يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير قوله تعالى :
{إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم ومن اتبعه فإنه جعل كل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
. فإن قيل: فقد قال تعالى:
{ولكن من شرح بالكفر صدرا}
قيل: وهذا موافق لأولها
فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدرا وإلا ناقض أول الآية آخرها
ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره وذلك يكون بلا إكراه لم يستثن المكره فقط
بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره
وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعا فقد شرح بها صدرا وهي كفر
وقد دل على ذلك قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون} {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين}.
فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له بل كنا نخوض ونلعب وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام.))
*****
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وأيضا فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يُستثن منه المكره، لأن الإكراه على ذلك ممتنع فعُلم أن التكلم بالكفر كفر إلا في حال الإكراه. وقوله تعالى (ولكن من شرح بالكفر صدرا)، أي لاستحبابه الدنيا على الآخرة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، ويمسي مؤمنا ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا"، والآية نزلت في عمار بن ياسر وبلال بن رباح وأمثالهما من المؤمنين المستضعفين لما أكرههم المشركون على سب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من كلمات الكفر، فمنهم من أجاب بلسانه كعمار، ومنهم من صبر على المحنة كبلال، ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه بل أكرهوا على التكلم، فمن تكلم بدون الإكراه، لم يتكلم إلا وصدره منشرح به" اهـ[الفتاوى 7/ 5].
*****
قال ابن حزم رحمه الله في الفصل في الملل والأهواء والنحل:
"ولما قال تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً)،
خرج من ثبت إكراهه عن أن يكون بإظهار الكفر كافراً إلى رخصة الله تعالى والثبات على الإيمان، وبقي من أظهر الكفر لا قارئاً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وبنص القرآن على من قال كلمة الكفر إنه كافر، وليس قول الله عز وجل (ولكن من شرح بالكفر صدرا) على من ظنوه من اعتقاد الكفر فقط، بل كل من نطق بالكلام الذي يُحكم لقائله عند أهل الإسلام بحكم الكفر لا قارئاً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً فقد شرح بالكفر صدراً، بمعنى أنه شرح صدره لقبول الكفر المحرم على أهل الإسلام وعلى أهل الكفر أن يقولوه وسواء اعتقدوه أو لم يعتقدوه، لأن هذا العمل من إعلان الكفر على غير الوجوه المباحة في إيراده وهو شرح الصدر به" اهـ.
****
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الل
: "قوله تعالى (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) إلى قوله (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، بشرط طمأنينة قلبه، والإكراه لا يكون على العقيدة، بل على القول والفعل، فقد صرح بأن من قال الكفر أو فعله فقد كفر إلا المكره، بالشرط المذكور، وذلك أن ذلك بسبب إيثار الدنيا لا بسبب العقيدة" اهـ[تاريخ ابن غنام ص344].
وقال أيضا في كشف الشبهات:
"قوله تعالى (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فلم يعذر من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنا بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره" اهـ.- قال الله تعالى (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) [التوبة:74].
***************
قال الشيخ حمد بن علي بن عتيق: ردا على أحد المخالفين:
(وأما خروجه عما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة وما عليه الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم، فقوله: (فمن شرح بالكفر صدرا أي فتحه ووسعه وارتد عن الدين وطابت نفسه بالكفر، فذلك الذي ندين الله بتكفيره). هذه عبارته،
وصريحها أن من قال الكفر أو فعله، لا يكون كافرا، وأنه لا يكفر إلا من فتح صدره للكفر ووسعه، وهذا معارضة لصريح المعقول وصحيح المنقول، وسلوك سبيل غير سبيل المؤمنين؛ فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة قد اتفقت على أن من قال الكفر أو فعله كفر، ولا يشترط في ذلك انشراح الصدر بالكفر، ولا يستثنى من ذلك إلا المكره. وأما من شرح بالكفر صدرا، أي فتحه ووسعه وطابت نفسه به ورضي، فهذا كافر عدو لله ولرسوله وإن لم يتلفظ بذلك بلسانه ولا فعله بجوارحه، هذا هو المعلوم بدلالة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ونبين ذلك بوجوه ... ) (الدفاع عن أهل السنة والاتباع)