بحوث الأدب المقارن ومجالاته
د. إبراهيم عوض
الأدب المقارن هو، كما وضحنا من قبل، فرع من فروع المعرفة، يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر، ينتمي كل منهما إلى أمة أو قومية غير الأمة أو القومية التي ينتمي إليها الأدب الآخر، وفي العادة إلى لغة غير اللغة التي ينتمي إليها أيضًا، وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر واحد أو أكثر من عناصر أدب قومي ما ونظيره في غيره من الآداب القومية الأخرى بُغْية الوقوف على مناطق التشابه ومناطق الاختلاف بين الآداب ومعرفة العوامل المسؤولة عن ذلك،كذلك فهذه المقارنة قد يكون هدفها كشف الصلات التي بينها، وإبراز تأثير أحدها في غيره من الآداب، وقد يكون هدفها الموازنة الفنية أو المضمونية بينهما، وقد يكون هدفها معرفة الصورة التي ارتسمت في ذهن أمة من الأمم عن أمة أخرى من خلال أدبها، وقد يكون هدفها هو تتبع نزعة أو تيار ما عبر عدة آداب...إلخ.
أما تأكيد بعض الدارسين المقارنين أن الأدب المقارن لا يُدخِل ضمن البحوث المقارنة تلك الدراسات التي تجري بين نتاجين أدبيين من قوميتين مختلفتين لا توجد بينهما صلة تاريخية أو ثقافية؛ إذ يجب في رأيهم أن يكون ظاهرها لدى من يقوم بالمقارنة أن الأدب القومي واقع تحت تأثير أدب أجنبي واستفاد منه وانتهج بعض أساليبه وجوانبه الفنية، وأن يثبت كيفية التقاء هذين الأدبين وزمن التقائها ونوعية تأثير أحدهما في الآخر، وتأكيدهم كذلك أن أهمية الأدب المقارن لا تقف عند دراسة التيارات الفكرية والأجناس الأدبية والقضايا الإنسانية في الفن، بل لا بد له أن يكشف عن جوانب تأثر الكتاب في الأدب القومي بالآداب العالمية، هذا التأكيد هو تأكيد في غير محله؛ إذ الأدب المقارن لا ينحصر في دراسة التأثير والتأثر بين الآداب المختلفة كما قلنا، وإن كانت بعض مدارسه تشترط ذلك، وهي المدرسة الفرنسية ومن يلفون لفها.
ذلك أن دراسة التأثير والتأثر بين مختلف الآداب إنما يمثل جانبًا واحدًا من جوانب بحوث الأدب المقارن كما وضحنا،وفي هذه الحالة فإن الأدب المقارن، كما يوضح المقارنون الذين يشترطون وجود تأثير وتأثر، يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة، وصلاتها الكثيرة المعقدة، في حاضرها أو في ماضيها، وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير أو تأثر، وأيًّا كانت مظاهر ذلك التأثير أو التأثر، وسواء تعلقت بالأصول الفنية العامة للأجناس والمذاهب الأدبية أو التيارات الفكرية، أو اتصلت بطبيعة الموضوعات والمواقف والأشخاص التي تعالج أو تحاكي في الأدب، أو كانت تمس مسائل الصياغة الفنية والأفكار الجزئية في العمل الأدبي، أو كانت خاصة بصور البلاد المختلفة كما تنعكس في آداب الأمم الأخرى بوصفها صلات فنية تربط ما بين الشعوب والدول بروابط إنسانية تختلف باختلاف الصور والكتاب، ثم ما يمتُّ إلى ذلك بصلة من عوامل التأثير والتأثر في أدب الرحالة من الكتاب.
ويشمل التأثير والتأثر كثيرًا من الموضوعات الأدبية: فقد يتعلق بأديب من الأدباء، وقد يتعلق بموضوع أدبي، وقد يتعلق بأسلوب لغوي، وقد يتعلق بشكل فني، وقد يتعلق باتجاه فكري، وقد يتعلق بجنس من الأجناس الأدبية، وقد يتعلق بقواعد تخص هذا الجنس أو ذاك، وقد يتعلق بالصور الفنية، وقد يتعلق بنموذج أو شخصية أدبية...إلخ ويتناول الباحثون في الأدب المقارن هذا الموضوع الأدبي أو ذاك فيتابعون انتقاله من أدب إلى آخرَ محاولين معرفة الطريق التي سلكها في رحلة الانتقال، والعوامل المسؤولة عن ذلك الانتقال، ومسجلين ما يطرأ عليه من تحويرات أو تعديلات أثناء تلك الرحلة.
ومع هذا يشير الباحثون في الأدب المقارن إلى أن هناك موضوعات تقليدية غاب أصلها الأدبي في غياهب الزمن، فلم نعد نعلم عن انتقالها من هذا الأدب إلى ذاك شيئًا، وذلك مثل أسطورة خاتم سليمان، وأسطورة طاقية الإخفاء، وأسطورة الشحاذة الطيبة الجميلة التي تتزوج ملكًا،وفي كل موضوع من تلك الموضوعات نجد تفصيلات يضيفها كل كاتب إليه، فتعطيه نكهته التي يتميز بها عن معالجة مبدع آخر لذات الموضوع،وتقوم المقارنة الأدبية هنا بتبيان الفروق ووجوه الاتفاق بين المعالجات المختلفة لذلك الموضوع،ويؤكد الدارسون المقارنون عن حق أن التأثر بإبداعات الآخرين لا يعد عيبًا؛ فالحياة قائمة على التعاون والأخذ والعطاء، وليس هناك مبدع يأتي بإبداعاته من الفضاء الخارجي، بل الكل يعتمد على الكل، إن صح التعبير، مضيفًا إليه بعض التفصيلات أو محورًا فيما أخذ، أو مستدركًا عليه، أو معيدًا تنظيمه،وفي مثل هذه الأمور يمكن أن تكمن العبقرية الإبداعية.
وفي وسع الدراسات المقارنة أن تتناول مثلًا موضوع الغيرة أو الانتقام أو التضحية في سبيل الواجب أو بعض العادات أو السلوكيات أو المعتقدات أو القيم، فتلقي ضوءًا قويًّا كاشفًا على عبقرية الكتَّاب الذين تناولوا هذا الموضوع، لنأخذ مثلًا مسرحية "فاوست" لجوته، حيث نرى فاوست في أول المسرحية شقيًّا كل الشقاء بعقله، يهمّ بالانتحار، ثم يتولد فيه الأمل ويأخذ في نشدان السعادة عندما يبدأ بالتفكير في المستقبل، ويظل على هذا طوال الجزء الأول من المسرحية، ثم ينتهي هذا الجزء بنجاة مرجريت منه ومن روح الشر المسيطرة عليه، مفضلة البقاء في السجن والبعد عن حبيبها، وفي الجزء الثاني يظل فاوست منغمسًا في تجارِب الحياة المادية إلى أن يتعرف على هيلين رمز الجمال الخالص، فيهتدي عن طريقها إلى الخير والعفة والفضيلة،وهذه القصة نفسها تمثل المحور العام لمسرحية "شهرزاد" لتوفيق الحكيم؛ إذ هي أيضًا تعالج قضية الصراع بين العقل والقلب، مما يوضح تأثر توفيق الحكيم بجوته، كما لاحظ الدارسون المقارنون الذين عكفوا على دراسة هذين العملين، ونفس الأمر نجده عند اللورد بيرون في مسرحيته: "منفرد"، التي نشرت عام 1887م، والتي تأثر فيها الشاعر الإنجليزي من بعض الوجوه بمسرحية نظيره الألماني؛ إذ يظهر فيها الساحر منفرد فريسة لليأس والندم بسبب حب ثم قضى على محبوبه فيحاول استدعاء أرواح الأرض والسماء لنجدته، إلا أنها تعجز عن أن تهبه نعمة النسيان، فيحاول الانتحار، ولكن يتم إنقاذه، لنراه رغم ذلك يأبى الخضوع للأرواح الشريرة، ثم يظهر شبح المحبوبة، التي ترفض أن تغفر له ما صنعه معها، وتتنبأ بموته في الغد، وفي لحظة الموت تظهر أرواح الشر، فيرفض أن يخضع لها، كما رفضت مرجريت في مسرحية "فاوست" أن تخرج من سجنها جزعًا من روح الشر،ويلعن منفرد الشياطين؛ لأنه لا يصح المعاقبة على الجرائم بجرائم مثلها، فعذاب الضمير أبشع من عذاب الجحيم.
وهناك أيضًا مسرحية "أودي الملك"، التي كتبها الشاعر اليوناني سوفوكليس في القرن الخامس قبل الميلاد، وموضوعها سلطان القدر الساحق، الذي قد يحول انتصارات المرء إلى هزائم، وهزائمه إلى انتصارات،وهذا الموضوع هو في الأصل أسطورة يونانية شهيرة، وقد تأثر توفيق الحكيم بتلك المسرحية في مسرحيته: "الملك أوديب"، التي نشرها سنة 1949م، ولكن إذا كان "أوديب" سوفوكليس يعاني من مشكلة البحث عن الحقيقة، فإن "أوديب" توفيق الحكيم، كما نبه إلى ذلك الدارسون الذين قاموا بالمقارنة بين المسرحيتين، يعاني من مشكلة الصراع بين الحقيقة والواقع، وقد دخل الأديب الحضرمي المصري علي أحمد باكثير على الخط، فألَّف هو أيضًا مسرحية بعنوان "أوديب"، ذاكرًا أن هدفه من كتابتها هو محاولة تشخيص المشكلة الفلسطينية، وإن حوى العمل إلى جانب هذا هجومًا على البدع التي أخذت تشيع في البيئات الإسلامية منذ العصر الفاطمي، ويقوم على الترويج لها طبقة من المتاجرين باسم الدين.
وفي نفس السياق نجد مسرحية "بجماليون"، التي نشرها توفيق الحكيم سنة 1943م، وتأثر فيها بمسرحية تحمل ذات الاسم للكاتب الأيرلندي برنارد شو، وإن أدار توفيق الحكيم عمله حول فكرة التردد بين مثالية الفن وواقع الحياة، عكس شو، الذي طرح في مسرحيته مشكلة الطبقية.
وعندنا، إلى جانب هذا، النماذج الأدبية،وهذه النماذج الأدبية يمكن أن تنقسم إلى نماذج الشعوب المختلفة؛ كالفرنسي والألماني والمصري والصيني، أو نماذج المهن؛ كالشيخ والكاهن والفلاح والطبيب والمحامي والصيدلي وحفار القبور والجاسوس والبَغِيِّ وقاطع الطريق، أو نماذج التشويه البدني أو النفسي؛ كالمخنَّث والأعمى والمعتوه والأحدب والمقامر والسِّكِّير،ويس تطيع المقارن الأدبي أن يدرس تصوير الأدباء لهذه النماذج الاجتماعية والإنسانية عن طريق تتبعه للصفات المشتركة التي رأوها في هذه الشخصيات، ومدى تأثر بعضهم ببعض، أو اختلاف بعضهم عن بعض.
فمن ذلك مثلًا شخصية الفلاح، التي تناولها عدد كبير من الأدباء، وصوروا حياته وآلامه ومعاناته،وقد لاحظ بعض الدارسين أن عددًا من الأدباء المصريين والعرب قد تأثروا بالأدب الروسي في تصوير الفلاح المصري،كذلك من الممكن أن ندرس جوانب التأثر والتاثير بين الكتَّاب الذين تناولوا شخصية البَغِيِّ: فبعضهم عد المومس امرأة فاضلة، بل قدمها في صورة ملاك يهَب دون انتظار أية مكافأة، مما لا يفعله كثير من المتشدقين بالتدين أو بالأخلاق الفاضلة،ولعل خير مثال على ذلك مسرحية "غادة الكاميليا" لألكسندر ديماس، وكذلك شخصية "نور" في رواية نجيب محفوظ: "اللص والكلاب"، ولولا في روايته الأخرى: "السمان والخريف"،وقد صور بعض الكتاب المومس في صورة ضحية مغلوبة على أمرها، فلا ذنب لها في سقوطها، بل المسؤول عن ذلك المجتمع؛ فهو الذي دفعها في نظرهم إلى الرذيلة دفعًا،وبعض ثالث عدها آفة اجتماعية لا سبيل إلى إصلاحها، وخطرًا داهمًا على المجتمع الذي تعيش فيه،ومما لا شك فيه أن مسرحية "غادة الكاميليا" كان لها أثرٌ كبير على الكتاب العرب الذين تناولوا شخصية المومس الفاضلة، ويعد نجيب حداد أحد من قلدوا "غادة الكاميليا"؛ فروايته: "إيفون مونار أو حواء الجديدة"، التي تأخذ على عاتقها رد اعتبار العاهرة، وتأثر فيها بأفكار كل من رومان رولان وألكسندر دوماس وغيرهما من الأدباء الفرنسيين، ولعل الحداد، كما كتب بعض الدارسين المقارنين، هو أول من تطرق لموضوع الدفاع عن البَغِيِّ في الأدب العربي الحديث.
وهناك مثال آخر على الموضوعات أو النماذج التي يتناولها الأدب المقارن، وهو موضوع الحب المحرم في الآداب العالمية، حيث يمكن تتبع رذيلة ارتكاب الحرام عن طريق نشوء عاطفة آثمة داخل الأسرة، بدءًا من مسرحية "هيبوليت " للشاعر المسرحي الإغريقي يوربيدس، مرورًا بمسرحية "فيدر" في القرن السابع عشر الميلادي بقلم المؤلف المسرحي الفرنسي راسين، وصولاً إلى معالجة نفس القضية مع تغير الأدوار في مسرحية "تحت أشجار الدردار" للكاتب الأمريكي يوجين أونيل، ومسرحية "اللص" لتوفيق الحكيم.
ومن النماذج العامة نموذج البخيل، الذي دارت حوله مسرحية الشاعر اليوناني ميناندر، وإن لم تصل هذه المسرحية إلينا، إلا أن الشاعر الروماني بلوتوس قام بمحاكاتها في مسرحية عنوانها: "أولولاريا"،كما جرى تصوير هذا النموذج في بعض المسرحيات الأوربية الحديثة،ومن أشهرها: مسرحية "البخيل" للشاعر الإيطالي كارلوجولدوني، ومسرحية "البخيل"، للكاتب الفرنسي موليير، التي كان لها أثر كبير على المسرحيين العرب.
كذلك هناك النماذج الأسطورية الخيالية التي تعود إلى حكايات قديمة أو موغلة في القدم تحورت أو تشوهت أو فقدت معناها الأصلي،ومن هذه النماذج: نموذج الشيطان، كما في مسرحية "فاوست" لجوته، ومسرحية "منفرد" لبيرون، اللتين سبقت الإشارة إليهما، وكذلك نموذج الساحرة الشريرة، كما في مسرحية "ماكبث" لشكسبير، ونموذج الشبح، كشبح هاملت في مسرحية شكسبير المسماة بهذا الاسم، وهناك نماذج أسطورية تحولت إلى رمز فلسفي أو اجتماعي، وتناولها كل أديب من وجهة نظره الخاصة التي تتفق مع عصره وظروفه، ومن هذه النماذج نموذج بجماليون، وهو فنان من جزيرة قبرص هام عشقًا بجمال تمثال صنعه بيده،وهذا الموضوع نفسه نجده في الأدب الروماني القديم في قصته "المسخ" عند أوفيد، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد،وعرض لنفس الفكرة كتاب وشعراء من مختلف الآداب، منهم توفيق الحكيم في مسرحيته: "بجماليون"، التي نشرها عام 1934م، وإن طرح الحكيم فيها مسألة التردد بين مثالية الفن وواقع الحياة، وهو ما سبق الحديث عنه، مثلما سبق الحديث عن برنارد شو ومسرحيته: "بجماليون"، التي عالج فيها مشكلة الطبقية في المجتمع الإنجليزي، وتدور مسرحية توفيق الحكيم المسماة: "شمس النهار"، التي نشرها سنة 1965م، حول الفكرة التي تقول: إننا نقدر ونحب من نصنعه أو نعلمه أكثر مما نقدر ونحب من صنعنا هو أو علمنا، وهي نفس الفكرة التي نجدها في "بجماليون" أوفيد الروماني، وتأثر بها عدد من الفنانين والأدباء والشعراء.
ومن تلك النماذج الأسطورية أيضًا: نموذج "برومثيوس" إله النار لدى الإغريق، الذي تناوله العديد من الشعراء في شعرهم، وكذلك بعض كتَّاب المسرح في مسرحياتهم، بدءًا من الشعراء الإغريق، ووصولاً إلى الكتاب الأوربيين في عصر النهضة الأوربية،كما تأثر بهذه الأسطورة الشاعر التونسي المعروف أبو القاسم الشابي في ديوانه: "أغاني الحياة"، والشاعران المصريان: عبدالرحمن شكري وعباس محمود العقاد على سبيل المثال، كما يقرر بعض دارسي الأدب المقارن.
ومن هذه النماذج أيضًا: نموذج الشيطان،وقد اتخذه الشاعر الإنجليزي جونميلتون، الذي عاش بين عامي 1608م و1674م، أساسًا لملحمته: "الفردوس المفقود"، كذلك يعبر الرومانسيون، على لسان الشيطان، عن آرائهم فيما ينتابهم من مخاوف وأحزان وشكوك،ويبدو واضحًا جليًّا أثر هذه الشخصية في الأدب الروسي الرومانسي عند ليرمنتوف في قصيدته: "الشيطان"، التي تأثر فيها، إلى حد بعيد، بالشاعر الإنجليزي بيرون، أما فيكتور هوجو فقد جعل الشيطان ممثلًا للإنسانية كلها عند ابتعادها عن الله جل وعلا، ولعباس محمود العقاد قصيدة عنوانها: "ترجمة شيطان"، تحدث فيها عن شيطان ناشئ سئم حياة الشياطين، وتاب عن صناعة الإغواء، إلا أنه لم يستطع التخلص من طبيعته الإغرائية إلى آخر الشوط، والقصيدة في مجملها تضم الكثير من آراء العقاد وتطلعاته الفلسفية التي ساقها على لسان الشيطان،وهو فيها متأثر، إلى حد كبير، بالرومانسيين الأوربيين حسبما وضح عدد من الدارسين المقارنين ممن تناول ذلك العمل.
وثم مجال آخر يتعلق بدراسة الشخصيات المتميزة، وتناوله بالبحث الدارسون المقارنون، ومنها: شخصية جحا التي تعود إلى المصادر الشعبية، وأصبحت موضوعًا تتناوله الآداب العالمية بمختلف ألوانها؛ إذ نجده في الأدب الشعبي المصري، والأدب الشعبي التركي، والأدب الشعبي القوقازي، والأدب الشعبي الفارسي... وهو في كل ذلك رمز للإنسان البسيط خفيف الظل، الذي يعبر عن رأيه في شجاعة، منتقدًا أوضاع السلطة الحاكمة الفاسدة المستبدة، حاملاً ملامح كل أمة ينتمي إليها حسبما لوحظ؛فهو، على وجه الإجمال، خير معبر عن الوجدان الشعبي وموقفه من عصور القهر والظلم، ومن تلك النماذج أيضًا شخصية "شهر زاد" بطلة قصص "ألف ليلة وليلة"، التي نقلت إلى الآداب الأوربية، وأصبحت رمزًا للاهتداء إلى الحقيقة عن طريق القلب والعاطفة،وعن هذه القصص أيضًا انتقل موضوع "علاء الدين والمصباح السحري" إلى الآداب المختلفة،ومنها كذلك أخذ توفيق الحكيم مسرحيته: "شهر زاد" التي نشرها سنة 1934م، وطه حسين روايته: "أحلام شهر زاد"، التي رأت النور سنة 1942م.
ومن هذه الشخصيات كذلك شخصية "دون جوان"، التي يصعب الآن معرفة الموطن الذي نبتت فيه،وكل ما يعلمه المقارنون أن أقدم مسرحية تناولت هذه الشخصية الأسطورية هي مسرحية "ساحر إشبيلية"، التي ألفها ترسو دي مولينا (1584م - 1648م)، وتبعه جمع من كتاب أوربا وشعرائها، منهم: موليير الفرنسي، وبيرون الإنجليزي، وجولدوني الإيطالي، وهوفمان الألماني، ويرمز دون جوان إلى الإنسان المستهتر المخادع الذي لا هَمَّ له إلا التغرير بالفتيات وتحطيم قلوبهن، ثم هجرهن دون عودة، وإن كان بعض الكتاب قد صوره بصورة التائب الذي يلاحقه عذاب الضمير على ما اجترح من خطايا...إلى غير ذلك من الصور التي رسمتها أقلام الكتاب والشعراء لهذه الشخصية، كل طبقًا لرؤيته الخاصة،وقد تعرض لأسطورة دون جوان كثير من الأبحاث التي تمتاز بالغنى والدقة، ومنها البحث الذي كتبه جاندرم دي بيجوت بعنوان: "أسطورة دون جوان من أصولها إلى الرومانسية".
وبالمثل كان لشخصية كليوباترا حظ موفور في الآداب العالمية: ففي الأدب الفرنسي هناك مسرحية "كليوباترا الأسيرة"، التي كتبها الشاعر جوول (1532 - 1573م)، وفي الأدب الإنجليزي هناك مسرحية "كليوباترا" للشاعر صمويل دانيال (ت 1594م)،كما تناولها وليم شكسبير في مسرحيته: "أنطونيو وكليوباترا"، التي تأثر بها عدد غير قليل من المبدعين في الآداب المختلفة، وفي مصر نجد مسرحية "مصرع كليوباترا" لأحمد شوقي، الذي دافع دفاعًا مستميتًا عن تلك المرأة، جاعلاً منها ملكة وطنية تحب مصر وتعمل على صالحها وتضحي بحبها من أجلها.
ومن الشخصيات التاريخية في الأدبين العربي والفارسي يمكن الدارس المقارن أن يذكر على سبيل المثال شخصيتي ليلى العامرية وحبيبها قيس بن الملوح المعروف بـ: "مجنون ليلى"، ولقصة حبهما حديث طويل أفاضت فيه كتب الأدب والتصوف،والمعرو ف أن لأحمد شوقي مسرحية عنوانها: "مجنون ليلى"، كما أن لصلاح عبدالصبور مسرحية من الشعر الحر، هي "ليلى والمجنون"، وهذه النماذج والشخصيات وغيرها لا تعدو أن تكون موضوعًا واحدًا من الموضوعات التي يمكن أن يتناولها الباحث المقارن من زاوية التأثر والتأثير بين الآداب المختلفة.
وكما سبق أن وضحنا ليس شرطًا أن يدرس الأدب المقارن التأثير والتأثر بين الآداب المختلفة، فهذا إنما يشكل بعضًا من مهمته، وليس مهمته كلها،وفي هذه الحالة يكشف الأدب المقارن عن مصادر الأصالة في الأدب القومي، وما دخل عليه نتيجة تلاقحه مع الآداب الأخرى، ولا شك أن جوانب التأثر كثيرةٌ ومتعددة؛ فالأدب كائن حي، يؤثر ويتأثر، ويأخذ ويعطي، وهذه سنَّة العطاء الإنساني،وهنا يوضح الأدب المقارن خط سير الآداب في علاقاتها بالآداب الأخرى، ومدى تقاربها في الأفكار، مبينًا لنا أهمية التأثير والتأثر في تقوية الآداب المختلفة، وكذلك في العمل على تقارب الشعوب وخروجها من عزلتها،وبذلك يكون للأدب المقارن أهمية كبيرة في دراسة المجتمعات وتفهمها.
وهناك مجموعة من الشروط يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن، منها: أن تتسع معارفه؛ بحيث يكون مطلعًا على جوانبَ متعددة من الثقافات التي تتصل بالآداب، وأن يعرف بعض اللغات الأجنبية؛ إذ لا يستطيع أن يعرف ما تم من تأثير وتأثر في الموضوعات التي يدرسها إلا بالاطلاع على النصوص والآثار الأدبية في لغاتها الأصلية؛ فقد ثبت أن الاعتماد على الترجمات دون الرجوع إلى الأصول كثيرًا ما يؤدي إلى أخطاء في النتائج بسبب سوء الترجمة أو تحويرها أو سهوها عن أشياء مهمة في اللغات المنقول عنها،ومعنى هذا أن من يريد معرفة تأثير الشاعر الألماني جوته في الأدباء الرومانسيين مثلًا يحتاج إلى أن يقرأ جوته في لغته الألمانية، وليس يكفيه تمامًا اللجوء إلى ما ترجم من أدبه.
كذلك ينبعي للدارس المقارن أن يلم بالمصادر والأصول الخاصة بموضوع البحث؛ كي يستطيع معرفة عملية التأثير والتأثر،وإذا وقعت له ترجمة لعمل من الأعمال الأدبية فعليه أن يقارن بين الترجمة والأصل، وكذلك بين الترجمات المتنوعة إذا كان هناك أكثر من ترجمة للعمل المذكور، وبالمثل عليه معرفة ما يختص بدراسة الأجناس أو الأنواع الأدبية؛ كنشأة قصص الرعاة ومسرحياتهم في الأدب الأوروبي، وانتشار القصة التاريخية في أوربا مع أوائل القرن التاسع عشر، ونشوء القصة والمسرحية في الأدب العربي، ثم الحكايات التي كتبت على ألسنة الطير والحيوان، وكيف أدخلها ابن المقفع إلى الأدب العربي في العصر العباسي، وكيف أثر الأدب العربي في الأدب الفارسي، أو كيف أثر الأدب الفارسي في الأدب العربي...إلخ.
وإلى جانب هذا يجب أن يتتبع الدارس المقارن كل نوع من الأنواع الأدبية وتطوره في لغتين أو أكثر، وأن يبحث العوامل التي أثرت في الآداب التي يراد دراستها،وقد يحاول الباحث المقارن دراسة جنس أدبي في أدبين فقط، كما هو الحال في دراسة القصة الرومانسية الفرنسية وتأثيرها في القصة العربية، أو في أكثر من أدبين، كدراسة القصة الرومانسية في الآداب الأوروبية ثم تأثيرها في القصة العربية خلال العصر الحديث،وعليه أن يأتي بالدليل على تأثر ذلك الكاتب أو أولئك الكتَّاب بالجنس الأدبي موضوع الدراسة، وقد يصرح الكاتب نفسه بهذا التأثير، وعليه تكون مهمة التدليل والبرهنة يسيرة على الباحث المقارن، كما هو الحال مع فيكتور هوجو مثلًا، الذي صرح بمحاكاة مسرح شكسبير الإنجليزي، أما إذا لم يصرح الكاتب بذلك، كما في محاكاة أحمد شوقي عند كتابته مسرحية "مصرع كليوباترا" لشكسبير، أو في تأثره عند إبداع أشعاره التي ساقها على ألسنة الطير والحيوان بكتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع - ففي مثل هذه الحالات تكون مهمة الباحث المقارن في العادة صعبة.
ومن أكثر فروع الأدب المقارن انتشارًا دراسة تأثير كاتب معين في أدب أمة أخرى،وهذا التأثير قد يكون شخصيًّا أو فنيًّا أو فكريًّا؛ إذ يمكن مثلًا دراسة أثر إبسن أو برنارد شو أو بيراندللو أو بيرخت أو يوجين يونسكو أو الكتاب الإسبان في مسرح توفيق الحكيم، وقد ندرس رواية مثل "الرباط المقدس" لتوفيق الحكيم وعلاقتها برواية "تاييس" للكاتب الفرنسي أناتول فرانس، وقد ندرس التأثير الفرنسي في أدب طه حسين، وبالذات في أعماله القصصية مثل "المعذبون في الأرض" و"شجرة البؤس" وغيرهما، أو ندرس تأثير الكاتب الفرنسي جيدي موباسان في قصص محمود تيمور...إلى آخر هذه الموضوعات التي يمكن الباحث المقارن أن يتناولها.
يتبع