حياتنا الكثير من الإنجازات و الإبداعات التي لو سبرت غورها ، و نبشت قعرها ، لألفيتها بدأت من ردة فعل لموقف معين ، حرّكت جمود الذهن ، فـانبثقت منها فكرة ، قـلّبها العقل على نار التفكير الهادئة ، ثم اختمرت ، و نضجت ، إلى أن انتهت أخيراً بمشروع عمل .
و من بين هذه المواقف التي لا تُعدّ = موقف طريف ، لكن كان له أثر كبير جدا في إعداد مشروع ضخم لإنقاذ جانب من تراث الأمة الإسلامية من الضياع و التلف ؛ و هو أن " الملا عبد القيوم " رحمه الله أحد علماء الهند في حيدر آباد الدكن في أواخر القرن التاسع عشر ميلادي ، حصل أن زاره بعض إخوانه في داره ، ثم بعث ابنه ليشتري بعض الحلوى ، فلما عاد الولد بالحلوى إذ بها ملفوفة ، ملفوفة بماذا ؟
كانت ملفوفة بمخطوطةٍ نادرةٍ تُعدّ كنزاً من كنوز تراثنا الإسلامي !.
فهال هذا الشيخ الجليل ما آل إليه حال مخطوطاتنا من ضياع ، و إهمال ، و امتهان ! .
لكن هذه الصدمة المُمضّة قدحت في ذهنه فكرة إنشاء دار تعمل على جمع هذه المخطوطات ، و حفظها ، و تحقيقها ، ثم نشرها ؛ لإنقاذها من هذا المصير المؤلم .
فاتّجه إلى الإمارة الآصفية في حيدر آباد الدكن ، وخاطب المسئولين عن التعليم والمعارف فيها ، فلقي منهم استجابة وتشجيعاً ، ثم شُكّلت لجنة مكونة من علماء أجلاّء ، و لقيت هذه اللجنة دعماً مادياً من الحاكم آنذاك و هو " نظام الملك آصفجاه " الذي تبناها و أصدر مرسوماً في عام 1308 هـ ، بإنشاء دائرة المعارف النظامية نسبة إليه ، ثم تحولت في عام 1956 م إلى دائرة المعارف العثمانية ( ولا علاقة لها بالدولة العثمانية ) نسبة إلى الحاكم " النظام مير عثمان " الذي كان يدعمها سنويا بعشرات الألوف من الجنيهات .
و استمرت طيلة عهدها في إحياء نفائس التراث الإسلامي لسنين طويلة فعلى سبيل المثال : نشرت " المستدرك على الصحيحين " للحاكم النيسابوري ، و " سنن البيهقي " ، و " التاريخ الكبير " للبخاري ، و " مسند أبي عوانة الإسفراييني " ، و " مسند الطيالسي " ، و " الصارم المسلول على شاتم الرسول " لشيخ الإسلام ابن تيمية ، و " تذكرة الحفاظ " للعلامة الذهبي ، هذا فضلا عن كتب اللغة والأدب و التاريخ ، مثل " الفائق في غريب الحديث و الأثر " للزمخشري ، و " الجمهرة لابن دريد " ، و كتباً كثيرة تصعب على العد والحصر في460مجلداً من أمهات الكتب .
و توسع نطاق عمل هذه الدائرة المباركة من جمع المخطوطات التي توجد في الهند إلى جمع المخطوطات من جميع مكتبات العالم عن طريق التصوير و الشراء ؛ إذ حظيت بالدعم المادي من جهات كثيرة ، بعد أن رأت دورها الإيجابي و الرائد في هذه القضية المهمة .
و قد عمل فيها العديد من جهابذة العلم و أساطين تحقيق التراث ، ويكفي أن نعلم أن العلامة " عبدالرحمن المعلّمي اليماني " رحمه الله ، قد عمل فيها محققاً و ناشراً للكثير من كتب السلف ، فكانت هذه الدائرة بحق مفخرة لأهل الهند ؛ يقول عنها العلامة " عبدالحي الحسني " : " إنها نشرت كتبا قيمة في الحديث و أسماء الرجال و التاريخ واللغة و وعلوم الحكمة و الرياضة كان يتسامع بها الفضلاء و يحن إليها العلماء ، ولم تر ضوء الشمس ، فكانت مأثرة علمية تذكر ، وتشكر " .
و يقول " محمد رشيد رضا " : " العالم الإسلامي يحمد للهند فضلها في طباعة الأعمال الأساسية في الموضوعات الإسلامية خاصة في السيرة و الحديث " .
و يقول " محمد الأرزنجاني الدمشقي " : " إن دائرة المعارف العثمانية قد أسدت إلى العلم و أهله أيادي بيضاء ، و لقد أخرجت كنوزا ثمينة جديرة بأن تكون من أزهى جواهر المعرفة في جيد الدهر . تلك العقود و الجواهر الخالدة التي كانت العقول النيرة تائقة لسبر غورها و الإستطلاع عليها من كل الأمم " .
و يقول العلامة " محمود الطناحي " : " و يعدّ ما نشرته دائرة المعارف العثمانية ؛ من كتب رجال الحديث ، و تراجمهم ، من أوسع و أعظم ما نشرته الدائرة ، و هو عمل لم تقم به هيئة أخرى ، في داخل العالم العربي ، أو خارجه " .
و أقوال كثيرة أعرضت عنها خشية الإطالة ، كلها تلهج بالثناء و العرفان لهذه الدار التي نشأت بفضل الله ثم لفافة الحلوى التي أتى بها الولد لأبيه " الملا عبد القيوم " ! .
فلا تحقرنّ يا أخي الكريم من الأفكار شيئا ؛ فإذا كان طريق الألف ميل يبدأ بخطوة ؛ فطريق أكبر الإنجازات يبدأ بفكرة ! .
---------
المراجع :
1- " دائرة المعارف العثمانية ، ظروف النشأة و مراحل التطور " ، حماد العنقري ، مقال منشور في مجلة الفيصل ، عدد 276.
2- " مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي " ، محمود الطناحي ، مكتبة الخانجي .