أين ستصلي التراويح هذا العام؟
كتبه/ أحمد عبد الحميد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
أين ستصلي التراويح هذا العام؟
لا شك أنك سمعت هذا السؤال عشرات المرات، حيث يبدو أنه أصبح من الأدبيات غير المكتوبة للصحوة الإسلامية على الأقل في بلادنا؛ فما أن يقترب شهر رمضان ويبدأ الناس في الاستعداد له -كل بطريقته- إلا ويثور هذا التساؤل الذي غرضه غالباً هو البحث عن مكان لصلاة التراويح به إمامٌ حسن الصوت يضفي على الصلاة -كما يقال- جواً إيمانياً ينقل المصلين إلى آفاق بعيدة من التدبر لمعاني آيات القرآن؛ فتسموا النفوس وتطهر الأرواح.
ولا شك أن هذا المقصد من حيث الأصل لا حرج فيه شرعاً، بل قد يكون من الأمور الحسنة الممدوحة إن كان الأمر كذلك بالفعل، وإن كان هذا الذي يسأل لا يزال يتحسس بدايات طريقه إلى المساجد وحياة الطاعة، فبدلاً من أن يتحير فإنه يسأل من يأخذ بيده إلى طريق ممهد مسلوك، ولكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل تعداه إلى غالب قطاعات الملتزمين بالفعل، الأمر الذي ينبغي أن يستلفت انتباه كل مهموم بترشيد مسار الصحوة، لاسيما والأعمال الرمضانية تترك بصمتها وأثرها البعيد على المسار الدعوي.
وسنتناول في الكلمات القادمة هذا الأمر من جوانبه سواء السلبية أو الإيجابية بغير إفراط ولا تفريط -إن شاء الله-؛ فالحق مبتغانا، والله الهادي إلى سواء السبيل.
فمن إيجابيات هذه الظاهرة..
- تحول المساجد التي تتميز بقارئ حسن الصوت والصيت إلى حالة من الصحوة الإيمانية؛ بما يقوم بها من أنشطة دعوية على هامش صلاة التراويح، لاسيما لو كانت هذه المساجد من المساحة بحيث تتسع لأعداد كبيرة من المصلين، وهذا الازدحام يعطي مشهداً رائعاً يهز النفوس المؤمنة التي يسرها أن ترى الناس وقد أقبلت على الله بهذا النشاط، مخلية ورائها التلذذ بأنواع المتع المباحة والمحرمة التي تلقى رواجاً في هذه الأيام الفاضلة. وهذه الأعداد الكبيرة المؤتلفة تقلل مشاعر الغربة وتحقق نوعاً من الشعور بالعزة الإيمانية في نفوس المصلين الذين يشعرون في وقفتهم الجامعة بأن الدنيا - بما فيها من ظلم وتجبر- تهون أمام وقفة كهذه، فما يحتاج المسلمون سوى وقفة خاشعة بين يدي ربهم صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، وحينها ستتهاوى تحت أقدامهم حصون الكفر وقلاع الباطل. لذا فإن هذا المشهد يهز أيضاً شياطين الإنس والجن، ولكنها هزة مختلفة تملأ قلوبهم أسى وحسرة، ويقيناً بأن هذه الأمة أبداً لا تموت.
- ومن هذه الإيجابيات: أن هذا القارئ لو كان صاحب منهج وعلم ومشروع تربوي -وليس مجرد قارئ حسن الصوت وفقط-، فسيكون له دور كبير في توجيه هذه الأعداد الكبيرة لاسيما و قد أصبح له قبول في نفوس الناس المهيئة أصلاً لتلقي الخير في هذه الأيام.
- وربما كان هذا الصوت الحسن في حد ذاته سبباً لترقيق قلوبٍ هي في أمس الحاجة إلى ذلك، فتكون هذه الصلاة نقطة تحول في حياة كثير من الشباب من غير الملتزمين الذين يبحثون عن طمأنينة النفس وراحة البال في الأغاني ووسائل الترفيه، فإذا بهم يجدونها ميسرة بغير تكاليف أو تكلف في مسجد لله -تعالى- فيدخل أحدهم وقد خلع نعليه، ووقف مطرقاً خاشعاً فيخرج من الصلاة وقد غسل قلبه من هموم الدنيا.
وهذه المعاني جميعا من الأهمية بمكان، ولكن المشكلة أن كل هذه الإيجابيات ليست هي الوجه الوحيد للصورة، فهناك وجه آخر سلبي يغفل أو يتغافل عنه الكثير برغم كون هذا الوجه الاخر هو الموجود والظاهر طيلة الوقت.
فمن سلبيات هذه الظاهرة..
- ما تلمحه في السؤال ذاته (أين ستصلي؟..)؛ فالذي يحدد (أين؟) غالباً هو الإنسان نفسه مستقلاً برأيه وخبرته، ولا مجال لرؤية موحدة تجمع هذه الطاقات والعزمات المتناثرة في مسيرة واحدة منضبطة ذات أهداف وأولويات محددة.
فكل إنسان يذهب إلى المكان الذي يريد ويغيِّر هذا المكان كيفما شاء ومتى شاء، وتلتقي جموع لا تعرف بعضها، ثم تفترق كأنهم عابرو سبيل، وتُذبَح أي فرصة لجمع شتات النفوس والأجساد، ثم بعد ذلك تسمع من يتباكى على حالة الشرذمة الكبيرة التي تعيشها الأمة، مع الغفلة عن أن هذه الحالة الكبيرة ما هي إلا اجتماع هذه الحالات الصغيرة وأشباهها.
- ومن السلبيات: الغفلة عن أنه من أهم مصالح بناء المساجد أن يلتقي أهل الحي الواحد في الصلوات الخمس، والجمع، والأعياد، والمناسبات المختلفة للصلاة كالاستسقاء والكسوف والجنائز، وهكذا يتبادلون السلام والبسمات، وتزداد بينهم الألفة ومعاني الأخوة الإيمانية، فيتماسك المجتمع، ويتلاحم البناء؛ لذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ببناء المساجد في الدور -يعني القبائل-، وأمر الله -عز وجل- موسى وهارون )أنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(يونس: من الآية87)، فيتماسكون ويجد بعضهم بعضاً في عاصفة الفتنة التي يثيرها فرعون وملؤه، فالجماعة رحمة، والفرقة عذاب.
- ومن هذا الباب أيضاً نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اتباع المساجد فقال: (ليصل الرجل في المسجد الذي يليه ولا يتبع المساجد) (صححه الألباني)، فمع كون الكل بيوت الله، لكن الذي يشتت نفسه يوماً هنا ويوماً هناك تفوته فائدة كبيرة من فوائد الاستقرار في مسجده، وهي تآلفه مع مجتمع صغير يعرف بعضه بعضاً، وإذا غاب الواحد منه وجد من يسأل عنه ويتفقد أحواله، ولو فُتح على أحدهم باب فتنة فتكاسل عن صلاة الجماعة لوجد من يذكره ويأخذ بيده، ولكن ذلك الرَحَّالة بين المساجد لو غاب لما وجد من يسأل عنه، وسيقال: "لربما كان هنا أو هناك"، ولو انقطع عن الصلاة أصلاً لما انتبه إليه أحد، والأسوأ من ذلك ألا يعرفه أحد أصلاً، وأسوأ منه أن يظن الناس به أنه لا يصلي.
ولاحظ أننا لا نتحدث فقط عن أناس أقدامهم راسخة في الالتزام، ولكن أيضاً عن فئات جديدة من المقبلين على الالتزام تضاف كل يوم إلى مجتمع الملتزمين، وحتى لو كان هذا الشخص من الراسخين في الالتزام، فمن يأمن على نفسه الفتنة؟ ولو أَمِنَها على نفسه، فهل يأمنها على غيره ممن قد يفتن به؟
- ومن هذه السلبيات صورة تجدها متكررة، وهي: هذا الأخ الملتزم الذي يحاول أهل مسجده الارتباط به أكثر، فيأتيه الشيطان في هذه الأيام، وقد لانت نفسه للطاعة، وعزم على ملازمة المسجد، فيوسوس له: أن دع مسجدك واذهب فصل أو اعتكف في المسجد الفلاني البعيد الذي لا يعرفك فيه أحد؛ لأن أهل مسجدك بهم كذا وكذا، وأنت الراغب في الخشوع الحريص على تهذيب نفسك، وفي هذا المسجد البعيد القارئ الفلاني حسن الصوت، نعم هو ليس أفضل صوت في العالم، ولكنه حسن وكفى، ولا بأس أن تكابد المواصلات، وزحام الشوارع بما فيها من فتن أو أن تنفق ساعة أو ساعتين من الليل في الذهاب والإياب، فأنت مجاهد تريد الخشوع، حتى ولو صليت وراء هذا الشيخ خارج المسجد وفي قارعة الطريق أمام الغاديات والرائحات فلا بأس عليك، فأنت على الجادة سائر، أما أهل مسجدك فلا يعرفون مصلحتهم، ولا يهتمون بمعالي الأمور وأما أنت فنعم الرجل، ويظل معه هكذا حتى يوقعه في غربة عن إخوانه، فيذهب ليصلي بمكان لا يعرف فيه أحداً، ولا يعرفه فيه أحد، وتكون غربة في غربة في غربة ... فتأمل.
ثم تنقضي أيام رمضان ولياليه سريعاً، ويعود الطير المهاجر إلى مسجده -إن عاد- متباهياً على إخوانه: "كنا نصلي بكذا، ونفعل كذا، وكان كذا وكذا..."، والمساكين -في حسه- محرومون من هذه الفتوحات، مقصِّرون في حق أنفسهم؛ فتنشأ الحواجز بينه وبين إخوانه في الله وتتسع الفجوات، وترى كيف يقضي المسكين عامه بعد ذلك إلى رمضان المقبل، وقد قطع جسور الصلة مع إخوانه، وأدخل الشيطانَ من فُرْجَة صنعها بيده، والله المستعان.
- ومن السلبيات أيضاً: حالة الأنانية الساذجة التي تعتري البعض الذي يرفع شعار "نفسي نفسي" مخادعاً نفسه بأنه هكذا ينجو بها، وإذ به يوردها موارد عطبها؛ فتجده يهرب من مسجده في مثل هذا الموسم العامر، مخلفاً وراءه فرصاً لا تعوض، وثماراً دانية في الدعوة إلى الله -تعالى-، فالناس قد أقبلت على المساجد مفتحة القلوب والأسماع لنفحات الخير، تنتظر فقط من يمد إليها ولو أصبعا -لا نقول يداً- تنتشلها من دوامة الضياع إلى جادة الطريق؛ فتجد هذا الشيخ الحكيم الناكر للجميل يفر من خندقه والثغرة التي هو عليها، متناسياً أنه كان في يوم من الأيام في أمس الحاجة إلى أن يجد أخاً على فهم وعلم في المسجد الذي دخله أول مرة منذ سنين يتحسس طريقه إلى الالتزام، فوجد من يعينه ويرشده، وكان في أشد الاحتياج إلى الدفء الإيماني، فوجد الصفوف المتراصة تملأ المسجد بالحنو والحدب على المقبلين على الله... أما الآن فهو قد استغنى أو يظن ذلك... ولن نزيد.
- وسلبية أخرى وهي: ما يترسخ عند البعض من أن الخشوع لسماع القرآن لا يمكن أن يحصل له إلا إذا استمع الشيخَ الفلاني أو إلا إذا كان الشيخ ندي الصوت، فيصير الخشوع أو محاولته مؤجلة إلى حين سماع هذا الصوت، وهذا بلا شك من مكر الشيطان، وكيف لا، والله يقول: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21)، ويقول:(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28)، ويقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال:2).
فالعبرة هنا بسماع الوحي ووروده على القلب لا بمجرد ربطه بصوت إنسان مهما كان شأنه، فإنه يمرض يوماً ويتغير صوته، وماذا يحدث مثلاً لو مرض هذا الإمام ليلة؛ أضاعت تلك الليلة حينئذ.. ويا للخسارة؟؟!!!
ولا شك أن الصوت الحسن الندي له أثر في النفوس، وطلبه لا حرج فيه شرعاً، ولكن أن يصير وحده هو المعيار والدافع إلى الخشوع، فهذا والله من أبواب الفتن.
- وسلبية أخرى: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بادروا بالأعمال ستاً -وذكر منها- ونشوًا يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليغنيهم وإن كان أقلهم فقها) (صححه الألباني)، أستحضرُ هذا الحديث وأنا أرى هذه الصور الفقاعية التي تتضخم يوماً بعد يوم لشباب حدثاء الأسنان قليلي البضاعة في العلم الشرعي، يصبح لهم اسم كالطبل، وتوزع لهم الأشرطة المسجلة، ويصير لهم مريدون ومجاذيب؛ لأنهم فقط يملكون صوتاً حسناً، وتتبعهم الأعداد الغفيرة من الملتزمين المنتسبين إلى السلفية -منهج العلم واتباع السنة-، يجرون وراء هذه النماذج، وينفضون عن مساجدهم، ويصير الأمر فتنة للتابع والمتبوع.
وأسوأ من انفضاض هذه الجموع عن مساجدها انفضاضها عن طلاب العلم والعلماء الحقيقيين المعروفين بالرسوخ في العلم، والاجتهاد في الدعوة، والتمرس في تربية الأجيال، والذين ربما لا يعيبهم إلا كونهم ليسوا على نفس درجة فلان الشاب الصغير في الأداء. وتأمل كلمة (الأداء) في حد ذاتها لتلمح فيها قدراً من السخافة لا يطاق.
- وأمر أخير هو حال هذه المساجد الموسمية التي تشتعل نشاطاً في الليل وحسب، حينما يؤمها المصلون، ثم تعود إلى النوم بقية اليوم ثم بقية العام، نوماً لا قيام منه إلا رمضان العام التالي، وتأمل في المقابل حال هذه المساجد التي تجتهد طوال العام في البذر والزرع وما أن يأتي رمضان حتى ينفض الزارعون والحاصدون عنها، وتبقى ثمارها ذابلة على أشجارها في حاجة إلى من يمد إليها يده ليقطفها وقد ذبلت – فقط - ليلقيها في البحر وليزيحها من طريق من يريد الزراعة من جديد، لتعود الدورة مرة أخرى بذر ورعاية ثم حصاد ثم إلى بحر يزداد كل يوم ليلتهم مجهودات الزارعين.
فهل تمد يدك مع إخوانك هذا العام، أم يبقى السؤال حائراً ... أين ستصلي هذا العام؟؟... لك الخيار.
والحمد لله رب العالمين.