وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ
ما يزال متأصِّلاً في نفوسنا لومُ الآخر، وهذه الظاهرة تنتشر في المجتمعات العاجزة والأمم الضعيفة، فهي العكازة التي يستند إليها من أراد أن يصرف المسؤولية عن نفسه.

والقرآن الكريم نقل لنا مشهدًا في المستقبل القريب، موافقًا لما علمه الله تبارك وتعالى مما سيكون يوم القيامة، حينما تنجلي الحقائق وتنكشف الأمور على حقائقها، فأخبرنا أن الشيطان الذي نلقي كثيرًا من اللائمة عليه سيقف وسط ذلك الجمع ليقول: {إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} وهنا يشخَّص المرض، فلولا الاستعداد في نفسك ما أجبت الشيطان.
ولو أن داعيًا دعاك إلى طعام تشتهيه نفسك ستجيبه، لكن ماذا لو أن داعيًا دعاك إلى شيء تكرهه نفسك، أتُراك تجيبه؟
ثم قال: {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] فهي استعدادات أنفسكم التي تناسبت مع ما سمعَتْهُ من الدعوة إلى المحسوس، والمحبوب المألوف، والفاحشة المشتهاة، والكسل، والتراخي...
واستوقفني قوله تعالى وهو يحكي ذلك الموقف، وما يقوله عدوُّ الإنسان الشيطانُ - والشيطان كما تعرفون منه إنسيٌّ ومنه جِنيّ، وشياطين الإنس أقوى من شياطين الجنّ – فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ} فهناك وعدان:
- فالنفوس الزكية الطاهرة الراضية المرضية تلاحظ وعد الله وتستجيب له.
- أما النفوس الأمَّارة والخبيثة التي ليس لها مرور في مسلك التزكية والتصفية فإنها تلتفت إلى وعد الشيطان وتتعلق به.
وقضية وعد الله ووعد الشيطان قضية مبسوطة مفصلة، فعلى سبيل المثال يقول تعالى:
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 238] إنه الحرص الذي يجعل الإنسان يشعر بالفقر والفاقة والحاجة إلى الأشياء والعبودية للمال... ليل نهار، فوعد الشيطان الذي تعلّقت به النفوس التي لم تعرف التزكية تعلَّق بالمال والمتاعِ وانصرافِ الهمَّة إلى ذلك الوعد.
لكن الله سبحانه وتعالى قال في نفس الآية: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً}.
فوعدُ الله فضل، ووعدُ الشيطان فقر.
وشتَّان بين نفوسٍ تُعوِّد ذواتها على النظر إلى الفضل وتتعلق به، ونفوسٍ تنحطُّ فتتعلَّق بوعد الفقر.
شتَّان بين نفسٍ غنيَّة بفضل الله، ونفسٍ فقيرة تشعر صباح مساء أنها محتاجة: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ".
وسلفنا الذين فتحوا العالم بمقاصدهم وكسّروا الحواجز كانوا فوق المادة، فلم يكونوا أغنياء بالمال لكن نفوسهم كانت مستغنية بالفضل، فلما ارتقى ذلك المقصود عندهم استطاعوا تجاوز كل العوائق النفسانية.
وقد ركَّز القرآن كثيرًا على قضية النفس مع قطع النظر عن المِشجب الذي نعلّق عليه خسارتنا وانحدارنا، وهزيمتنا... في الوقت الذي نملك فيه المبادئ التي لا يملكها غيرنا، والمنطلقات التي توصلنا إلى أعظم النتائج... ثم نقول: المشكلة في الآخرين.. الآخرون يمنعوننا.. الآخرون لا يسمحون لنا.. الآخرون يفعلون كذا وكذا...
فعلى سبيل المثال:
قال تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
وقال: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15].
وقال أيضًا: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18].
وقال سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7].
وقال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم: 36-41].
وكل هذا يعطينا مدلولاً واضحًا هو: الملوم أنت وحدك.
لكنّ السؤال: هل نستطيع أن نحدد المشكلات الكبرى التي هي أمهات كل مشكلة في أمتنا التي تعاني من الخلل والضعف؟
الذي أجده أن أمهات كل المشكلات هي أمورٌ ثلاثة: الجهل والكسل والمادية.
وبالطبع فإن أمهات الحلول أضدادها، ولا بدَّ أن تجتمع معًا وهي: العلم والهمة والروحانية، فإذا اجتمعت هذه الثلاثة نستطيع الخروج من كل أزمة، وعندها لا نلتفت إلى قضية لوم الآخرين.
أولاً- العلم: ومفرداته ثلاثة:
1- العلم بالكون:
لأنه السلاح الأقوى في وجه المفسدين، فلا يمكن لأمّة جاهلة بالكون وبوسائله وسننه أن تتفوق، وهذا وفق قانون الحكمة الربانيّ، إذ سُنَنُ الكون وإدراكُها واكتشافُها يعطيك وفق الحكمة الربانية تفوُّقًا.
فمجتمع فيه بحثٌ علميٌّ كونيٌّ يوصل إلى نتيجةٍ يمكن من خلالها معرفة قانون السنن الكونية، يعطيك تفوقًا، وإلا لماذا تفوقنا في عصر حضارتنا الذهبي على بلاد الغرب في عصورها المظلمة؟
ولماذا يتفوق اليوم أولئك الذين يمكثون في الشمال على دول الجنوب؟
أليس السبب هو أنهم يجتهدون لاستكشاف سنن الكون؟
ألم تدمَّر ألمانيا بعد الحرب العالمية تدميرًا كاملاً، حتى أصبح مألوفًا لديهم أن يشنق الشخص نفسه لأنه وصل إلى درجة الإحباط واليأس؟ ثم قامت بعدها تلك الأمة واستطاعت أن تكسر حاجز اليأس والإحباط، وأن تُعدِمَ يأسها وتحرقَه، وصارت أمَّةً صناعية، وأمة متفوقة، وذات مدنية وتطور، والأمثلة كثيرة مع أنهم لا يملكون من الموارد ما نملك.
2- العلم بالإسلام:
لأن الإسلام بكل أبعاده: الاجتماعية، والعبادَاتيّة، والاقتصادية، والسياسية... هو الرسالة التي أرسلها الله سبحانه وتعالى إلى الإنسان، ليخرجه من الظلمات إلى النور، ولأنه الرسالة التي تُخرج الإنسانية من اضطرابها، والتي ترفع الإنسان إلى مستوى حمل الأمانة.
علينا أن نتعلم الإسلام من ينابيعه: الكتاب والسنة، من النص الذي لا تنقضي عجائبه، ويعطي في كل زمان من الدلالات ما يكفي لتغطية ذلك الزمان.
العلم بالإسلام ينبغي أن يكون من خلال الدراسة الفاهمة الواعية التي يأخذ الإنسان من خلالها هدايته.
3- العلم بفن الدعوة إلى الإسلام:
فكم من الناس اليوم من يقرؤون الإسلام، لكنهم حين يخاطبون أبناء المسلمين يخرجونهم من الإسلام، فضلاً عن مقدرتهم على مخاطبة غير المسلمين.
فعلينا أن نتعلم فن الدعوة إلى الإسلام بما يتناسب مع المخاطَب، ومع ما ينتظره، وحينما لا نملك هذا العلم لا نكون أصحاب علم.
ثانيًا- الهمّة: ولا بُدَّ حتى نحققها في نفوسنا من:
1- وضوح المقصد:
ما هو مقصودك: الدنيا أم الآخرة؟ الشهرة عند الخلق أم رضوان الحقّ؟ جمع الثروة أم حمل الرسالة؟
فينبغي أن يكون مقصودك واضحًا من غير خِداع، وأسوأُ خداع أن يخدع الإنسان نفسه، ولأَنْ تخدع العالم كلَّه أيسرُ عليك من أن تخدع نفسك، فخداعك لنفسك هو مصيبة كبرى.
فكم من نفوسٍ تقول: مقصودي الآخرة، وحقيقة مقصودها الدنيا.
وكم من نفوسٍ تقول: مقصودي رضوان الحقّ، وحقيقة مقصودها مِدحَة الخلق.
وكم من نفوسٍ تقول: مقصودي حمل الرسالة، وحقيقة مقصودها جمع الثروة.
فلا يمكن للهمة أن تعلو أو تسمو إلا حين يكون المقصود واضحًا.
وكم نعيش اليوم لُعبةً من أجل صرف الشباب عن المقاصد، وهذه اللعبة تُمارس في الإقليم وخارجه، وأصبحت فنَّ السياسة الجديد، وهي: إخراج الناس عن مقاصدهم، وإشغالهم باللا مقصود، أي تفريغ الإنسان من مقصوده.
ولو قمنا بإحصاءٍ للقنوات الفضائية العالمية وما تقدِّمه، سنجد الكثير من الدَّجَل والطَّرَب واللهو... وسندرك أن اللعبة السياسية العالمية هي: إيصالُ الإنسان إلى حالة اللا مقصود.
لا يهمُّنا إن كان هذا الأمر واضحًا، ولا نُعلِّق على الآخرين، لكننا نتساءل عن أنفسنا:
هل المقصود فينا واضح؟
هل نقدر على توضيح المقصود لأنفسنا وللآخرين، أم أننا سنبقى في انعدام الوزن حينما نصل إلى اللا مقصود؟
2- تنظيم الوقت:
بأن تجعل في وقتك حِصَّةٌ لازمة، فلا يمرُّ يومٌ دون أن يكون وقتك مخصصًا فيه.
وأن يكون في وقتك في هذا اليوم حصَّةٌ لحمل الأمانة، وحصَّةٌ لحمل الرسالة، وحصَّةٌ لتبليغ المقصود، وحصَّةٌ لفهم الرسالة، وحصَّةٌ لفهم فنِّ الدعوة إلى الرسالة...
يومٌ يمرُّ عليك منذ الصباح إلى المساء ليس فيه إلا أكلك وشربك وصنعتك!
إذًا: الهِمَّة مفقودة عندك.
3- الخروج عن الفردية إلى التكامل الجماعي:
فلا يأكل الذئب إلا الشاة القاصية.
والذي يقيك من الكَسَل والملل، وُجودُك في الجماعية لا في الفردية.
وحينما تتحرر من أزمة الفردية ويبدأ التكامل الجماعي في حياتك، ستنشأ فيك الهِمَّة.
4- الجهد المنتج المتكامل المتناسب مع الوقت:
فينبغي أن يكون هذا لديك فعلاً لا تنظيرًا، لا أن تكون حِصّة يومك التي أشرنا إليها حِصّةً عِلْمية ليس معها حِصَّةٌ عمليةٌ، أو جهدٌ منتج.
ثالثًا- الروحانية:
ولا بد من الثلاثة معًا، وقد رأينا من لديهم الهِمّة من غير عِلْم، ومن لديهم العِلْم من غير هِمّة، ومن لديهم العِلْم والهِمّة وتجده طاقةً حركيةً يعمل في الليل والنهار، لكنه فاقدٌ للروحانية... وكلُّ هذا لا يُنتِج.
وأستطيع أن أختصر مفهوم الروحانية في أمرين اثنين:
1- الرغبة في الآخرة:
فعندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يُحرِّك حبيبه صلى الله عليه وسلم ليقوم بالدعوة، قرَّر له في منطلق حياته الرسالية: {وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى: 3] وهكذا ابتدأ له ربُّنا حياةَ دعوته، لكن العِلّة: {بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة: 20].
2- صِدْقُ التوجُّه إلى الله:
ولا يكون إلا بإسقاط النظَر إلى الخَلْق، فالرياء يسحق روحانيتك.
اعمَل وأنت تستشعر قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]، وقوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218].
غَيِّبْ نَظَرَ الخَلْقِ إِلَيْكَ بِنَظَرِ الحَقِّ إِلَيْكَ، وعندها يَصِحُّ توجُّهُك إلى الله، وتكون صادقًا في ذلك التوجُّه.
جرّبوا أن تجمعوا في أنفسكم هذه الأمور الثلاثة، وحين تنجحون انقلوا تجربتكم إلى الآخرين.
إيّاكم أن تقعوا في اليأس، لأنه الداء القاتل الذي يمسح من منظورنا كلَّ بارقة أمَل.
رُدَّنا اللهم إلى دينك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله
منقول