الطريق.

    السؤال السادس:

    كم مرة جاء فعل الهداية بصوره المختلفة في القرآن الكريم ؟

    الجواب:

    لقد جاء فِعلُ ـ هدى ـ ومشتقاته في القرآن على 68 صيغة وبتكرار 314 مرة وذلك حسب الجدول التالي :





    السؤال السابع:

    لماذا لم تأت الصيغةٌ مثلاً ( إيانا أهدِ ) كما في الآية السابقة ؟

    الجواب:

    كما سبق وقدَّمَ سبحانه مفعولي العبادة والاستعانة في:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] فلماذا لم يقل سبحانه (إيانا اِهدِ)؟

    هذا المعنى لا يصح، فالتقديم بإياك نعبد وإياك نستعين تفيد الاختصاص، ولا يجوز أنْ نقول : (إيانا اِهدِ) بمعنى خُصَّنا بالهدايةِ ولا تهدِ أحداً غيرنا، فهذا لا يجوز، لذلك لا يصح التقديم هنا. المعنى تطلَّب التقديم في المعونة والاستعانة ولم يتطلَّبه في الهداية ؛ لذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم).

    السؤال الثامن:

    لم قال : اهدنا ، ولم يقل : اهدني؟

    الجواب:

    لأنه مناسب لسياق الآيات السابقة، وكما في آيات الاستعانة والعبادة اقتضى الجمع في الهداية أيضاً ، كما أنّ فيه إشاعة لروح الجماعة وقتلاً لروح الأثرة والأنانية، وفيه نزع الأثرة والاستئثار من النفس بأنْ ندعو للآخرين بما ندعو به لأنفسنا.

    والاجتماع على الهدى وسير المجموعة على الصراط دليل قوة، فإذا كثر السالكون يزيد الأنس ويقوى الثبات, فالسالك وحده قد يضعف وقد يمل أو يسقط أو تأكله الذئاب, فكلما كثر السالكون كان أدعى للاطمئنان والاستئناس.

    والاجتماع رحمة والفرقة عذاب,ويشير الله تعالى إلى أمر الاجتماع والأنس بالاجتماع وطبيعة حب النفس للاجتماع، كما ورد في قوله الكريم: [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا] [النساء:13] فكلمة {خَلِدِينَ} جاءت بصيغة الجمع ؛ لأنّ المؤمنين في الجنة يستمتعون بالأنس ببعضهم، بينما قوله تعالى:[وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ] [النساء:14] هذا في العذاب فيزيد على عذاب الكافر عذاب الوحدة، فكأنما عذبه الله تعالى بشيئين: النار والوحدة.

    لذلك عندما قال سبحانه وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} فيه شيءٌ من التثبيت والاستئناس .

    وهذا الدعاء ارتبط بأول السورة وبوسطها وآخرها؛ لأنّ: [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] مهمة الرَّبِّ وهي الهدايةُ , وكثيراً ما اقترنت الهدايةُ باسمِ الرَّبِّ فهو مرتبطٌ برب العالمين، وارتبط بقوله: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] لأنّ من هداه الله فقد رحمه، وأنت الآن تطلب من الرحمن الرحيم الهداية, أي : تطلب من الرحمن الرحيم ألا يتركك ضالاً غير مهتد.

    ثم قال: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] فلا تتحقق العبادة إلا بسلوك الطريق المستقيم, وكذلك الاستعانة , ومن الاستعانة طلب الهداية للصراط المستقيم: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] {الفاتحة:7} أي: صراط الذين سلكوا الصراط المستقيم: [وَلَا الضَّالِّينَ] والضالون هم الذين سلكوا غير الصراط المستقيم , فالهداية والضلال نقيضان و [الضَّالِّينَ] نقيض الذين سلكوا الصراط المستقيم.

    السؤال التاسع:

    ما دلالة الفعل (هدى) ؟ و لماذا لم يستخدم الفعل أرشد أو دلّ مثلاً ؟

    الجواب:

    1ـ تختلف دلالة الفعل (هدى) باختلاف الحرف المصاحب له (هداه ، هداه إلى, هداه لـ) : والتعبير (هداه إلى الشيء) يشير إلى بُعده كما هو مبين في السؤال الثالث من هذه الآية , بينما الأفعال : بيّن ودلّ وأرشد كلها تعطي معنى الإيضاح والتبيين.

    2 ـ أيضاً يوجد شيء في [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ]: فعلُ الهداية ليس هو مجرد الإرشاد, وإنما الهداية فيها شيء كأنه يكون إلى القلب أيضاً، صحيح هو هداه إلى كذا كأنه أرشده , لكن في استعمالات العرب كأنه يمس شيئاً داخلياً فيه، ومنه الهدية لما تقدمها لإنسان, والهدية غير العطاء, العطاء شيء مادي, بينما الهدية هي أيضاً شيء مادي لكن في داخله نوع من المحبة والحميمية والود, وفي الحديث الشريف «تهادوا تحابوا» وهناك فرق بين أعطيته وأهديته , الهدية فيها شيء قلبيٌّ وكأنّ هذا الشيء جعل القرآن يختار [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] لأنه ليس فيها فقط مجرد إرشاد أو إيضاح ، وإنما تتضمن نوعاً من المحبة والود .

    السؤال العاشر:

    لماذا اختار كلمة (الصراط) بدلا من الطريق أو السبيل؟

    الجواب:

    لو لاحظنا البناء اللغوي للصراط هو على وزن (فِعال) بكسر الفاء، وهو من الأوزان الدالة على الاشتمال كالحِزام والشِّداد والسِّداد والخِمار والغِطاء والفِراش، هذه الصيغة تدل على الاشتمال، بخلاف كلمة الطريق التي لا تدل على نفس المعنى.

    الصراط يدل على أنه واسع رحب يتسع لكل السالكين , أمّا كلمة طريق فهي على وزن فعيل بمعنى مطروق أي مسلوك , والسبيل على وزن فعيل ونقول أسبلت الطريق إذا كثر السالكون فيها، لكن ليس في صيغتها ما يدل على الاشتمال. فكلمة الصراط تدل على الاشتمال والوسع, وهذا في أصل البناء اللغوي .

    (قال الزمخشري في كتابه «الكشاف» :الصراط من صرط كأنه يبتلع السبل كلما سلك فيه السالكون وكأنه يبتلعهم من سعته).

    السؤال الحادي عشر:

    ما المعاني الأخرى من النظائر والوجوه للفظة ( الهدى ) ؟

    الجواب:

    لفظة ( الهدى ) وردت في القرآن الكريم بمعانِ متعددة منها :

    1 ـ بمعنى البيان , كقوله تعالى :[أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ] [البقرة: ٥].

    2 ـ بمعنى الدين , كقوله تعالى : [قُلْ إِنَّ الهُدَى هُدَى اللهِ] [آل عمران: 73].

    3 ـ بمعنى الإيمان , كقوله تعالى: [وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى] [مريم: 76].

    4 ـ بمعنى الداعي , كقوله تعالى : [وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ] [الرعد: 7] [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا] [الأنبياء: 73].

    5 ـ بمعنى الرسل والكتب , كقوله تعالى : [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة: 38].

    6 ـ بمعنى المعرفة , كقوله تعالى : [وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ] [النحل: 16].

    7 ـ بمعنى الرشاد , كقوله تعالى : [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] [الفاتحة: 6].

    8 ـ بمعنى القرآن , كقوله تعالى : [وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى] [النجم: 23].

    9 ـ بمعنى التوراة , كقوله تعالى :[وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الهُدَى] [غافر: 53].

    10 ـ بمعنى الحجة , كقوله تعالى :[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [البقرة: 258].

    11 ـ بمعنى التوحيد , كقوله تعالى :[وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا] [القصص: 57].

    12 ـ بمعنى السُنّة , كقوله تعالى : [وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ] [الزخرف: 22].

    13 ـ بمعنى الإصلاح , كقوله تعالى : [وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ] [يوسف: 52].


    14 ـ بمعنى الإلهام , كقوله تعالى :[ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] [طه: 50].

    15 ـ بمعنى التوبة , كقوله تعالى : [إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ]

    والله أعلم .








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"








    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (11)












    مثنى محمد هبيان






    حول معنى قوله تعالى {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}

    السؤال الأول:

    لماذا جاءت كلمة (الصراط) معرفة بأل مرة في الآية السابقة، ومضافة مرة أخرى هنا في هذه الآية {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}؟

    الجواب:

    جاءت كلمة الصراط مفردة ومعرفة بتعريفين: بالألف واللام والإضافة , وموصوفة بالاستقامة ممّا يدل على أنه صراط واحد لا غير، وهو موصوف بالاستقامة؛ لأنه ليس بين نقطتين إلا طريق مستقيم واحد, والمستقيم هو أقصر الطرق وأقربها وصولاً إلى الله، وأي طريق آخر غير هذا الصراط المستقيم لا يوصل إلى المطلوب ولا يوصل إلى الله تعالى. والمقصود بالوصول إلى الله تعالى هو الوصول إلى مرضاته، فكلنا واصل إلى الله وليس هناك من طريق غير الصراط المستقيم {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزَّمل:19] [الإنسان:29] {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحِجر:41].

    وقد وردت كلمة الصراط في القرآن مفردة ولم ترد مجتمعةً أبداً بخلاف السبيل، فقد وردت مفردة ووردت جمعاً { سُبُلَ }لأنّ الصراط هو الأوسع وهو الذي تفضي إليه كل السبل { فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام:153] {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } [المائدة:16] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ }[يوسف:108] فالصراط هو صراط واحد مفرد؛ وهو طريق الإسلام الرحب الواسع الذي تفضي إليه كل السبل، واتباع غير هذا الصراط ينأى بنا عن المقصود.

    ثم زاد هذا الصراط توضيحاً وبياناً بعد وصفه بالاستقامة وتعريفه بأل بقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:7] فجمعت هذه الآية كل أصناف الخلق المكلفين ولم تستثنِ منهم أحداً فذكر:

    1ـ الذين أنعم الله عليهم وهم الذين سلكوا الصراط المستقيم وعرفوا الحق وعملوا بمقتضاه.

    2ـ الذين عرفوا الحق وخالفوه{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:7] { المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ويقول قسم من المفسرين: إنهم العصاة.

    3ـ الذين لم يعرفوا الحق وهم الضالون {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)}[الكهف:103-104] وهذا الحسبان لا ينفعهم، إنما هم من الأخسرين.

    ولا يخرج المكلفون عن هذه الأصناف الثلاثة؛ فكل الخلق ينتمي لواحد من هذه الأصناف.

    السؤال الثاني:

    هل كلمة الصراط توحي بالاستقامة؟

    الجواب:

    كلا، الصراط هو السبيل الواسع؛ لأنّ كلمة (فِعَال) فيها معنى الاشتمال فيشتمل على كل ما فيه ولا يضيق بما فيه , بغض النظر عما إذا كان مستقيماً أو متعرجاً, ولذا لا بدّ من قول : (المستقيم) لعدة معانٍ:

    آـ مستقيم حتى يبيّن استقامته فليس فيه اعوجاج .

    ب ـ وليبيّن أنه لا يوجد طريق مستقيم آخر بين نقطتين، أي بينك وبين النهاية التي يريدها الله عز وجل لك , فلا يوجد إلا طريق واحد بخط واحد بمستقيم واحد , وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خطّ خطاً في الأرض وقال : هذا صراط الله المستقيم وخطّ خطوطاً على جانبيه وقال: هذه هي السُّبُل، وعلى رأس كل سبيلٍ شيطانٌ يدعو إليه.

    لذلك لا يوجد إلا دين واحد، وطريق واحد يوصل إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى, وهوخط مستقيم لا يحتمل التعدد، فإذا قال شخص : منهجي لا يتعارض مع الإسلام، أو يوازي الإسلام فهذا الكلام كله لا ينفع، منهجك هو الإسلام ولا يكون بين نقطتين إلا مستقيم واحد؛ لأنه يمكن أنْ يكون بينهما أكثر من خط متعرج أو منحنٍ لكنَّ هناك مستقيماً واحداً.

    السؤال الثالث:

    قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة:7] ولم يقل: (تُنعم عليهم)؛ فلماذا ذكر الفعل الماضي؟

    الجواب:

    اختار الفعل الماضي على المضارع ليتعين زمانه وليبين صراط الذين تحققت عليهم النعمة نحو قوله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[النساء:69].

    وفي الآية {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}إذا قال: (تُنعم عليهم) لأغفل كل من أنعم عليهم سابقاً من رسل الله والصالحين, ولو قال: (تنعم عليهم) لم يدل في النص على أنه سبحانه أنعم على أحد سابقاً، ولاحتمل أنْ يكون صراط الأولين غير الآخرين، ولا يفيد التواصل بين زُمَر المؤمنين من آدم عليه السلام إلى أنْ تقوم الساعة. مثال: اذا قلنا : أعطني ما أعطيتَ أمثالي، فمعناه : أعطني مثل ما أعطيت سابقاً، ولو قلنا: أعطني ما تعطي أمثالي فهي لا تدل على أنه أعطى أحداً قبلي.

    ولو قال : (تنعم عليهم) لكان صراط هؤلاء أقل شأناً من صراط الذين أنعم عليهم، فصراط الذين أنعم عليهم من أولي العزم من الرسل والأنبياء والصديقين, أمّا الذين تنعم عليهم فلا يشمل هؤلاء، فالإتيان بالفعل الماضي يدل على أنه بمرور الزمن يكثر عدد الذين أنعم الله عليهم , فمن ينعم عليهم الآن يلتحق بالسابقين من الذين أنعم الله عليهم فيشمل كل من سبق وأنعم الله عليهم , فهم زمرة كبيرة من أولي العزم من الرسل وأتباعهم والصديقين وغيرهم ,وهكذا تتسع دائرة المنعم عليهم.

    أما الذين (تنعم عليهم)، فتختص بوقت دون وقت, ويكون عدد المنعم عليهم قليلاً، لذا كان قوله سبحانه {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}أوسع وأشمل وأعم من الذين تنعم عليهم.

    السؤال الرابع:

    لماذا عبّر عن الذين أنعم عليهم باستخدام الفعل {أَنْعَمْتَ}والمغضوب عليهم والضالين بالاسم؟

    الجواب:

    الاسم يدل على الشمول ويشمل سائر الأزمنة من المغضوب عليهم والدلالة على الثبوت، أمّا الفعل فيدل على التجدد والحدوث فوصفه أنهم مغضوب عليهم وضالون دليل على الثبوت والدوام.

    السؤال الخامس:

    إذن فلماذا لم يقل: (المُنْعَم عليهم) للدلالة على الثبوت؟

    الجواب:

    لو قال: (صراط المُنْعَم عليهم) بالاسم لم يتضح من الذي أنعم , إنما بيّن المنعِم (بكسر العين) في قوله {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}لأنّ معرفة المنعِم مهمة , فالنعم تقدر بمقدار المنعِم (بكسر العين)؛ لذا أراد سبحانه وتعالى أنْ يبين المُنعِم ليبين قدرَ النعمة وعظيمها, ومن عادة القرآن أنْ ينسب الخير إلى الله تعالى وكذلك النعم والتفضل, وينزه نسبة السوء إليه سبحانه كما في قوله تعالى : {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] والله سبحانه لا ينسب السوء لنفسه فقد يقول: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4] لكن لا يقول: زينا لهم سوء أعمالهم {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة:37] {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } [آل عمران:14] { زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ } [غافر:37] {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } [فاطر:8] {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } [الأنفال:48] أما النعمة فينسبها الله تعالى إلى نفسه لأنّ النعمة كلها خير {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } [القصص:17] {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [الزُّخرُف:59] {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصِّلت:51] ولم ينسب سبحانه النعمة لغيره إلا في آية واحدة {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [الأحزاب:37] فهي نعمة خاصة بعد نعمة الله تعالى عليه.

    السؤال السادس:

    لماذا ذكرت الآية {المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}بصيغة المبني للمجهول و {الضَّالِّينَ} بصيغة اسم الفاعل؟

    الجواب:

    أولاً جيء بكلٍّ منهما اسماً {المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} و {الضَّالِّينَ} للدلالة على الثبوت , فالغضب عليهم ثابت والضلال فيهم ثابت لا يرجى فيهم خير ولا هدى، والقرآن لم يقل :(صراط الذين غضب عليهم وضلوا) وإنما المغضوب عليهم ولا الضالين، فجاء بالوصفين بالاسمية للدلالة على ثبوت هذين الوصفين فيهما.

    يبقى السؤال : لماذا جاء المغضوب عليهم اسم مفعول ولم يقل: (غاضب) اسم فاعل؟ والجواب: أنّ مغضوب عليهم، اسم مفعول، يعني وقع عليهم الغضب، ولم يذكر الجهة التي غضبت عليهم، ليعم الغضب عليهم من جميع الجهات : غضب الله وغضب الغاضبين لله من الملائكة وغيرهم , فهو لا يتخصَّصُ بغاضب معين , أي لم يغضب عليهم فلان أو فلان وإنما مغضوب عليهم من كل الجهات , بل هؤلاء سيغضب عليهم أخلص أصدقائهم في الآخرة، كما في قوله تعالى:{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] وقوله تعالى {ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25] إذن مغضوب عليهم من كل الجهات، وحذفُ جهةِ الغاضب فيه عموم وشمول، أما (الضالين) فهم الذين ضلّوا.

    السؤال السابع:

    لماذا قال : {المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}ولم يقل: (غضبت عليهم)؟

    الجواب:


    جاء باسمِ المفعولِ وأسنده للمجهول ليعم الغضب عليهم من الله والملائكة وكل الناس، حتى أصدقاؤهم يتبرأ بعضهم من بعض، وحتى جلودهم تتبرأ منهم، ولذا جاءت (المغضوب عليهم) لتشمل غضب الله وغضب الغاضبين.

    السؤال الثامن:

    لماذا أضاف النعمة إليه سبحانه وحذف فاعل الغضب ؟

    الجواب:

    جاء في «التفسير القيِّم» : وأضاف النعمةَ إليه وحذف فاعلَ الغضبِ لوجوه :

    1ـ أنّ النعمة هي الخير، والغضب من باب الانتقام , فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين وأسبقهما.

    2ـ أنّ الله سبحانه هو المتفرد بالنِّعَمِ , فأضيف إليه ما هو متفردٌ به .

    3ـ أنّ في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره.

    إضافة إلى أنّ القرآن جعل كُلاًّ من المغضوب عليهم والضالين اسماً وذلك للدلالة على الثبوت فهو غضب عليهم دائم ثابت لا يزول , واتصافهم بالضلال على وجه الثبوت أيضاً فلا يُرجى لهم خيرٌ ولا هدى .

    ثم انظر كيف ذكر (لا) بين المغضوب عليهم والضالين , لئلا يُفهمَ أن المباينةَ لمن جمع الغضب والضلال دون من لم يجمعهما .

    ونظير ذلك أن تقول : أنا لا أحب من تكبَّر وبخل , أو : أنا لا أحب من تكبر ولا من بخل , فالجملة الأولى تحتمل أنه لا يحب هذين الصنفين وتحتمل أنه لا يحب من جمع بين الوصفين دون من لم يجمعهما .

    السؤال التاسع:

    في قوله تعالى{غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} لِمَ ذكر ( لا ) بعد ذكر (غير)؟ أي لوقال مثلاً: (غير المغضوب عليهم والضالين)؟

    الجواب:

    إذا حذفت (لا) يمكن أن يفهم أنّ المباينة والابتعاد هو فقط للذين جمعوا الغضب والضلالة فقط، أمّا من لم يجمعها {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}فلا يدخل في الاستثناء.

    فاذا قلنا مثلا : لا تشرب الحليب واللبن الرائب (أي: لا تجمعهما) أمّا إذا قلنا: لا تشرب الحليب ولا تشرب اللبن الرائب، كان النهي عن كليهما إن اجتمعا أو انفردا.

    السؤال العاشر:

    ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفةً واحدة، والمردودين فريقين : مغضوباً عليهم وضالين ؟

    الجواب:

    الذين جمعوا بين الحق والعمل به هم {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فإن اختلَّ قيدُ العمل فهم الفسقة { المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وإن اختلَّ قيدُ العلم فهم {الضَّالِّينَ}.

    وللعلم فإن مدّ كلمة {الضَّالِّينَ} في التلاوة مداً لازماً مثقلاً مقداره ست حركات توحي بكثرة هؤلاء الضالين ووفرتهم, وهم ( النصارى) ومن ضلّ من الأمم الأخرى , ومن ضلّ من المسلمين أيضاً , وذلك بالمقارنة بـ : {المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم اليهود , حيث جاءت بدون مد لتدل على قلة عددهم . والله أعلم .

    السؤال الحادي عشر :

    فلماذا قدّم إذن المغضوب عليهم على الضالين؟

    الجواب:

    1ـ المغضوب عليهم الذين عرفوا ربهم ثم انحرفوا عن الحق وهم أشد بعداً؛ لأنه ليس من عَلِمَ كمن جَهِلَ، لذا بدأ بالمغضوب عليهم , وفي معنى الحديث الصحيح: «أنّ المغضوب عليهم هم اليهود، وأما النصارى فهم الضالون».

    2ـ المغضوب عليهم أشد ضلالاً وجرماً وعقوبة؛ لأنه علم وجحد, وليس من علم كمن لا يعلم فبدأ بهم . لذلك قيل في العقائد :

    وعالم بعلمه لم يَعْمَلَنْ= مُعذَّبٌ من قبل عُبّاد الوَثَن

    3ـ جاء في الحديث الصحيح أنّ المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين النصارى, واليهود أسبق فناسب أنْ يُبدأ بهم .

    4ـ صفة المغضوب عليهم هي أول معصية ظهرت في الوجود، وهي صفة إبليس عندما أُمر بالسجود لآدم عليه السلام وهو يعرف الحق ومع ذلك عصى الله تعالى, وهي أيضاً أول معصية ظهرت على الأرض عندما قتل ابن آدم أخاه، فهي إذن أول معصية في الملأ الأعلى وعلى الأرض، قال تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ } [النساء:93] ولذا بدأ بها.

    أمّا جعل المغضوب عليهم بجانب المنعم عليهم فلأنّ المغضوب عليهم مناقض للمُنعم عليهم والغضب مناقض للنعم.

    للبحث تتمة






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"




    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (12)

    حول معنى قوله تعالى {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}


    مثنى محمد هبيان






    السؤال الثاني عشر :

    ما الفرق بين معنى الضلال في الفاتحة {وَلَا الضَّالِّينَ}و قوله تعالى {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] و {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضُّحى:7] ؟

    الجواب:

    معنى الضلال في الآيات الثلاث واحد وهو عدم معرفة شرع الله سبحانه وتعالى.

    آ ـ قوله تعالى {وَلَا الضَّالِّينَ} أي: عدم معرفة شرع الله .

    ب ـ فموسى عليه السلام فعل هذا قبل النبوة ؛ فهو لا يعرف شرع الله.

    ج ـ والرسول عليه السلام عندما يقول له الله عز وجل : {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} {الضُّحى:7} يعني: لم تكن عارفاً شرع الله تعالى فهداك إلى معرفة شرع الله بالنبوة.

    فالضلال هنا عدم معرفة شرع الله، وليس الضلال معناه الفسق والفجور وعمل المنكرات، وإنما هو الجهل بشرع الله سبحانه وتعالى أي: غير الضالين، وموسى عليه السلام قبل النبوة فعل هذا؛ لأنه كان جاهلاً بشرع الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شرع الله تعالى قبل النبوة، فالمعنى واحد.

    السؤال الثالث عشر :

    ما مرادفات كلمة: {الصِّرَاطَ} التي جاءت في القرآن الكريم ؟

    الجواب:

    منظومة كلمة ( صراط ) تأتي على النحو التالي:

    إمام - صراط - طريق - سبيل - نهج - فَجٌّ - جُدَدٌ (جمع جادَّةٍ) - نفق

    وجاء المعنى العام لكل منها على النحو التالي:

    ـ إمام : وهو الطريق العام الرئيس الدولي الذي يربط بين الدول وليس له مثيل، وتتميز أحكامه في الاسلام بتميز تخومه، وقدسية علامات المرور فيه هي من أهم صفاته،وهو بتعبيرنا الحاضر الطريق السريع بين المدن (Highway)، وقد استعير هذا اللفظ في القرآن الكريم؛ ليدل على الشرائع {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [الإسراء:71] أي كل ما عندهم من شرائع، وجاء أيضا بمعنى كتاب الله {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].

    ـ صراط: هو كل ممر بين نقطتين متناقضتين كضفتي نهر، أو قِمَّتي جبلين، أو الحق والباطل، والضلالة والهداية في الإسلام، أو الكفر والإيمان. والصراط واحد لا يتكرر في مكان واحد ولا يثنى ولا يجمع، وقد استعير في القرآن الكريم للتوحيد فــ (لا إله إلا الله) تنقل من الكفر إلى الإيمان {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:161] {مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43] {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74] .

    والصراط عموماً هو العدل المطلق لله تعالى وما عداه فهو نسبي. {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] والتوحيد هو العدل المطلق وما عداه فهو نسبي.

    ـ سبيل: هو الطريق الذي يأتي بعد الصراط ، وهو ممتدٌّ طويل آمن سهل لكنه متعدد (سُبُلٌ جمع سبيل) {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69] والسبل متعددة ، ولكن شرطها أنْ تبدأ من نقطة واحدة وتصب في نقطة واحدة عند الهدف. وفي السبيل عناصر ثلاث: ممتدٌّ، متحرك ويأخذ إلى غاية.

    والمذاهب في الإسلام من السبل كلها تنطلق من نقطة واحدة وتصل إلى غاية واحدة، وسبل السلام تأتي بعد الإيمان والتوحيد بعد عبور الصراط المستقيم، ولتقريب الصورة إلى الأذهان فيمكن اعتبار السبل في عصرنا الحاضر وسائل النقل المتعددة؛ فقد ينطلق الكثيرون من نقطة واحدة قاصدين غاية واحدة، لكن منهم من يستقل الطائرة، ومنهم من يستقل السيارة ومنهم من يستقل الدراجة، ومنهم من يركب الدواب وغيرها.

    واستخدمت كلمة السبيل في القرآن بمعنى (حقوق) في قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [آل عمران:75].

    وابن السبيل في القرآن هو من انقطع عن أهله انقطاعا بعيداً وهدفه واضح ومشروع؛ كالمسافر في تجارة أو للدعوة؛ فلا تعطى الزكاة لمن انقطع عن أهله بسبب غير مشروع كالخارج في معصية أو ما شابه.

    ـ طريق: الطريق يكون داخل المدينة, وللطرق حقوق خاصة بها، وقد سميت طرقاً؛ لأنها تطرق كثيراً بالذهاب والإياب المتكرر من البيت إلى العمل والعكس، والطريق قد تكون هي العبادات التي نفعلها بشكل دائم كالصلاة والزكاة والصوم والحج والذكر. {يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] .

    ـ نهج: وهو عبارة عن ممرات خاصة لا يمر بها إلا مجموعة خاصة من الناس، وهي كالعبادات التي يختص بها قوم دون قوم, مثل نهج القائمين بالليل ونهج المجاهدين في سبيل الله ونهج المحسنين وأولي الألباب وعباد الرحمن، فكل منهم يعبد الله تعالى بمنهج معين, وعلى كل مسلم أن يتخذ لنفسه نهجاً معيناً خاصاً به يعرف به عند الله تعالى؛ كبرّ الوالدين والذكر والجهاد والدعاء والقرآن والإحسان وغيرها {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] وإذا لاحظنا وصفها في القرآن وجدنا لها ثلاث صفات والإنفاق فيها صفة مشتركة.

    آ ـ نهج المستغفرين بالأسحار: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ(19) } [الذاريات:17-18-19].

    ب ـ ونهج أهل التهجد: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] .

    ج ـ ونهج المحسنين: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] .

    ـ فجّ: وهو الطريق بين جبلين {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] .

    ـ جادة: وتجمع على جُدُد كما وردت في القرآن الكريم: {وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ } [فاطر:27] والجادة هي الطريق الذي يرسم في الصحراء أو الجبال من شدة الأثر ومن كثرة سلوكه.

    ـ نفق: وهو الطريق تحت الأرض، قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ } [الأنعام:35] .

    السؤال الرابع عشر:

    ما أصل كلمة آمين التي نختم بها الفاتحة على أنها دعاء، وهل لها بديل في لغة العرب؟.

    الجواب:

    لا شك أنّ الذي يصلي في المساجد يلحظ هذا الأمر أنه عندما ينتهي الإمام من قراءة الفاتحة يقول هو : آمين، ويقول من وراءه: آمين ويحرص على أنْ يكون التأمين واحداً، ففي السنة والحديث الصحيح أنّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهتز من كلمة آمين؛ لأنّ الصحابة كانوا يقولونها بصوت واحد ليس مرتفعاً، ولا يعني علو الصوت كما يفهمه بعض الشباب أنْ يصرخ بأعلى صوته؛ لأنك لا تنادي أصم ، ولكنك تناجي ربك.

    ومن هذه الألفاظ كلمة (آمين) وهي كلمة عربية صميمية النسبة، مثل: هيهات ومثل أفٍّ ومثل صه، فهذه أسماء أفعال.

    آمين: اسم فعل بمعنى: اللهم استجب، هي فعل أمر طبعاً ولكنّ الأمر من الأدنى إلى الأعلى يخرج للدعاء, كما نقول: اللهم اغفر لنا، اغفر: فعل أمر لكن علماءنا يقولون :خرج للدعاء. فإذن (آمين) اسم فعل أمر بمعنى: اللهم استجب؛ لأنّ كلمة آمين لم تستعمل إلا مع الله، حتى في الجاهلية لا تقول لشخص يتكلم آمين بمعنى: استجب لي يا فلان، لكن آمين يعني: اللهم استجب لكلامه وحتى قبل نزول القرآن، كلمة اللهم كانت مستعملة عندهم ويعنون بها يا الله :

    إني إذا ما حدثٌ ألمّا= أقول ياللهم ياللهمّا

    لأنّ هذه الكلمة (اللهم) جُعِلت خاصة بنداء الله تعالى، ولأنها جُعِلت هكذا أُدخل عليها حرف النداء مع أنّ الميم هي عوض عن حرف النداء، فقال :(ياللهم) وهذا شاهد نحوي. إذن آمين هي اسم فعل.

    وهناك إشكال : أنّ كلمة آمين نسمعها في الصلوات في الكنائس من الأوروبيين الآن يميلونها يقولون :(Amen) هذه الكلمة وجودها في اللغات الأخرى لا يعني أنها ليست عربية، وإنما هي موجودة في اللغة السريانية التي هي الآرامية.

    وكلمة (آمين) من لغتنا، والرسول صلى الله عليه وسلم حثّ على قول آمين ثم بعد ذلك صاروا يشتقون منها «إني داعٍ فأمّنوا» اُشتق منها فعل أي: قولوا آمين اللهم استجب. لهذا الكلمة عربية، وهي اسم فعل طالما كان عندنا صفة نشتق منها، آمين هي كلمة عربية شأنها شأن هيهات وشأن أفٍ ثم صارت العرب تولّد أسماء.

    وفي الحديث الشريف «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» .

    خامسًا : تناسب افتتاح الفاتحة مع خاتمتها :

    تبدأ السورة بقوله تعالى :{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}.

    وختمت بقوله سبحانه : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.

    والعالَمون إما مُنعَم عليهم، أو مغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق وحادوا عنه، أو ضالون وهم الذين لم يعلموا الحق.

    ولا يخرج العالمون عن هذا، فناسب المفتتح الخاتمة أوثق مناسبة وأتمها.

    جاء في «التفسير القيم» لابن القيم : "من بعد ذكر المُنعَم عليهم وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال، فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة؛ لأنّ العبد إمّا أن يكون عالمًا الحق أو جاهلاً به.

    والعالم بالحق إمّا أن يكون عاملاً بموجبه أو مخالفًا له.

    فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها البتة.

    فالعالم بالحق العامل به هو المُنعَم عليه .

    والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه.

    والجاهل بالحق هو الضال.

    والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل.

    والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل.

    فكل منهما ضال مغضوب عليه، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به، والجاهل بالحق أحق باسم الضلال" .


    خاتمـــة :

    من منا مهما بلغ من فصاحة وبلاغة وبيان، من منا يستطيع أن يأتي بكلام فيه هذا الإحكام وهذا الاستواء مع حسن النظم ودقة الانتقاء؟ فكل كلمة في موقعها جوهرة ثمينة منتقاة بعناية؛ لتؤدي معاني غزيرة بكلمات يسيرة، وكل واحدة واسطة عقد لا يجوز استبدالها ولا نقلها ولا تقديمها ولا تأخيرها وإلا لاختل المعنى أو ضعف أو فقد بعض معانيه؟

    إنه الإعجاز الإلهي الذي يتجلى في الكون كله، ويحف بالقرآن كله، مجموعه وجزئياته، كلماته وحروفه، معانيه وأسراره، ليكون النور الذي أراد الله أن يهدي ويسعد به كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

    والحمد لله رب العالمين




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"

    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (13)





    مثنى محمد هبيان




    أولاً : تناسب خاتمة الفاتحة مع فاتحة البقرة :
    تنتهي سورة الفاتحة بذكر المنعَم عليهم والمغضوب عليهم والضالين:
    {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
    والبقرة تبدأ بذكر هؤلاء أجمعين.
    تبدأ بذكر المتقين: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] وهؤلاء منعَم عليهم
    ثم تقول:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] تجمع الكافرين من المغضوب عليهم والضالين وتذكر المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].
    إذن اتفقت خاتمة سورة الفاتحة مع افتتاح سورة البقرة.
    ذكر في خواتيم الفاتحة أصناف الخلق المكلفين : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
    وذكرهم في بداية البقرة، المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق وحادوا عنه والضالون لم يعلموا الحق وإنما ضلوا الطريق، ويضربون مثلاً لليهود والنصارى، والمغضوب عليهم منهم اليهود والنصارى. وفواتح البقرة تحدثت عن هذه الأصناف: المتقين والكفار والمنافقين فجمعت المغضوب عليهم والضالين حيث يجمعهم الكفار.
    سؤال: هل هذا الأمر مقصود في حد ذاته من قِبل الله سبحانه وتعالى , يعني هذه التوأمة بين خواتيم السور وبداية السور التي تليها؟
    جواب :
    قسم من الباحثين قالوا إنّ القرآن كتاب حياة، خذ مثلاً أيَّ يوم من أيام الحياة هل هي مترابطة في مسألة واحدة؟ أو أنّ فيها أموراً مختلفة متعددة كلها تجمعها الحياة ؟
    وكذلك القرآن كتاب حياة فيه ما فيه، وتقع أمور كثيرة متعددة مترابطة ولكن لا يبدو هذا الترابط ظاهراً.
    ونحن الآن نلاحظ في هذا الوضع التوقيفي ارتباطاً واضحاً في هذه المسألة, ولذلك قال الرازي: إنّ آيات القرآن كلها كأنها هي كلمة واحدة من حيث الترابط , أي: كأنها آية واحدة في ترابطها.
    ونحن لا نقول إنّ ذلك غير مقصود، ولكننا ننظر في شيء موجود أمامنا ونبحث فيه هل هنالك تناسب أم لا؟ في هذا الوضع الحالي نحن الآن نرى أنّ هناك ترابطاً واضحاً، ونحن نصف في تقديرنا فيما يظهر لنا في هذا الأمر، والله أعلم .
    ثانيا ً ـ هدف السورة: الاستخلاف في الأرض ومنهجه :
    سورة البقرة وآياتها (286 آية) هي أول سورة نزلت في المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومع بداية تأسيس الأمة الإسلامية (والسور المدنية بشكل عام تُعنى بجانب التشريع) وهي أطول سور القرآن، وأول سورة في الترتيب بعد الفاتحة، وفضل سورة البقرة وثواب قراءتها ورد في عدد من الأحاديث الصحيحة منها: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تُحاجَّان عن صاحبهما» وفي رواية «كأنهما غمامتان او ظُلَّتان» وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» أخرجه مسلم والترمذي، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اقرأوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البَطَلَةُ» أي: السحرة، رواه مسلم في «صحيحه».
    وهدف السورة هوالاستخلاف في الأرض، أي: (البشر هم المسؤولون عن الأرض)، ولذا جاء ترتيبها في أول المصحف، فالأرض ملك لله عز وجل وهو خلقها, وهو يريد أن تسير وفق إرادته فلا بدّ أن يكون في الأرض من هو مسؤول عنها, لذا عندما نقرأ السورة يجب علينا أن نستشعر مسؤولية الإنسان في خلافة الارض.
    وكما أسلفنا فإنّ هدف السورة هو الاستخلاف في الأرض، وسورة البقرة هي أول سور المصحف ترتيباً، وهي أول ما نزل على الرسول عليه السلام في المدينة مع بداية تأسيس دولة الإسلام الجديدة وتكوينها ، فكان يجب أن يعرف المسلمون ماذا يفعلون ومما يحذرون، والمسؤولية معناها أنْ نعبد الله كما شاء وأنْ نتبع أوامره وندع نواهيه.
    والسورة مقسمة إلى أربعة أقسام:
    1- مقدمة. 2- القسم الأول. 3- القسم الثاني. 4- خاتمة.
    وسنشرح هدف كل قسم على حدة :
    1ـ المقدمة:
    وفيها وصف أصناف الناس، وهي تقع في الربع الأول من السورة من الآية (1 - 29). وتتضمن :
    آ ـ آيات المتقين (آية 1 - 5) .
    ب ـ آيات الكافرين (آية 6 - 7).
    ج ـ آيات المنافقين (آية 8 - 20) والإطناب في ذكر صفات المنافقين للتنبيه إلى عظيم خطرهم وكبير ضررهم؛ لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وهم أشد من الكافرين.
    2ـ القسم الأول للسورة :
    وهو يمثل باقي الجزء الأول من القرآن، وفيه يعرض نماذج لثلاث مجموعات من الناس قد استخلفهم الله، وهذه النماذج هي :
    آ ـ استخلاف آدم في الأرض (تجربة تمهيدية ): قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30] واللطيف أنه سبحانه أتبع هذه الآية بـ {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31].
    وهذه الآية محورية تعني أنه إذا أردت أنْ تكون مسؤولاً عن الأرض يجب أنْ يكون عندك علم , لذا علّم الله تعالى الأسماء كلها, وعلّمه الحياة وكيف تسير, وعلّمه تكنولوجيا الحياة وعلّمه أدوات الاستخلاف في الأرض، وهذا إرشاد لأمة الإسلام إنْ أرادوا أنْ يكونوا مسؤولين عن الأرض فلا بدّ لهم من العلم مع العبادة، فكأنّ تجربة سيدنا آدم عليه السلام هي تجربة تعليمية للبشرية بمعنى كيفية المسؤولية عن الأرض . وأهم أمرين في هذا النموذج :
    - أنّ الله سبحانه علّم آدم تكنولوجية الحياة {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31].
    - أنّ المعصية هي سبب الاستبدال .
    ب ـ قصة بني إسرائيل الذين استخلفوا في الأرض فأفسدوا:
    وهو نموذج فاشل من الاستخلاف في الأرض، وأهم الأمور في هذا النموذج الفاشل هي :
    ـ تذكير الله لهم بنعمه عليهم كما في الآية 40 {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة:47] . انظر الآيات ( 52ـ 94 )
    ـ بيان أخطائهم والموبقات التي ارتكبوها كقتل الأنبياء بغير الحق، والمادية، وعصيانهم وكفرهم بآيات الله، واعتداء أصحاب السبت، وقصتهم مع البقرة وجدلهم الكبير حول ذبحها مع نبيهم موسى عليه السلام حيث لم يرضوا تنفيذ شرع الله.
    ـ عدم الإيمان بالغيب.
    ج ـ نموذج ناجح للاستخلاف في الأرض : (قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام) وهي آخر تجربة ورد ذكرها في السورة.
    وهكذا : أولاً ابتلى سبحانه آدم في أول الخلق (تجربة تمهيدية) ثم بني إسرائيل فكانت تجربة فاشلة، ثم ابتلى إبراهيم عليه السلام فنجح {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] . وفي هذه الآية إثبات أنّ الاستخلاف في الأرض ليس فيه محاباة، فالذي يسير على منهج الله وطاعته يبقى مسؤولاً عن الأرض والذي يتخلى عن هذا المنهج لا ينال عهد الله : {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] .
    وملخص القول في القسم الأول من السورة: إنّ القصص الثلاث التي وردت فيه: قصة آدم: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30] . وقصة بني إسرائيل : {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة:47] . وقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [البقرة:124] . هذه القصص الثلاث بدايتها واحدة وهي الاستخلاف في الارض وعلينا نحن أمة المسلمين أنْ نتعلم من تجارب الذين سبقونا وأنْ نستشعر الأخطاء التي وقعت فيها الأمم السابقة ونعرضها على أنفسنا دائما لنرى إنْ كنا نرتكب مثل هذه الأخطاء فنتوقف عن ذلك ونحذو حذو الأمم السابقة التي نجحت في مهمة الاستخلاف في الأرض كسيدنا إبراهيم عليه السلام .
    3ـ القسم الثاني من السورة : أوامر ونواه للأمة المسؤولة عن الأرض :
    وفي هذا القسم توجيه الله تعالى للناس الذين رأوا المناهج السابقة وتجارب الأمم الغابرة مفاده: يجب أنْ تتعلموا من الأخطاء وسيعطيكم ربكم أوامر ونواهي كي تكونوا مسؤولين عن الأرض بحق وتكونوا نموذجاً ناجحاً في الاستخلاف في الأرض، وكل هذه الأوامر والنواهي متعلقة بثلاثة أمور :
    آ ـ طاعة الله في أوامره ومنهجه الشامل المتكامل : مثل الأمر بطاعة تحويل القبلة، تطبيق الأحكام الجنائية والأحكام التعبدية، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج والمواريث وأحكام الأسرة والطلاق وأحكام الجهاد والإنفاق وأحكام النظام المالي وتحريم الربا .
    ب ـ تميز الأمة في مصطلحاتها مع وسطية التميز وتوازنه.
    ج ـ تقوى الله .
    4ـ الختام ـ {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ـ الآيتان [ 285ـ286]
    وقد ختمت السورة بدعاء المؤمنين : {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة:285]، كما بدأت بأوصاف المؤمنين وبهذا يلتئم شمل السورة أفضل التئام، فسبحان الله العلي العظيم.

    والخلاصة: نحن مسؤولون عن الأرض, والمنهج الكامل, وعلينا أنْ ندخل في السِّلم كافة، والمنهج له إطار: طاعة الله، وتميُّزٌ، وتقوى .
    أمّا عناصر المنهج فهي: تشريع جنائي، مواريث، إنفاق، جهاد، حج، أحكام صيام، تكاليف وتعاليم كثيرة، فلا بدّ أنْ نستعين بالله تعالى على أدائها لنكون أهلا للاستخلاف في الأرض ولا نقع في أخطاء الأمم السابقة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"

    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (14)



    مثنى محمد هبيان






    من اللمسات البيانية في سورة البقرة

    السؤال الأول: لماذا وردت بعض أسماء السور مرفوعة مثل: الكافرون والمؤمنون، وبعضها بالجرّ بالاضافة مثل : سورة الحجِ و البقرةِ؟

    الجواب:

    الناظر في فهرس السور لا يقول: البقرة، وإنما يقول : هذه سورة البقرةِ , وأما الإعراب: سورة البقرة تعرب: خبر لمبتدأ محذوف وتقديره: هذه سورة البقرة, وهذه سورة آل عمران وهكذا. فالأسماء المفردة جاءت بالجر مجرورة.

    وأما الأسماء التي جاءت بصيغة جمع المذكر السالم، فيبدو أنّ تسميتها جاءت حسبما ورد في السورة فلما كانت {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [الكافرون:1] بالرفع سميت سورة الكافرون على الحكاية.

    و السور التي اسمها جمع مذكر سالم هي أربع سور: المؤمنون {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، المنافقون {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] ، الكافرون {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، المطففين {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ} [المطفِّفين:1] جاءت مجرورة باللام فسميت المطفِّفين.

    فالاسم الذي هو جمع مذكر سالم حُكِيَ في السورة، وأمّا الباقي عموماً فأُخضع للقاعدة , فإذا كان منصرفاً جُرَّ بالكسرة وإذا كان ممنوعاً من الصرف مثل سورة يونسَ جُرَّ بالفتحة نيابة عن الكسرة وكذلك سورة يوسفَ

    {الم} [البقرة : 1].

    السؤال الأول: ما دلالة الحروف المقطعة في أوائل بعض السور في القرآن الكريم؟

    الجواب:

    الأحرف المقطعة في بداية بعض سور القرآن الكريم هي عِلمٌ مستور وسِرٌّ محجوب عجزت العلماء عن إدراكه، وقصرت خيول الخيال عن لحاقه، ولذلك من الأفضل أن نقول:

    ( الله أعلم بمراده )

    ولهذا قال الصديق رضي الله عنه : (لكل كتاب سر، وسر القرآن أوائل السور) وقال الشعبي: (سر الله تعالى فلا تطلبوه) وهنا لا نتكلم عن المقصود وإنما عن الخصائص لهذه الأحرف المقطعة :

    1ـ سميت حروفاً مقطعة؛ لأنّ كل حرف ينطق بمفرده.

    2ـ كل حرف في اللغة العربية له اسم وله مسمى.

    والناس ينطقون حين يتكلمون بمسمى الحرف وليس باسمه، مثال: كلمة (كتب) هذه تنطق بمسمى الحروف فإذا أردت أن تنطق بأسمائها تقول (كاف وتاء وباء) إنظر إلى الجدول أدناه :



    وهكذا

    ومن اللطيف أن نلاحظ هنا أنّ علماء اللغة جعلوا المسمَّى صدر كُلَّ اسم له ـ كما قال ابن جني ـ وذلك ليكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع.

    3ـ الذي لم يتعلم قد ينطق بمسميات الحروف ولكن لا يمكن أنْ ينطق بأسمائها , ولعلّ هذا أول ما يلفتنا، فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كان أمياً , والأمي يستطيع أن ينطق بمسميات الحروف فيقول : الكتاب , فإذا طلبت منه أن ينطق بأسماء الحروف فإنه لا يستطيع أن يقول لك إن كلمة الكتاب مكونة من الألف واللام والكاف والتاء والألف والباء.

    والرسول صلى الله عليه وسلم وهو أُمِّيٌّ جاء ونطق بأسماء الحروف فكانت هذه الحروف دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن ربه، وأنّ هذا القرآن موحى به من الله سبحانه وتعالى.

    4ـ لذلك نجد أنّ سور الفواتح تبدأ بأسماء الحروف وينطق هذه الحروف بأسمائها, وقد تجد الكلمة نفسها في آية أخرى فتنطق بمسمياتها , لذلك أول سورة البقرة تنطق (ألف لام ميم)، بينما في سورة الشرح تنطق الكلمة بمسميات الحروف {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرح:1] وقد كُتبت فواتح السور على صورة الحروف أنفسها لا على صورة النطق بها اكتفاء بشهرتها .

    5 ـ كل القرآن مبني على الوصل دائماً وليس على الوقف, فإذا نظرت إلى آخر حرفٍ من أي سورة بما فيها سورة الناس تجد أن الحرف الأخير عليه حركة. أمثلة:

    ـ آخر سورة يونس {وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ} [يونس:109] النون عليها فتحة وليس سكون.

    ـ آخر آية في آخر سورة في القرآن {مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] السين عليها كسرة وليس سكون.

    لذلك فكل آيات القرآن الكريم مبنية على الوصل ما عدا أحرف فواتح السور فهي مبنية على الوقف .

    6ـ القدماء انتبهوا إلى أنّ السور التي تبدأ بالأحرف المقطعة بُنيت على تلك الأحرف فمثلاً :

    (سورة ق) تتكرر فيها الكلمات التي فيها حرف القاف مثل{قَولٍ} [ق:18] ، {رَقيبٌ} [ق:18] ،{والقُرءانِ} [ق:1] ، {تَنقُصُ} [ق:4] ،{وَأَلقيْنا} [ق:7] ،{بَاسِقاتٍ} [ق:10] ، {بِالخَلقِ} [ق:15] .

    وكذلك (سورة ص) تكثر فيها الكلمات التي فيها حرف الصاد مثل:{مَنَاص} [ص:3] ،{واصبِرُوا} [ص:6] ،{وأَصحَابُ} [ص:13] ،{صَيْحَةً} [ص:15] ،{وَفَصلَ} [ص:20] ،{الخَصْمِ} [ص:21] .

    حتى أنهم جعلوا إحصائية في {الر} وقالوا: أنها تكررت فيها الكلمات التي فيها {الر} 220 كلمة هذا قول القدامى.

    والعلماء جمعوا الأحرف المقطعة وقالوا :عندما نجمعها نجد أنها مكونة من (14) حرفاً تمثّل نصف حروف المعجم ، وجاءت في 29 سورة وهي عدد حروف المعجم وتمثل نصف الأحرف المجهورة، ونصف الأحرف الشديدة، ونصف المُطبَقَة، ونصف المنقوطة، ونصف الخالية من النقط، ونصف المستقرة، ونصف المنفتحة، ونصف المهموسة، ونصف المستعلية، ونصف المقلقلة، و نصف الرَّخوة وهكذا ، لكن هم خاضوا في هذا للنظر فيه.

    هذه الأحرف المفرّغة من المعنى رُكبت تركيباً خاصاً فصارت آيات مبينة موضحة وهي موضع الإعجاز وموضع التحدي للعرب الفصحاء، هم يقيناً أدركوا هذا المعنى وإلا لكانوا سألوا عنه.

    وقسم قال : إن كل السور التي تبدأ بحرف (ط) تبدأ بقصة موسى أولاً، وهناك من جعل منها معادلة رياضية فقال: أن كل سورة فيها {ألم} نسبة الحروف ألف إلى لام تساوي نسبة الحروف لام إلى ميم.

    7ـ عدد سور الفواتح ( 29 ) سورة من أصل ( 114 ) سورة أي: حوالي 25%. من سور القرآن بينما نسبة عدد كلماتها إلى كلمات القرآن فتقارب 48% .

    8ـ مجموع الفواتح بدون تكرار ( 14 ) فاتحة وتتكون من ( 14 ) حرفاً من الأحرف الهجائية وتجمعها جملة (طرق سمعك النصيحة) أو (صح طريقك مع السنة) وتعرف هذه الحروف بالأحرف النورانية.

    9 ـ هناك فواتح مؤلفة :

    آـ من حرف واحد :{ن} [القلم:1]{ق} [ق:1]{ص} [ص:1] .

    ب ـ فواتح من حرفين : {طه} [طه:1] . {يس} [يس:1] . {طس} [النمل:1] . {حم} [الدخان:1] .

    ج ـ وفواتح من ثلاثة أحرف: {ألم} [البقرة:1] . {الر} [إبراهيم:1] . {طسم} [الشعراء:1] .

    د ـ وفواتح من أربعة أحرف : {ألمص} [الأعراف:1] . {المر} [الرعد:1]

    هـ ـ وفواتح من خمسة أحرف : {كهيعص} [مريم:1] . {حم عسق} [الشورى1 - 2].

    10ـ وتنقسم الفواتح من حيث تكرارها إلى قسمين :

    آ ـ فواتح لم تتكرر صورتها إلا مرة واحدة، وعددها عشرة وهي: {ألمص} [الأعراف:1]، {المر} [الرعد:1] {كهيعص} [مريم:1]، {طه} [طه:1] {طس} [النمل:1] {يس} [يس:1]، {ص} [ص:1] ، {حم عسق} [الشورى: 1 - 2]، {ق} [ق:1]، {ن} [القلم:1] .

    ب ـ فواتح تكررت صورتها : [ {ألم} ـ6 مرات], [ {ألر}ـ 5 مرات], [{طسم}ـ2 مرة ], [{حم} ـ 6 مرات ].

    11 ـ بعض الفواتح جزء من فاتحة أخرى: {طس} متكررة في {طسم} وفاتحة {ص} متكررة في {كهيعص} و {ألمص} وفاتحة {ق} متكررة في {حم عسق}]

    12 ـ ترتيب سور الفواتح الـ (29) حسب نزولها هو : [ ن ـ ق ـ ص ـ الأعراف ـ يس ـ مريم ـ طه ـ الشعراء ـ النمل ـ القصص ـ يونس ـ هود ـ يوسف ـ الحجر ـ لقمان ـ غافر ـ فصلت ـ الشورى ـ الزخرف ـ الدخان ـ الجاثية ـ الأحقاف ـ إبراهيم ـ السجدة ـ الروم ـ العنكبوت ـ البقرة ـ آل عمران ـ الرعد ].

    13ـ وقد قامت الدكتورة عائشة عبد الرحمن والملقبة ببنت الشاطىء بدراسة تاريخية لهذه السور الـ ( 29 ) وخلصت إلى النتائج التالية :

    آ ـ أنه بدأت من أوائل الوحي لافتة إلى سر الحرف ثم كثرت وتتابعت في أواسط العهد المكي حين بلغ الجدل أشده فعُرضت قضية التحدي , وظلت الآيات تعاجزهم وتتحداهم أنْ يأتوا بمثله أو بسورة منه إلى أول العهد المدني الذي نزلت فية آية البقرة فحسمت الجدل العقيم بعد أن ألزمتهم الحجة على صدق المعجزة بعجزهم مجتمعين أنْ يأتوا بسورة من مثله.

    ب ـ أكثر السور المبدوءة بالحروف نزلت في المرحلة التي بلغ فيها عتو المشركين أقصى المدى وأفحشوا في حمل الوحي على الافتراء والسحر والشعر والكهانة، فواجههم القرآن بالتحدي.

    14 ـ من عجائب أحرف الفواتح وهي (14) حرفاً أنها تمثل نصف حروف المعجم وترددت في ( 29 ) سورة على عدد حروف المعجم , كما أنّ هذه الحروف تشتمل على أنصاف أجناس الحروف, فهي تمثل النصف من الحروف المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة والمطبقة والمنفتحة والمستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة, وبيان ذلك حسب الجدول التالي :



    15 ـ تتألف الأحرف الهجائية للغة العربية من (29) حرفاً، أمّا الأحرف الأبجدية فتتألف من (28) حرفاً على اعتبار أنه لا فرق بين الألف والهمزة في الأبجدية.

    قال الناظم :

    وعِدةُ الحروفِ للهجــــاءِ= تسعٌ وعـشرون بلا مــــــراءِ

    أولها الهمـــزةُ لكن سُمِّيت= بألفٍ مجــــــازاً إذ قد صورت

    وذلك أنهم يسمون كلاً من الهمزة والألف اللينة (ألفاً) ويفرقون بينهما بوصفهم للألف باللينة أوالممدودة , أي : الألف الممدودة اللينة فرع عن الهمزة.

    16 ـ الحروف في اللغة نوعان : مبنى و معنى :

    آ ـ حرف مبنى : وهو الحرف الذي لا معنى له إلا للدلالة على الصوت فقط.

    ب ـ حرف معنى : مثل ( في) للظرفية، و (من) للابتداء، و( على ) للاستعلاء.

    17 ـ على الأصح فإنّ أحرف الفواتح لا تعرب .

    18 ـ شاء الله سبحانه وتعالى أنْ يبقى معناها في الغيب عنده , وأنت أيها المسلم المؤمن خذ كلمات الله التي تفهمها بمعانيها وخذ الحروف التي لا تفهمها بمرادات الله فيها , وهذه الحروف هي سر من أسرار الله تعالى يريدنا أنْ ننتفع بقراءتها سواء فهمناها أم لم نفهمها .

    أي أنّ القول الفصل فيها : إنها حروف لها سر من قبل الله تعالى لا نعلمه, وقسم قال : هي من المتشابه الذي لا نعلمه، قد يكون هذا الرأي هو السديد ، ولكن هذه الملاحظات جديرة بالانتباه أيضاً.

    19ـ وقدً انتبه القدامى إلى أنّ هذه السور التي تبدأ بهذه الأحرف يكون التعبير فيها بطابع هذه الأحرف، يعني التي تبدأ بالصاد تكثر فيها الكلمات الصادية ويعني أنها تعطيك بداية فنية لما يكثر من الأحرف في هذه السورة. مثل :

    آ ـ سورة (ق) تردد فيها الكلمات التي فيها قاف {ق وَالقُرْآَنِ المَجِيدِ} [ق:1] ، {إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَان ِ}[ق:17] ، {قَعِيدٌ} [ق:17]، {سَائِقٌ} [ق:21] ، {تَشَقَّقُ} [ق:44])، في ذكر الكلمات فيها صاد نحو: الخصومات، الخصم، يختصمون، مناص، صيحة، اصبروا، صيحة، اصبر.

    ب ـ ثم استدلوا إلى الإحصاء ، قالوا وضربوا مثالاً في سورة يونس تبدأ بـ{ألر} [يونس:1] وفي هذه السورة تكررت الكلمات التي فيها راء كثيراً، وأقرب السور إليها سورة النمل والنحل, وهي أطول منها لكنها لم تتردد الراء فيها كما في يونس ففيها (220 راء)، هكذا أحصوا والله أعلم.

    ج ـ ثم الملاحظة أنّ كل السور التي تبدأ بالطاء {طه}{طس}{طسم} كلها تبدأ بقصة موسى أولاً، كلها بلا استثناء.

    ويبدو كما يقولون أنّ اللمسة البيانية أنها تشير إلى أنّ الحروف المذكورة في أوائل بعض السور تطبع طابع السورة فيكون من باب السمة التعبيرية.

    ليس هذا فقط ولكن قبل سنوات أخرج دكتور مهندس كتاباً عن المناهج الرياضية في التعبير القرآني عملها على الكمبيوتر وهو يقول : إنه لاحظ أن الأحرف المذكورة في بداية السور تتناسب مع السور تناسباً طبيعياً؛ فالتي تبدأ بـ {ألم} يكون الألف أكثر تكراراً في السورة، ثم اللام ثم الميم, وليس هذا فقط وإنما نسبة الألف إلى اللام مثل نسبة اللام إلى الميم، هذه معادلة رياضية وقد قال بأنه راجع الصحف و طبقها على الصحف لكنه وجد القرآن متفرداً بها.


    والذي عليه الكثيرون أنّ هذه من دلائل الإعجاز, بمعنى أنّ هذا القرآن المبين الواضح مكوّن من هذه الأصوات غير المبينة في ذاتها, وأنّ القرآن جاء بكلام معجز من جنس كلامهم فأتوا بمثله إنْ استطعتم, والسلف كانوا يوكلون معاني هذه الأحرف لله تعالى .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"

    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (15)

    مثنى محمد هبيان







    من اللمسات القرآنية في سورة البقرة

    السؤال الأول: لماذا لم يلتزم القرآن نفس الأحرف المقطعة في كل السور؟وهل هناك مناسبة بين تلك الأحرف والآية التي تليها حيث ذكر الكتاب أو القرآن ؟

    الجواب:

    أولا: الأحرف المقطعة جاءت في 29 موضعاً في القرآن الكريم والذي تم التوصل إليه ما يلي :

    آ ـ لا توجد مناسبة ظاهرة، لكن هناك مناسبة اختيار ما بَعْدَها بالنظر إليها.

    ب ـ هذه المناسبة هي من الجانب الصوتي، وتنطبق على جميع ما ورد ذكره من : كلمة كتاب وكلمة قرآن.

    ج ـ القاعدة: أنه إذا كانت الحروف المقطعة أكثر من مقطعين أوأكثر من حرفين فعند ذلك يأتي معها الكتاب لأنّ الكتابة ثقيلة، وإذا كانت الحروف المقطعة تتألف من مقطعين أو حرفين فيأتي معها القرآن، باستثناء إذا كان الحرف الثاني مقطعاً ثقيلاً كالميم مثلاً لأنه مديد (ميم، حركة طويلة، ميم: قاعدتان وقمة طويلة) وهو من مقاطع الوقف. فالميم حرف ثقيل لأنه يبدأ بصوت وينتهي بالصوت نفسه وبينهما هذه الحركة الطويلة والعرب تستثقل ذلك ، والميم من أحرف الجهر والغنة , بينما الهاء والسين من أحرف الهمس والإصمات .

    - أمثلة :

    {حم} حرفان , الحاء مقطع والميم مقطع ثقيل لأنه مديد (ميم، حركة طويلة، ميم: قاعدتان وقمة طويلة وهو من مقاطع الوقف فجاء بعدها لفظة الكتاب .

    {الم(1) ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2 )} [البقرة:1-2] , أكثر من مقطعين، جاء بعدها كلمة لفظة الكتاب.

    {طه} {طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآَنَ لِتَشْقَى(2)} [طه:1-2]) ذكر لفظة القرآن.

    {يس(1) وَالقُرْآَنِ الحَكِيمِ(2)} [يس:1-2]) ـ ذكر لفظة القرآن لأنّ السين ليس ثقيلاً وإنما هو من أحرف الهمس .

    {ص وَالقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ(1)]. [ص:1] حرف واحد فذكر لفظة القرآن.

    ورسم هذه الحروف رسم توقيفي أي على ما رسمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يعرف الرسم.

    وهذه الأحرف جميعاً حيثما وردت تشير إلى أصوات متناسقة ليس بينها تنافر، كأنّ القرآن يقول لنا : هذه الأصوات ينبغي ألا يكون فيها نوع من التنافر.

    فمثلاً :

    آ ـ {ألم} [البقرة:1] الألف من أقصى الحلق من الوترين، واللام مخرجها الذي هو فويق مفارز الثنايا والرباعية والناب والضاحك , واللام مخرجه منتشر ويميل، والميم بانضمام الشفتين.

    ب ـ {كهيعص} [مريم:1] في لفظ واحد .

    ج ـ ولذلك لمّا جاء في القرآن في موضع واحد حرفان من مخرج واحد مع ما فيهما من اختلاف جعل كل واحد في آية، فقال:{حم} [الشورى:1] آية ، و{عسق} [الشورى:2] آية؛ لأنّ الحاء والعين من مخرج واحد ولا يكونان في لفظ واحد مع أنّ بين الحاء والعين فروقاً في الصفات منها :

    ـ في مسألة الشدة والرخاوة: الحاء رخوة ومعناها يجري به الصوت، والعين متوسط.

    والصفات من حيث الشدة والرخاوة فيها: أصوات شديدة وأصوات رخوة وأصوات متوسطة، كأنها تبدأ شديدة وتنتهي رخوة أو ظاهرها الشدة لكن يجري بها الصوت من غير مخرجها مثل الميم أوالنون.

    ـ وشيء آخر : الحاء مهموس والعين مجهور، ولذلك الاختلاف جُعِل كل واحد في آية حتى لا يكونا في بناء واحد، فإذن نوعية الصوت أيضاً منتقاة.

    ثانياً ـ بعض الحروف المقطعة عُدّت آيات وبعضها ما عُدّ آية، فقوله تعالى:{الم(1) ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2 ) }. [البقرة:1-2] {ألم} [البقرة:1] آية. وأرقام الآيات توقيفية على ما فعله الصحابة، فهم لم يضعوا أرقاماً، وإنما وضعوا فجوات، ثم بعد ذلك وضعت الأرقام.

    وانظر الجدول التالي الذي يبين ما جاء في الآية بعد الأحرف المقطعة :

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"


    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (17)

    مثنى محمد هبيان

    من اللمسات القرآنية في سورة البقرة
    {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}

    ما دلالة قوله تعالى {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] ؟ وما إعراب {لا} ؟
    الجواب:
    1ـ جملة {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] جعلت أحد الغربيين يُسلِمُ بمجرد أنْ سمعها، كيف؟
    قال : إنه مهما بلغتْ فصاحةُ أيٍّ من البشر في اللغة والكتابة وتمكنُه منهما، فإنه إذا كتب كتاباً أو رسالة ثم أعاد قراءتها فلا بدّ أنْ يُغير حرفاً أو كلمة أو جملة، وهذا يحدث في كل مرة يعيد قراءة ما كتب .
    ولفظة (لا) في قوله تعالى{لَا رَيْبَ} [البقرة:2] هي نافية للجنس، أي: تنفي الريب بالكلية.
    وفي قوله تعالى {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] دليل واضح لا يقبل الشك على أنه من عند الله تعالى, فمهما تكررت القراءة لا تجد ما قد تحتاجه من تنقيح أو تعديل ,وهذا من إعجازه ودليل على قدرة الله العظيم على إحكام آياته {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ }[هود:1] .
    2ـ (لا) نافية للجنس و (ما) نافية كذلك فما الفرق بينهما ؟
    يُقال : لا رجلَ في الدار , ويقال : ما من رجلٍ في الدار , فما الفرق بينهما علماً بأنّ التعبيرين نص في نفي الجنس ؟
    آ ـ (لا) تستعمل لجواب سؤال حاصل أو مقدر هو : هل من ؟ نحو : من سأل عن وجود أحد في الدار ؟ فالجواب: لا , ويكون الجواب كالإعلام.
    ب ـ (ما) تستعمل كَرَدٍّ على قولٍ أو ما نُزِّلَ هذه المنزلة، نحو من قال : إنّ في الدار لرجلاً , فيكون الرَّدُّ : ما من رجلٍ في الدار , فهو رَدٌّ على قول وتصحيح ظن.
    شواهد قرآنية على استعمال ( ما) كرد على أقوالهم :
    - {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ } [المائدة:73] .
    - {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ(61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ(62) } [آل عمران:61-62] .
    - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] .
    - {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13] .
    - {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ } [آل عمران:78] .
    - {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ } [التوبة:56] .
    شواهد قرآنية على استعمال (لا) كإعلام للمخاطب :
    - {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2].
    - {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ } [البقرة:256].
    - {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ } [محمد:19] .
    3ـ وإنْ قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى {لَا رَيْبَ فِيهِ} وبين إخبار الله بشك الكفار وريبهم فيه، ومنها قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]
    وجوابه : أنه لظهور أدلته عند من نظر فيه لا ريب فيه عنده , أمّا الريبة فيه فهي لعدم نظر الكفار والمشركين في أدلة صحته .
    وقال الرازي : المراد أنه ليس محلاً للريب، أو هو نفيٌ معناه النهي، أي: لا ترتابوا أنه من عند الله تعالى.
    ما دلالة قوله تعالى:{ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} ؟ وما معنى التقوى؟
    الجواب:
    1-التقوى هو : أنْ يحفظ الإنسان نفسه بشيء ويحمي نفسه من خطر , والقرآن وقاية، وهذه الوقاية تكون بالأعمال الصالحة التي تقي المؤمن من النار.
    وقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ } ليس معناه أنْ نجعل بيننا وبين الله وقاية، ولكنّ المعنى أنْ نجعل بيننا وبين غضب الله وعذابه وقاية , فنحن نتقي بصفات كمال الله (غافر الذنب والرحمن والرحيم والغفور) من صفات جلال الله (المنتقم والجبار والمتكبر).
    وقد قال الحسن البصري في تعريف التقوى : التقوى هي الخوف من الجليل، والرضى بالقليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل .
    وقال غيره : التقوى أنْ لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك .
    وقال رحمه الله تعالى عن القرآن الكريم : الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته ... ولكن للمتقين ..؛ لأنّ التقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب.
    2ـ الوقف على {فيِهِ} هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على {لَا رَيْبَ} ، والقراءة الأولى أولى لأنه يكون في هذه الحالة الكتاب نفسه هدى وفي الثانية يكون الكتاب فيه هدى.
    3ـ في الآية تنبيه على أنه الكلام المتحدى به في قوله تعالى {ألم} ثم أُشير بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير جهة التحدي , ثم نفى عنه الريب فكان شهادة بكماله , ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين.
    وفي الأولى حذف ورمز إلى الغرض بألطف وجه , وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة , وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف , وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر {هُدىً} موضع الوصف الذي هو (هاد) وإيراده منكّراً ليفيد عموم الهدى. والله أعلم.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"

    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (18)











    مثنى محمد هبيان






    من اللمسات القرآنية في سورة البقرة {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}

    السؤال الأول:

    ما دلالة قوله تعالى { يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ}[البقرة:3] ؟

    الجواب:

    1- الغيب هو كل ما غاب عن العين , ولذلك يقال :ليس مع العين أين؛ لأنّ ما تراه لا تريد عليه دليلاً ولكنّ الغيب لا تدركه الحواس إنما يُدرك بغيرها.

    ومن المعروف أننا ندرك الأشياء بواسطة حواسنا الخمس (السمع،والبصر، والشم، والذوق واللمس) ولكنّ هناك أشياء تدرك بغير هذه الحواس.

    أمثلة: حقيبتان لهما نفس الشكل واللون والحجم لا تستطيع بحواسك الظاهرة أنْ تدرك أيهما أثقل , لكن عن طريق حاسة العضل تستطيع معرفة الأثقل.

    كذلك الشعور بالجوع والعطش والاستيقاظ والنفس البشرية وغيرها كلها إدراكات متعددة تعمل بغير علم منا، وقد يكون لهذه الإدراكات مقدمات.

    و الغيب هو الشيء الذي ليس له مقدمات, ولا يمكن أنْ يصل إليه علمُ خَلْقٍ من خلق الله حتى الملائكة والجن وحتى الرسل إلا ما يعلّمه الله لرسله بما يشاء من الغيب.

    وقمة الغيب هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وكذلك الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كل هذه الأمور أمور غيبية أخبرنا الله عنها , ولقد أراد الله تعالى رحمة بعقولنا أنْ يقرب لنا قضية الغيب فأعطانا من الكون المادي أدلة على أنّ وجود الشيء وإدراك هذا الوجود هما أمران منفصلان تماماً.

    لهذا لا بدّ أنْ تعرف أنّ وجود الشيء مختلف تماماً عن إدراك هذا الشيء، فأنت لك روح لكن لا تدركها وإنما تشعر بأثرها في إحياء جسدك.

    والله سبحانه قد أعطانا من آياته في الكون ما يجعلنا ندرك أنّ لهذا الكون خالقاً, وأنّ وراء كل ما في هذا الكون قوة هائلة هي التي خلقت وأبدعت ونظمت , فإذا جاء رسولٌ يبلغنا أنّ الله هو الذي خلق هذا الكون فلا بدّ أن نصدقه.

    2ـ قوله تعالى: {الَّذِينَ} إمّا موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو منصوب على المدح بتقدير: أعني الذين يؤمنون ، أو منقطع مرفوع على الابتداء مخبر عنهم بـ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ }[البقرة:5] .

    3ـ قيل : الغيب: مصدر أقيم مكان اسم المفعول.

    4ـ ذكر الله تعالى في آية النمل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ } [النمل:65] ووصف المؤمنين بأنهم {يُؤمِنُونَ بالغَيِبِ} [البقرة:3] والسؤال : ما لا يُعلَمُ كيف يؤمن به ؟

    والجواب: أنّ المراد هو الغيب الذي دلّ البرهان على صحته ووقوعه وذُكر في القرآن الكريم كالقيامة والجنة والنار .

    السؤال الثاني:

    ما معنى الصلاة لغة ؟ ولماذا كتبت بالواو{الصلوة}؟

    الجواب:

    1ـ ذكروا في لفظ الصلاة لغة أنها بمعنى : الدعاء .

    2 - لمعرفة لماذا كتبت كلمة {الصلوة} بالواو انظر الجواب في آية البقرة 238

    السؤال الثالث:

    ما معنى الرزق ؟ وما دلالة الحرف (من) في الآية ؟ ولماذا قدّم مفعول الفعل ؟

    الجواب:

    1ـ الرزق في كلام العرب هو الحظُّ كما في قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]. والحظُّ هو نصيب المرء وما هو خاص له دون غيره.

    2ـ أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ونفقت الدابة إذا ماتت أي: خرج روحها.

    3ـ أسند الرزق لله فهو المنعم.

    4ـ قدّم مفعول الفعل دلالة على أنه أهم.

    5ـ ( من) للتبعيض، أي: بعض مالهم وليس كله صيانة لهم وتسهيلاً على النفس.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"

    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (19)













    مثنى محمد هبيان






    من اللمسات القرآنية في سورة البقرة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5]

    اللمسات البيانية لهذه الآية تتضح في السؤال التالي :

    السؤال الأول: المطلوب إجراء مقارنة بين آيات بداية سورة البقرة و آيات بداية سورة لقمان

    الجواب:

    الجدول التالي يلخص لنا المقارنة المطلوبة :



    الملاحظات البيانية حسب التسلسل :

    1ـ قال في البقرة {ذَلِكَ الكِتَابُ} [البقرة:2] واسم الإشارة (ذا) للمفرد المذكر، وهو الكتاب واللام للبعد والكاف للخطاب بينما قال في لقمان: {تِلْكَ آَيَاتُ }[لقمان:2] لأنّ تلك للمؤنث، أي الآيات، ويشار بتلك إلى البعيد وتستعمل تلك للمفرد، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ }[الأعراف:22] وللجمع على نحو ما مثِّل سابقا .

    2ـ قال في البقرة: {ذَلِكَ الكِتَابُ} [البقرة:2] بينما قال في لقمان: {تِلْكَ آَيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ} [لقمان:2] ولم يشر إلى الكتاب فقط ، والسبب- والله أعلم -:

    آ ـ لو لاحظنا في سورة لقمان أنه تردد كثير من الآيات السمعية والكونية، مثلاً: قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا } [لقمان:7] والآيات الكونية مثل: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } [لقمان:10] ، إلقاء الرواسي وإخراج النبات وسمّاها آيات: {وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32] .

    ب ـ ثم هنالك أمر آخر وهو أن كلمة الكتاب ومشتقات الكتابة في البقرة أكثر من الآيات، وفي لقمان كلمة الآيات أكثر من الكتابة، في البقرة مشتقات الكتاب والكتابة (47) مرة والآيات (21) مرة وفي لقمان ذكر الكتاب مرتين والآيات خمس مرات، وهذه سمة تعبيرية أنّ التي بدأت بالكتاب ذكر فيها الكتاب أكثر، والتي بدأ فيها بالآيات ذكر فيها الآيات أكثر.

    3ـ قال في سورة لقمان: {الكِتَابِ الحَكِيمِ}[لقمان:2] بينما في البقرة لم يصف الكتاب فلماذا؟ وما معنى الحكيم؟

    الجواب:

    آ ـ الحكيم قد يكون من الحِكمة أو من الحُكم، وهذا من باب التوسع في المعنى، ولو أراد تعالى معنى محدداً لخصّص.

    ب ـ في سورة البقرة لم يصف الكتاب؛ لأنّ السورة فيها اتجاه آخرحيث قال: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] وهو ذكر التقوى والمتقين .

    ففي البقرة قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ثم قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(2 4) } [البقرة:23-24] اتقوا النار مقابل المتقين، فإذن هناك مناسبة بين هدى للمتقين وكلمة التقوى التي ترددت كثيراً في البقرة، كما أنّ قوله تعالى {لا رَيْبَ فيِهِ} [البقرة:2] متناسب مع قوله {وإن كُنتم فيِ رَيْبٍ} [البقرة:23] .

    ج ـ أمّا وصفه بالحكيم في سورة لقمان فهو مناسب لما ورد في السورة من ذكر الحكمة {آَتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ } [لقمان:12] وذكر الحِكَم ، وربنا وصف نفسه بأنه عزيز حكيم في سورة لقمان أكثر من مرة , فكلمة حكيم مناسبة لجو السورة وذكر الحكمة، لذلك قال في لقمان: {الكِتَابِ الحَكِيمِ} [لقمان:2]

    4ـ وفي البقرة قال فقط:{هُدىً للمتَقِينَ} [البقرة:2] بينما قال في لقمان: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان:3] فما دلالة ذلك ؟

    آ ـ ما الفرق بين المتقي والمحسن؟

    المتقي هو الذي يحفظ نفسه فيتقي الأشياء، أمّا المُحسِن فيحسن إلى نفسه وإلى غيره، كما قال تعالى: وَبِالوَالِدَيْ نِ إِحْسَانًا } [البقرة:83] فالإحسان يكون إلى نفسه وإلى غيره , أمّا التقوى فتقتصر على النفس .

    والإحسان إلى الآخرين هو من الرحمة، فلمّا رحموا الآخرين وتعدّى إحسانهم إلى غيرهم زادهم ربنا رحمة، أمّا التقوى فهي للنفس , وهؤلاء إحسان للنفس وإلى الآخرين, والإحسان إلى الآخرين هو الرحمة فلمّا زادوا هم زادهم ربهم , والجزاء من جنس العمل، حتى في الآخرة زاد لهم الجزاء، قال تعالى في الآخرة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }[يونس:26] وهذه رحمة، فكما زاد الجزاء لهم في الآخرة زاد لهم في الدنيا {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] و {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ }[لقمان:3] .

    ب ـ ولو لاحظنا أنّ هذه الأوصاف {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ }[لقمان:3] هي مناسبة لما ورد في عموم سورة لقمان وما شاع في جوِّها من هدى ورحمة وإحسان:

    ـ فمن مظاهر الهدى المذكورة في سورة لقمان قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] والذي يسلك السبيل يبتغي الهداية، هذا هدى، وجوُّ الهداية في سورة لقمان شائع.

    ـ والرحمة لمّا ذكر قوله تعالى {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } [لقمان:10] هذا من الرحمة.

    ـ ولمّا ذكر تسخير ما في السموات والأرض وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:20] هل هناك أعظم من هذه الرحمة؟

    ـ ومن مظاهر الإحسان أيضاً إيتاء الزكاة , وفي الوصية بالوالدين والإحسان إليهما، إذن جوُّ السورة كلها شائع فيه الهدى والرحمة والإحسان, وهذه ليست في البقرة، وإنما سورة البقرة ذكرت أموراً أخرى نحو: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)} [البقرة:3-4] وصف كثير ثم انتهى {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] أمّا في لقمان فاختصر {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[لقمان:4] .

    والإيمان أعمّ من الإحسان، ولا يمكن للإنسان أنْ يكون متقياً حتى يكون مؤمناً، وورود كلمة المتقين، المؤمنين، المحسنين والمسلمين يعود إلى سياق الآيات في كل سورة.

    5ـ في البقرة قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ } [البقرة:3] ولم يقلها في لقمان، وقال في البقرة: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ }[البقرة:4] ولم يقلها في لقمان ,فما دلالة ذلك ؟ ولماذا؟

    آ ـ قوله تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ } [البقرة:3] هذا متعلق بالسورة نفسها، ومفتتح السورة غالباً ما يكون له علاقة بطابع السورة من أولها إلى نهايتها.

    ففي سورة البقرة قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ } [البقرة:3] وبعدها قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8] هذا من الغيب : لم يؤمنوا لا بالله ولا باليوم الآخر، وقال على لسان بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً } [البقرة:55] إذن هم لا يؤمنون بالغيب وطلبهم عكس الغيب لذلك هو قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ } [البقرة:3] وليس مثل هؤلاء الذين يقولون: آمنا وما هم بمؤمنين، ولا مثل هؤلاء الذين طلبوا أنْ يروا الله جهرة .

    بينما في لقمان قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان:25] إذن هم مؤمنون بالغيب، وقال: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان:32] إذن الطابع العام في سورة البقرة هو الإيمان بالغيب وطلب الإيمان أو الإنكار على عدم الإيمان بالغيب, بينما في لقمان الإيمان بالغيب حتى الذين كفروا قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان:25] إذن يؤمنون بجزء من الغيب بينما أولئك في سورة البقرة ينكرون {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] هذه ليست إيماناً بالغيب وربنا يريد الإيمان بالغيب.

    ب ـ قوله تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ}[البقرة:3] ولم يقل: آمنوا بالغيب، مع أنّ إيمان المتقين بالغيب مؤكد في الآية، فلماذا ؟

    والجواب أنّ قوله تعالى {يؤمنون} [البقرة:3] بصيغة المضارع ولم يقل: آمنوا بصيغة الماضي؛ لأنّ الإيمان منا مستمر متجدد لا يطرأ عليه شك ولا ريبة.








    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    45,303

    افتراضي رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"

    مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (20)











    مثنى محمد هبيان






    من اللمسات القرآنية في سورة البقرة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5]

    6ـ قال في لقمان: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ }[لقمان:4] وفي البقرة قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[البقرة:3] . فما دلالة ذلك ولماذا ؟

    آ ـ الإنفاق أعم من الزكاة , والزكاة من الإنفاق , فإذن مما ينفقون تحت طياتها الزكاة.

    ب ـ ونلاحظ قوله تعالى في لقمان {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [لقمان:4] وفي البقرة قال : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] لأنه تكرر في البقرة ذكر الإنفاق (17) مرة وذكر الزكاة كذلك في عدة مواطن,ومن آيات ذكر الإنفاق قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ }[البقرة:261] .

    {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة:262] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [البقرة:274] فتكرار الإنفاق في سورة البقرة عدا الأمر بالزكاة ناسب استعمال لفظة ـ ينفقون ـ لأنها أعم. أمّا في لقمان فما ذكر الإنفاق لأنّ طابع السورة يختلف عن طابع سورة البقرة .

    7ـ وكذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ }[البقرة:4] لم يقل هذا في سورة لقمان لأنه في البقرة جرى هذا , وطُلِب من أهل الكتاب أنْ يؤمنوا بما أُنزل إليه وما أنزل من قبلك في آيات كثيرة جداً نحو قوله تعالى: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة:41] إذن المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك , وهؤلاء المشركون لم يؤمنوا أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة:75] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا} [البقرة:76] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [البقرة:91] هم لا يؤمنون بما أُنزل إليه , بينما طلب الله تعالى من المؤمنين أنْ يؤمنوا بما أنزل إلى الرسول عليه السلام وما أنزل على الرسل قبله , وحتى في آخر البقرة قال تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] فطابع السورة هكذا، وأمّا في لقمان فلم يوجد مثل هذا أصلاً , ولذلك مفتتح سورة البقرة فيها طابع السورة.

    8ـ قال تعالى فى سورة لقمان:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] وفي آية البقرة قال:{وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:4] أي كرّر{هُمْ} قبل{َبِالآَخِرَةِ} فما دلالة ذلك ؟ ولماذا قدّم الجار والمجرور على الفعل (يوقنون) ؟

    آـ لو لاحظنا في سورة لقمان تردد في السورة ذكر الآخرة وأحوالها والتوعد بها في زهاء نصف عدد آيات السورة وفي أولها وآخرها {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[لقمان:6] {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7] {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}[لقمان:8] {عَذَابٍ غَلِيظٍ}[لقمان:24] {إِلَيَّ المَصِيرُ}[لقمان:14] {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[لقمان:28] {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33] .

    ب ــ ثم هي بدأت بالآخرة{يُوقِنُونَ} [لقمان:4] وانتهت بالآخرة بقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}[لقمان:34] فناسب زيادة{هُمْ} [لقمان:4] توكيداً على طابع السورة وما جاء في السورة.

    ج ـ إضافة إلى أنّ هؤلاء ذكر عنهم أنهم محسنون , والمحسنون كما علمنا أنهم يحسنون إلى أنفسهم وإلى غيرهم وزاد فيهم هدى ورحمة , وليس كما في البقرة {لِلمُتَقِينَ} [البقرة:2] والمتقي هو الذي يحفظ نفسه فزاد في وصف هؤلاء الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، وهذا من الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه» ولذلك زاد في ذكر إيمانهم ويقينهم لمّا كانوا أعلى مرتبة وزاد لهم في الرحمة وزاد لهم في الآخرة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:26] فزاد في ذكر إيمانهم فقال: {وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] فهم أعلى في اليقين؛ لأنّ اليقين درجات والإيمان درجات فالإيمان يزيد، والاطمئنان درجات، واليقين درجات، والمحسنون يعبدون الله كأنهم يرونه , إذن درجة يقينهم عالية، فأكّد هذا الأمر فقال: {وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] فأكّدها على ما ذكر في سورة البقرة: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] لأنّ السورة والآية كلها تستدعي ذكر الزيادة.

    د ـ لكنّ الملاحظ أنه في البقرة وفي لقمان قدّم الجار والمجرور على الفعل فقال: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ولم يقل: وهم يوقنون بالآخرة.

    والأصل في اللغة العربية أنْ يتقدم الفعل ثم تأتي المعمولات الفاعل والمفعول به والمتعلق من جار ومجرور، والتقديم لا بدّ أنْ يكون لسبب وهنا قدّم {وَبِالأَخِرَةِ} [البقرة:4] وكذلك في البقرة {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] لأنّ الإيقان بالآخرة صعب ومقتضاه شاق , وأمّا الإيمان بالله فكثير من الناس يؤمنون بالله لكنّ قسماً منهم مع إيمانه بالله لا يؤمن بالآخرة؛ مثل كفار قريش: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} [الجاثية:32] وهم مؤمنون بالله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان:25] إذن هم مؤمنون بالله لكنْ غير مؤمنين بالآخرة، ولذلك هنا قدم الآخرة لأهميتها فقال: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] فالإيمان بالله كأنه متسع، لكنّ اليقين بالآخرة ليس متسعاً , والتقديم هنا للاهتمام والقصر.

    9ـ النهاية واحدة في السورتين وبنفس رقم الآية رقم 5 {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] فما دلالة ذلك ؟

    آ ـ هؤلاء المذكورون بهذه الصفات قال الله سبحانه عنهم: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] واقتران لفظ الرب مع الهداية اقتران في غاية اللطف والدقة؛ لأنّ الرب هو المربي والموجه والمرشد والمعلم، هذا هو الرب في اللغة.

    ب ـ لم يقل :(على هدى من الله) وإنما قال : {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}وفي ذلك أمران:

    الأول : يمكن أنْ يقال هدى من الله؛ لأنّ الله (لفظ الجلالة) اسم العلم وكل الأمور تنسب إليه، ويصح أنْ تُنسب إليه باسمه العلم وأحياناً تنسب إلى صفاته بما يناسب المقام، ولكن هناك أشياء من الجميل أنْ تنسب إلى صفاته سبحانه وتعالى مثل: أرحم الراحمين، الرحمن الرحيم , وهنا قال: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] والرب في اللغة هو أصلاً المربي والموجه والمرشد فيناسب اللفظ مع الهداية .

    واختيار لفظ الرب مع الهداية كثير في القرآن، وهو مناسب من حيث الترتيب اللغوي {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:161] وكثيراً ما تقترن الهداية بالرب، وهو اقتران مناسب لوظيفة المربي.

    الثاني : وهناك دلالة لطيفة بين الرب والهدى، وذلك بإضافة الضمير" هم " إلى {رَبِهم} ، ولو استعمل اسم العلم فليس فيه علاقة بهم وإنما عامة، لكنْ {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] لا شك أنّ ربهم هو أرحم بهم وأرأف بهم؛ لذا فاختيار كلمة (رب) مناسبة مع الهداية .

    فالهدى مقترن بالرب وفيه من الحنو والإرشاد والخوف على العباد، ثم إضافة الضمير {رَّبِهّمْ} [البقرة:5] هذا فيه أنّ الله يحبهم ويقربهم إليه، وفيه من الحنو والنصح والإرشاد والتوجيه، ولا شك أنّ رب الإنسان أحنى عليه.

    ج ـ في قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] يستعمل مع الهداية لفظ {عَلَى} [البقرة:5] بعكس الضلال يستعمل لها لفظ {فِي} {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] وهذا ملاحظ في القرآن الكريم {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:4] {إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ} [النمل:79] ويستعمل في للضلال : {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[يس:47] وليس فقط في الضلال وإنما الذي يؤدي إلى الضلال: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}[التوبة:45] {َفنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس:11] كأنّ المهتدي هو مستعلٍ يبصر ما حوله ومتمكن مما هو فيه وهو مستعلٍ على الشيء ثابت يعلم ما حوله ويعلم ما أمامه، أمّا الساقط في اللُّجَّة أو في الغَمرَةِ أو في الضلال لا يتبين ما حوله بصورة صحيحة سليمة؛ لذا يقولون: يستعمل ربنا تعالى مع الهداية (على) ومع الضلال (في).

    د ـ ثم ختم الآية بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] .

    آ ـ أولاً جاء بضمير الفصل: {هُمُ} وجاء بالتعريف: {المُفْلِحُونَ} ولم يقل: أولئك مفلحون، ولم يقل: هم مفلحون، وإنما حصر أنّ هؤلاء هم المفلحون حصراً ليس هنالك مفلح آخر.

    ب ـ (أولئك) في الأصل اسم إشارة , ومن الناحية الحسية إذا لم نرد المجاز نستعمل (أولئك ) للبعيد و( هؤلاء ) للقريب، هذا هوالأصل مثل هذا وذلك.

    ج ـ ثم تأتي أمور أخرى مجازية؛ كأنّ هؤلاء أصحاب مرتبة عليا فيشار إليهم لعلوِّ مرتبتهم بفلاحهم بــــ (أولئك) إشارة إلى علوِّ منزلتهم وعلوِّ ما هم فيه، فالذي على هدى هو مستعلٍ فيما يسير وهو مستعلٍ أصلاً، فيشار إليهم بما هو بعيد وبما هو مرتفع وبما هو عالٍ، ثم حصر الفلاح فيهم قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] حصراً .

    د ـ قوله تعالى: {هُمُ} هذا ضمير الفصل ويفيد في الغالب التوكيد والقصر, حتى إنه قيل في تسمية ضمير الفصل: أنه يفصل الخبر عن الصفة وهذا أصل التسمية، أي: أنّ أصل التسمية حتى يُعلم أن الذي بعده خبر وليس صفة؛ لأنه أحياناً يظن السائل أنّ هذا صفة وبعده خبر، ونحو ذلك قوله تعالى:{وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254] .

    هـ ـ وذَكَرَ في هذه الآية ركنين أساسيين، الأول: في إصلاح النفس (إقامة الصلاة) ، والثاني: في الإحسان إلى الآخرين (إيتاءالزكاة)، وإقامة الصلاة هي أول ما يسأل عنه المرء يوم القيامة ؛ ولذلك لمّا قال الله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] أفاد الحصر أي لا فلاح في غير هؤلاء، ومن أراد الفلاح فليسلك هذا السبيل ليكون على هدى من ربه، وليس وراء ذلك أي فلاح آخر.


    ****













    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •