قال الله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].
يقول ابن كثير رحمه الله: أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصُل لك بها الثوابُ في الدنيا والآخرة، ولا تنسَ نصيبك من الدنيا، مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، فآت كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
وأحسِن إلى خلقه كما أحسن الله تعالى إليك، ولا تكن هِمتك بما أنت فيه أن تفسد به الأرض، وتسيء إلى خلق الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾[1].
إن منهج التوازن والاعتدال في الإسلام، يُمَكِّنُ الإنسان من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتوازنة التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الأساسية البسيطة.
المضامين التربوية:
إن التشريع الإسلامي تشريع سامٍ يقوم على التوازن والاعتدال، فلا يطغى جانب على آخر البتةَ، بل الجانب الذي فيه مصلحة وخير ونفع للإنسان، هو الذي ينبغي أن يصرف له الجهدُ والاهتمام.
وفي هذه الآية الكريمة يوجه خالق الإنسان العليم بمصالحه الدنيوية والأخروية - أن يوظف ما وهبَه الله تعالى من مال وصحة وعافيةٍ وفطنة وذكاء في طاعة الله ومرضاته للفوز بالجنة والنعيم الأبدي، وفي الوقت نفسه عليه عدم إهمال ما يحتاجه من المباحات المعينة على العيش في الدنيا، التي لا تستقيم الحياة إلا بها وَفق منهج الإسلام وتشريعاته السامية.
وتتضمن الآية الكريمة مضامين تربوية عدة؛ منها:
أولًا: التركيز على موضوع له درجة كبيرة من الأهمية، وهو أن الإسلام دين التوسط والاعتدال؛ قـال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
ولذلك ينبغي على المربين ابتداءً من الأسرة ثم المدرسة، والدعاة والمصلحين والإعلام بوسائله المختلفة - غرسُ هذه السمة والميزة الإسلامية الفريدة في نفوس الأولاد والتلاميذ والطلاب، وكافة أفراد المجتمع، وبيان أن هذه هي الصورة الحقيقية للإسلام، الدين الخاتم الذي جاء لإنقاذ البشرية من الضلال إلى الهداية على يدي نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].
ثانيًا: إن بعض المناهج التي تعتمد التضليل عمَّت وانتشرت في بعض البلدان الإسلامية، وبين ثُلة من المسلمين مناهج مرفوضة، وفي المقابل منهج التفريط والتساهل والانفلات بحجة التجديد والتطوير منهج غير مقبول، وكلا الاتجاهين ذميمٌ، وبعيد كل البعد من منهج الإسلام الوسطي المعتدل، فلا إفراط ولا تفريط.
ولذلك ينبغي على المربين والمصلحين والمنظمات المعنية بالشأن الإسلامي - معالجة هذه الانحرافات في المجتمع المسلم، وإبراز الصورة الحقيقية للإسلام.
ثالثًا: الإحسان خُلق إسلامي سامٍ، ومطلب في غاية الأهمية، وجَّهت إليه آيات وأحاديث كثيرة، وجاء في حديث جبريل عليه السلام المشهور الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكـن تراه فإنه يراك"[2]، وقـال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتَب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتُم فأحسِنوا القتلة وإذا ذبحتُم، فأحسنوا الذبح، وليُحد أحدُكم شفرته، وليُرح ذبيحته"[3].
فينبغي أن يشمل الإحسان كل شيء في حياة الإنسان المسلم، الإحسان في عبادة الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، والإحسان إلى نفسه التي بين جَنبيه بعدم تكليفها ما لا تُطيقه، حتى ولو كان ذلك في العبادات، والإحسان إلى النوع الإنساني كله ببذل الوسع في إرشادهم، وتبصيرهم بأمور دينهم، والحرص على إفادتهم، والاستفادة منهم بما يعود بالنفع علـى الإسلام والمسلمين، والإحسان إلى الحيوان بالعناية والرِّفق به، بل يصل الإحسان حتى مع الجماد، ووضعه في موضعه الذي يستحقه، وعدم العبث به؛ قال تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].
رابعًا: التحذير مـن الفساد في الأرض؛ لأن الإسلام بتوجيهاته السامية يسعى إلى إعمار الأرض؛ قال تعـالى: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوه ُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61].
ويقول ابن كثير رحمه الله: "أي: جعلكم عمارًا تعمرونها وتستغلونها"[4]، وعلى هذا فالإفساد في الأرض أمره عظيمٌ، وخطره شديدٌ، ومخالف لمنهج الله تعالى، ولذلك يجب على المربين عمومًا السعي الحثيث للتحذير من الفساد في الأرض بأي نوع من أنواع الفساد قلَّ ذلك أم كثُر، وعظُم أم صغُر؛ لأن الإفساد قد يكون إلحاق ضرر بالفرد أو إلحاق ضرر بالآخرين، والإسلام قائمٌ على حفظ حقوق الأفراد، وحفظ حقوق الآخرين، وعدم التعدي عليها البتة.
خامسًا: إن النفس البشرية تحتاج باستمرار إلى تربية وتوجيه وإصلاح وتذكير، ولا يناسبها إلا توجيهات خالقها العليم بأحوالها وأسرارها، ومكامن قوتها وضَعفها: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14]، فإذا أُهملت تلك التوجيهات تخبَّط الإنسان في متاهات الأفكار المنحرفة الفاسدة، وارتكس في دياجير الظُّلَمِ، فيضر نفسه قبل أن يضرَّ الآخرين، لذلك كان لازمًا على المربين والدعاة والمصلحين المخلصين في شتى المجالات - التركيزُ على نشر توجيهات الإسلام السامية وتطبيقها، والتحذير من الأفكار والرؤى المنحرفة الوافدة من بيئات غير إسلامية؛ حتى يعيش الجميع في ظل هذه التوجيهات، فيسود الأمنُ ويعم الخيرُ والسلام بإذن الله تعالى.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ـــــــــــ
[1] ( ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص 400).
[2] (مسلم، صحيح مسلم، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله سبحانه وتعالى، حديث رقم 8، ج 1، ص 37).
[3] (مسلم، صحيح مسلم، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، حديث رقم 1955، ج 3، ص 1548).
[4] ( ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج 2، ص 451 ).

https://www.alukah.net/social/0/132050/