وفي العصر الحديث شاع مصطلح ( التشريع ) وكثر استعماله وتنوع، فهو قد يستعمل بمعناه القديم الذي يشمل الأحكام الشرعية، سواء كانت للعبادات أو المعاملات أو للسلوك الفردي والاجتماعي، بصفة عامة، وقد صدرت عدة مؤلفات عن تاريخ التشريع، ومناهج التشريع، وخصائص التشريع، وأصول التشريع.
وقد يستعمل ( التشريع ) بمعنى اصطلاحي أضيق، فيراد به القوانين، أو سن القوانين، التي تصدر عن الدول والحكومات ومؤسساتها. وحتى حينما يجري الحديث عن التشريع الموصوف ( بالإسلامي )، فقد أصبح المراد به في كثير من الحالات الأحكام الشرعية التي يدخل تنفيذها ـ أو مراقبة تنفيذها ـ في حيز اختصاصات الدول والحكومات.
وإلى قريب من هذا المعنى ذهب الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه ( مقاصد الشريعة الإسلامية )، حيث قال: " فمصطلحي إذا أطلقت لفظ التشريع أني أريد به ما هو قانون للأمة، ولا أريد به مطلق الشيء المشروع. فالمندوب والمكروه ليسا بمرادَيْنِ لي، كما أرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تسمى بالديانة....))([1]).
فقد أخرج من التشريع المندوبات والمكروهات وكل أحكام العبادات، لكنه في تفسيره يستعمل التشريع بمعناه الواسع الذي يشمل العبادات وسائر الأحكام الشرعية، كما في تفسيره لآية {الْيَوْمَأَكْم لْتُلَكُمْدِين كُمْ} [المائدة: 3] حيث قال: "صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة كافيا في هدي الأمة في عبادتها ومعاملتها..."([2]).
وهذا التضييق لمعنى ( التشريع )، بحيث يقتصر على القوانين والتشريعات المتعلقة بالشؤون العامة، انتقل حتى إلى مفهوم الشريعة، فصار الكلام عن الشريعة وعن تطبيق الشريعة، والعمل بالشريعة، ومرجعية

.
الشريعة... يراد به ـ أو يفهم منه ـ عند الكثيرين، ما يتعلق بالشؤون العامة، ويدخل في اختصاص الولاة والقضاة..
ولا شك أن هذا التضييق وهذا القصر، لا أساس له، ولا تحتمله أصول الشريعة وقواعدها التشريعية التي لا تعرف التفريق بين عبادات وجنايات وآداب ومعاملات، ولا بين أحوال شخصية وأخرى غير شخصية....
وإنما بدأ ونشأ هذا المفهوم الضيق للشريعة والتشريع مع شيوع استعماله على ألسنة السياسيين والقانونيين من أساتذة جامعيين، ومن قضاة ومحامين ومشرعين...
أما في الشريعة وفي التشريع الإسلامي: فإن الصلاة تشريع، والتيمم تشريع، وقطع يد السارق تشريع، وتحريم الربا تشريع، والطواف بالبيت تشريع، وعدة المطلقة أو المتوفى عنها تشريع، والشورى تشريع، وإلقاء السلام ورده تشريع، وإيتاء ذوي القربى تشريع، وتحريم الغيبة والنميمة تشريع، وبر الوالدين تشريع، والجهاد تشريع، وأحكام الزكاة تشريع، وآداب الأكل والشرب تشريع، وخصال الفطرة تشريع، والعدل والإحسان في كل شيء تشريع.... وهكذا بلا فرق.
والشيخ ابن عاشور نفسه، حين اختار المعنى المضيق للتشريع في كتاب (المقاصد)، أي بمعنى " ما هو قانون للأمة "، قد وجد صعوبة في الالتزام بهذا المفهوم وفي ضرب الأمثلة له ولمقاصده، و لذلك نجده يقول: "وإني قصدت في هذا الكتاب خصوص البحث عن مقاصد الإسلام من التشريع في قوانين المعاملات والآداب..."([1])، فأضاف الآداب وأدخلها في معنى التشريع، مع أن أكثرها مندوبات ومكروهات، في العبادات والعلاقات الاجتماعية.
ثم عبر بشكل صريح عن الإشكال الذي وجد نفسه فيه بسبب ما اختاره من تفريق وتضييق، قال رحمه الله: ((وفي هذا التخصيص نلاقي بعض الضيق في الاستعانة بمباحث الأئمة المتقدمين . الى فرصة قادمة بحول الله

.