السحلية العوراء
.. حتى الأمس القريب كانت مونيا آمنة مطمئنة ترتع في حمى الدوحة العتيدة.. تتغذى على رطيبها.. تتنسم أريج هوائها وتستطيب دفء رمالها.. تنعشها بوارف ظلالها وتغذيها من عصارة جذورها رحيق الأصول وسائغ القيم..
وعلى حين غرة ركبتها النعرة إذ عادها شبحان مرسوم على ناصيتيهما الغل والجشع.. وكلاهما جار بالجنب للدوحة؛ واحد مقنع ببزة عسكرية مصبوغة بالأحمر، ومن نياشينها الذهبية تفوح رائحة النفط. نظرت إليهما وقد تورد وجهها بهجة وحياء.. أسكرها بريق الذهب ودب في أوصالها مخدر النفط.. ظن العسكري الحالم أنه سيبسط عن طريق السحلية سلطانه، ويفتح له في جدع الدوحة نافذة تطل على مياه المحيط الندية.. والآخر دب السقم في أوصال بدنه بعد عافية ورفاه.. كان ذا عينين خضراوين ترقص على صفحتيهما أحلام تمج من وقاحة الهيمنة ورعونة التسلط.. خاف أن يضيع منه فرع من الدوحة استأصله أسلافه فيما مضى كرها وجورا، فبات منذرا بالويل والثبور.. وتوسم في سم السحلية ترياقا مهدئا لضرس يثور.. انتصب الشبحان مومئين إلى فرع آخر من فروع الدوحة محملا عن آخره بوافر التمار. برز عل حافة شفاههم ريق كنتف الثلج.. جحظت العيون وكادت تخترق المحاجر.. وثملت منتشية بعبير النفط وزرقة العيون..الكل يهمس نافثا من لسانه السحر.. أينك يا أميناتنا ومنيتنا!.. مدي يديك نسلك بك إلى ربى شاهقة تسابقين من خلالها النجوم.. لوذي إلى معتكفك الوثير، وفجري ما أوتيت من مواهب تتيح لك السكن في دار خير من دارك !.. خير من داري؟.. وأهل خير من أهلك ! .. خير من أهلي؟ وتأجج في رأس السحلية لهيب السعار وداء الجنون.. وطفت الغشاوة على عينيها وداهمها العور..كانت ممثلة بارعة شخصت عن جدارة ـ على خشبة الدس ـ مبادئ عقوق الإنسان في أبهى تجلياتها.. سقطت مغشيا عليها من فرط انصهارها في دورها البليد.. صفق كبار القوم غيرة على رائدة عقوق الإنسان!!.. واصلوا الفرجة العبثية.. انتفضوا عن بكرة أبيهم يطلبون الغوث.. أطلقوا العنان للعقيرة تنتحب وتصيح.. يا للعقوق المهضومة!.. تحرك أيها الضمير!.. وانطلت المسرحية على الساسة الجدد ومرضى القلوب...
وبعد عنت ومشقة استجابت الدوحة لنداء الضمير!! قبلت بأن تسمح بنقل سحلية الزمان ورائدة عقوق الإنسان، وإعادتها إلى أحضان الدوحة الأم.. استغربت فروع الدوحة وأفنانها وأوراقها من مرأى السحلية العوراء تحط بين ظهرانيهم على أنغام النقيق والنعيق.. علقت في مكان بجدع الدوحة منفردة كشاة جرباء ومظهرها يثير التقزز والغثيان.. ومن يقترب من جحرها يختنق من رائحة العقوق تفوح من تلابيبها فيولي ظهره هاربا..

(رياح السموم)
محمد غالمي
01/01/2010