هذه الدراسة توضح أن الكثير من صراعات المنطقة مملاة عليها من خارجها، وبالتالي فالمواقف المتخذة بشأنها ليست دائما من أجل أهلها، وقد لا تصب في مصلحتهم، فالمحتل يستخدم الدين والسياسة والاقتصاد والمذهب والعرق والشيخ والليبرالي في حرب دائمة تضمن انتصاره دائما مع بقاء الضحية ناقة حلوباً في إنائه، وخاسرة لمصلحتها، والاستبصار هنا يقوم على تعديل في اتجاه الخطاب، وتغيير لبعض محتوياته، فالعالم سيستفيد في المستقبل من هذه المنطقة إذا كانت آمنة يسودها السلم والثقة، ومن الخير للمسلمين عاجلا وآجلا أن ينـزعوا فتيل الفتنة، وألا يجعلوا من بلادهم منطقة تبعث فيها خلافات الماضي الداخلية، ولا منابر الأحقاد من الخارج، وعليهم أن يدركوا أن في تعصبهم لبعض أفكارهم أو أفكار أسلافهم ضعفاً، يدمر حاضرهم ومستقبلهم، ولا يقل عما يذوقونه من عدوان الخارج، ومن الخير لهم أن يروا العالم كما هو، ثم يوجهوه لما يخدم مصالحهم التي هي ليست بالضرورة مضادة لمصالح غيرهم .
منطلقات
في الأشهر الماضية خرجت كثير من الدراسات الإستراتيجية الغربية التي تتحدث عن التعامل مع المسألة الشيعية، ومع الإسلام، ومع إيران، وعن الأقليات الشيعية في العالم السني، وسبل استثمار تلك الخلافات العقدية والسياسية.
و من المجدي أن يشار إلى بعض هذه الدراسات والمناقشات التي حاولت أن تعطي صورة لكل جهة، ومن بين تلك الدراسات ذات القيمة كتابان أولهما لوالي نصر، "انبعاث الشيعة،" والثاني لـ: راي تقية: "إيران الخفية"، ويبدو أن كليهما من أصول شيعية، وأنهما يحملان الجنسية الأمريكية، ثم هناك بعض حلقات البحث التي جرت مع المؤلفين وغيرهما، بعضها في مجلس العلاقات الأمريكية وبعضها خارجه.
ما يميز الدراستين أنهما تحملان رؤية عملية لما يجب أن يكون عليه المستقبل الغربي في علاقاته مع المسلمين، وبخاصة ما يهم الشأن الشيعي عموما والإيراني خصوصا.
ولعل من أهم ما يستحق التنبه له في هذه الدراسات وفي حلقات التخطيط المستقبلي التي صاحبت الكتابين: سياسة تقسيم الإسلام إلى قسمين: إسلام سني وإسلام شيعي، سياسة سبق أن أثارها كثير من المتعصبين ضد المسلمين، "من أمثال فريدمان الذي يزعم أن السنة كانوا يحتلون العراق، وأن أمريكا جاءت لتحرير الأكثرية من الأقلية!! ومن المتعصبين المذهبيين الزاعمين أنهم يكتبون إستراتيجية للعلاقات "الشيعية الأمريكية"، كما ينصح كتاب: "انبعاث الشيعة" الذي يقوم على نظرية أن الإسلام إسلامان وليس إسلاماً واحداً، أحد الإسلامين يشبه الكاثوليكية وهو الإسلام السني بجموده وتقليديته وتخلفه وخطره على الغرب وثقافته، الإسلام الذي بصورة صديق للغرب وهو في الحقيقة عدو له، والإسلام الثاني "الإسلام الشيعي" وهو عنده يمثل "بروتستانت الإسلام" أي التيار المتنور الديمقراطي العقلاني الواقعي المتصالح فكريا ومستقبليا مع الغرب، والذي كان يظهر للغرب أنه عدو له وفي الحقيقة يحمل بذور الصداقة والعلاقة الإستراتيجية.
قد يكون هدف الفكرة السابقة تقريب الغرب للشيعة وتقريب الشيعة للغرب، وتقوية الأقلية ضد الغالبية، وبناء ولاء أعمق من السياسة، ولكن الغرب قد يفيد منها عاجلا وآجلا، وهذا التوجه إحياء لأفكار قديمة استعمارية نجحت في الماضي، وقد يكون مرحبا بها في صياغة وشكل ومكان جديد، فمسيرة استرقاق العالم العربي والإسلامي مريحة، ومُفكّر فيها، ومدروسة مسبقا، يقول أهل هذا الرأي: كما أفادوا ذات يوم من تقسيم المسلمين إلى عرب وأتراك وكانت تلك غنيمة النصارى الكبرى في مطلع القرن العشرين، فإن الغنيمة الكبرى الجديدة تقسيم الإسلام نفسه إلى شيعة وسنة، بتنفيذ من الغرب، وبرغبة من المسلمين، وتهييج عقدي، فكما كان للتهييج القومي الطوراني والعربي والأرمني جدواه في تمزيق الوحدة الإسلامية والدولة العثمانية فلتقم العقيدة ـ وبحجة التصحيح والتنقية والتهييج المذهبي ـ بدورها اليوم في تقطيع بقية الأوصال. وكما كانت القوميات العربية والطورانية التركية سلاحا استعماريا نافذا فليكن الإسلام نفسه سلاحهم اليوم ضد أهله، ثم يستمتعون بالغلبة على كيانات ممزقة، ودين مستولى عليه، أو بحجة الدفاع عنه، "كما كان الشعار الذي رفعه بوش الأب" فقد تقوم اليوم عقائد -بنية صالحة لها- بتقديم مصلحة المستعمرين بلا وعي على مصالحها، وعلى مصالح المسلمين.
وبالتالي فبروتستانت الإسلام "الشيعة" سيكون لهم مستقبل تنويري وسياسي ديمقراطي كبير وهم المؤثرون والمقبولون والمرغوبون في التفكير الغربي والعالمي، ويزعمون أن لهم الجاذبية ولهم المستقبل في داخل العالم الإسلامي.
تقوم الإستراتيجية من الطرف الغربي على أساس آخر مهم، هو أن تدمير الإسلام بالإسلام هو خير طريقة للتعامل مع الإسلام الصاعد، وأن الدول المعتدلة في العالم الإسلامي لا تختلف في فلسفة مجتمعها ومستقبل تطلعاته عن الدول والجماعات المتطرفة، وأن السلوك المناسب هو في إبقاء هذه الدول والجماعات في صراعات داخلية دائمة، فالخلاف في الرأي يصبح مصيريا وحاسما وعقديا، والخلاف يكبر أيضا مع الأقليات فيها، ومع المخالفين لعقائدها من خارجها، وعلى الغرب أن يحسن علاقاته بالطرفين، ويجعل كل طرف قادرا على تدمير الآخر، أو متحفزا، أو يخشى خيانته. والمجتمع القلق المتوجس لا يصل لشيء في المستقبل إلا إلى الخوف.
-إبعاد العناصر الوطنية الصادقة دينية كانت أو ليبرالية عن مواقع القرار؛ بحجة أنها متشددة، أو غير عملية، أو وطنية أو قومية أكثر من الحاجة، وربما اتهموها بما يرددون في السنوات الأخيرة: "إيديولوجية". ويتجهون نحو الاستفادة من العناصر المتدينة التي تثير القلق والحرب المذهبية لتستخدم وقت الحاجة في معارك إسلامية داخلية، وتأييد الليبرالية الغربية الولاء التي ترمي ببلادها في أحضان الغرب والصهاينة، ولهذا تحدث "بعضهم" مؤخرا عن فائدة العلاقة الجيدة بالصهاينة؛ لأنهم سوف يحملون الانفتاح والديمقراطية والحرية للشعوب المجاورة، وزعموا أن العرب تأخروا في الاستفادة من الجوار الصهيوني التقدمي، ويعزب عن علم هؤلاء -أو يبعدون عمدا- التجربة الفلسطينية مع الصهاينة، وهي حقيقة صارخة كالشمس وضوحا، فقد كان الفلسطينيون الإسرائيليون في حال سيئة بالرغم من حمل الجنسية الإسرائيلية، فالعنصرية هي النظام، ويعاملون كطبقة دنيا مكروهة ومتهمة دائما، وأما في الضفة وغزة فالإبادة والتدمير والإفقار والطرد هي السياسة، ولما جاءت الديمقراطية "المحاصرة" بمن يكرهون أكثر، كان التجويع والتقتيل هو الحل، ولن ينال العرب البعيدون خيراً مما ناله القريبون من الصهاينة.
-الإصرار على علاقات مؤثرة أو ضاغطة على الجميع، ففي الوقت الذي يواجه الغرب إيران ويعاديها –ليس لأنها شيعية أو سنية، ولا لكونها تقية أو فاجرة- بل بسبب استقلال إيران، وتقوية نفسها خارج حظيرة الاحتلال، وبسبب سلاحها النووي أخيراً، أو بسبب طموحاتها الإمبراطورية، فإنه توجد أيضا علاقات غربية جيدة مع الأقليات الشيعية في الكيانات السنية، فالغرب يهمه وجود معارضة للأصدقاء "المعتدلين، وإن لم تكن هذه المعارضة موجودة فإنه يصنعها، للاستفادة من هذه المعارضة وقتما يحتاج الغرب أن يخوّف وأن يُذل أو ربما يصفع بهم الصديق المعتدل. "سياسة العصا والجزرة، أو الابتسامة والسوط" ولا يحترم الغرب الأقليات في المستعمرات، ولا الخلاف الديني ولا القومي، بل هو يصنع من كل هذه التمزقات فرصا للتسيد والغلبة، وقهر المقاوم؛ ومن الأمثلة الكبيرة ما كان من تقريب كيسنجر للأكراد، وتشجيع ثورتهم في أوائل السبعينيات الميلادية، وتمويلهم عندما كانت هناك حاجة للضغط على صدام إلى أن وقّع اتفاقية الجزائر عام 1975م، حتى إذا دخل في بيت الطاعة -مؤقتا- كشف الغطاء عن الملا مصطفى البارزاني، وأصبح يكتب ويلجأ لكيسنجر ويرسل، ولا يرد عليه إلا بما يهمله ويذله. ولما عادت الحاجة بعد نحو من عقدين عادت العلاقة مع البارزاني الابن.
وبعد دخول أمريكا للعراق، واحتلالها كانت مسألة التفريق والخلاف المذهبي والعرقي حاجة حقيقية لاستقرار الاحتلال، فعراق موحد ضد الاحتلال لا يمكن أن يكون مقبولا، ولا قابلا بالإذلال. ولهذا تحدث مارتن إنديك في الأيام الأولى للاحتلال واعدا وملزما بسياسة فرق تسد كما تقول "الحكمة القديمة" ومشكلة صهاينة أمريكا من أمثال أنديك أنهم بالغوا في استخدام النار المذهبية والقومية المشبوبة من قبلهم فنالتهم نيرانها كما نالت العراقيين.
ومن الطريف أنه ذات يوم في الدوحة خرج مارتن إنديك وتوماس فريدمان والصحفي ماهر عبد الله -رحمه الله- من حلقة من حلقات نقاش المؤتمر السنوي الذي ينظمه إنديك وغيره عن العلاقات الإسلامية الأمريكية في الدوحة، قال ماهر: أخذ إنديك بيدي وبيد فريدمان وقال: "هذا – مشيرا إلى فريدمان- عولمي أصولي، وأنت: -يعني ماهر- إسلامي أصولي، وأنا صهيوني أصولي، شئنا أم أبينا نحن بحاجة إلى أن نتفاهم." وقد حدّث ـ رحمه الله ـ بهذه الحادثة عددا من أصدقائه، فهذه القائمة من صهاينة واشنطن لا تخفي أنها تعمل للحركة الصهيونية قبل كل شيء، وقد تخفي أحيانا آراءها وتدعي العمل لمصلحة أمريكا، بينما توجه السياسة في المنطقة والعالم لخدمة الصهاينة فقط، ضد مصلحة المجتمع الأمريكي وغيره.
ولهذا فإقدام بعض المشايخ وبعض المثقفين على إشعال نار الخلاف الطائفي لا ينطلق كله من حاجتهم، وقد لا تكون هذه الرؤية رؤيتهم، وربما دون إدراك واع منهم، بل هذه إستراتيجية للمحتلين معلنة ومطلوبة لتدمير الوحدات المضادة للاحتلال؛ مثل: العراق، وإيران ولبنان، ومناطق الخليج، حتى تضعف هذه الوحدات أو تستمر ضعيفة، وتجد في المحتل حلا لمشكلاتها، فتبقى دائما خائفة مروعة فتأوي للمحتل وتسلم له أمرها، وتجعل منه حاميها وأملها، ومصدر استقرارها، لأن في الجوار أخاً يرعبها، ولابد في سبيل المفاصلة مع هذا القريب أن نجعل من دينه وخلقه وجنسه وأرضه شرا محضا، و بالتالي فالمحتل خير حام، وأبر صديق موال.
ولا حاجة لتكرار "مقولة عامة" عنصرية أو فكرة سيئة مسبقة عن الشعوب الأخرى، لأنها ليست صحيحة، ولأن كل محتل سيجد فرقا وطوائف وأسباباً لخلافات في كل مجتمع مغلوب. والمجتمع القوي النابه يتفوق على أمراضه وأقسامه وفرقه وعقائده، ويصنع عدلا وقسطا يخفف من قدرة العدو على تدميره من داخله.
ومنذ قتل محمد باقر الحكيم كتبت مخوفاً من هذا الطريق، طريق الحرب الأهلية المذهبية، الطريق الذي يدمر الجميع، ولا يخدم سنة ولا شيعة، فإن كان قتل الشيعة من إستراتيجية القاعدة فهو ضرر بالغ آنذاك والآن. ولا يهم من بدأ بالأمر، فالواجب إيقاف هذه الحرب الاستعمارية المذهبية والمجازر التي يخسر فيها العراقيون أجمعون.
فقد بدأت في مناطق إيرانية أعمال تستهدف إيران، وتستخدم الأقليات السنية والعرقية -وبتمويل قيل إنه عربي- لتفجير الخلافات بين الأقليات وبين الحكومة الإيرانية، بحجة الاختلاف في المذهب والجنس كالفتنة التي ظهرت في بلوشستان، بعض هذا أشار له مايكل هيرش في مقالته: "إعادة توجيه" ومستقبلا في عربستان وسوف يستخدمون الأذريين في إيران وفي أذربيجان، والأكراد. بحجة تحريرهم من الشيعة أو الفرس، وهناك دعم مطلق لليبراليين الإيرانيين لتحريرهم من الحكومة الدينية، بقيادة متغربين وبقية من الموالين لابن الشاه.
وإيران تعاني من أزمات داخلية قيادية فلم يعد يؤيد أحمدي نجاد إلا قلة من الكبار منهم خامنئي، وهناك أصوات وخلافات يقودها رفسنجاني ضد خصمه نجاد، بعضها توحي بغزل يتبناه رفسنجاني للغرب، وزاد من تأكيد هذا لقاءات رفسنجاني مع وسطاء مؤثرين، وهو يشكو من تشدد واندفاع وفردية وشعبوية نجاد، وبعض النقد من برلمان يرى في نجاد شخصا فاشلا في برنامجه الاقتصادي الموعود، وأنه أشغل شعبه، وهيج العالم بمغامرات كلامية ومواقف لا فائدة منها مثل: مؤتمر إعادة النظر في مذبحة اليهود، وفي ذهابه لأمريكا الجنوبية لتأييدها ضد الشمالية، وإهمال الوعود الاقتصادية التي قطعها على نفسه وانتخب بسببها.
وقد استطاعت العصابة الصهيونية من المحافظين الجدد أن يؤثروا على الثقافة السياسية وعلى توجهات الجماهير في بريطانيا وأمريكا، وبالتالي كثير من الغربيين ويروّعوهم من خطر العالم الإسلامي على مستقبل الغرب ومصالحه، فالإسلام عندهم هو العقيدة المتحدية الوحيدة التي بقيت في العالم ترى أن لها فلسفة في الحياة تخالف الغرب –هكذا يرى مؤلف نهاية التاريخ- ولهذا فإن الخلاف الأمريكي الأوربي والأمريكي الصيني أو الروسي مجرد خلاف اقتصادي يحل بسهولة، بينما صوروا الخلاف مع المسلمين بأنه خلاف وجود أو عدم، مع عالم إسلامي صاعد ماليا وسكانيا وعقديا، يهدد الغرب كما هدد الإمبراطورية الرومانية سابقا، وأخذ منها الشرق وشمال إفريقيا، وهذا التفسير مما يرغب الحاقدون الصهاينة على ترسيخه في المخيلة المسيحية. وبالتالي بناء الإستراتيجية المستقبلية بناءً على هذه الوجهة، ولعل من طريف الإقرار بذلك ما كتبه "مورافيتش" في مجلة السياسة الخارجية "فورن بولسي" وهو من الصهاينة المسيّرين لسياسة حكومة بوش المعروفين بـ : "المحافظين الجدد" فقد ذكر أن المحافظين تعرضوا للانكشاف والإبعاد من الحكومة، ولكن لا يملك غيرهم في أمريكا أفكاراً ذات قيمة يمكن أن تسير عليها الأمة الأمريكية، وبالتالي فهم الوحيدون الذين يستطيعون أن يصنعوا الفكر والسياسة.
ولهذا فالموقف الغربي ثابت على علويته فوق الضعفاء المسلمين، فلم يسمح لأكثر من خمسين دولة إسلامية، ولا لمليار وثلث من البشر أن يفكوا الحصار عن إخوانهم الفلسطينيين، المضروب عليهم من قبل أربعة ملايين صهيوني!!
وهو ثابت على حرمان المسلمين من التقدم العلمي، يسانده خور القيادات وغياب الشعوب، فالغرب لم يكن ليسمح لمدينة دولة كـ "سنغافورة" بالصناعة لولا مواجهات شديدة، سجلها كوان لو في كتابه: "من العالم الثالث إلى العالم الأول"، ولكن الإرادة الصادقة تحطم القيود. ففي السنوات الأخيرة استورد عدد من الدول البترولية -ومنها إيران ودول عربية- البنزين ومنتجات النفط من مصانع التكرير في سنغافورة.
والغرب يخاف أشد الخوف من سلاح نووي إيراني، يعيد شيئا من التوازن في العالم، ويهدد الشر الصهيوني في العالم، والخوف من أنه قد يعطي المسلمين سلاحا نوويا بعد أن أخرج مشرف سلاح الباكستان من أيدي الباكستانيين. فالخوف من سلاح إيران حقيقي، وقد فشل الغرب في حصار إيران، كما يقول راي تقية: "إن الشواهد في الدوائر السياسية في واشنطن تقول: لم ينجح إلا الفشل" ويقول: "إنهم يضغطون على إيران لتقتحم العقبة وتعد القنبلة" إيران الخفية، ص 220-222. ويرى بأن الضغط الخارجي يقوي الداخل الإيراني ويصنع تماسكه. بل واستطاعت كسر الحصار عليها، فإيران تبادلت علاقات جيدة اقتصادية وعامة مع الصين والهند وروسيا، بل واستطاعت إلى حد كبير تحسين العلاقات مع الخليجيين فقد كان هذا استجابة لرغبات إيران مقابل أن توقف دعم معارضيهم.
وقد يظهر أن الصين وروسيا تعارضان أي عمل عسكري، أو تشدد غربي ضد إيران، ذلك ما يبدو بسبب كراهية هذه الدول للهيمنة الأمريكية على العالم، وبخاصة على النفط، والتجارة وطرقها، وأزمة السيادة في آسيا، ولكن ألا تحبذ روسيا والصين أن تتورط أمريكا ورطة كبرى في إيران؟ الواضح أن الصينيين والروس استفادوا فائدة كبيرة من ورطة أمريكا في حملتها على الإسلام والمسلمين، وفي الحرب على الإرهاب، فهي أشغلت أمريكا، وشوهت سمعتها، ودمرت الكثير من مواردها، وتفرغت الصين وروسيا للتنمية، وترويج اقتصادها، وسمعتها، واستفادتا من شعار الحرب على الإرهاب في قمع المسلمين بلا ضجة ولا عتاب في سينكيانج –البلدان الإسلامية في غرب الصين- وأعطت الروس فرصة قمع الشيشان وغيرهم.
وليس سرا أنه في محضر النقاش الذي جرى بين سولانا مسؤول الخارجية الأوروبية ولاريجاني المسؤول الإيراني عن الملف النووي، فذكر لاريجاني أنه من الممكن أن تتنازل إيران عن السلاح النووي مقابل ثمن لائق، فطلب منه سولانا توضيح ذلك، فوضح له بأنهم يريدون هيمنة إيرانية على بقية شواطئ الخليج، لأن هذه مناطق شيعية وثروتها تذهب لحكام سنة!!
وهذا مما يجعل خيار الحل السلمي صعبا، فإننا نجد على الجبهة الأمريكية استبداد المتعصب المسيحي "تشيني" نائب الرئيس بالقرار في المنطقة من خلال أتباعه المتنفذين، قد يؤدي لضرب إيران بطائرات صهيونية وحماية أمريكية، أو ضربة أمريكية مباشرة، ولكن يغفل المروجون للحروب أنها قد تنتهي في غير صالحهم، وتهرب أمريكا وراء المحيطات، وتصلى المنطقة نيرانا طويلة المدى.
وقد يقبل الأمريكان نصائح تقيه وبريجنسكي بفتح علاقات جيدة مع إيران، تنتج حصارا للمتشددين، وتحل الخلافات الكبرى، وتعيد نفوذ إيران للخليج ولا يكونون فيه عامل إرباك، يتعاونون مع أمريكا فيه ولا يتنافسون، وسوف يستطيع الأمريكان بالتعاون مع الإيرانيين -كما يرى- حل مشكلات كثيرة كالعراق بحسن العلاقة، ويرد على أن تصور إيران مثل شرق أوروبا مجرد وهم، فمع وجود رغبات غير دينية وليبرالية في البلاد ولكنها ليست كالحالة في شرق أوروبا، فهناك علاقات جيدة بين الحكم والشعب، أو على الأقل قسم كبير منه، والموقف الإيراني من إسرائيل بعضه بقية من ثقافة الثورة، وخلاص من مشكلات داخلية، وحماية من بعيد للداخل، سوف تضعف هذه اللغة عندما تكون العلاقة جيدة مع أمريكا، وسيكون لها دور في تلطيف الموقف، بل وعلاقة مستقبلية بما يسمى "القوى الناعمة" كالدين والحوزات، والنخبة والتجارة. تلك بعض النصائح المهمة التي تسدى للحكومات الغربية، وقد لا تكون بعيدة عن تبنيها.
أما وجود السلاح النووي في إيران فله آثاره النفسية على غرور ممتلكيه، وليست الأهمية من السلاح ذاته، ولكن من المهابة التي يعطيها لمن حازه، وعقلية الترويع والردع في تركيبة السياسة الحديثة، وقد تكون له آثار سلبية مثل فرض الهيمنة الإيرانية السياسية والدينية على المشرق العربي، وربما أبعد في كل الاتجاهات، وقد تكون له فائدة أخرى؛ فإن وجود قوة منافسة للصهاينة سوف يخفف من شرهم، ويقلل من نفوذهم، وربما يخفف من جرائم المذابح الصهيونية للعرب في فلسطين، ويقلل من تطلعاتهم في الأرض والتجارة والنفط والمياه، ويعطي للعرب الباقين مساحة من الخلاص من العبودية التامة لأحد الطرفين، وبخاصة أنه ليس هناك برنامج عربي منظور للاستقلال، ولا للسيادة، هذا في حال اعتبار إيران مجرد منافس للصهاينة وللغرب، ولا تربطه علاقات أخرى أحسن ولا أسوأ بالعرب.
وبما أننا لا نرى مستقبلا ملحوظا قريبا في المنطقة إلا لتركيا وإيران، فإن الغرب سيحرص على توريط تركيا، وتدمير نهضتها بخصومات جانبية كردية وإيرانية مثلا، أما مصر الكبيرة فقد صغّرها "الصغار جدا"، وأوهنوا مكانتها، حتى أصبحت على أحسن حال تتطلع إلى مجرد دور وسيط غير موثوق بين حماس وفتح!! وقد تعوض هذه الحكومة الضعيفة في مصر أن تصعد الخلاف مع العرب لتبني مكانا تعوض به عن تدهور مكانتها، مع أن مصر تملك أكثر مما يتخيل حكامها الآن، ولكن قبولهم بالاستضعاف والامتهان الصهيوني وتسليم قيادة البلاد للوكلاء ولعساكر هرمين وخائفين وربما فاسدين، وللسفراء الأجانب، وانحسار دور الحكومة في تطمين الغرب بأنها تمسك بزمام البلد، وتحافظ عليه تحت الطلب، وتطارد الإسلام فيه، هذه السياسة أو الكارثة، أخرجت بلدا قياديا عن دوره ومساره وهويته العربية الإسلامية واستطاعوا تجميده، أو ليكون دوره مجرد مكتب للقوى العظمى ـ بل وللصغرى جداً-، وإشغالها بالصغائر والتوافه وقسر الأمة على الاشتغال بمواجهات داخلية دائمة، ومنع الشعب من اختيار قيادته، وإلهاء الناس بهمّ قوتهم اليومي عن مكانة بلادهم، وعن إمكانات البلاد ودورها الأممي.
رؤية مستقبلية
موقف العلماء والمثقفين
خطاب التثقيف للناس عامة وخاصة أمانة متبادلة، وواجب على الجميع نحو الجميع، ولا يهون الحق في أمة، ولا تغيب معرفة المصالح إلا عندما يموت الحوار السياسي والفكري حول مصالحها، وشر ما يصل إليه مجتمع هو أن يتظاهر بإجماع دائم على تأييد مواقف حكومته!! فزعاً منها أو نفاقاً لها.
وبما أن حكومات العالم المتخلف تطيع وتسمع فقط للغرب، ثم تبلغ الشعب ببعض مرادات الغرب منها ومن الناس، بعد أن تصوغ رغبات المستعمرين بلغات مفهومة محلية، وبدوافع محلية أيضاً، بحيث تصبح مناصرة المستعمرين مقبولة لهم، ثم تجندهم في حروب المستعمرين، فإن امتلاك العالم والمثقف لفهم قضايا أمته سوف يعينه على القيام بدوره، وسيكون في ذلك خير للجميع، وأول السبل إلى الفهم المعرفة أو "العلم"، وثانيها الفحص فالنقاش.
فالعلماء والمثقفون منقذون لا موقدون للنزاع، والمعضلة الشيعية مما يستحق البحث قبل الاندفاع في خطوات قد تكون صادقة ولكنها قصيرة المدى، وعاجلة المعالجة، قد تفيد قليلا ولكنها تضر الطرفين كثيرا على المدى البعيد، قد تفيد في تخويف السنة من التشيع، وتحجزهم عنهم، ولكنها في الوقت ذاته تحجز الشيعة وتبعدهم عن المغالين في نقدهم، وسوف تزيد من تمزيق الأمة، ولا تخدم الملة، وتنشر التعصب وتهيج المذابح، وتصب غنائمها في أيدي الحاقدين.
البقاء على كراسي التحريض والراحة والمعرفة التاريخية الورقية بالآخرين ولوم التشيع وشتم الفرس ليس عملا في الأزمة، بل قد يكون حلبا في آنية الخصوم، بل العمل تبين الموقف أولا ثم الذهاب للناس، ولقاء الفرس والعرب البدو والحضر، والمثقفين والعامة، فهذا عمل هداية وسيخفف من الحنق، ويجلو الحق، ويفتح باب المعرفة، ولو لم يتغير مذهب أحد، فإنه يوقف الناس على الكثير من الحقائق، ويزيل عن رؤوس الطرفين الأوهام والخرافات المتبادلة التي يصنعها النكران والبعد والوحشة من المخالف الغريب.
وهناك حاجة للحوار، وفي القرآن حوار وتنـزل للمعارض، "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" ودائما ستكون هناك قلة من الطرفين تصغي لنداء الحق، ونتائج الحوار، وتخفف من نصيب الذات، وحقارة الجدل. ولكن الدعوة هي الطريق الأولى والأصح، والأكثر تأثيرا، الدعوة للعامة وللبسطاء وللصادقين خير من الجدل مع رؤوس الشغب، وقد انتصر السويدي في مؤتمر النجف في حواره مع علماء الشيعة –ووثق ذلك كبير مثقفي العراق علي الوردي وهو شيعي الأصل- ولكن الحق وظهوره بالحجة والبيان لا يكفي عن معاونة الناس على معرفته بنشره، فزاد التشيع بعد الانتصار العلمي ولم ينقص.
سأل أحدهم شيخ قبيلة عربية تشيع وقومه لماذا تشيعوا؟ فقال: لا نرى أو لا يمر بنا في هذه البوادي إلا ذوو العمائم السوداء!
موقف علماء الإسلام من المهم أن يراعى فيه أمور تلح في زماننا هذا بما لم يسبق أن كانت أكثر أهمية، منها أن وضوح المعضلة السياسية لديهم لم تعد إحدى القضايا التي يجب أن يهتموا بها، لا بل هي من أسس دورهم في الوعي والتوجيه، وكما يشاركون في الدعاية أو النقد فإن عليهم أن يصرفوا وقتا كافيا لتفهم الحاضر قبل أن يستجلبوا حلا من التاريخ، أو من الخصم. والنوازل السياسية أشد تنوعا واختلافا وتضاربا في التوجهات واتهاما للمخالف من غيرها. بسبب غياب كثير من أدواتها ومعلوماتها وأهداف أهلها عمن يطالب بالرأي فيها.
فدور العلماء دور إنقاذ للأمة لا إيقاد للفتنة، وهداية لا تأليب على قضايا عرف منها طرف وغاب منها عنه أطراف. إن العلماء هداة لأمتهم وللأمم الأخرى، وليسوا موقدين لحروب غيرهم، التي لا يدركون دوافعها، ولا أهداف مثيريها، نعم إنهم في الإسلام قادة؛ يشتركون في الحرب والسلم وليسوا معزولين، أما اليوم فإن المستعمرين قد عزلوهم في الزوايا، وحذّروا منهم، وأصبحت المعلومات تحجب عنهم، ويحرمون من المشاركة في القرارات، ثم يطلب منهم فقط أن يوقعوا على صحة مواقف السياسيين في بلدانهم أو في غيرها، ويطلب منهم الترويج للقرارات وللمواقف مباشرة أو من وراء حجاب، كبقية وسائل الإعلام الثانوية، فهذه المهمة ليست مهمتهم وليس هذا الدور دوراً شريفاً ليشاركوا فيه، ولا يليق بهم، وهم في هذه الحال أقرب لأن يكونوا ضحايا لسوء الفهم ولنقص المعلومة.
فإيقاد المواجهات المذهبية لن تكون لصالح أي مذهب، وليس من اللائق رفع شعارات شعوبية جديدة من أي من الجهتين، مع أن الشعوبية شعار قديم رفعه منحرفون فرس وغيرهم ضد الأمة، فليس حقا اليوم أن نحاصر الفرس أو غيرهم في موقف قومي ولا "شعوبية جديدة" لا عربية ولا فارسية، لأن خطرها على الدين وعلى الشعوب أكبر مما يتخيل من يبدأ هذه الدعايات، وقد كانت الشعوبية أذى مدمرا في الماضي، وبقيت لديها السموم السيئة القديمة، بوسائل ولغة جديدة أفتك.
ويبقى هناك العامل الكبير والمؤثر في الصراع وهو التوجيه والتأثير السياسي الخارجي على المثقفين في مجتمعاتنا، وهو -في أكثر الأحوال- الذي يصنع بيئة الموقف العام، من هذه القضية ومن غيرها، فالمثقفون والعلماء في المناطق الخاضعة للغرب متأثرون في الغالب وليسوا مؤثرين، ومن أهم الأدوار المنوطة بهم – بوعي ودونه-هو صياغة موقف معاد لأفكار الحرية والاستقلال، ولكل دولة ولكل جماعة أو حزب أو طائفة تحاول الاستقلال والتحرر، وتصنع لها المتاعب والحصار والدعاية السوداء، وتهمة الإرهاب جاهزة لكل متحرر من ربقة المحتلين؛ وهناك صناعة ثقافية متقدمة، ومهارة جبارة لصنع عقلية التبعية الجامعة، وإنتاج تفلسف ومنافع ومصالح وهمية غالبا تحسن للمثقفين ولشعوبهم منافع أن يبقوا عبيدا أبد الدهر في حقول المستعمرين.
والغربيون نجحوا في سياسة الترويع لنا دائما من أنفسنا ومن أفكارنا ومن الآخرين المخالفين لهم، إنهم يروعوننا ليل نهار حتى يضمنوا أن تبقى المجتمعات الإسلامية والثروات في أحضانهم أطول مدة ممكنة، فكلما زاد التخويف والترويع من إيران أو من صدام قبلها ضعف التصرف والقرار الداخلي، وأسلمت هذه المناطق أنفسها وثروتها وعقولها للقوى الغربية، وتقبل بالشلل وبالتبعية، وتخضع لسماسرة توزيع العبودية. فهذه الخدمات لها وسطاء يربحون من نشرها ومن تقييد المجتمعات بها.
ولهذا نشاهد موت الحياة السياسية في المناطق الخاضعة، وضعف القدرة على طرح القضايا الكبرى، فقد أصبحت محرمة، وساد بدلا منها ثقافة التبعية بألوانها، وسادت ثقافة الأوهام، أو التكبير جدا من القضايا الصغيرة جدا.
أما المشايخ فتصور لهم الأمور بأكثر من الواقع، ولديهم رصيد معرفي تاريخي يلجؤون إليه وهو مليء بالخلافات المذهبية والصراعات العنصرية، فكل أخبار الباطنية والمنحرفين في شتى العصور جاهزة، أو هي تاريخ حي يمسك بالعقول فلا تستطيع الوعي، ويمسك باللغة فلا تخرج عن المفردات القديمة؛ فينتج هذا –غالبا دون قصد- المساندة السياسة للقوى الاستعمارية، لأن من لديه الاستراتيجية للحل يستطيع أن يحصد مواقف الآخرين وإن كانوا مخالفين، أو رأس مالهم كلام، فيستثمرها من يصنع منها قوة سياسية وعسكرية وفكرية
وليس القصد هنا اتهام أي جهة فهذا لا يليق أن يطلق قول على عمومه، ولكن المثقف الواعي لا يفوته، وليس صحيحا اعتبار الشيخ ولا السياسي قادما من لا مكان ولا زمان ولا عاطفة ولا مصلحة ذاتية كانت أم ذات صفة عامة، وقد يريد الجميع الخير ولا يوفقون له، وطلب الحق يجب أن نسعى إليه ولا ندعيه، وفي هذه القضايا المصلحية ليس معنا ولا مع غيرنا نصوص.
وعلى الموجهين والمؤثرين أن يدركوا أن بأيديهم أسلحة هي أخطر في أثرها مما يظنون، فلا يطلقوا العنان في لحظة نشوة، ويغفلوا آثار الدهور القادمة، وما يمكن أن يزرعه موقف في غير مكانه من سلبيات يثمر بها. كنقد الفرس عامة، وإبعادهم عن الإسلام، وجمع الأخبار المضرة، والأساطير القديمة، فالفرس قديما خرج منهم جلة من علماء المسلمين ومبدعيه، وكانوا ثمرة للوحدة الفكرية التي كانت تتعالى على العنصرية وتمجد إنتاج الأفراد، ولا تسألهم عن نسب جداتهم ولا أبشارهم، وكانت تلك ولم تزل سلوك الأمم القوية، فالأمريكي في ذروة قوته لم يسأل ولم يفكر في أن يقف عند نسب الذين صنعوا له القنبلة النووية، وأنهم ألمان ومن دولة تقتلهم صباح مساء. والأمة المسلمة في ذروة قوتها لم تسأل أبا حنيفة ولا الغزالي ولا صلاح الدين ولا غيرهم عن نسب آبائهم. فقد كان كثير من مجد المسلمين العلمي والإداري من هذه الشعوب غير العربية.
تقسيم الإسلام والموقف منه
1-إن الإسلام واحد، وليس هناك إسلام سني وإسلام شيعي، وليس التقسيم صحيحا في منظوره الإسلامي، ولا يؤدي دوره بعد تغييره، فإن المسلمين عندما واجهوا الانقسامات فقد كانوا يتحدثون عن الإسلام دين جمهور الأمة، أو "الجماعة " -المصطلح غلب استخدامه في المغرب الإسلامي- أما الفرق والطوائف المخالفة فإنها تولد وتموت، وتهتدي وتتطرف، ولكن المسلمين لا يغيرون تسمية أنفسهم من أجلها، فهي في قاموسهم طوائف، ونحل، وأهواء، عليها تسمية أنفسها بما يميزها عن الأمة عموما، أما الإسلام فهو واحد فقط، وقد كانت هذه إجابة علماء الإسلام قديما،إن الطوائف تسمي نفسها شيعة معتزلة قدرية جبرية، أو ما شاءت، أما المسلمون فاسمهم مسلمون فقط، "هو سماكم المسلمين من قبل". فإن كانت هذه النازلة قد واجهها علماء الإسلام قديما بهذا الحل، فأبقوا على وحدتهم، وعلى أصولهم من التبديل، فهذا أولى في زماننا، بعد أن دخل غيرنا على قائمة تصنيفنا وتسمياتنا، ودخلت عوامل أكبر وأخطار تحاول العبث بالتسميات والمسميات، فداخل المجتمع المسلم من أي مذهب يمزقونه إلى معتدل ومتطرف! وتسميات أخرى تصب في التصنيف الهادف لصناعة الولاء والعمالة والنفاق. فمجرد التشيع لآل البيت أي تقديرهم وإنصافهم، والاعتراف بما لهم من حقوق هو مذهب المسلمين على مدار القرون، والانتصار لعلي كخليفة رابع راشد ليس منطقة خلاف عند المسلمين. وما زاد عن ذلك فهو تطرف، يحتاج صاحبه أن يسمي نفسه بما يريد من تسمية زائدة، ولا يقسم الإسلام بحسب رغبته.
وإن لهذا التقسيم في طوره الجديد آثارا سلبية عديدة منها: الإقرار بصحة القسمين، وبعدم البحث فيهما فقد استقرا، بلا تراجع شامل، ثم إن على المسلم الجديد أن يحدد قبل اعتناقه وبعده أي دين يختار التسنن أو التشيع، فلا يعود هناك دعوة للإسلام عامة.
2- من نتائج الإيقاد المعاصر للفتنة التحول من الخلاف الديني "الإسلامي اليهودي" مثلا، إلى الصراع الإسلامي- الإسلامي" وما كان لنا من حقوق أو خلاف ديني فإن الخلاف المذهبي أصبح بديلا له، ويصبح الخلاف المذهبي خلافا مصيريا أشد من الخلاف الديني، وقد تبين في الأزمات الأخيرة أن لدى الكثير من الناس في العالم الإسلامي استعداداً سريعاً لأن يحاربوا على جبهات مذهبية إسلامية متخاصمة ويسكتوا عن السيطرة عليهم من أمم أخرى.
3- سيكون الكيان الصهيوني في مأمن وسلامة بأن يمارس الإرهاب المستمر والعنصرية النازية وهو مطمئن، لأن الخلاف المذهبي بين المسلمين أصبح أكبر من الخلاف الملي مع الصهاينة. وقد كادت حرب الصيف السالفة ضد لبنان أن تظهر هذه المآسي. وسينظر المسلمون إلى أي احتلال واسترقاق نصراني أو غربي لهم بأنه مقبول ومحبوب، لأنه سوف ينقذهم من المذهب القريب. ولهذا فهل سترى الأقليات المذهبية الإسلامية بين المسلمين بان الاحتلال الأممي خير لها من الكيانات الإسلامية، وقد صوّر الإسلام بأنه أصبح دينا مخالفا لهم.
4- لمواجهة هوس الأقليات المذهبية في العالم الإسلامي، وخوفها وأوهامها فليست الطريقة الموجودة "في وجود مجتمعات مغلقة عليهم" هي طريقة صحيحة ولا مجدية عقديا ولا سياسيا، ولا لمصلحة هذه الفرق، ولا الدول ولا الأمة، وستثمر المرار مستقبلا، فإن حصارها ثقافيا واجتماعيا وماليا، والتقليل من فرصها في حياة كريمة، سوف يزيد من ركونها للخارج، وإقبالها على الطائفة المغلقة، والصدور عن آرائها وفتاواها، ومواقفها السياسة التاريخية والخارجية، والبحث عن الحل في المجتمع الآمن المغلق الصغير، وهذا الانغلاق والعزلة قد يساعد بعض قادتها أن يستسيغوا ربطها بدول مذهبية في مناطق أخرى، معرفيا وسياسيا، بل وقد تربطها بالمستعمرين، لأنها تؤمل من المحتل التحرير والتعويض، والسيادة في كيان خاص، وإلا على أقل حال إعطائها المزيد من الحقوق والمميزات وإن لم تكن مستحقة لها، أو وإن كانت مدلّة في مطالباتها لأنها تركن لقوى من الخارج يملي مطالب لا تهدف لعدل ولا حق، بل رائدها الابتزاز، في بلدان تغيب عنها الشفافية والعدالة والحقوق. ولهذا فإن إدماج هذه الأقليات، والعدل معها وانسياحها في المجتمع تبعا لمصالحها ولمصالح المجتمع، والإصرار على أن تنال حقوقها، سوف ينهي المزاج العقلي الذي يفكر به الإنسان المحاصر، وسوف يبدي حسنات المجتمع الواسع وسيئآته كما هي، وسيعلم كم الآخرون مظلومون أو كاسبون لحقوقهم، وسيقلل من مزاج الخوف من القريب وصرف الولاء للبعيد.
5-المجتمع المفتوح المختلط بلا طبقات ولا عنصريات ولا تراتبيات يبني من أفراده شخصيات متحابة وقوية ومتآلفة، ويصنع الثقة، فحيث لا تظالم فلا تخوين، ولا خوف، ولا ولاء للخارج من أجل اغتيال الداخل. أما سياق المجتمع الطبقي المتمايز المتراتب العنصري فإنه يسمح لكل وجوه الشر بالوجود من الجميع ضد الجميع. فإذا شعرت هذه الأقليات بالعدل والثقة، والانفتاح والاعتراف بحقوقها –وهذا لا يعني تصحيح آرائها- فإنها سوف تقبل الجدل السياسي والمذهبي.
إن الاضطهاد أو شبحه قد لا ينهي المشكلة، بل يصنع المزيد منها، ويهولها، وقد ينبت ما لا يتوقع ظهوره من ردود فعل أكبر من الأخطاء التي مورست في حق طرف، فتأتي الاستجابة بخلاف قصد من مارس الاضطهاد. إن نشوة القوة واليد المنفلتة المضرة بالأقليات وبالمضطهدين لا تحسب وقت قوتها حسابا لردود الأفعال، ولكن بقاء السخط والعزلة، والاستياء المنظم قد يكون هو الرد المؤثر الذي ينهي العنجهية وقوتها المهيمنة على إقليم أو على العالم، فما كانت روسيا تأبه بالفقراء الأفغان الضعاف وهي تزحف بقوتها فوق رقابهم، ولا تأبه بحركة التضامن البولندية، وكان ستالين يسخر من البابا ويقول كم فيلقا عسكريا تحت قيادة البابا؟ ثم انتهت القوة العظمى –دون تهوين من الدور الغربي-تحت ضربات الصغار أو الضعفاء، والذين بلا فيالق.
وقد كتب أحد مفكري إيران كلاما مهما عن أسباب عودة بلاد فارس للغة الفارسية بعد أن تعرب مثقفوها وضعفت اللغة الثقافية الفارسية في المدن وبقيت في الريف-والريف كثيرا ما يبقى مخزنا للغة وللثقافة- فقال: إن من الأسباب المهمة لصعود اللغة الفارسية وعودة الكتابة الأدبية بها كان التعصب العربي المتأخر ضدها وضد أهلها وإصدار قرارات بمواجهتها، ولهذا رد الفردوسي بأن كتب الشاهنامة بالفارسية. وكم من صاحب حق أساء عرضه فأعطى خصمه فرصة.
6- هناك إشكالية للأقليات الشيعية تضعف من ولائهم لبلدانهم، وهي التبعية الدائمة للمرجعية الدينية البعيدة، وذهاب ولائها الفكري لإيران، ألم يكن من المجدي أن يطوروا مدارسهم الدينية في بلدانهم، لتصبح لهم مرجعياتهم المحلية أيضا، ولا تبقى الأهمية ولا المهابة الفكرية ولا التبعية السلوكية والنفسية والعقلية وراء الحدود دائما. وقد تبين أن شخصيات شيعية عربية عملاقة في الفكر الشيعي من أمثال محمد باقر الصدر وفضل الله من ذوي القدرة العلمية والانفتاح والمعاصرة أقل تزمتا وأقل خرافات من مراجع آخرين، بعضهم يساير الجماهير في رغباتها، أكثر من توجيه الجماهير للحق –كما كتب مطهري-.
7- تأييد المعتدلين الشيعة فيما توصلوا إليه من رؤى ومواقف أنحت باللائمة على المتشددين والعنصريين الفرس، ولكل أمة متعصبوها، ولكل مذهب غلاته، فقد كان هناك من علمائهم ومفكريهم المجددين موسى الموسوي، وهناك اليوم فضل الله، وكان عدد كبير من المفكرين الإيرانيين والعراقيين الشيعة ممن سخر بالابتداع الصفوي في التشيع، منهم علي شريعتي الذي كتب: "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، وعالج قضايا ذات خطورة كبيرة، ومن أهمها التفريق بين ما سماه بالتشيع العلوي والتشيع الصفوي، التشيع القائم على حق علي في الخلافة، وحق الأمة في الاختيار، وما أضافه التشيع الصفوي من حقد عنصري على جنس العرب، حتى أنه كان هناك من يشتم العرب بأنهم قوم عبد الرحمن بن ملجم، وشمر بن ذي الجوشن الأول قاتل علي والثاني قاتل الحسين، ورد على كثير مما ابتدعه الصفويون من طقوس لا سابقة لها في الإسلام، ولدى مرتضى مطهري جهود رائدة في هذا الباب سبق بها شريعتي وغيره. وكان مهتما بإعادة الشيعة للقرآن وللغة العربية، حتى اتهمه بعضهم بالوهابية واغتالته مجموعة شيعية متطرفة تدعى "فرقاني" واتهمته بالوهابية؟ وما فكرة ولاية الفقيه وما أدت إليه من رفض فكرة: "السلبية السياسية حتى يأتي الإمام الغائب" إلا هدم ذكي لركن الإمامة، وتحول منقوص إلى الديمقراطية وما ولاية الفقيه إلا تنازل وتغيير للبنية الإمامية السابقة، وقد عدها بعضهم -كليم صديقي- خطوة نحو التسنن.
وقد كان للصراع مع الإخباريين آثاره الجيدة في يقظة العقل عند المتأخرين، وقد أشار فضل الله إلى أن الشيعة يعيشون مرحلة تجديدية غير مسبوقة في ثقافتهم، ولا يساويها إلا ما كان لدى السنة من حركة اجتهاد في القرن الثاني الهجري، كما يشير.
واليوم موقف حسن العلوي في كتابه عمر والتشيع، وهو موقف قديم له فله ابن يبلغ أكثر من الأربعين عاما اسمه عمر، أي من قبل هذه المناكفات الجديدة، ولكثير من شيعة العراق وإيران مواقف معتدلة تستحق التأييد والبحث فيما بعدها.
نصرة الاجتهاد والتجديد
8-يعد العاملي من أقوى من خرقوا جدار السلبية السياسية لدى الإمامية، وذلك بقوله وترويجه لمسألة ولاية الفقيه، ثم النائيني، دعا لحل عملي هو حكومة المشروطية أي "الشورى" ثم نفذ الخميني صيغة ولاية الفقيه، "وهذه مرحلة متأخرة من تحولاته الفكرية"، وكل هذا يعتبر تجديدا واقترابا من الحلول الإسلامية بل والفطرية الطبيعية، مع أنه لم يبلغ أحد من هؤلاء مبلغ أحمد الكاتب لاحقا، من المعرفة بقصة الإمامة والجرأة في نقدها، والحقيقة أن الاجتهاد، والمزيد من الإنصاف سيقرب الفرق من الموقف الإسلامي العام، ووجود الاجتهادات يخرق جدران العزلة، ويكسر التقوقع داخل آراء غير عملية، تصلح لمضطهد مطارد، يحتج بها سرا في زاوية، أو يجند لأفكار خيالية وانتظارية هائمة، تعزل أصحابها عن المشاركة في مسيرة الأمم، ولا تستطيع الحياة تحت شمس العقل، ولا عملية الحياة. فكما حدث يوما في المذهب الزيدي أيام الإمام ابن الوزير الكبير الذي نشأ على الزيدية ثم أصبح من كبار مجتهدي الأمة، وكسر الطوق الزيدي، وأنهى العزلة، وشق للمسلمين في اليمن ولغيرهم نهجا اجتهاديا تجاوز الانغلاق والحيرة المذهبية، وأنتج دربه أمثال المقبلي والشوكاني والصنعاني، وفي أيامنا هذه آل الأكوع وغيرهم من العلماء المجتهدين الذين يحترمون المذاهب الإسلامية ولم يتخلوا عما رأوه حقا في الهادوية، هذا النهج صنع بيئة علمية أقل تشنجا، ومع ذلك فلن يخلو الموقف من مستغلين ومزايدين على الفرق والمذاهب ما بين حين وآخر. وهذا الطريق أليق بالإمامية أن يعتبروا به، وقد كانت هناك تحولات جذرية من قبل شخصيات أكثر جرأة وشجاعة من أمثال البرقعي، غير أنها بقيت ضعيفة ولم تصبح تيارا، واليوم في المذهب الشيعي مجتهدون مؤثرون وأكفاء من أمثال الأستاذ أحمدالكاتب، وقد نشأ شيعيا حركيا، ثم ذهب ليكمل دراسته العليا في قم، وسجل مسألة "الإمامة" موضوعا لرسالة دكتوراه في الحوزة في قم، ثم ساقه تجرده للمعرفة وبحثه الجاد في مسألة الإمامة إلى أنها إحدى الخرافات المتأخرة التي دخلت على التشيع، فقد وجد أن جعفر الصادق كان ينادي بالشورى؛ فأي نص على الإمامة؟ بل وأشار إلى أن بعض خلفاء السنة كانت لهم حاجة سياسية من الترويج لقصة الإمامة وكان بعضهم وراء الترويج لهذه الدعوى. ولهذا فالشخصيات العالمة الجادة غير المقلدة، سوف تصنع الوعي والاعتدال، وسيكون من وجودها المؤثر جوانب تفيد الطرفين جميعا، والمجتهدون الجادون يحتاجون أن ينبّهوا على الأخطاء التي وقعت من قبل مدرستهم قبل أن ينبهوا على أخطاء المدارس الأخرى.
ذلك لأن النفس تميل فطرة إلى تزكية الذات والغفلة أو العفو عن الخطأ الصادر منها، وكلما كان الآخر نائيا كانت أخطاؤه أكبر، وحسناته قليلة أو معدومة. فـعادة الناس أنَّ: "نحن" مزكى أهلها، و"هم" مخطئ أهلها.
فمن الخطر أن يقف علماء ومثقفون موقفا جبريا تجاه مسألة التشيع، وكأنه موقف يبقى أبد الآبدين، ليس كذلك بل عرف صعودا وتموجات وهبوطا وانسجاما مع مواقف الأمة ومفارقة لها في مواقف عديدة، ولعل مما يجدر أن نفكر فيه أن الآراء والاجتهادات الجديدة أكثر جاذبية من ترداد القديم والاستسلام له، فكما رأينا الشيعة وغيرهم من الأقليات ينسجمون في الحركة القومية والبعثية بلا فوارق فإنهم أجدر أن يجتمعوا على الإسلام متى قلت التعصبات على الفروع وحول المشايخ والسياسات والأهواء، فلم يزل القرآن واحدا.
9-الخلاص من مشجب بل مذبحة التاريخ المنصوبة لنا في كل زاوية، فالمسلمون متهمون بتقديم الثلاثة الخلفاء على علي، ويذوقون منذ نحو من ألف وأربعمائة عام وإلى اليوم وربما إلى قرون طويلة تالية عقوبة الشورى، ونتائج الاختيار الحر بين عمالقة الإسلام، فجل من حضر السقيفة وناقش في اختيار الإمام كان مؤهلا قادرا، ثم نصبوا لهم أيضا قتل الحسين، مشنقة أخرى، ثم مصائب صدام، وكأننا شهدنا أو شاركنا، أو من سيأتي من قرون. ويوازي هذا المشنقة المنصوبة للشيعة والتهم الموجهة لهم، وأنهم خانوا المسلمين مع ابن العلقمي والطوسي، وغدروا ببغداد قديما للتتار، وحاضرا على يد الشلبي!!
أما آن لنا أن نخرج أنفسنا ونخرجهم معنا من حفر التاريخ؟ التي تسمم حياتنا حاضرها ومستقبلها؟ وتضعف من قدر وقدرة الإنسان وعقله تجاه هذا التاريخ القاتل. الذي يحيا ويردد بهدف التدمير، واللوم والبحث عن أسوأ المواقف –لو صحت- فكيف وقد أصبحت عروشا من الأوهام والخرافات.
وبما أننا نطالب الآخرين بالاجتهاد والانفتاح الثقافي والفكري فلا يفوت هنا التنبيه إلى بعض المواقف التي تحتاج فعلا للمراجعة وللتفكير، والتحدث فيها يخيف بسبب الخصومة، لا بسبب الحق والباطل، ومن ذلك الترديد باتهام الشيعة بالقول بتحريف القرآن، ومسألة أخرى وهي قضية التهويل لدور ابن سبأ-كما سيأتي-. ففي زمن التحدي والعناد يصبح ذكر خطأ من الصف أشبه بالغدر، وذكر حسنة للمخالف تهمة أشبه بالخيانة، والعاقل من أي ملة من مهماته أن يسعى جادا لجعل هذا العالم الذي يعيش فيه، والذي يشاركه فيه البشر الآخرون عالما أقل أوهاما وأصدق مطابقة بين الفكرة والممارسة، وأسعد وأليق بأن يحياه الإنسان سعيدا، لا مهددا ولا قلقا خائفا من رأيه.
عندما قامت الثورة في إيران لم يفرق المسلمون في بعض المناطق بين مركبات هذه الثورة، وأعجبهم التعميم البسيط، فخلطوا التشيع الصاعد، بالاستقلال السياسي، ثم قدموا -بسبب العوامل الخارجية-مسألة التشيع على الحقيقة الأكبر وهي أن دولة بحجم إيران حققت الاستقلال، فانصاعوا لترك الاستقلال والتحذير منه، تبعا للتحذير من التشيع!!
وكان التعامل الصحيح ليس شتم الشيعة، ولا البحث عن شتائم في قواميس القرون، والتنقيب عن المثالب، بل وضع برنامج استقلال من العبودية، والإفادة من استقلالهم لا من عقيدتهم.
لقد كانت علاقة الكثير من كيانات السنة بالشاة علاقات ودية جدا بسبب جامع الخضوع للغرب في كل من الطرفين، ولأنه كان حارس مصالح الغرب في الخليج، فلما استقل الشعب الإيراني وأصبحت له حكومته رفع في مناطق سنية عديدة التحذير من الشيعة، وكأنهم يدخلون التاريخ لأول مرة، وكان السبب الحقيقي استخدام التنافر العقدي لترسيخ التبعية للغرب، فأصبح الأمر وكأن التشيع محرر، والتسنن يصنع التبعية والخضوع، وزاد الغرب من ترويع السنة وبخاصة في منطقة الخليج من خطر الشيعة والتشيع، وقد تكون: "كلمة حق أريد بها باطل" أي التخويف ليستكمل العقل العربي المشرقي خنوعه للمستعمرين، فالتهويل من الشيعة من مقاصده كمال العبودية للغرب. "روّعوهم لتملكوهم" وغاب عن كثير من العلماء صناعة استراتيجية تعامل مع غازٍ مستغل عابر، وبين مخالف مقيم شريك في الماضي في بنائه وفي خلافه ووفاقه، وسوف يشارك في كثير من المستقبل.
فهل يبقى العرب ينتظرون تحول إيران إلى كيان نفعي يتخلص من كثير من مواقفه، ومن كثير من أوهام الثورة، ويبادل الغرب ويصالحه، ويستعيد بعض نفوذه أو كله في القيام بما هو أكثر من دور حراسة الخليج!
بالغ المحتلون في ترويع الحكومات العربية من الشيعة، ومن الإسلام، ليتمكن النفوذ الصهيوني في مفاصل الأمة، وليقام تحالف: "الشرق الأوسط الجديد" المسمى: 6+ 2 ولكن الرقم الأهم مضمر، يفعل ويؤثر ولا ينطق به أحد، وهو تحالف يراد منه: مواجهة إيران، وإدخال الصهاينة في البنية السياسية العربية لمواجهة إيران، ولنسيان النازية والبربرية الصهيونية، التي ترهب كل يوم وتبيد ولا يرتفع ضد إرهابها صوت، ولتنضم الكيانات العربية في صلح يسمح بقتل الفلسطينيين وحصارهم وتجويعهم بحجة أنهم إرهابيون ما لم يقبلوا بالاستسلام للصهاينة، ويؤيدوا إنهاء الممانعة الإيرانية واللبنانية والسورية، لأن رفض الإرهاب الصهيوني النازي يصبح هو الإرهاب، والاستسلام له هو عين السلم والتمدن والتحضر.
-أما الذين يرددون ويكررون القول بأن الشيعة يحرفون القرآن ويرونه مبدلا فهؤلاء موقفهم في غاية الخطأ، لأسباب منها أن القرآن الذي يقرأه الشيعة اليوم هو القرآن نفسه الذي بأيدي المسلمين في كل مكان، ومن شك فليذهب بنفسه لأقرب تجمع أو مسجد أو منزل لهم وسيجده القرآن الذي عنده، وليس على وجه الأرض غيره، ولم يعلم أنه وجد سواه، فما الفائدة من تحميل غالبيتهم قولا ضعيفا عندهم، أو يقول به قلة، أو دفعهم للكفر؟.
أما الكتاب الذي يدعى: "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" فهو كتاب منبوذ عندهم، وغير مطبوع –إلا طبعة حجر في الهند قديمة يعيد بعض أهل السنة تصويرها للأسف-ولا متداول لدى عمومهم، فكيف يحرص رجال منا على القول بأن أمة من المسلمين- ومن يصنفهم رجال السنة -كابن تيمية- من أهل القبلة- لهم قرآن آخر!!
عجبي من هذا لا ينتهي كيف يروج مسلمون للدعاية المضادة لكتابهم بالتحريف، بل وأنه يقول بذلك عشر المسلمين افتراء عليهم، وعلى كتاب الله، والمخرج الأولى أن نقول قولا واحدا لا خلاف عليه أن من يرى القرآن محرفا فقد كفر كائنا من كان. وقد قال بذلك ابن حزم لما ناقشه النصارى واحتجوا بمن قال بتحريف القرآن فكان جوابه أنه إنما يحاجهم بالموقف الإسلامي وبعقيدة المسلمين ومن كان يرى تحريف القرآن فليس منا فلا تحاجّونا به، ولن يدافع عنه، وهو موقف نحتاج تجديده ووضوحه في زماننا، فليس من مصلحتنا أن نقول عن طائفة مسلمة كبيرة إنهم يحرفون القرآن. بل الموقف الأصوب أن نعتبرهم بالاعتبار الشرعي القديم الجديد أنهم: "من أهل القبلة" ومن خالف في مسائل كتحريف القرآن فليس في دائرة الإسلام، وليس في دائرتهم أيضا، لأننا نعتبرهم أهل قبلة. ومن رفض من علمائهم تكفير القائل بالتحريف أو اكتفى بالتخطئة ففي تأويل قوله وفي التفصيل متسع، ولم يسلم غيرهم من ورطات النقول للروايات التي لم يمحصوها.
أما ما يقال بأنه: "مصحف فاطمة" فقد قرأت عنه كتابا طبع في لبنان فقال إن مصحف فاطمة مجرد أدعية نسبت لفاطمة، وإنه غير موجود، بل أدعية مفقودة، ألا فليكن ذلك؟ ألا يكفينا أن هذا دعاء صحابية وقد فقد، ولا نجعل لهذه الخرافات أهمية عندهم تحجبهم من الحق وتزيد من الشحناء.
ومن الطريف هنا أن ندرك أن معركة الأصوليين والآثاريين عندهم لا مثيل لها عندنا، فكلما كثر الكذب، وقع التساهل في الأخذ والرد، وقل التشدد في القبول والرفض، فما يراه علماء السنة والحديث كارثة هنا؛ لأن مقاييسهم عالية، ورواياتهم أقل اضطرابا لا يراه غيرهم بالأهمية نفسها بسبب كثرة الكذب.
10- تعامل العرب مع العراق وفارس ينسي أحيانا الثقافة القديمة، والطبيعة الفارسية، وهي طبيعة حزينة، وقديما يرونها شهوانية وربما كما قال بعضهم "غضبية"، وظاهرة الحزن تجدها في قراءتهم للقرآن، بنبرة حزينة، وتجدها في موسيقاهم، فالموسيقى الفارسية أكثر أنواع الموسيقى حزنا منذ القدم، وتجدها في شعر السياب، أما مواسم البكاء فهي مواسم قديمة منذ أيام بابل وآشور، ومنذ ما قبل الإسلام، وما البكاء على الحسين إلا ثقافة قديمة سابقة على الإسلام، ألبسوها الحسين!! –راجع كتاب الشيبي "العلاقة بين التصوف والتشيع؟". أما ضرب الجسم وتعذيبه بالحديد وإسالة الدماء فشعار تطهر روحي قديم مارسته الكنيسة ثم تسرب للشيعة، كما تسربت عادة المسبحة الكاثوليكية للمسلمين.
وهذا أمر متكرر في ثقافات الشعوب، فالغيرة المتطرفة -أحيانا- عادة راسخة عند العرب قبل الإسلام، وبخاصة في الجزيرة العربية، وقد يستعينون بالدين لتأكيد ثقافتهم، أحيانا أكثر من مقتضى دينهم، وفي وادي النيل وشرق إفريقيا كبرت مشكلة الخفاض الفرعوني للنساء – وهو زائد عن الختان-وهي عادة بالغوا في علاقتها بالإسلام، وقد كانت مشكلة مستمرة منذ الفراعنة وفي بعض مناطق إفريقيا، وهي ليست بالمقصودة في الآثار،في أغلب الممارسات، ولا تجدها مهمة عند المسلمين في معظم مناطق العالم بما في ذلك الجزيرة العربية، بل قسوتها في المجتمعات المتأثرة بثقافة وادي النيل وشرق إفريقيا.
وهكذا ثقافة المجتمع العشائري، مشكلة راسخة في عدد من المجتمعات العربية كالمجتمع العراقي، ومجتمع الجزيرة العربية والصومال وبوادي المغرب الكبير كليبيا، وكنت قد قرأت عن رسوخ هذه الظاهرة في كتاب: "طبيعة المجتمع العراقي" وتوقعت أن تلك موجة قديمة ذهبت، وطمستها الحداثة والبعث والمدنية، ولكن المفاجأة أنها عادت راسخة ومؤثرة، كما لم يخطر ببال من يعطي التحديث العربي أكثر من حجمه.
وهكذا المزاج الشهواني الفارسي الزائد عن مجاوريهم، ظاهرة ملاحظة قديمة، ففي "المقابسات" نقل عن أحد الحكماء: قال: "نزلت الحكمة على عقول الروم، وعلى ألسنة العرب، وعلى قلوب الفرس.." فمزاج العاطفة من الحب والكره والحزن والشعر والولاء والعزاء تكون عند شعب أكبر منها في شعب آخر. وبرودة الرأس والتفكير النفعي يغلب على شعب، ورب كلام يذهب بحق أمة، والبراعة في المهنة، أو السحر والحيلة تزيد في مكان عن آخر.
11 - أما في موضوع التقية فلها جانبان ثقافي وسياسي، فالشخصية التي عاشت تحت ما تراه قمعا ملوكيا منذ الأكاسرة القدماء، ثم ما رأوه من قمع الخلفاء الذين ألبسوهم اللباس الكسروي نفسه، فقد أكد هذا سلوكا متوارثا ينصح دائما الفارسي بـ: "أخف ذهبك ومذهبك" وقد عالج كثيرون هذه الظاهرة، عرب وفرس وأجانب منهم جراهام فولر في كتابه المهم: "إيران مركز الكون". أما اليوم فقد أصبح الإمامية يحكمون بلدا بهذا الحجم والقوة، ويطبقون فهمهم على أنفسهم وغيرهم، ولم يعودوا يرهبون حاكما عليهم من سواهم، يتقونه، وهؤلاء أئمتهم يحكمونهم، فعقيدتهم أظهروها، أما طموحاتهم فلا شك أنها أوسع مما يملكون اليوم، ولهم طموح إمبراطوري واسع جدا، ولكن هل هذا يعاب على أحد؟ ولم لا يكون لخصومهم طموحات أكثر منهم، إن لواذ بعض المسلمين تحت القوة النصرانية أصبح يصوغ عقولهم صياغة يائسة جبرية خائرة، ويجعل الحقائق مقلوبة تماما.
فكيف يفترض عاقل أن التوسع واحتلال البلدان حق فقط للنصارى، وللصهاينة، ولا يجوز لغيرهم تحرير أرضه، ولا الدفاع عن عرضه، ولا التوسع في سواها، فنتهم الشيعة بالطموح في إمبراطورية، ونطالبهم أن يخنعوا مثلنا للمستعمرين؟ ونتهمهم أنهم يدافعون عن أمنهم الوطني خارج حدودهم، وما الذي لا يجعل لغيرهم أمنا في الخارج إلا الهوان، إن لم تكن صاحب همة ولا أمل ولا طموح، فلماذا تتصور أن الآخرين خلو منها؟ نقل عن الملك حسين ملك الأردن السابق قال: جاء إلى جونسون وحدثه عن المظالم الصهيونية للعرب وأخذهم لأرضهم بالقوة أو بالشراء، وتجريدهم منها، فانحنى عليه جونسون وقال: سيدي، وهل تؤخذ الأرض إلا بالقوة أو الشراء؟
دولة قوية طامحة متماسكة وترى نفسها دينية وديمقراطية ترنو للمزيد، وبجوارها مستعمرات أو شبه مستعمرات خائفة وممزقة، فهل تلام على ضعفهم؟
12-كما أن إغراق الجميع في معضلات التاريخ نوع من الهروب من التحديات الواقعية التي تستحق المواجهة والوعي والتصرف، لا إلى حمل التاريخ على الظهور، منقذا من مشكلات العصر، والتاريخ لن ينفع اجتراره طرفا، بل قد يستعمل كأهم ضمانات التفرق والضياع وغياب الوعي بالذات وبالآخرين. أذكر مما قرأت لأحد الكتاب العرب أنه كان مع صديق له أمريكي في مدينة ديترويت،وشب خلاف بين شيعي وسني وكان الخصام بالعربية، فسأله الأعجمي عن السبب؟ قال صراع بين حزبين، قال: حزبان قائمان هنا أم في بلادهم؟ قال: لا، بل حزبان وجدا قبل أربعة عشر قرناً؟
إن الفقر الثقافي، وضعف الفكرة، وغياب التجديد، يجعل الناس يهجرون زمانهم المعوز إلى زمن أغنى، ولحظتهم الفارغة إلى لحظة تاريخية أرحب، وحينما يعانون قمعا وذلة فإن ذكرياتهم تعبر القرون إلى زمن عزة كزمن هارون: "أمطري فسوف يأتيني خراجك" ولهذا فنحن مسئولون عن صناعة الفكرة، وتجديد الموقف، والتأمل في حل، وليس أن تفرض علينا مواقف غيرنا.
وهنا اليوم من يتسامح مع النازية والإرهاب الصهيوني والاحتلال الأسوأ والفصل العنصري ليوجه التحدي مع الإيرانيين بأسباب ليست من نتاج عقله، ولا تأمله ولا تفسيره بل مفاهيم تدخل لرؤوسنا قسرا ليغيب الوعي بالشر الأقرب، وبالقتل اليومي فنترك الشر المتحقق ونطارد المحتمل،و لنذهب بعيدا هناك في محاربة التاريخ أو مصارعة من له تفسير يخالفنا للتاريخ.
13- وهناك مسألة أخرى حدث فيها مبالغة بسبب المكايدات المذهبية وهي مسألة: "ابن سبأ"، فمنهم من أنكر وجود شخص بهذا الاسم، ومن الناس من أعطاه دورا كبيرا نفخ فيه، حتى صور أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وجلة التابعين وكأن هذا اليهودي يسوقهم كما يشاء، وفي هذا طعن مبطن في الصحابة، فليس من الحق التاريخي ولا العقل أن نعطي هذا الشخص فوق قدره، ولا أن نقول إنه وأتباعه -إن كان له أتباع- كانوا يسوقون الصحابة والتابعين وراءهم في مذابح وفتن لا تنتهي، وليس من العدل أن نشنق ملايين من المسلمين عبر القرون على مقصلة هذا اليهودي، ولا إلزامهم بأنهم أتباع لشر ذاك اليهودي الفتان. وعلينا أن نتجاوز الرغبة في التعيير، لأنها تضر بالإسلام، ولأن علماءنا يذكرون تفصيلات عديدة عن تلك المرحلة، وعن الأشخاص، ومنهم من ينكر وجوده، وإن قبلنا وجوده فلا ننفخ في قصته.
14- إن لدى المسلمين القدرة على الاجتماع على الأصول المجمع عليها، طريقا أوليا للوصول لما بعد ذلك، ثم البحث فيما احتمل الخلاف عندهم قديما، وقد يكون هذا العمل تحت أسماء جديدة تخفف الضغط التاريخي، وتخفف من الحروب الكلامية والطرد السريع السهل من الملة؛ وقد وجدنا أن العالم العربي ومنه العراق قد خضع أو بعضه قبل في الأمس القريب لفكرة البعث، وللقومية -وهي أفكار هشة، ومستنبتة في غير أرضها- فتوحد ودافع عن بلاده في وجه الغزاة تحت رايات تغلبت أو تجاوزت الخطاب الطائفي بخطاب ضعيف كالخطاب البعثي! أليست لو جدّدت في دينها، وصقلت أفكارا وحدوية -إقليمية كانت أو أممية- بقادرة على صناعة حياة أرقى وأسلم وأقل خلافا وعدوانية؟ بلى والإمكانات موجودة.
ونحن نعلم أن الأفكار الجديدة أكثر فاعلية وتأثيرا، وأخف حملا من المدارس المثقلة بالتجارب والتفاصيل والتصويبات والاعتراضات، وهذه المذهبيات كثير منها ليست الدين، بل تراث لا يلزم أحدا، والقطعيات ليست مما تحتكره مدرسة، ولهذا فإن أمام شجعان العقول والقلوب مساحات لا تحد من التجديد والتصويب والهداية.
وبما أننا نريد أيضا الخير للعالم المحيط بنا فإن على الغربيين أن يعلموا أن القتل والإبادة للمسلمين لن تجعل حياتنا فقط جحيما، وتستمر في أن تصنع لهم جنة على وجه الأرض، لأن عالمنا الإسلامي يتسع لنحو ثلث البشر، وراسخون في قارتين كبيرتين، ودروب التجارة والمال والنفط عندنا أو تعبر من عندنا، وهذه المنطقة العربية الإسلامية عليها دروب الحضارات الكبيرة، التي كانت والتي قد تأتي، فالعلاقة يجب أن تخرج من دائرة قاتل ومقتول، ومستعمر ومستضعف، فالعالم يسمح اليوم للناس بالتبادل واحترام حقوق الإنسان، وعليهم أن يتعاملوا معنا على أننا بشر من الناس، وليس مجرد كائنات تسكن فوق غنائم وثروات، والموقف منها إبادتها أو تشتيتها والتحكم بها.
فالناس في بلادنا يزدادون وعيا وعددا، وتتضح لهم مصالح، وتظهر لهم الأضرار الكبيرة، وابتسار الموقف والمقاومة في القاعدة أو في البعثيين أو في الشيعة خداع للنفس يخدع به الغرب نفسه مؤقتا، ولكنه يضع نفسه لعقود وربما قرون قادمة على خط النار مع أمم تأبى العبودية أبد الدهر، وإن ضعفت زمنا فلا يعني أن هذا قدرها، وليقلل الغرب من زراعة الأحقاد الدينية والعنصرية الجامحة، فليس رصيدا يعتز به أبناؤه، ولا مهاداً يصلح الانطلاق منه للمستقبل.
وسيتغير موقفهم نحو ما نحب عندما تكون لنا مواقف معقولة لنا قبل أن يتعقلها غيرنا. خمس مئة مليون في أوروبا من شتى اللغات والأديان، يجتمعون ويعملون ويتنقلون بلا حواجز، بينما تفري في أحشائنا قبائل وتاريخ وأوهام، ولا نرتفع فوق شيء.
http://www.islamtoday.net/questions/...=73&artid=9072