ماذا لو كنّا نتشابه تماماً في رسم ملامحنا و هيئتنا ؟ و ماذا لو كنّا لا نعرف إلا لوناً واحداً ، فثيابنا جميعاً ذات لونٍ واحدٍ و شكلٍ واحدٍ ؟ و ماذا لو كنّا نفهم و نفكر بنمطٍ واحدٍ .. نتوافق دائماً في كل شيء .. دوافعنا و سلوكنا رغباتنا و تطلعاتنا واحدة .. نميل إلى ذات الأشياء ، و نعدل عن ذاتها ؟ لأول وهلة قد يظن بعضنا أن في الأمر إيجابية .. و لكن ماذا لو أكملنا هذه العملية الذهنية و لكن بخطوة من بُعدٍ آخر .. ؟ فماذا لو كان الطريق إلى بلوغ الجامعة الوحيدة في مدينة ما واحداً ، فلا طرق أخرى مشروعة معتبرة نظامية غيره ، بل قد يتعرض سالك هذه الطرق إلى الغرامة و العقوبة ؟!
و بخطوة أعمق نقف لننهي هذه السلسلة من التساؤلات قائلين : ماذا لو كان الليل سرمداً ، أو النهار سرمداً ؟!
في رواية عن ابن عباس و عن مرّة عن ابن مسعود و عن بعض الصحابة رضي الله عنهم : ( أن الله أسكن آدم الجنة ، فكان يمشي وحشى ليس له فيها زوج يسكن إليها ، فنام نومة فاستيقظ و عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ... )1، فكان الذكر و الأنثى .. و كان الرباط الوثيق ، ثم كان بنو آدم الأبيض و الأسود ، السهل و الحزن ، الطيب و الخبيث ، السعيد و الشقي ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، فجاء منهم الأبيض و الأحمر و الأسود و بين ذلك ، و السهل و الحزن و بين ذلك ، و الخبيث و الطيب و بين ذلك"2
قرص الشمس بحرارته و دفئه و توهجه يقابله شاعرية القمر و رقته .. و كلاهما نوران ، و الليل بهدوئه يعقبه النهار بضجيجه ، و الأرض في سفلها تقابلها السماء في علوها " إنّ في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآياتٍ لأولي الألباب "3 ، نحن في الشتاء نبحث عن الدفء و لو كان في فنجان قهوة ، و ننشد كأساً من صقيعٍ في لفح حرارة الصيف ...
حتى قرآننا الكريم مثاني .. فإذا ذكر المولى سبحانه عذاب أهل النار ثنى بذكر نعيم أهل الجنة _ نسأل الله أن نكون منهم _ و إذا وصف العذاب ذكر الثواب ، ذلك ليعيش قلب المؤمن بين الخوف و الرجاء ، الخوف من غضبه سبحانه و عقابه ، و الرجاء في رضوانه و مغفرته ، و كلاهما لقلب العبد كجناحي طائر ..
الحق أبلج و الباطل لجلج ، الإيمان نجاة و الكفر هلاك ، العلم نور و الجهل ظلام ، الخير سعادة و الشر تعاسة ، الماء حياة و الجدب موت ، الخُضرة نعمة و القحط نقمة ، البُكُور بركة و الأفول عنه ممحقة ، العمل رفعة و البطالة ذلة ، الإيثار كرمٌ و الأنانية بخلٌ ، العفو راحة و الحقد عذاب ، الصبر قوة و الجزع ضعف ، التسامح جُنّة و الغضب شرارة ، العقل حكمة و رزانة و الخِفة حمقٌ و سفاهةٌ .. و بضدها تتمايز الأشياء !
بل للتضاد جمالياتٌ أحياناً ! فهذه لغتنا العربية تمتاز في علم البديع _ و هو أحد علوم البلاغة العربية _ و الذي يُعنى بشكلٍ أخص بجماليات مفرداتها بما يسمى " فن الطباق ، و كذلك فن المقابلة " و هما يعتمدان في الأساس على التضاد في معاني المفردات .. ، بل إن حروف العربية تمتاز في مخارجها بصفات للأصوات متضادة .. فهذا حرف جهر و ذلك حرف همس ، و ذا حرف شدة و ذاك حرف رخاوة .. و هكذا .
كلمة أخيرة .. إنّ هذا التضاد و التنوع و الاختلاف في ألسن الناس و ألوانهم ، في مشاربهم و مذاهبهم بل حتى في بصمة إبهامهم ، في مخلوقات الله سبحانه و تعالى حتى لتجد أن ثمرة في شجرةٍ ما قد تختلف في طعمها و لونها أحياناً ، أو شكلها عن ثمرةٍ في شجرةٍ أخرى مجاورة لها من نفس النوع ، رغم أن الماء مشترك و الأرض نفسها و الشمس عينها .. فسبحان الباري ما أعظم قدرته !
إنما هو سنة الله في كونه !! و حكمته في خلقه .. علمها من علمها و جهلها من جهلها ..
تذكر يرعاك الله أن : الحق واحد .. فالله واحد .. و الدين واحد .. و خاتم الأنبياء واحد .. و قرآننا واحد ..
و عقيدتنا أصل و الأصل ثابت لا يتغير ، و الضلالة أجناسٌ و أشكالٌ ، مللٌ و ألوان و أنواع .. فكن ذا عقلٍ حصيف ..
قال تعالى : " و أنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " 4.
ـــــــــــــــ ـــــــ
1 _ قصص الأنبياء ، لابن كثير ، ص : 20
2 _ رواه أبو داود و الترمذي و ابن حبان في صحيحه . ( وقال عنه الترمذي : حسن صحيح ) .
3 _ [ آل عمران : 190]
4 _ [الأنعام : 195].
بقلم : إيمان الغامدي .