شعيرات بيضاء وقلوب سوداء


هدى محمد نبيه


ما أعجل أن يصير القوى ضعيفاً، والصغير كبيراً، والصحيح سقيماً، من منا لا يوجد في بيته أو عائلته كبيراً في السن: أم...أب ...جد ...الخ.
إنهم كبارنا وسر سعادتنا وبركة بيوتنا كما قال سيد الخلق أجمعين، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البركة مع أكابركم"، فالعظات تنطلق من ألسنتهم، والحكمة تنضح من آرائهم، فإن قالوا فعن تجربة، وإن نطقوا فعن معرفه، فالحياة أصبحت مكشوفة بين أيديهم، فلديهم خبرة عشرات السنين، فهنيئا لبيت هم أنواره الساطعة.
ولكل من له والد أو والدة أو أحد من الجدود الذين خط الشيب رؤوسهم، ورق جسمهم، ودق الزمن عظامهم، وخارت قواهم، أوصيهم برعاية ذوى الشيبات المباركات، فهم يحتاجون إلى رعاية خاصة، وعناية فائقة، وتعامل يتناسب مع عقولهم وما آلوا إليه من ضعف، وما وصلوا إليه من حال، فدوام الحال من المحال قال الله تعال {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير}[الروم‏:54] ، فإن إكرامهم دين، وتوقيرهم طاعة، وخدمتهم قربى، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ القوم عن أن يوسعوا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا"[صحيح سنن الترمذي].
وعلى الرغم من ذلك نرى صورا من العنف المشين ضد كبار السن، فإلى من يفرون؟ وبمن يستنجدون؟ وعلى من يشكون؟ وقد أوصدت في وجوههم أبواب أحبابهم، وأي أحباب.. إنهم أبناؤهم فلذة أكبادهم.
ولقد آلمني كثيرا ما وقفت عليه في هذا الزمن من تعاملات جاحدة، وعواطف خامدة، ونفوس حاقدة من الأبناء تجاه آبائهم، والعنف ضد كبار السن والعجزة يأخذ صورا تؤلم القلب الرقيق، وتحزن النفس، وتذهب بالفؤاد، ومن هذه الصور:
1- إيداعهم في دور للمسنين.
الإيداع في دار رعاية المسنين، وهو شكل يرى الكثير من الآباء أنه أقسى أشكال العقوق، خصوصا في حال وجود أبنائهم على قيد الحياة وشغلهم مناصب اجتماعية واقتصادية راقية، فلا يستطيعون التسامح مع هذه الحالة من التنازل الاختياري عنهم في مكان يعتقد الكثيرون أنه أنشئ لرعاية الأشخاص الذين فقدوا ذويهم أو من يعولهم اجتماعيا ونفسيا وماديا.
2- الإهمال في علاجهم .

من الصور المؤلمة عدم اهتمام الأبناء بعلاج آبائهم، مما يترتب عليه استفحال الأمراض في أبدانهم، وإن قاموا بعلاجهم فإنهم يكونون متباطئين، ويقومون بإيداعهم في المستشفيات المجانية، حتى ولو كانوا قادرين على إدخالهم لمستشفيات أعلى في المستوى، ويتحايلون لإطالة أمد بقائهم فيها، خصوصا إذا كان الكبير يحتاج إلى الكثير من الخدمات الشخصية، كعجزه عن قضاء حاجته والقيام بشؤونه الخاصة، فيلجؤون للتخلص منه بإبقائه في المستشفى.
3 – الشح عليهم في المعيشة.

فالابن ينفق على أبويه بتأفف كأنه يسدي إليهما معروفاً أو يقضي فرضا ثقيلاً على قلبه فيؤذي مشاعرهما، ويصيبهما بالهم والحزن، بدلا من الإحسان إليهما وطلب محبتهما.
4 – الاستيلاء على ممتلكاتهم.
الأولاد الذين يطمعون في الاستمتاع بما في أيدي أبيهم أو أمهم دون احترام أية مشاعر إنسانية؛ حيث سيطرت عليهم الأنانية، فيلجؤون لقضايا الحجر للاستيلاء على ممتلكاتهم، والتعدي على مدخراتهم، مما يصيب المسن بأضرار نفسية بشعة؛ حيث إن الطبيعة البيولوجية والنفسية للمسن تمثل تربةً خصبةً لنمو بعض الأمراض النفسية وتفاقمها، مثل الاكتئاب والإحباط، وهو ما يكون له أبلغ الأثر في اعتلال صحته البدنية.
5 – إدخال الملل في حياتهم.
قد يجبر الأبناء على الحياة مع آبائهم في منزل واحد ومعيشة مشتركة، لكنها حياة فُرغت من معناها الإنساني ومضمونها العاطفي..فيذهب الابن مع زوجته وأولاده للسياحة والنزهة ويبقي على والديه في المنزل، مكبوتين بين جدرانه، بلا أنيس يؤانسهم، ولا جليس يجالسهم، فلا يسمع الآباء من أبنائهم غير الشكوى والصراخ، فأحيانا ما يكثر كبير السن في السؤال إلى من حوله، وأحيانا ما تكون أسئلة لا تعنيه، فقد يسأل من حوله مثلاً: من الذي طرق الباب؟! من الذي جاءكم؟ فيم كنتم تتحدثون؟ أسئلة كثيرة، لربما لو سمعها الابن ولم يكن لديه إيمانٌ قوي أو بقية من عطف وحنان وشفقة يصرخ بوجه والده أو والدته ناهراً أو رافعاً يده في وجههما أو مرتكباً أعمالاً لا تليق، وكان عليه أن يصبر كما أُمرنا في ديننا الإسلامي.
6 – الإهمال في رعايتهم وكثرة الانشغال عنهم.

تأجير أو شراء الأبناء لمنزل يعيش فيه الآباء وحدهم مع خادمة بعيدا عن التورط في تفاصيلهم اليومية أو مشكلاتهم الحياتية الصحية والنفسية، وهنا يكتفون فقط بدفع التكاليف المادية لهم إن لم يكن للآباء معاش أو مصدر للدخل، وربما يقومون بزيارتهم مرة أسبوعيا أو شهريا أو حسب ما تسمح به ظروفهم ليتركوهم تنهشهم الوحدة والملل، والاشتياق لوجه ابن أو ابنة كانا لهما الحياة وما فيها.
وهكذا نفتح أعيننا كل يوم على حكايات مأساوية تؤثر بالنفس، وجرائم بشعة ترتكب في حق آباء وأمهات.. جرائم أصبحت من العادة والسهولة على بعض الأبناء، بحيث نقف أمامها حائرين، يعتصرنا الحزن والألم ونحتار أمام دهشة الأسئلة. تبدأ هذه الجرائم بالنظرات الجارحة، والأسلوب الجاف في التعامل، والسب والإهانة، وربما الضرب، وأحيانا ينتهي الأمر بالقتل الفعلي، أو القتل الرمزي بإيداعهم دور رعاية المسنين، أو طردهم من البيت. ماذا حدث لفلذات الأكباد حتى يلقوا بأعز الناس على رصيف بارد من المشاعر؟ ما الذي تغير حتى تعلمت القلوب القسوة إلى هذا الحد؟! لماذا أصبحت الأظافر الناعمة مخالب حادة تنهش قلوب الآباء؟ لماذا تنكر الولد لأبيه، وجحدت البنت جميل أمها؟ لماذا قطعنا الصلة بيننا وبين جذورنا فأصبحنا مثل أشباح تتحرك في الفراغ؟!