"وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب، ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية، والقرامطة الباطنية، ونحوهم فإنهم على ضد ذلك، فإنهم يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل، فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات، ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات.".
قوله: "وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم .." إلخ. بعد أن بين المؤلف رحمه الله طريقة الرسل في صفات الله تعالى وهي الطريقة القويمة الحكيمة الموافقة للعقول والفطر السليمة، شرع في بيان طرق أهل الضلال الحائدين المائلين عن طريقة الرسل، فذكر الكفار والمشركين وأهل الكتاب.
وأهل الكتاب منهم المؤمن الموحد الذي اتبع رسوله، ومنهم الكافر.
والصابئة منهم المؤمنون الحنفاء، ومنهم الكفار المشركون، ومن هؤلاء قوم إبراهيم وهم طوائف.
والمتفلسفة هم أهل الفلسفة الذين احترفوا الفلسفة اليونانية. وكأن الشيخ يقصد بهم المنتسبين للإسلام منهم، وقد يراد بهم المنتسبين للإسلام وغير المنتسبين له.
والفلاسفة أنواع، منهم الفلاسفة الدهريون، وهؤلاء لا كلام معهم هنا، وإنما الكلام مع الفلاسفة الإلهيين الذين يقرون بالخالق في الجملة وهم أنواع:
منهم من يقر بصفات الله تعالى في الجملة، ومنهم من ينكر الصفات.
وزعيم ملاحدة الفلاسفة اليونانيين من يسمونه المعلم الأول، وهو أرسطو فهو زعيم الشرك والتعطيل والإلحاد، وقد تبعه بعض من ينسب إلى الإسلام كابن سيناء الذي يعظم من قبل بعض الجهلة أو الزنادقة المنتسبين للإسلام.
قوله "والقرامطة الباطنية" الباطنية صفة موضحة لأن كل قرمطي باطني، وإن كانت الباطنية أعم فيدخل فيها كل من جعل للنصوص ظاهراً وباطناً، فيدخل فيهم الإسماعيلية والنصيرية والدروز والاتحادية من ملاحدة الصوفية.
وقد تطلق القرامطة ويراد بها الباطنية بمعناها العام، لأن القرامطة هم سلف وأصل الباطنية.
أكثر ما تطلق الباطنية على الرافضة وكما قال بعض العلماء "يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض" فهم في الحقيقة كفار أعداء لله ورسله والمؤمنين وإن كانوا يتسترون ويظهرون حب آل البيت.
القرامطة: الطائفة التي ظهرت في الأحساء آخر القرن الثالث فعاثوا في الأرض فساداً بقيادة أبي ظاهر الجنابي الذي قتل الحجيج وقلع الحجر الأسود.
وسموا قرامطة نسبة إلى أحد زعمائهم وهو حمدان قرمط، واسم القرامطة قد يطلق على الباطنية عموماً، وقد يراد به طائفة من طوائفهم، مثل اسم الجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان، وقد يطلق هذا اللقب على بدعة التعطيل خاصة فيقال فلان جهمي، أو فيه تجهم، أي تعطيل للصفات وإن كان الجهم جمع عدة بدع كالجبر في القدر، والإرجاء في الإيمان.
وقد ذكر الشيخ هنا أن هؤلاء الزائغين عن طريقة المرسلين من المتفلسفة والجهمية والباطنية ونحوهم على ضد منهج الرسل، ذلك أنهم يصفون الله تعالى بالصفات السلبية على وجه التفصيل، ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل.
الصفات السلبية: هي صفات النفي.
ووصف الله تعالى بالصفات السلبية أي وصف الله تعالى بالنفي غير ممتنع، ولكن عيب هؤلاء في هذا الباب يظهر في مخالفتهم لطريقة الرسل من وجوه:١- التفصيل في النفي.
٢- عدم إثبات شيء من الصفات الثبوتية.
٣- أنما يصفون الله تعالى به من الصفات السلبية لا يتضمن إثباتاً عندهم.
قوله "ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقا" .
الوجود المطلق ضد الوجود المعين، مثل لفظ الإنسان المطلق، والإنسان المعين. فقولك مثلاً الإنسان حيوان ناطق، أو كائن حي، فهذا هو الإنسان بمعناه المطلق وهو تفسير لحقيقة الإنسان بالمعنى العام، ولا تقصد بذلك إنساناً معيناً. أما إذا قلت فلان إنسان، أو هذا الإنسان فإنك تقصد بلفظ الإنسان شيئاً معيناً.
فالإنسان بالمعنى المطلق لا يوجد في الخارج، وإنما يوجد في الخارج الإنسان المعين.
وكذلك الوجود، فقولك وجودي، أو وجودك، فهذا وجود معين، وقولك الوجود فهذا المعنى وجود مطلق مشترك بين سائر الموجودات.
وإثباتهم لله وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحقيق، لأن الوجود المطلق لا يوجد إلا في الأذهان. ولا يمكن أن يوجد في الأعيان وفي الخارج، لأنه لا يوجد في الخارج والأعيان إلا الوجود المعين في الأفراد.
وما يوجد في الذهن قد يكون موجوداً في الخارج، وقد يكون ممكن الوجود في الخارج، وقد يكون ممتنع الوجود في الخارج، ومن أنواع الوجود الذهني الذي يمتنع تحققه في الخارج الوجود المطلق.
وهؤلاء الذين لا يصفون الله تعالى إلا بالصفات السلبية المحضة على وجه التفصيل يستلزم قولهم غاية التعطيل، وغاية التمثيل.
أما استلزامه غاية التعطيل فلأنه يؤول إلى إنكار وجود الله تعالى حيث عطلوا الله تعالى عن أسمائه وصفاته تعطيلاً يستلزم نفي الذات، لأنه يمتنع وجود ذات مجردة عن الصفات.
وأما استلزامه غاية التمثيل فلأنهم مثلوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات.
فإذا قالوا إنه لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ففي هذا تشبيه له بالجمادات، وإذا قالوا إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يرى ففي هذا تشبيه له بالمعدومات.
وإذا قالوا إنه ليس بحي ولا ميت ولا موجود ولا معدوم ففي هذا تشبيه له بالممتنعات.
[شرح الرسالة التدمرية للشيخ عبدالرحمن البراك ص ٨١ - ٨٤]