أضرار الشرب قائماً طبياً ونبوياً

الحمد لله والصلاة على رسول الله وبعد لقد وردت أحاديث تنهى المسلم وتزجره عن الشرب قائماً، وأخرى تبين شربه صلى الله عليه وسلم، وثلاثة من خلفائه الراشدين، وبعض الأصحاب وهم قيام.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبيصلىالله عليه و سلمزجر عنالشرب قائماً رواهمسلم .
و عنأنس وقتادة رضي الله عنه عنالنبي صلى الله عليه و سلم " أنه نهى أن يشربالرجل قائماً " ، قال
قتادة : فقلنافالأكل فقال : ذاك أشر و أخبث "رواه مسلم والترمذي

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنالنبي صلى الله عليهو سلم قال :
لا يشربن أحدكم قائماً فمن نسيفليستقي " رواه مسلم .

و عن أنس بن مالك رضي الله عنهقال :"
نهىرسول الله صلى الله عليه و سلم عنالشرب قائماً وعن الأكل قائماً و عن المجثمة و الجلالة و الشرب من فيّالسقاء ".

الإعجاز الطبي :

يقول الدكتورعبد الرزاق الكيلاني * أن الشرب و تناول الطعام جالساً أصح و أسلم وأهنأ و أمرأ حيث يجري ما يتناول الآكل والشارب على جدران المعدة بتؤدة و لطف . أماالشرب واقفاً فيؤدي إلى تساقط السائل بعنف إلى قعر المعدة و يصدمها صدماً ،
و إن تكرار هذه العملية يؤدي مع طول الزمن إلىاسترخاءالمعدة و هبوطها و ما يلي ذلك من عسرهضم .
و إنماشربالنبي واقفاً لسبب اضطراري منعه من الجلوس مثلالزحام المعهود في المشاعر المقدسة ، و ليس على سبيل العادة والدوام .

كما أن الأكل ماشياً ليس من الصحة في شيءو ما عرف عند العرب و المسلمين .


و يرىالدكتور إبراهيم الراوي **
أن الإنسان فيحالة الوقوفيكون متوتراً و يكون جهاز التوازن في مراكزه العصبية في حالة فعالةشديدة حتى يتمكن من السيطرة على جميع عضلات الجسم لتقوم بعملية التوازن و الوقوفمنتصباً. و هي عملية دقيقة يشترك فيها الجهاز العصبي العضلي في آن واحد مما يجعلالإنسان غير قادر للحصول على الطمأنينة العضوية التي تعتبر من أهم الشروط الموجودةعند الطعام و الشراب ، هذه الطمأنينة يحصل عليها الإنسان في حالة الجلوس حيث تكونالجملة العصبية و العضلية في حالة من الهدوء و الاسترخاء و حيث تنشط الأحاسيس وتزداد قابلية الجهاز الهضمي لتقبل الطعام و الشراب و تمثله بشكلصحيح .

ويؤكد د. الراوي أن الطعام و الشراب قد يؤدي تناولهفي حالة الوقوف ( القيام) إلى إحداث انعكاسات عصبية شديدة تقوم بها نهايات العصبالمبهم المنتشرة في بطانة المعدة ، و إن هذه الإنعكاسات إذا حصلت بشكل شديد ومفاجىء فقد تؤدي إلى انطلاق شرارة النهي العصبي الخطيرة Vagal Inhibation لتوجيهضربتها القاضية للقلب ، فيتوقف محدثاً الإغماء أو الموت المفاجىء .

كما أن الإستمرار على عادةالأكلو الشرب واقفاً تعتبر خطيرة على سلامة جدرانالمعدة و إمكانية حدوث تقرحات فيها حيث يلاحظ الأطباء الشعاعيون أن قرحات المعدةتكثر في المناطق التي تكون عرضة لصدمات اللقم الطعامية و جرعات الأشربة بنسبة تبلغ 95% من حالات الإصابة بالقرحة .

كما أن حالة عملية التوازن أثناءالوقوفترافقها تشنجات عضلية في المريء تعيق مرورالطعام بسهولة إلى المعدة و محدثة في بعض الأحيان آلاماً شديدة تضطرب معها وظيفةالجهاز الهضمي و تفقد صاحبها البهجة عند تناوله الطعام و شرابه ..

أقوال العلماء في الشرب قائماً
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم5 معلقاً على الأحاديث السابقة وجامعاً بينها: (أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالاً باطلة، وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعِّف بعضها، وادعى فيها دعاوى باطلة لا غرض لنا في ذكرها.
إلى أن قال: وليس في هذه الأحاديث بحمد الله تعالى إشكال، ولا فيها ضعف، بل كلها صحيحة، والصواب فيها أن النهي فيها محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائماً فبيان للجواز، فلا إشكال ولا تعارض، وهذا الذي ذكرناه يتعين المصير إليه، وأما من زعم نسخاً أوغيره فقد غلط غلطاً فاحشاً، وكيف يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الأحاديث لو ثبت التاريخ، وأنى له بذلك؟ والله أعلم؛ فإن قيل: كيف يكون الشرب قائماً مكروهاً وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: إن فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بياناً للجواز لا يكون مكروهاً، بل البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم.
إلى أن قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن نسي فليستقئ"، فمحمول على الاستحباب والندب، فيستحب لمن شرب قائماً أن يتقيأه لهذا الحديث الصحيح الصريح، فإن الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب؛ وأما قول القاضي عياض: لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب ناسياً ليس عليه أن يتقيأه، فأشار بذلك إلى ضعف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع كونها مستحبة.
إلى أن قال: ثم اعلم أنه يستحب الاستقاءة لمن شرب قائماً ناسياً أومتعمداً، وذكر الناسي في الحديث ليس المراد به أن القاصد يخالفه، بل للتنبيه به على غيره بطريق الأولى، لأنه إذا أمر به الناسي وهو غير مخاطب فالعامد المكلف المخاطب أولى).
وقال ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود6 موفقاً بين هذه الأحاديث: (فاختلف في هذه الأحاديث، فقوم سلكوا فيها مسلك النسخ، وقالوا: آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرب قائماً، كما شرب في حجة الوداع؛ وقالت طائفة: في ثبوت النسخ بذلك نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعله شرب قائماً لعذر، وقد حلف عكرمة أنه كان حينئذ راكباً، وحديث عليّ قصة عين لا عموم لها.
إلى أن قال معلقاً على ما روته كبشة وأم سُليم: فدلت هذه الوقائع على أن الشرب منها قائماً كان لحاجة لكون القربة معلقة، وكذلك شربه من زمزم أيضاً لعله لم يتمكن من القعود لضيق الموضع، أوالزحام، أوغيرها، والجملة فالنسخ لا يثبت بمثل ذلك.
أما حديث7 ابن عمر فلا يدل على نسخ إلا بعد ثلاثة أمور، مقاومة لأحاديث النهي في الصحة، وبلوغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأخره عن أحاديث النهي، وبعد ذلك فهو حكاية فعل لا عموم لها، فإثبات النسخ في هذا عَسِرٌ).
وقال ابن القيم عن هديه في الشرب: (وكان أكثر شربه قاعداً، بل زجر عن الشرب قائماً، وشرب مرة قائماً، فقيل: هذا نسخ لهديه، وقيل: بل فعله لبيان جواز الأمرين، والذي يظهر فيه – والله أعلم – أنها واقعة عين شرب فيها قائماً لعذر، وسياق القصة يدل عليه، فإنه أتى زمزم وهم يستقون منها، فأخذ الدلو وشرب قائماً.
والصحيح في هذه المسألة النهي عن الشرب قائماً، وجوازه لعذر يمنع من القعود، وبهذا تجمع أحاديث الباب، والله أعلم).8
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح9: (وسلك العلماء في ذلك مسالك:
أحدها: الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي.
الثاني: دعوى نسخ أحاديث النهي.
الثالث: الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل.
ثم قال: وسلك آخرون في الجمع بحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث البيان على جوازه، وهي طريقة الخطابي وابن بَطَّال في آخرين، وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض، وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيراً، فقال: إذا ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري، وأيده بأنه لو كان جائزاً ثم حرمه، أوكان حراماً ثم جوزه، لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بياناً واضحاً، فلما تعارضت الأخبار بذلك جمعنا بينها بهذا).
الخلاصة
أولاً: الأصل الشرب قاعداً، وهذا هديه الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: للحاجة والعذر يجوز الشرب قائماً.
ثالثاً: أن النهي الوارد عن الشرب قائماً نهي تنزيه، وليس نهي تحريم، جمعاً بينه وبين فعله صلى الله عليه وسلم وفعل بعض أصحابه.
رابعاً: الحالات التي شرب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وبعض أصحابه حالات عين، وتحمل على وجود أعذار لديهم.
خامسا: يستحب لمن شرب عامداً أوناسياً من غير عذر أن يستقيء ما شرب عملاً بالحديث السابق.
سادساً: ينبغي للوالدين، والمربين، والمعلمين أن يعودوا ناشئة المسلمين على السنن الحميدة، ويحملوهم على هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى يشبوا على ذلك ويتطبعوا به، فمن شبَّ على شيء شاب عليه.
سابعاً: ينبغي على كل مسلم عالم بهذه السنة وقادر، أن يذكر وينبه من وجده مخالفاً لها، حتى تشيع هذه السنة في مجتمعات المسلمين، فإن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
ثامناً: الأخذ بالرخص يكون عند الحاجة، ولا ينبغي أن يكون هو الأصل.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من خُتِم به الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.