الحمد لله وحده،
أما بعد، فشكر الله لك أخي الفاضل طرحك هذه المسألة في هذا المجلس المبارك، وهي في الحقيقة مما يشكل على كثير من الأفاضل، وهي تدخل في إطار ما أصبح يعرف عند الفلاسفة في زماننا هذا ليس فقط "بمشكلة الشر" كما كان اسمها قديما، وإنما صارت يقال لها "الحجة من مشكلة الشر"، بمعنى وصول الشبهة إلى أن تكون عند أصحابها دليلا على أن الخالق ليس بموجود أصلا، والله المستعان!
دعني أبين لك بحول الله وقوته أن ما أجاب به الشيخ الفوزان حفظه الله في هذه المسألة هو عين الحكمة وكبد الحق، وفيه الكفاية لمن كان الحق بغيته (وليس هذا وصفا ينطبق على أحد من الملاحدة أصلا فيما يعتقدونه من أمر الغيب، وإلا ما أنكروا الواضحات)! واسمح لي أن أتكلم فيما يلي بخطاب عام لكل عاقل، عسى أن يكون لك - بإذن الله تعالى - في هذا الجواب ذخيرة تقيم بها الحجة على كل ملحد معاند، والله الهادي.
تقول وفقك الله:
ولكن يبقى السؤال المشكل وهو ماتأويل وقوع هذه المصائب على هذه البهائم وخاصة أنها في الآخرة لن تعوض بشىء بل ستكون تراباً ولن تدخل الجنة؟وهنا يبقى سؤال آخر مرتبط بهذا الموضوع وهو ما حقيقة وحد الظلم الذي نفاه الله عن نفسه؟
وأقول وبالله المستعان، إن لجواب نظائر هذا الإشكال مسلكان:
أما المسلك الأول فيتوجه إلى أصل السؤال نفسه، فينظر فيما إذا كان الجهل بهذا التأويل – وغيره مما كان من جنسه - والتفويض فيه، مما يضر أو مما يتعين قبوله (كموقف معرفي)، أي أنه يبحث في إجابة السؤال "هل لنا أن نطرح سؤالا كهذا أصلا؟ وهل يمكننا الوقوف على قواعد كلية محكمة (من العقل والنقل معا) يستتبع إثباتها الحكم بجواب كلي عام مع التفويض في معرفة التأويل في كل مسألة مسكوت عنها في نصوص الوحي من تلك المسائل (كمسألتنا هذه) وترك السؤال عن ذلك التأويل؟" وهذا المسلك في الحقيقة هو مسلك عامة علماء المسلمين (لا سيما أهل السنة)، فما وسعهم تصور تأويله وحكمته من تلك المسائل اجتهدوا في بيانه تنفلا لا اضطرارا، وإلا فالأصل عندهم هو هذا المسلك كما سنبينه.
وأما المسلك الثاني، فهو السعي في تحرير الجواب عن السؤال "ما الحكمة؟" و"كيف لا يكون هذا من الظلم؟" ونحوه، وهو الأشهر عند فلاسفة اللاهوت النصراني بصفة خاصة، وتراه عند المعاصرين منهم على درجتين من الاستغراق في ذلك:
- فمنهم من يكتفي بتحرير الحجة المنطقية التي تندفع بها الشبهة ردا على ادعاء الملحد منطقية اعتراضه على وجود الخالق جل وعلا أو على وصفه بالكمال، سبحانه وتعالى علوا كبيرا،
- ومنهم من يزيد ويجتهد في تصور الحكمة أو "التفسير" الصحيح لوجود الشر في العالم، وهذا يعرف باسم Theodicy، أو الاجتهاد في استنباط ما يدفع شبهة الظلم عن الخالق من تأويلات لسبب خلق الشر في العالم بصنوفه المختلفة، كما صنع لايبنيز النصراني ومن قبله القديس أوغسطين وغيرهما، ونظيره ما حرره بعض علمائنا رحمهم الله تعالى من تأويلات في هذا الباب.
ولعل الأمر الذي جعلك تستشعر أن جواب الشيخ الفوزان لم يكن كافيا لك، أنك - أو صاحب السؤال - وجهت سؤالك طلبا للتأويل والحكمة المعينة (على المسلك الثاني) لتلك المسألة من مسائل الشر، بينما كان جواب الشيخ منصبا في الإطار الكلي الأشمل الذي يندرج في المسلك الأول. فكان أول ما أود تقريره كمدخل لدفع هذا الإشكال وما في بابه بعون الله تعالى، أن المسلك الأول من أثبته وأحسن إثباته (بما يناسب صياغة صاحب الشبهة لشبهته المردود عليها في ذلك)، فقد أتى البنيان من القواعد، وقضى على تلك الشبهة بشتى فروعها وشعبها وألوانها، فاستغنى عن الدخول في تفصيلات المسلك الثاني جملة واحدة.
وبيان ذلك أن نقول إن العقل الصحيح يقضي بأن نحمل المتشابهات على المحكمات، وأن نستنبط أحكام الجزئيات المجهولة من الكليات المتقررة المعلومة، وأن نقيس ما جهلنا على ما علمنا، وأن نقطع الشبهات الفرعية بالرجوع إلى الكليات اليقينية، وهذا في جميع أبواب العلم. فعندما نرى صورة من صور الألم الشديد أو العذاب يتعرض لها مخلوق من المخلوقات، ولم يتحقق لنا في مفردات الأمر ما به نعلم الحكمة الدقيقة من نزول ذلك الشر بذاك المخلوق، فليس لنا أن ننتقل عن الأصل الراسخ المتقرر عندنا بضرورة العقل وبقواطع الشرع، إلى ما ينافيه وينقضه! بل مهما كثرت صور الشرور التي نجهل تأويلها بعينها، لم يجز لنا أن نتخذ من ذلك ذريعة لنقض الأصل الكلي القطعي في المسألة! فإن تلك الشبهات كلها مدارها الجهالة، أي أن كل واحدة منها غايتها أن يقال فيها: "لا ندري ولا نتصور لماذا أنزل الله هذا الشر بعينه بهذا المخلوق بعينه"، وليس في شيء منها شبهة دليل على وقوع الظلم أصلا! فإذا كانت الجهالة في المسألة الواحدة لا يوصل منها إلى حكم فيها كما هو مقتضى العقل الصريح، فلا عبرة بتكاثر الجهالات وتراكمها في نظائر تلك المسألة، ولا يصار من كثرة تلك الأسئلة إلى توهم الوقوف على مرجح ظني في الأمر لأنها ليست أدلة في نفسها وإنما جهالات! وهذا أجمع ما به يُرد على شبهات بعض الفلاسفة المعاصرين ممن تعلقوا بفكرة أن كثرة صور الشر وشناعتها في العالم مع افتقارنا لجواب عن كل واحدة منها أو تأويل لها، تمثل مرجحا ظنيا أو احتماليا معتبرا لعدم وجود الخالق أو لكونه ظالما، سبحانه وتعالى!
فإذا كان الأصل الراسخ المتقرر لدينا بيقين أن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة، لم يكن لنا – من الأصل - أن نطرح سؤالا كهذا: "هل هذا الشر بعينه من الظلم أم ليس منه؟"! فإن الجواب الكلي العام معلوم لنا متقرر عندنا ابتداءً! وبهذا المسلك تنقطع شبهة الملحد ويتحقق المقصود!
وعلى هذا التأصيل نفسه، أنتهي إلى إجابتك بعين ما أجاب به الشيخ الفوزان فيما نقلتَ عنه، من قوله: " حكمة الله تعالى في خلقه لا يمكن الإحاطة بها، فمنها ما ندركه، ومنها ما لا ندركه، لكننا نقطع ونؤمن بأن الله سبحانه لا يفعل شيئًا إلا لحكمة بالغة؛ لأنه سبحانه منزه عن العبث". اهـ.
فأقول لك: "لا يلزمك معرفة التأويل في ذلك ولستَ محتاجا إلى معرفته في الحقيقة. سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ولعله قد دخل عليك الإشكال من جهة افتراضك أن العذاب للمخلوق لا يكون إلا من قبيل إنزال العقوبة بذلك المخلوق أو من قبيل ابتلائه بالمكاره، وهذا تحكم في إرادات الله تعالى وحكمه وغاياته لا وجه له ولا مستند! فإذا كان الظلم هو وضع الشيء (وهو العذاب والألم في حالتنا هذه) في غير موضعه، وقد رأينا أننا لا ندري ما موضع ذلك العذاب وما حكمته بالنسبة لتلك الدواب والبهائم، لم نملك أن نحكم على شيء من ذلك بأنه ظلم. ولكننا نعلم بالقطع أن الله لا يظلم قيد أنملة أصلا، وما من شيء يفعله إلا لحكمة تامة سبحانه وتعالى، فإذا ما رجعنا إلى ذلك الأصل المحكم، تحقق المطلوب وزال هذا الإشكال وجميع ما كان من جنسه في تلك البابة، وارتضينا بالتفويض في تلك "التأويلات"، ولم نشترط ولم نطلب الوقوف عليها حتى ننسف شبهات الجحدة والمشككين، والحمد لله رب العالمين.
ومع هذا يمكننا أن نضيف إلى ما تقدم – تنفلا واستطرادا - أن الوحوش والبهائم وإن كانت لا خلود لها في جنة أو نار، إلا أنها يظلم بعضها بعضا ويبغي بعضها على بعض، وهذا له عقوبته الأخروية كما ثبت في النص، فلم يمتنع في العقل أن يكون له عقوبته الدنيوية كذلك! ولا يمتنع في العقل كذلك أن يكون نزول الشر على مخلوق من المخلوقات = ابتلاء لغيره من المخلوقات لا لذلك المخلوق نفسه، مع كونه لا يُظلم بذلك (وهو ما نص عليه أهل العلم في مسألة نزول الشرور بالصغير غير المكلف)! فإن عامة المتكلمين في تلك المسائل من الفلاسفة وأضرابهم يغفلون عن حقيقة أن الله تعالى لم يخلق من خلقه شيئا، بما في ذلك الدواب والبهائم، إلا وقد أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ما عرفنا منها وما لم نعرف، فهذا الخير إذا قُدر أن أزال الرب عن بعضهم بعضه لحكمة يعلمها ولغاية يريدها سبحانه، لم يكن ذلك ظلما لهم، سواء علموا تلك الحكمة أم لم يعلموها، فإن انتقاص الفضل لا يؤول إلى الظلم، لأنه فضل بالأساس، لا شيء يوجب على رب العزة تبارك وتعالى أن ينعم به على هذا المخلوق أو ذاك! أرأيت لو أنه سبحانه اختار أن يجعلنا جميعا حجارة لا تسمع ولا تبصر ولا كذا وكذا، نحن ودوابنا وطيورنا وجميع ما في الأرض وما في السماء، أفيكون ظالما لنا بذلك؟ كلا ولا شك، فالخلق خلقه والأمر أمره، لا شريك له ولا حاكم عليه من فوقه! (1)
لذا نقول: أثبتوا لنا معاشر المتشككين أنه لا يجوز للخالق الحكيم أن يسلب شيئا يحبه المخلوق (لم يكتسبه بنفسه وإنما وُهب له تفضلا) ويُنزل عليه شيئا يكرهه في مكانه، مع كون ذلك التصرف الإلهي في مقام لا يقتضي العدل والحكمة أن يبقى مع المخلوق ذلك الشيء الذي سُلب منه، فلا يكون ذلك السلب إخلافا لوعد مبرم مثلا، أو إنزالا لعقوبة بغير جريرة، قد تقرر في ميثاق التكليف أنها لا تنزل بمثل هذا المخلوق، أو نحو ذلك مما يأتي وصفنا إياه بالظلم من علمنا بأنه لو قُدر وقوعه، كان نزولا للشيء في غير موضعه! من ذا الذي أوجب على الخالق أن يعطي لكل مخلوق كل ما يحب ذلك المخلوق ويشتهي في هذه الدنيا وأن يدفع عنه كل ما يكره؟ أهواء الناس وشهواتهم هي التي أوهمت كثيرا منهم أن النعمة حق مكتسب لهم، وأن نزول المكاره بهم = سلب لذلك الحق! فليأتنا هؤلاء ببرهانهم إن كانوا صادقين!
أوما علمتم أننا لا ندخل الجنة بعملنا، وأن الله لو حاسبنا بعدله لأهلكنا جميعا؟ إن نعمة البصر وحدها لو سجد الإنسان عمره كله ما وفاها حقها، ومعرفة مقادير النعم هذه ليست مسألة يوكل فيها الحكم إلى المخلوق أصلا وإنما إلى خالقه المنعم المتفضل بما أعطى، صاحب النعم والعطايا سبحانه وتعالى! وإنما يستشعر الإنسان قيمة النعمة وعظمتها ويقدرها حق التقدير عندما تسلب منه، ولهذا أفاض الرحمن في كتابه من التذكير بالنعم والعطايا والآلاء التي كذب بها الجحدة والمستكبرون، لعلهم يعقلون!
وعلى أي حال، ومع كوني قد حررت هذا الذي حررته، فإن هذه الإضافة وهذا الاستطراد يعد من جوابات المسلك الثاني من جنس "الثيوديسي"، التي لا أرى حاجة للبسط فيها أصلا، فإن من عقل الجواب الأول وصدق وتجرد في ذلك، فإنه يكفيه، كما اكتفى بمثله – بل بأوجز منه بكثير - سلفنا الأول رضوان الله عليهم. فإنهم قد اجتمع لديهم من اليقين والتسليم بصفات خالقهم جل وعلا وبمعاني الكمال فيها ما لم يحوجهم إلى الإطالة والإكثار في تحرير أمثال تلك التأويلات.
ومع أن هذا المسلك الكلي (المسلك الأول في الجواب) هو الأحكم والأسلم وهو الأليق بطريقة السلف والصحابة رضي الله عنهم، والأبعد عن مواضع الزلل والغلط وعن القول على الله تعالى بغير علم، ومع أنه يكفي كل عاقل صادق منصف، إلا أنك لا ترى ملحدا يذهب إلى عالم من علماء المسلمين يسأله في مثل هذه المسألة، فيسمع منه قولا كقول الشيخ الفوزان ههنا، إلا ينقم ويسخر من أهل العلم وينسبهم إلى ضعف العقل وسطحية النظر ونحو ذلك، لأنه لا يراهم يخوضون خوض الفلاسفة والمتكلمين فيما خاضوا هم فيه بغير حق ولا سلطان ولا أثارة من علم، والله المستعان! فنقول لهؤلاء إن السكوت عما يجب السكوت فيه هو رأس الحكمة وجماع العلم والعقل معا، وسكوت سلفنا عما سكتوا عنه من المسائل لم يكن من جهل أو عجز عن الخوض في طرائق الفلاسفة إن كنتم تحسبون ذلك، وإنما عن علم سكتوا، رضي الله عنهم وأرضاهم.
والمشكلة ليست في الملاحدة في الحقيقة، فهم أهل جحود وكبر على أي حال، وإنما المشكلة في بعض الأفاضل ممن يتوهم أنه كلما جاءه ملحد بسؤال: ما تأويل هذه، وما تأويل تلك، فإنه يتعين عليه أن يجد له الجواب المفصل على نحو ما يريد هذا الملحد، وإلا كان الإشكال، وبدا الملحد – ولو في عين نفسه وأقرانه – إذ رأى تلك الحيرة عند بعض إخواننا، بدا وكأنه مستساغ الموقف، لأنه قد أتانا معاشر المسلمين بسؤال معجز لا نعلم له جوابا، ولا يزيد عالمنا فيه على أن يتلو قول الله تعالى ((لا يسأل عما يفعل وهم يسألون))! فهؤلاء إنما يقال لهم: يا هؤلاء، إن الجهل بالحكم والغايات التفصيلية من كثير – بل من أكثر – أفعال الله تعالى في هذا العالم لا يعد قبوله والتسليم به منقصة في دين الإسلام، ويقينا فإنه لا يصح ما تريدون أنتم ومن قلدتم من الفلاسفة المعاصرين من الاستدلال بذلك الجهل على عدم وجود الخالق أصلا أو على كونه ظالما أو نحو ذلك! ليس الإيمان بالخالق وبنسبة رسالة محمد عليه السلام إليه، مشروطا عند العقلاء بمعرفة جواب كل شاردة وواردة ترميها الشياطين في خواطر الناس بشأن أفعال الله جل وعلا! (2) هذا جهل لا يضر، لأن العلم بتلك التفاصيل ليس واجبا في العقل ولا شرطا لازما للتسليم بالقواطع العقلية التي تجحدونها جملة واحدة، بل ليس هو لازما للتسليم بشيء مما أخبرنا به الرب من صفاته سبحانه وتعالى! هذا أمر تعلمونه تمام العلم، ولو جئناكم بعشرات التأويلات والتفسيرات والتعليلات والأجوبة فلن تكتفوا، لأن الغاية عندكم ليست تحصيل المعرفة بالأساس، وإنما البقاء على الإلحاد والتذرع له بكل ذريعة، ولهذا لزمكم تعليق الإيمان بالحق على شرط معرفي باطل لا يشترطه عاقل!
فالحاصل أيها الفاضل الكريم، أن هؤلاء قوم يحتاجون إلى الوعظ والزجر والقرع على الرؤوس، لا إلى التسليم لهم بما يوحي بأن لكثير من أسئلتهم تلك وجها، وأنها تشكل بالنسبة لنا إشكالا من الإشكالات الكبرى ونحو ذلك!
هذا والله أعلم وأحكم، وهو المستعان لا رب سواه.
---------------------
(1) هذا المعنى مطرد في سائر ما يقع من السلب أو "الحرمان" من بعض العطايا والنعم لبعض المخلوقات، كاطراد المسلك الأول في جوابنا. ومن ذلك كما لا يخفى، ما يكون في الجنين الذي يولد مشوها أو معيبا، سواء عاش حتى بلغ ووقع عليه قلم التكليف فكان من المبتلين بذلك كما ابتلي به أبواه والمقربون إليه، أو قبضه الله قبل ذلك. الأصل واحد والقاعدة واحدة لمن عقل، والله الهادي.
(2) للفائدة والزيادة ينظر هذا المقال: