- يوسف ولقاء إخوته ( الآيات 58-93)
· المشهد الأول : ( 58-68) :
وينتقل المشهد الآن إلى يوسف مع إخوته ومجيئهم إليه لما أصابهم القحط فدخلوا على يوسف الذى صار الآن حاكماً على خزائن مصر ومشرفاً على شئونها وحفظها وتوزيع الحصص والميرة بنفسه فقد كانت مصر بحسن تدبير يوسف مركز ومخزن للغذاء للمنطقة كلها .
(وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ* وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ* فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ)
أراد يوسف أن يزيد من شحنة الترغيب وقوته فيهم لما يعلمه من شدة تعلق الشيخ الكبير بالإبن الصغير وأن يجعل بين أيديهم حجة مؤثرة على أبيهم ودليلاً ملموساً على صدق قولهم لذا( وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ...وكان جواب أبيهم حاضراً وفوريا ًإذ ما جرى منهم فى أمر يوسف من قبل لا ينسى وألمه لا يخف والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين فرد عليهم باستفهام إنكارى تقريعى( قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَحِمِينَ) .
فالله خيرحافظاً وهوأرحم الراحمين :
حقيقة إيمانية قرآنية راسخة يجب على كل مؤمن أن يغرسها فى قلبه ويجعلها نصب عينيه فى كل أمر وشأن .

(وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ* قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) وبعد أن رضخ الأبناء لشروط أبيهم وآتوه موثقاً من الله على ذلك ألقى عليهم الأب خلاصة حكمته وخبرته ناصحاً ومعلماً ومرشداً وموجهاً (وَقَالَ يبَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُو نَ* وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)

وهنا يعطينا يعقوب عليه السلام درساً تعليمياً تربوياً تطبيقياً بحقيقة التوكل الحق وهى القيام باتخاذ الأسباب السليمة اللازمة مع الإعتقاد الجازم بأن الفاعلية المطلقة هى لله وحده بهذا السبب أوذاك أوبلا سبب البتة (كن فيكون) .
وقصة نبى الله نوح عليه السلام ببناء الفلك سبباً والركون إلى الله الرحمن الرحيم فاعلاً فى السبب ومنجياً من الغرق خير دليل على ذلك ... وابن نوح اتخذ الأسباب (الجبل ) واعتمد عليها وحدها ولم يعتمد على الله ولم يؤمن به ... فنجى نوح ومن معه وأغرق ابن نوح وجميع من على الأرض ممن اتخذ الأسباب ولم يعتمد على الله ... ورحلة هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام شاهد تطبيقى عملى ودليل وأسوة حسنة على ذلك .

· المشهد الثانى : ( 69 - 87) :
هذا هوالمشهد الثانى فى دخول اخوة يوسف عليه و يتميز بدخول بنيامين (شقيق يوسف) معهم فى هذه المرة وباستجابتهم لطلب يوسف لهم بإحضارأخيهم ليضموه إليه كخطوة أولى فى طريق الإتيان بهم وبأهلهم جميعاً .

وفى هذا المشهد ضم يوسف إليه أخاه وصرح له بسره وأمره ... وقام بحيلة لكى يأخذ أخيه إليه ودون أن يشعرهم بأنه يوسف كما أنه لا يريد أن يأخذه قسراً وظلماً لذا(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ* قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ* قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ* قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ* قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ* قَالُواْ جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ* فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِم ْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) .

إن مشيئة الله قاهرة حاكمة فوق جميع عباده ... فمشيئته فاعلة بكمالات جميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا .... فهى ليست مشيئة عبثية فوضوية حاشا لله سبحانه وتعالى وهكذا فإن مشيئة الله هى التى حكمت وأمرت يوسف لا مشيئة يوسف وما كان على يوسف إلا السمع والطاعة .
أذهلت المفاجأة إخوة يوسف وأدهشتهم و(قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ) .
وهكذا فضحتهم المفاجأة وأخرجت حقدهم الدفين تجاه يوسف ... ودل هذا على أن السنين الطويلة لم تنسيهم كرههم ليوسف مع أنهم نجحوا فى كيدهم الدفين تجاهه بإلقائه فى الجب وإبعاده عن أبيه فبدل أن يستغربوا ويستفهموا ويحاولوا الدفاع عن أخيهم ويبحثوا عن وسيلة لرد التهمة وإثبات البراءة زادوا الطين بلة وأكدوا وأثبتوا التهمة وكأن هذه البطن لا تلد إلا لصوصاً على عكس ما وصفوا به أنفسهم من قبل عندما قالوا ( وما كنا سارقين) ولكن يوسف قابل فريتهم حلماً وكتم حقه صبراً وقوة إيمانية فى كظم غيظه(والكاظمين الغيظ والعافين عن النَّاس واللّه يُحبُّ المحسنين )(آل عمران 134) .

وبعد أن أفاقوا من دهشتهم وذهبت السكرة وجاءت الفكرة ... بادروا من محاولة الخروج من هذه الورطة فسألوا العزيز مستعطفين أن يأخذ أحدهم مكانه بدلاً منه ولكن يوسف رد طلبهم بأدب وحزم وعن علم وحكمة مؤكداً حقيقة إيمانية خالدة وتشريفاً رباناً حكيماً فلا يؤخذ المرء بجريرة غيره ولا يؤخذ الكل بجريرة البعض (ولا تزروازرة وزر أخرى) لقد كان رد يوسف بحق قاطعاً حاسماً آيسهم من أن يظفروا منه بطائل لذا انفردوا بأنفسهم يتشاورون فيما بينهم فيما حصل وفيما هم فاعلون ( وقَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين َارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ* وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُون) .
ونلاحظ هاهنا ولأول مرة ورود اسم الله صفة وحكماً وخيرية وطاعة جهراً على لسان أحدهم وإنصاتاً فى آذان بقيتهم ...وبداية تحول جذرى فى نفوسهم آتى بعد مواقف إحسان يوسف المتكررة لهم فكأن كلامه صادف قلباً نائماً فأيقظه ...وكشفت عن أعينهم أقنعة الزيف التى حجبت بصيرتهم وعرت سوءات النفوس التى سولت لهم سوء أعمالهم .
لقد كان أخوة يوسف مثلاً لمن ساء سلوكهم وعملهم حسداً وظلماً وعدواناً وسلمت عقيدتهم الإيمانية فلما ُذكرت بالله تذكرت ولو بعد حين ... ولما جاءتهم الدروس تعلموا منها واتعظوا بها ولوبعد سنين والشيطان عدوالإنسان المبين يأتيه من كل باب وطريق... من باب العقيدة والفكر ليكفر ويشرك أومن باب السلوك والعمل ليسئ ويفسد وقد يكون المهلك فى الأولى إن لم يؤمن ... وقد يكون المهلك فى الثانية إن لم يتب فالأبواب مفتوحة بعضها على بعض ... فالكفر يؤدى إلى المعصية والمعصية قد تؤدى إلى الكفر ... وليس المهم أى باب فتح فى الأول ومن أي باب الشيطان ولج ولكن المهم إلي أي مدي وصل وإلي أي منتهي آل ؟ ...أولم تكن خطيئة إبليس سوأة نفس في البداية حسد لآدم وتكبرا أدي به إلي المعصية ومن ثم إلي العناد والإصرار ومن ثم إلي الكفران.

رجع الإخوة إلي أبيهم وأخبروه بما حدث ف( قال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌجَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) .
لقد كرريعقوب نفس الكلمات التي قالها لهم في فقد يوسف واضعاً النقاط علي الحروف ليقفهم علي حقيقتهم ويكشف لهم سوأة أنفسهم فيتعظوا ويتذكروا ويرشدوا ومؤكداً مشاعر اللوعة والأسي في نفسه ومؤسساً قواعد الإيمان والتسليم الحق في قلبه وسلوكه.
فلم يعد أمامه إلا الصبر الجميل الذي لا يصدر إلا عن نفس مؤمنة بالله ربا ًمستسلمة راضية متوجهة إليه مطمئنة بخيريته ...فأمرها من الله وبالله وإلي الله وهذا إمام الصابرين النبي عليه الصلاة والسلام يقول عند موت ابنه إبراهيم (إن العين لتدمع وإن القلب ليجزع ولا نقول إلا مايرضي ربنا وإنا علي فراقك ياإبراهيم لمحزونون) .
وهنا تذكر يعقوب فراق يوسف(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يا أَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)....ولما اعترض أبنائه عليه في توجعه علي مصابه في أبنائه وتذكره ليوسف (قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
لقد أخلص العبد المؤمن توجهه إلي الله حتي وهوفي قمة مصابه وأحزانه وفي الشدائد يضعف الكثيرون فأخلص الله إليه علما خصه به وأخلصه في الدارين (بخالصة ذكري الدار) وأخلصه عنده (وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَار)(ص47) .
ثم طلب منهم البحث والتحري عن يوسف وأخيه ونهاهم عن اليأس والقنوط من رحمة الله ف(إِنَّهُ لاَ ييأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)
إن رحمة الله وخيره مرسلة كنسيم الريح تلامس كل بشرة وتمر علي كل أنف لاتنتهي ولاتتوقف ولاتنقطع ولكن العيب في الإنسان الذي يغلق الباب دونها ويأبي التعرض لنفحاتها
العيب في الأنف المزكوم الذي لايتنفس ولايشم ولايتذوق ...العيب في الوقر علي الآذان الصم والأكنة علي القلوب العمي ...إن الكافرين هم وحدهم الآيسون من رحمة الله إذ جعلوا بكفرهم بنعمه وآياته بينهم وبينه حجاباً مستوراً ...فكيف يرجوا أحد من أحد خيراً وهو ينكر وجوده أوفضله أصلاً ؟

· المشهد الثالث : ( 88- 93) :
هذا هو الدخول الثالث للأخوة على يوسف وامتاز بأمرعظيم وهو زوال الغشاوة التى كانت على البصيرة وقيام الإخوة بمبادئ التوبة وأفعال الأوبة إلى الله .
(فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِي نَ) .
وهكذا انقلب حال الإخوة ... فمن بعد الكيد والإفتراء ينادون الآن باللهفة والرجاء والأدب والإنكسار والضعف والإفتقار ويسألون الوفاء وفوقه التصدق والإحسان فسبحان مقلب القلوب والأبصار... وشتان شتان بين بضاعتهم المزجاة وبضاعته فى الوفاء والصدق والإحسان .
لقد كادوا له وهو طفل أخ قريب ... والآن يتوددون منه وهوالعزيز المهيب .
لقد مدوا أيديهم عليه فألقوه فى الجب ... والآن يمدون أيديهم إليه يسألونه ويلحون فى الطلب .
لقد كانت هذه هى الساعة التى انتظرها يوسف طويلاً والتى ترقبها وسعى إليها باللهفة والرجاء والدعاء .
لم تكن ساعة التشفى والإنتقام والتكبروالإستعل اء ... أوعلى الأقل العدل والقصاص
بل كانت ساعة الإنتصار على النفس والشيطان ... ساعة الحب والكرم والإحسان ... ساعة فيض العقيدة الإيمانية وبسط سلطانها على المسالك السلوكية ... ساعة انتصار الإنسان على الهوى والشيطان .
لقد كان خطابهم للعزيز فاتحة الخير والخطوة السليمة فى الإتجاه الصحيح فما كان من يوسف وقد رأى هذا فى القلوب والوجوه إلا أن ُيبدى لهم ما أخفاه ويظهر لهم ما كان يتوق إلى إظهاره ويكشف لهم حقيقة أمره ف (قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ* قَالُواْ أَءِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) .
فى هذا الموقف العظيم – موقف الفصل والحساب والجزاء – لا يذكر يوسف فيه إلا الله ونعمه وألاءه وأمره وحكمه وكرمه وإحسانه ... وأسقط حظ نفسه وتجاوز عن حقه .
هذا هو نبى الله يوسف وهذه هى صورة من الصلة الصادقة بالله والإخلاد إليه ومن الإجتباء والإصطفاء والإحسان ومن الهدى المقتدىُ( فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه)(الأنعام 90) .

وفى هذه اللحظة رأى الأخوة الحق فأقروا به صادقين صاغرين ولو كان فى غريمهم ورأوا الباطل باطلاً فأقروا به نادمين تائبين ولو فى أنفسهم و( قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) .
إن معرفة الأمرعلى حقيقته والإعتراف به وترك العناد والإصرار على الباطل وتجريده من كل مؤثر يخرجه عن حقيقته هى أول وأهم خطوات التوبة الصادقة على عكس من زين له سوء عمله فرآه حسناً ومن هم على الباطل ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ...وعلى عكس من أصر وعاند واستكبر وسوغ كالشيطان قال( أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)(الأعراف 12) .
وهنا تتجلى عظمة يوسف عليه السلام ... فلا ملامة ولا توبيخ ولاعتاب (قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَأَرْحَمُ الرَاحِمِينَ) .
يا سبحان الله ؟ ... أين الحقد والتشفى ؟ أين الإنتقام ولو بعدل القصاص ؟ أين ذكر ما كان وفضح العيوب وكشف الأستار ؟
إن هذا الموقف يذكرنا بموقف النبى عليه الصلاة والسلام فى فتح مكة حين قال لأهلها (ما تظنون أنى فاعل بكم؟) قالوا : خيرا ... أخ كريم وابن أخ كريم ... قال وأنا أقول كما قال أخى يوسف (لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
وهكذا ينتهى فى هذا المشهد ظلم الأخوة ليوسف وأخيه بخاتمة الحسنى وتعود المياه إلى مجاريها وتصفو النفوس ويتآخى الأخوة بإخوة الإيمان الحقة الصادقة .
ثم قال يوسف لإخوته (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) .
فكما ألقيتمونى فى الجب فأحزنتم أبى وأشرف على الهلاك ... ألقوه على وجهه فيرتد بصيراً
وبالقميص ... قميص يوسف ستنتهى تلك الرحلة الطويلة من المعاناة فقميصي الذى كان شاهداً عليكم بالمعصية عسى أن يكون شاهداً عليكم بالصلاح والمغفرة .
وهكذا انتهى آخر حوار بين يوسف وإخوته فى هذه القصة الكريمة .


7.من الرؤيا إلى الحقيقة ( الآيات94-101)
وتحركت من مصر قافلة البشير تحمل قميص يوسف ... فقال يعقوب وهو جالس بين بعض أبنائه (إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ* قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ* فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* قَالُواْ يا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ* قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
وهكذا يجب على المذنب أن يبادر فور تذكره وندمه بالتوجه القلبى المباشر إلى ربه منيباً إليه تائباً مستغفراً ... ولا يؤخر ذلك بحال من الأحوال ... كى يطهر قلبه فيحصنه من نزغ الشيطان ومن وسوسة النفس ومن تراكم الذنوب وتثاقل الران عليه ... وهو أيضاً لا يدرى متى يحين الأجل .

ثم تنتقل الآيات للمشهد الأخير فى القصة وهو مشهد دخول آل يعقوب جميعاً على يوسف فى مصر وفيها تاويل الرؤيا الصادقة نظرياً فى أول القصة تأويلاً عملياً واقعاًً حقاً (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ يا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
وهنا التفت يوسف إلى أبيه مذكراً إياه ونفسه برؤياه الأولى التى تحققت الآن على أرض الواقع معدداً إحسان ربه تعالى عليه (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ) .
وفى ذكر هاتين النعمتين مقابلة لطيفة ... فبالإضافة إلى أهميتهما ... فقد كان السبب المباشر فى تحقيق الرؤيا فخروجه من السجن ومن ثم إلى منصب عزيز مصرمهد وقدم لمجيئهم من البدو ومن ثم إلى السجود له فلو تخلفت واحدة ما كانت الثانية ولا الخاتمة .
ونلاحظ أن يوسف لم يذكر نعمة إنقاذه من الجب لطفاً وأدباً مع أبيه وإخوته فلا يؤذيه فى أبنائه بتلك الذكرى الأليمة القاسية عليهم جميعاً ... خاصة بعد أن غفر لهم وصلح حالهم .
كما أنه أرجع السوء إلى الشيطان أصل كل شرورأس كل فساد (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) .
وكأنى بيوسف وهو يلتفت إلى أبيه ويقول له : يا أبت عندما قصصت لك رؤياى من قبل قلت لى (يا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِين)
وكأنك كنت تقرأ فى كتاب الحق بعينى العلم والحكمة ... فجعلت وصيتك نصب عينى هادياً ومع ذلك وجد الشيطان فى لحظة ضعف سبيلاً إلى النزغ بيننا ... لكنه بلطف من الله ورحمة منه وهدى وعون حفظنى منه ووفقنى إلى أن أنصر إخوتى عليه فلم أقع فى مصيدة نصرالشيطان على إخوتى .

ثم يعقب يوسف على قصته بتقرير جوهرالحقيقة وهى أن مشيئة الله كانت هى الفاعلة وبجميع صفات الرب الحسنى من لطف وعلم وحكمة (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)
فالله تعالى مصدرالخير كله ومولى النعم ... يفعل ما يشاء من خير برفق ورقة خافية غامرة محيطة فليحذر العبد أن يظن أن مشيئة ربه من شدة لطفها أمراً غير كائن فييأس ف(إِنَّهُ لاَ ييأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) ... بل عليه أن يحسن الظن بربه فإنه من اتقاه (يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ)(الطلاق 2-3) .
وهكذا يلخص يوسف ما كان من أمرهم ويرجع الفضل بكل الصدق والأدب كعادته فى كل أمره إلى المولى الكريم ذى الفضل والإحسان ... إلى مشيئة الله العليم الحكيم الفاعلة بلطف وحكمة لا ينتبه لهما الناس غالباً إلا عند ظهورالنتائج وتأويل الأحداث وتحقيق الآمال.

ثم التفت يوسف إلى ربه (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَـوَاتِ وَالأرضِ أَنتَ وَلِيِّ فِي الدُّنُيَا وَالآخرةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) .
وبهذه المناجاة الرقيقة وهذا الإبتهال الصادق والدعاء المتضرع الذى يشيع فيه عمق المحبة وقوة الصلة وسلامة القلب وإخلاص النية وأحادية التوجه يختم يوسف إحساناته بمخ العبادة وثمرة العمل ... فبعد سلسلة متلاحقة من إحسان العمل لخصتها الآية السابقة حق ليوسف الآن أن يختمها بإحسانه فى الدعاء مقدماً بين يديه الثناء على المنعم بما هوأهله ... وذكرآلائه وأفضاله الخاصة والعامة على الكون كله بسماواته وأرضه ... ومولياً أمره كله إليه فى دنياه وفى آخرته وسائلاً إياه حسن الخاتمة كما أحسن المقدمة .
وبهذا الإبتهال والتعقيب والدعاء بحسن الختام يختم المولى عز وجل قصة نبيه الصديق عليه السلام فى هذه السورة .
الخاتمة
لقد انتهت القصة وتأكد السامع من حسن بيانها وصدق حديثها وعظيم معانيها وماذا بعد ؟ أوتنتهى القصة عند هذا الحد ؟ وأين تأثيرها على السامعين ؟
لقد قص الله قصص رسله كأمثلة حية واقعية وكنماذج عملية مجربة لأصول الدين ومبادئ الإيمان .
· أين نحن من عبر قصصهم تلك ؟ ... فى جهادهم لتبليغ الدعوة وصبرهم واستقامتهم وثباتهم ويقينهم بحسن العاقبة حتى وإن بلغت بهم المشقة والمعاناة أقصى درجات التحمل ؟
· أين نحن من عبر مضامين تلك القصص فى تحقيق أصول الدين الرئيسية بتوحيد الله ونفى كل شرك وأن الحكم لله وحده (تشريعاً وقضاءً وحكماً) فى الفرد والأسرة والمجتمع .
· أين نحن من عبر مضامين تلك القصص فى تحقيق أخلاقها السلوكية الفاضلة بالتجرد من الفواحش ما ظهرمنها وما بطن ؟... هلا اعتبرنا بيوسف وكيف أثمر صبره عن الفاحشة والهوى وعلى كيد الأخوة والنسوة عزاً وتمكيناً فى الأرض ولأجر الآخرة أكبر ... فتخلينا عن الزنا والربا والظلم والغش والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل ؟
· أين نحن من صدق يوسف وعفافه وحلمه رغم الجهل عليه وإكرامه لمن أساء إليه أين نحن من تسليم يوسف أمره لله والتجائه له والإستعانة به وحسن الظن به وصدق التوكل عليه ... وأين نحن من يعقوب عليه السلام فى قمة توكله وتسليم أمره لله دون الإصابة بالإحباط واليأس والقنوط ؟ ... كيف يقنط المؤمن وهو يؤمن أنه موصول بالله وبروح منه ومن اتصل بروح الله فهو الحى غيرالميت ... السعيد غيرالشقى ؟ ... كيف يقنط المؤمن وهويعلم أن الأمربيد الله وحده يقلبه كيف يشاء بواسع علمه وحكمته ورحمته ؟
· هلا اعتبرنا بما كان من إخوة يوسف عندما اتبعوا الهوى الفاسد (العصبية والحسد والأنانية) فوجد فيهم الشيطان مركباً حملهم عليه ليحتنكهم وينزغ بينهم .
إن التكبر والحسد وكبائر باطن الإثم النفسى المتبع هى شرك الهوى المؤله من دون الله فمن رضى بها وأصرعليها فقد ظلم وغوى وأضل وهوى وقائده وقدوته هوإبليس اللعين
ومن ُذكر فتذكر وتاب واستغفر (كإخوة يوسف) فقد نجا وأفلح ... ومن جاهد النفس والهوى ولم يخلع لباس التقوى وأخلص لله السر والعلن (كيوسف) فذلك هوالمخلص التقى الصابر الشاكر السابق .

تم بحمد الله وفضله