الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
الشعرات البيض - غازي القصيبيأوْرَدَ هذين البيتين أخونا الفاضل "خزانة الأدب" ضمن واحة "عيون الشعر" التي يتعاهدها مشكورًا شيخٌ أديب أَرِيبٌ مِن بخارى، لكنّه عدنانيّ!
مالت على الشعرات البيض تقطفها يارا وتضحك لا أرضى لك الكبرا
يا دميتي هبك طاردت المشيب هنا فما احتيالك في الشيب الذي استترا
واستملحتُ البيتين، رغم أنّ المعنى مطروق. وهذا من أسرار الشعر ودلائل سحره. أسرار ودلائل تتجاوز اللفظ والمعنى، وتتخطّى البنية والقالب، لتنقلك إلى حالة أشبه ما تكون بــ "ميتافيزيقا" الكلمة...
ولم أكن مِن هواة شِعر القصيبي، ولا نشطت يومًا لقراءة دواوينه. وذلك منذ أن قرأتُ قصيدةً له لم ترُقني، فكانت تلك قراءتي الأولى والأخيرة لما جاد به يراعُه. وأذكر أنّني كنتُ أمقتُ الكنافة وأتقزّز عند سماع اسمها، بلْه تذوّقها. وكان أنْ جمعني مجلس انشراح ومسامرة بِفِتْيةٍ "كنجوم اللّيل"، شُمّ العرانين مِن شُمّ العرانين. وهم مِن أهل النّدى والمنادمة، لكن "لا يَشين الفحشُ مجلسَهم"... وكان ذلك بالشّام، سقاها الله أوْفى الدّيَم! وسقى أيّامًا لنا فيها لا إخالها رُجَّعًا!
ووُضِعَ بين أيدينا صحن كنافة نابلسيّة، من اللائي واللّواتي... فامتعضت، وانقبضت، وتململت، وتعلّلت...
فاستثقلني القوم، وتضافرَت ألسنتُهم بالحجج المرغّبات، لعّلي أصبأ عن مذهبي. فقال لي أحدهم: "أتدري لماذا سُمّيت بالكنافة؟" وأجبته دون تردّد: "لعلّ اسمها مشتقٌّ من الكنيف!" وكان قبالتي أخٌ فلسطيني من "خان يونس"، يكتب الشِّعر جريحًا كحال الأمّة، متوثِّبًا كنبض المقاومة، سماويًّا كتاريخ فلسطين المبارَك... رأيتُ في عينيه الغضبَ يوجّهه لأوّل مرّة إلى صديق! لكنّ جمرة غضبه انطفأت بسرعة اشتعالها، وذلك ما توقّعته؛ لأنّ في عيون أبناء "خان يونس" سرًّا يفيض وداعةً، لا يوازيه إلّا سرّ الوالهين بالصلاة...
وخشي القومُ أن تشتعل نار الفتنة -وهي إذا اشتعلت بين الأدباء عجزت كلّ مياه الدنيا عن إطفائها- وأن تُلحَق الكنافة النابلسية بطيلسان ابن حرب... فاستدرك الوضعَ أحدُهم وقال: "بل هي مشتقّة من الكَنَف، ومِن معانيه: السّتر. فأنت إذا أكلت منها، وُقِيتَ مِن كلِّ الأمراض، بإذن الله." فأجبته: "وهل تقي مِن السّمنة؟" فانفجر المجلس بالضحك، بما في ذلك صاحبي الذي عرّضتُ به.
ثم قال آخَر: "يا أخي، أعلم مدى حساسيّتك الشديدة من غسّان كنفاني.. ولكن، هل تعلم أنه كان لا يطيق الكنافة؟" فانتقل الحديث إلى غسّان.. وجلسنا "في الشمس" على "السرير رقم 12"، لنأكل شيئا من "البرتقال الحزين" ليس "كالشيء الآخر"، ونتذكّر أيّام "أم سعد"... لكنّ أحدهم فتح "الباب"، فأعادنا إلى الكنافة؛ تلك التي لم أكن أطيق سماع اسمها... فقال لي: "يا أخي، جرّب هذه الطريقة. فإن لم تنجح، عذرناك.: سُدّ أنفك، ثم تخيّل أنّ الكنافة "فالوذج" أو "لوزينج" وكُلْ." فقلت له: "أحضرْهما، يا أمير المؤمنين!" فابتسم.. وما كان له إلّا أن يبتسم، وهو العراقيّ الظريف، المولع بكلّ خبر طريف خفيف.
واستسلمت.. ومضغت.. وابتلعت.. فاستسغت.. ثم استزدت.. وانبسطت.. وانبسط الجميع، لا سيّما أخي الفلسطيني. وسمّينا ذلك اليوم "يوم الكنافة". ومنذ تلك الليلة، صرت عضوًا دائمًا في الـ: "n.h.k"، أي: نادي هواة الكنافة.
ولمّا استغربتُ سبب إقبالي عليها بِنَهَم، مع أنّي كنت مِن ألدّ "المنقرفين" منها، أجابني أخي الفلسطيني أنّ للكنافة اللذيذة ثلاثة شروط، وهي: النيّة، والجماعة، والغيث. فلم أفهم، وظننته يتكلّم عن صلاة الاستسقاء! فشرح لي ذلك، وهو يحاكي هيئة الفقيه ولغتَه:
النيّة، يا أخي، هي: القصد. والقصد قصْدُ القلب. ونعني به في مقامنا هذا: الرغبة في الأكل. وقال بعض المحقّقين من أهل هذا الشأن: بل المراد: الأكل على جوع. وقد ثبت بالاستقراء أنّ الكنافة لا تُستساغ إلاّ على جوع. وهذا صحيح مجرّب. ومن استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه.
أمّا قولنا "الجماعة"، فنعني به: الرفقة الصّالحة. وهي التي إذا رأيتَها تذكّرتَ بطنك، وإذا تكلّمَتْ أسالت لُعابَك، وإذا شرَعَتْ في الأكل فتحَتْ شهيّتك. ومن فضائلها: أنّ الراغب عن الأكل يلتهم اللقمة تلو اللقمة، والراغب فيه لا يصل إلى حدّ التخمة. فالبرَكة تحفّها من الجانبين، والشهيّة معها مضمونة للأجوفَين.وفي عِلم المطعوم: من فاتته الجماعة، فاته القضاءُ أيضًا. فتنبَّه!
وأمّا "الغيث"، فالمقصود هو: القَطْر. ألمْ تسمع قول الجزّار الشاعر:
لئنْ أمْحَلَت أرضُ الكُنافةِ إنّني --- لأرجو لها مِنْ سُحْبِ راحتِه القَطْرَا
إذ لا كنافة دون قَطْر. والقطر يجب إسباغه؛ لأنّه إذا هطل على طبق الكنافة لانَتْ، وإذا لانَتْ ساغتْ، وإذا ساغت كانت غذاءًا وشفاءًا."
ولم أعجَب مِن سِرّ إقبالي على الكنافة، قدر ما عجبتُ مِن الفقيه الكامن في إهاب أخي الشاعر الفلسطيني، ضُمِّخَت ذِكراه مِن أنيس!
تذكّرتُ هذا كلّه لمّا طربتُ لبَيْتَي القصيبي، ثم عجبتُ لهذا الطرب القاهر، وفي النفس ذكرى تلك القصيدة التي لم ترقني... وقلتُ في نفسي: ربّما كانت عجينة القصيبي في تلك القصيدة "انتهت صلاحيتها" –كما يقال- وأصرّ على أن يصنع منها كنافة.. وربّما خانه القَطْرُ.. وربّما تناولتُها على امتلاء.. وربّما لم أصحّح النّيّة عند قراءتها.. لكنّني بعد أن قرأتُ بيتَيه في الشَّيب، انفتح قلبي على شِعرِه كلِّه، انفتاحَ نفسي للكنافة...
هذه هي قصّتي مع بيتَي القصيبي اللذين جاد أخونا "خزانة الأدب" باختيارهما ضمن "العيون"...
فهلْ أطلْت؟
أطَلْتُ، والله.. أطَلْت!
وكان أنْ أوْحى لي البيتان بأبيات، فأبيتُ إلّا الإفضاء بها إلى روّاد "الألوكة". أهديتُها إلى الأخ "خزانة الأدب". وهذا نصّها:
يا مُهْدِيَ الدُرّتَيْنِ قتلْتَني مرّتَينِ
أثَرْتَ بالشّعرِ صَبّا يهواه بالأَصْغَرَيْنِ
وبالـمشِيبِ حنينًا إلى الصِّبا بَعْدَ بَيْنِ
فَمِلْءُ دَمعيَ عَيْنِي ومِلْءُ قَلْبِيَ حَيْنِي
ومِلْءُ حُزْنِيَ روحِي تبكي صَدَى الهِجرَتَيْنِ
تَبكي الشّبابَ تَناءَى تَنائِيَ الخافِقَيْنِ
والشّعْرَ أصبح أعتى مِن عاقِد الحاجِبَيْنِ
ها أصبح الدُّرُّ جمرًا وبُؤْتُ بالجمْرَتَيْنِ
يا مُهدِيَ الدُرّتَيْنِ أَنّى أتَيْتَ بِذَيْنِ؟
مِنْ عبْقَرِ الشّعْرِ تُحْذِي؟ أمْ مِن جَنَى الجَنّتَيْنِ؟
أمْ مِنْ بَريقِ الحنايا يَخْتالُ في المقلتَيْنِ؟
حيّرْتَني قبْلَ "يارا" وقاطِنِ الـمَحبسَيْنِ
ونافثِ الشّعْرِ دُرّا يُضيءُ كالفَرْقَدَيْنِ
هل آدَك الشّيْبُ خافٍ؟ أمْ ما يُرى رأْيَ عَيْنِ؟
أمِ البياضُ تَفَشّى فألْهَبَ الجانِبَيْنِ؟
ما لي أرى الشّعْرَ غَضّا فلا أرى أَيْنَ أَيْنِي؟!
ينْأى الشّبابُ وتَبْقَى ذِكْراهُ في النّاظِرَيْنِ
والدّهْرُ ليس بِباقٍ إلّا مع الـمَشْرِقَيْنِ
كالنّهْرِ ليس بِجارٍ إلّا مع العُدْوَتَيْنِ
ولِلشّباب مَعانٍ جَمِيعُها مَحْضُ مَيْنِ
شهيّة طيّبة!