حديث : إن في الجنة لسوقاً
الحديث:
«إنَّ في الجَنَّةِ لَسُوقًا، يَأْتُونَها كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمالِ فَتَحْثُو في وُجُوهِهِمْ وثِيابِهِمْ، فَيَزْدادُونَ حُسْنًا وجَمالًا، فَيَرْجِعُونَ إلى أهْلِيهِمْ وقَدِ ازْدادُوا حُسْنًا وجَمالًا، فيَقولُ لهمْ أهْلُوهُمْ: واللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنا حُسْنًا وجَمالًا، فيَقولونَ: وأَنْتُمْ، واللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنا حُسْنًا وجَمالًا. »
[الراوي : أنس بن مالك | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم ]
الصفحة أو الرقم: 2833 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
الشرح:
الجَنَّةُ خَيرُ ما اجتَهَدَ له المُجتَهِدونَ؛ ففيها مِنَ النَّعيمِ ما لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أذُنٌ سَمِعَت، ولا خطَرَ على قلْبِ بَشَرٍ، وقدْ كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كثيرًا ما يُخْبِرُ عنِ الجنَّةِ بِما يُشوِّقُ النُّفوسَ إليها ويَشحَذُ الهِمَمَ لَها، ولِيُشَمِّرَ لها الطَّالِبونَ، ويَرْغَبَ فيها الرَّاغِبونَ.
وفي هذا الحديثِ يَصِفُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعضَ نَعيمِ الجَنَّةِ وصِفاتِ أهلِها وصِفةِ عَيشهِم فيها، فيقول: «إنَّ في الجنَّةِ لَسوقًا»، أي: مُجتمعًا يَجتَمِعونَ فيه كَما يَجتَمِعونَ للسُّوقِ في الدُّنيا يَحضُرُ أهلُ الجنَّةِ تلكَ السُّوقَ، وسُمِّيَت السُّوقُ بهذا الاسمِ لقِيامِ النَّاسِ فيها على ساقٍ، وقيل: لِسَوقِ النَّاسِ بَضائعَهم إليها، فيَحتمِلُ أنْ يكونَ سُوقُ الجنَّةِ عبارةً عن مُجتمَعِ أهلِ الجنَّةِ، ومَحلِّ تَزاوُرِهم، وأهلُ الجنَّةِ لا يَفقِدون شيئًا حتَّى يَحتاجُوا إلى شِرائهِ مِن السُّوقِ، فيَحتمِلُ أنْ يكونَ سُوقًا مُشتمِلًا على مَحاسنَ مُشْتَهياتٍ مُستلَذَّاتٍ، تُجمَعُ هنالكَ مَرتَّبةً مُحسَّنةً، كما تُجمَعُ في الأسواقِ، حتَّى إذا جاء أهلُ الجنَّةِ فرَأَوها، فمَن اشْتَهى شيئًا وَصَل إليه مِن غيرِ مُبايَعةٍ ولا مُعاوَضةٍ «كُلَّ جُمُعةٍ» أي: كلَّ أُسبوعٍ، وخُصَّ يوْمُ الجمعةِ بذلك لفَضيلتِه، ولِما خَصَّه اللهُ تعالَى به مِن الأمورِ العظيمةِ، وأيَّامُ الجنَّةِ تَقديريَّةٌ؛ إذْ لا لَيْلَ هناك ولا نَهارَ، وإنَّما هناك أنوارٌ مُتوالِيةٌ لا ظُلْمةَ معها.
وفي تلكَ السُّوقِ تَهُبُّ عليهم رِيحُ الشَّمالِ، وخَصَّ رِيحَ الجنَّةِ بالشَّمالِ؛ لأنَّها ريحُ المطَرِ عِندَ العَرَبِ كانت تَهُبُّ مِن جِهةِ الشَّامِ، وبِها يَأتي سَحابُ المطَرِ، وَكانوا يَرجونَ السَّحابةَ الشَّاميَّةَ؛ فهي مِن أحسَنِ الرِّياحِ عندَ العربِ، فتُثِيرُ هذه الرِّيحُ وتَنشُرُ المِسكَ والزَّعفرانَ وَما في الجنَّةِ مِن نَعيمٍ وأنواعِ الطِّيبِ «في وُجوهِهم»، أي: أبدانِهِم، وخُصَّت الوجوهُ؛ لشَرفِها، وعلى ثِيابِهم فيَزدادون حُسنًا وجَمالًا، وجَمَعَ بيْن الحُسنِ والجمالِ للتَّأكيدِ، أو المرادُ بأحدِهما الزِّينةُ، وبالآخَرِ حُسنُ الصُّورةِ، فكَما أنَّ رِيحَ الشَّمالِ تَأتي أَهلَ الدُّنيا بِما يُسعِدُهم مِنَ المطَرِ والماءِ، فكَذلكَ هَذه الرِّيحُ تَأتي أهْلَ الجنَّةِ بِما يُسعِدُهم منَ النَّعيمِ والرَّوائحِ الطَّيِّبةِ، فيَرجِعون إلى أهْليهم وقدِ ازْدادوا حُسنًا وجَمالًا، أي: أَكثَرَ مِمَّا كانوا عليه قَبلَ أنْ يَخْرُجوا مِن عندِ أَهليهِم، مِن أثرِ تلكَ الرِّيحِ، فيَقولُ لَهم أَهلوهُم: واللهِ لَقَدِ ازْدَدتُم بَعدَنا حُسنًا وجَمالًا، فيُجِيبونهم أنَّهم أيضًا قَدِ ازْدَادوا حُسنًا وجَمالًا، يَحتمِلُ أنْ يكونَ ذلكَ بسَببِ هُبوبِ الرِّيحِ عليهم أيضًا، وهكذا فالجَمالُ والنَّعيمُ مُتجَدِّدٌ لِجَميعِ أهلِ الجَنَّةِ، والمرادُ بالأهلِ الزَّوجاتُ مِن الآدميَّاتِ والسَّراري مِن الحُورِ العِينِ، وعُبِّرَ به تَغليبًا، أو أُرِيدَ به التَّعظيمُ والتَّكريمُ.
وفي الحديثِ: أنَّ نَعيمَ الجنَّةِ لا يَزالُ في زِيادةٍ أَبدًا، وأنَّ أهْلَ الجنَّةِ يَزدادُون دَومًا حُسنًا إلى حُسنِهم، وجَمالًا إلى جَمالِهم.
وفيه: بَيانُ تَفضُّلِ اللهِ سُبحانه على عِبادِه في الجنَّةِ.
وفيه: أنَّ رِيحَ الشَّمالِ مُبارَكةٌ في الدُّنيا والآخرةِ.
الدرر السنية
منقول