بسم الله الرحمن الرحيم ،
فقد سألني أحد الإخوة أن أورد له تفسيري لكلام شيخ الإسلام - رحمه الله - في السجود أمام الصنم ، والذي نصه :
قال في [مجموع الفتاوى : 14/120]:
فأقول مستعيناً بالله ..وما كان كفراً من الأعمال الظاهرة : كالسجود للأوثان ، وسب الرسول ، ونحو ذلك ، فإنما ذلك لكونه مستلزماً لكفر الباطن ، وإلا فلو قدر أنه سجد قدام وثن ، ولم يقصد بقلبه السجود له ، بل قصد السجود لله بقلبه ، لم يكن ذلك كفراً . وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه ، فيوافقهم في الفعل الظاهر ، ويقصد بقلبه السجود لله ؛ كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين ، حتى دعاهم إلى الإسلام ، فاسلموا على يديه ، ولم يظهر منافرتهم في أول الأمر .
ابن تيمية - رحمه الله - ذكر مسائل ، وهي :
1- السجود للأوثان كفر ظاهر يستلزم الكفر الباطن .
2- السجود قدام الوثن (لاحظ أنه لم يقل للوثن) قد لا يستلزم الكفر الباطن ، بل يفعله صاحبه وهو مؤمن .
3- هذا الفعل ، مع مشاكلته للكفر الظاهر ، فإنه ليس كفراً .
4- وقد يباح في حال الضرورة ، وهو خوف المسلم على نفسه من الكافرين .
-------
ففي المسألة الأولى .. فلا يجادل أحد من المسلمين أن السجود للأوثان كفر باطن وظاهر .. وصاحبه مشرك .
وفي المسألة الثانية : هناك فرق بين السجود للوثن ، الذي يقتضي عبادته أو تشريفه .. وبين السجود إلى الوثن ، بمعنى أن يتخذه وجهة له وساتراً عند السجود ، وهو ينوي في قلبه السجود لله .
وفي ذلك يقول ابن تيمية - رحمه الله - في [مجموع الفتاوى : 4/358]:
المسألة الثالثة : يقول ابن تيمية - رحمه الله - مستدركاً :وكذلك قصة سجود الملائكة كلهم أجمعين لآدم ، ولعن الممتنع عن السجود له ، وهذا تشريف وتكريم له .
وقد قال بعض الأغبياء : إن السجود إنما كان للّه وجعل آدم قبلة لهم ، يسجدون إليه كما يسجد إلى الكعبة ، وليس في هذا تفضيل له عليهم ، كما أن السجود إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند اللّه ، بل حرمة المؤمن عند اللّه أفضل من حرمتها ، وقالوا : السجود لغير اللّه محرم ، بل كفر .
والجواب : أن السجود كان لآدم بأمر اللّه وفرضه بإجماع من يسمع قوله ويدل على ذلك وجوه :
أحدها : قوله : لآدم ، ولم يقل : إلى آدم . وكل حرف له معنى ، ومن التمييز في اللسان أن يقال : سجدت له ، وسجدت إليه ، كما قال تعالى : { لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [فصلت: 37] ، وقال : { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الرعد: 15] .
وأجمع المسلمون على أن السجود لغير اللّه محرم ، وأما الكعبة فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى بيت المقدس ، ثم صلى إلى الكعبة ، وكان يصلى إلى عنزَة [ العَنَزَة : رُمَيْح بين العصا والرُّمح ] ، ولا يقال : لعنزة ، وإلى عمود وشجرة ، ولا يقال : لعمود ولا لشجرة ، والساجد للشيء يخضع له بقلبه ، ويخشع له بفؤاده ، وأما الساجد إليه فإنما يولي وجهه وبدنه إليه ظاهراً ، كما يولى وجهه إلى بعض النواحي إذا أمه ، كما قال : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [البقرة: 144] .
والثاني: أن آدم لو كان قبلة لم يمتنع إبليس من السجود ، أو يزعم أنه خير منه ؛ فإن القبلة قد تكون أحجارًا ، وليس في ذلك تفضيل لها على المصلين إليها ، وقد يصلي الرجل إلى عنزة وبعير ، وإلى رجل ، ولا يتوهم أنه مفضل بذلك ، فمن أي شىء فر الشيطان ؟ هذا هو العجب العجيب !!
لم يجعل هذا الفعل كفراً ..وإلا فلو قدر أنه سجد قدام وثن ، ولم يقصد بقلبه السجود له ، بل قصد السجود لله بقلبه ، لم يكن ذلك كفراً
ثم هو استدرك على أصل الحكم الشرعي ، الذي قال فيه إن الكفر الظاهر يلزم منه الكفر الباطن .. فاستدرك بقوله : (وإلا) .. بما يفيد خروج المستدرك عن حكم المستدرك عليه .
فعليه ، نأتي إلى المسألة الثالثة .. وهي : أن هذا الفعل مع مشاكلته لفعل المشركين في الظاهر ، إلا أنه في الباطن والحقيقة ليس كفراً ..
وقال إنه قد يباح في حال الضرورة .. وهذه المسألة الثالثة ..
وقد يظن البعض أن "الخوف من المشركين" يعني به ابن تيمية الإكراه .. وهذا باطل .. لأنه لو عناه لقال ذلك صراحة ، هذا أولاً .. ثم إنه قال :
ومعلوم أن الإكراه في حقّ أهل الكتاب غير جائز .. وهو مما اختص الله به هذه الأمة عن غيرها من الأمم ..كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين
فدلّ هذا على أنه عنى الضرورة وليس الإكراه ..
هذا ، والله أعلم