ذات بين (قصة)
الزهرة هراوة
كنت أمقُتُ أبي كثيرًا!
كنت أراه ذلك الشخصَ المتسلِّط الذي يتلذَّذ بإذلالنا كلما سنحت له الفرصةُ.
لا أعتقد أنني أحببتُه يومًا، ولا ارتضيته أبًا لي.
كم كنت أحسُد الآخرين الذين لديهم آباء متحرِّرينَ منفتحين على العالم، يتركونهم أحرارًا يفعلون ما يشاؤون؛ لا مساءلة ولا تهديد ولا وعيد.
لما أذهب لزيارة أحد الأصدقاء - بعد إلحاحٍ متواصل من والدتي على أبي للسماح لي بالذهاب - أرجع إنسانًا مختلفًا كليًّا، وهذا ما كان يخشاه والدي من رفضه.
أقارن حياتي البائسة بحياتهم المُترَفة.
حريتي المقيَّدة بحريتهم اللامشروطة.
قلة ذات اليد بثرائهم الفاحش.
كم كنت أبغض حياتي، وأبغض أبي المتسبِّب في ذلك.
لم أكن أعلم أن قسوته تلك حنانٌ وعطف.
وتقشُّفه ذاك تربية.
وتقييد الحرية لأن يعلِّمني أن الحرية مسؤوليةٌ قبل أن تكون عبثًا ولهوًا.
لكنني لم أَفْقَه ذلك إلا بعد فوات الأوان.
لم نملك وقتَ فراغ كالناس مطلقًا، ولم أكن أعلم أن وقت الفراغ للفارغين فقط.
كانت أوقاتنا مقسمةً بين الكُتَّاب فجرًا، والدراسةِ نهارًا، والمذاكرة ليلًا؛ وما يتبقَّى من وقتٍ نساعد والدي في أشغاله، فقد كان دائم العمل منكبًّا عليه حتى وإن عاد في المساء يمسك الأثاث لتصليحه، وإعادة تدوير ما تمَّ استهلاكُه، وتحويله إلى تُحَفٍ فنية، وكان يرغمنا على العمل معه.
حتى أيام العطل يأخذنا إلى البادية للعمل فيها بالرعي والزراعة.
كم كنت أتمنى لو أصرخ قائلًا: كفانا عملًا يا أبي!
لو كنت أعمل بأجر، لحصلت على مال وفير؛ لكنك دائم التقشُّف لا تمنحنا إلا النزر القليل.
أين عطف الأبوة فيك؟ أين إنسانيتك؟
ألسنا بشرًا؟!
ألا ترى ذلك! ألا تشعر بنا!
لكنني سرعان ما أعدل عن رأيي فلا أنبس ببنت شفة.
هل هو خوف؟ أم هيبة أبي التي أستشعرها حتى في جيراننا وأقاربنا، ومن تقرَّبوا منه طلبًا لصداقته؟
إذ كانت له هيبة ووقار يهابه كلُّ من يتعامل معه، سواء كان قريبًا أو غريبًا، صديقًا أو عدوًّا.
كادت أيام طفولتي أن تأفل وما أحسست بها ولا استمتعت بها.
وذات يوم، بينما كنت في زيارة لأحد أصدقائي؛ رأيت كيف يعاملهم والدهم، وكيف ينفقون المال بإسراف ولا يجدون من يسألهم، وكيف يلعبون ولا يُبالون بضياع الوقت ولا نفاده، وكيف يتكلَّمون ولا يأبهون لما يقولون ويمررونه عبر قنوات الرقابة الخاصة بهم؛ إذ لا يملكون ذلك.
كنت أحسد صديقي، وإذ بي أقول بصوت مسموع: ليته كان والدي!
سمعني الوالد أقول ذلك، فهمس لي: أتكره أباك لهذه الدرجة؟
• "جدًّا أتمنى لو يموت ونستريح منه"؛ قلت محتنقًا.
تهلَّلت أساريره وأسرَّ لي: هذه أمنيتُنا جميعًا.
أتعرف أنَّ أباك قاتلٌ، وهو هاربٌ من العدالة؟
قلت له: لا، ومن قتل؟!
قال: ليس ذلك مُهِمًّا.
• المهم أنه حُكم عليه بالمؤبَّد في بلدي؛ لكنه فرَّ إلى هنا، وأنا اقتفيتُ أثرَه حتى وجدتُه، ولكي يسهل عليَّ القبضُ عليه أحتاج لتعاونك معي.
قلت: وما أفعل؟
• أن تسهل عليَّ الأمر في القبض عليه، هو لن يموت؛ سيدخل السجن لقاء جريمته الشنيعة تنفيذًا للعدالة؛ أما أنت وإخوتك وأمك، فسأتكفَّل بكم وبكلِّ ما تحتاجونه.
قلت بدون وعي مني وبلا تردُّد: عرفت أن وراء هذا الشخص المستبِدِّ مجرمًا وماضيًا مخزيًا.
• إني طوع أمرك.
لا أذكر تمامًا كيف تمَّ اقتحام بيتنا من طرف الشرطة الدولية، ولا كيف اقتيد أبي، ولا كيف تمَّت محاكمته ونفِّذ حكم الإعدام فيه.
كل ذلك حدث بسرعةٍ فائقة، لم أنتبه إلا ووالد صديقي أصبح زوجًا لأمي ووصيًّا علينا، وقد أغدق علينا من مال أبينا، ففرحنا ونسينا حتى يوم محاكمة أبي.
فقط أمي من كانت حزينةً، وقد فارقت البسمة مُحيَّاها، وصارت طريحةَ الفراش.
ما الذي جعلها ترضى به زوجًا؟ أهو إلحاحنا وإصرارنا؟!
بقينا نلهو ونعبث غير مدركين للخطر الذي يحدق بنا.
قد أنشأنا ما يرفِّه عنا ويسلينا، فصار شغلنا الشاغل اللهو والتسلية لا أكثر ولا أقل.
أما باقي أمور حياتنا، فتركناها للوصي هو الذي تكفَّل بها.
ولم نسأل أو نطالب بها، فكلُّ ما نريده وتشتهيه أنفسُنا من ملذَّاتٍ نحصل عليه، يظهر لنا خوفُه وحرصه على سلامتنا، وهو ينهب، ويسلب أراضينا، ويعيث فيها فسادًا.
كبرنا لكننا ما زلنا قُصَّرًا في نظره، وما زال وصيًّا علينا، وما زالت الأمور المصيرية من حقِّه وحده تولِّيها.
ليس كل إخوتي كانوا محظوظين مثلي؛ فكلُّ مَن حنَّ لأيام والدي وسعى لإرجاعها، عوقب بحرمانه من المال، واستُبْعِد وقد يرحل إلى غير رجعة، أكنت أنا المحظوظ أم هو؟!
ومع مرور الأيام تصادمت أحلامنا الطائشة، واحتد الكلام بيننا، وتشاجرنا وتخاصمنا، وحدث الشقاق، فصار كلٌّ منا يرى أخاه عدوًّا لدودًا يشك بأنه يخطِّط للإطاحة به، كلُّ ذلك يحدث على مرأى ومسمع الوصيِّ؛ بل وبمباركته، لا يمنحنا من المال - مالنا نحن - إلا عندما يعرف وجهته، ويتأكد أننا سنصرفه في الترفيه لا فيما ينفعنا، أو حتى في كيفية تغلبنا بعضنا على بعض، صرنا الإخوة الأعداء وما كنا كذلك يومًا، وصارت الفجوة والخصومة تتَّسع بيننا، وصار كلُّ واحد منا لا يطيق الآخر ولا سماع اسمه، بل ويسعى للتخلُّص منه، وللسخرية الحقَّة صرنا نجعله حكَمًا علينا، يفرِّق بيننا من جهة، ويتظاهر بالإصلاح من جهة أخرى، كلُّ ذلك كان بثمنه، ومالنا ينفد وهو يزداد ثراءً، وأراضينا تتقلَّص وأرضُه تتَّسع وتتمدَّد كالسرطان في جسد المريض.
أتُرانا سنستفيق من غفلتنا هذه وننتبه لحالنا، ونُصلح ذات بيننا قبل فوات الأوان؟ أم أننا سنبقى نلهث خلف ذلك الجشعِ حتى يرميَنا في مزبلة التاريخ؟!