شبهة التناقض بين تيسير القرآن وصعوبة اللغة العربية
فضيلة الأستاذ العلامة الجليل
الشيخ إبراهيم سلقيني مفتي حلب المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فالموضوع هو: « كيف ننفي شبهة التناقض التي ألصقها أحدهم بآيةٍ من آيات القرآن الحكيم؟»:
يطرح أحد المتشكّكين السؤال التالي:
ما دام الله تعالى قد يسر القرآن للذكر بقوله: [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآَنَ لِلذِّكْرِ] {القمر:17} . فلماذا إذن أنزله باللغة العربية التي أجمع المختصون على أن قواعدها عسيرة، وصعبة التعلم إلى درجة الاستحالة ، بدليل ما أثبتته استطلاعات الرأي ، وأقره الدكتور فخر الدين قباوة، من أن ... مائة بالمائة... من خرّيجي الجامعات في الوطن العربي، لا يتقنون مثلاً ... آلية التشكيل والإعراب، على الرُّغم من مثابرتهم على دراستها ستة عشر عاماً، وفي مختلف مراحل دراستهم!!؟ وذلك لما تتَّسم به تلك القواعد من تعقيد شديد وتطويل مُمل ، وغموض وإبهام لا مزيد عليهما!!؟
فتنزيل القرآن الكريم باللغة العربية هو، والحالة هذه، تعسير، لا يمتُّ إلى التيسير بأيةِ صلةٍ أو سبب!!؟...»
هذا هو السؤال الذي طرحه المتشكّك، مُلصقاً بالآية الكريمة شبهة التناقض. والمقصود كتابنا هذا إلى فضيلتكم أن تتفضَّلوا بتزويد الأمة بجواب شافٍ عن سؤال ذلك المتشكِّك ، جواباً يكون كفيلاً بنفي شبهة التناقض عن الآية الكريمة نفياً قاطعاً.
ودمتم بموفور العافية والعزّة والطمأنينه.
حلب 5 رجب 1428 ـ 19/7/2007
المحامي راسم الطحان.
وكتب الدكتور إبراهيم سلقيني خطاباً وجهه إلى العلامة الدكتور فخر الدين قباوة هذا نصه:
الأخ الفاضل الأستاذ العلامة الدكتور فخر الدين قباوة ، الموقر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أرجو النظر في السؤال والإجابة كمشروع منكم أنسق جوابي مع جوابكم إن شاء المولى تعالى، ولكم الشكر
ا.د. إبراهيم محمد السلقيني.
فأجاب فضيلة الدكتور فخر الدين قباوة بالجواب الآتي:
فضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم السلقيني مفتي مدينة حلب الأكرم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فالاستشكال ذو التاريخ 12رجب لعام1428، الذي تكرمتم بتوجيهه إلينا مشكورين، فيه جهل للسائل لأن الآية الكريمة التي أوردها تبين تيسير القرآن الكريم للذكر، وتدعو إلى التذكُّر، وليس فيها عبارة أو إشارة إلى ما أثاره السائل من شبهة التناقض لا من قريب ولا من بعيد.
ولقد كان على الأستاذ الكريم راسم الطحان وهو فيما يُرى مجدّد لعلوم العربية ومجلّي وجوهها ومُسفِّهُ جميع علمائها الأبرار، لجهلهم بالمنهج الاستقرائي، وافتقارهم إلى صياغة للنظام الصوتي، وافتقادهم صياغة قاعدة عامّة تحفظ الانتماء، وعدم اهتمامهم بالقواعد العامة للإعلال وإهمالهم إيثار الأخف وخلْطهم الكلمات المرنة بالثابتة وافتراضهم مائة عامل، كما يقول، كان على الأستاذ الفاضل صاحب هذه المقولات أن يردّ على المستشكل وهْمَهُ، دون أن يبني عليه في خطابه الموجّه إلى سيادتكم ذكر تناقض النص الكريم أكثر من مرة. والظاهر أن الأستاذ هو الواهم في النقل، ليقحم مقولاته المذكورة بعد، ومراد المستشكل آية أخرى لا هذه.
ثم إن موضوع الاستشكال مبني، في أصله، على عسر قواعد العربية وتعقيدها الشديد والتطويل الممل والغموض والإبهام اللذين لا مزيد عليهما، كما يقول أيضاً، أي: على استحالة تعلُّمها بحسب تعبيره ـ وهو أمر لا صلة له بالآية المذكورة ـ مع نسبته تلك المقولات إلى إجماع المختصين. وهذا زعم لم يقل به أحد من علماء العربية حتى الآن، وإنما يردده أعداء عروبة اللسان، فيما يشنون من الحملات عليها لإرهاب الناس والتنفير والتهديم، وصرفهم إلى العاميات والأعجميات.
أما جهل خرِّيجي الجامعات بالتشكيل والإعراب، كما جاء في الخطاب المذكور، فسببه أنهم تلقوا جميع علومهم في المراحل الدراسية كلها بالعامية من أفواه المعلمين والمدرسين والأساتذة، وحاوروهم فيها كذلك، حتى في مجالس الحكم على الأطاريح ورسائل الدراسات العليا، ثم هم يؤدّون القراءة الصامتة بالعامية أيضاً في جميع ما يقرؤون من المصادر والمراجع والمنشورات وألعاب الأجهزة الجائحة، ولا يتيسر لأحدهم في خلال ذلك أن يصوغ جملة واحدة فصيحة، فأنَّى لهم المهارة والبيان؟
ولو كان التدريس والحوار بعروبة اللسان، في جميع المقررات والعلوم والفنون النظرية والعملية، ولو فرض على التلاميذ منذ الصغر أداء القراءة الصامتة بالفصاحة أيضاً، واستمروا على ذلك فيما يطالعون من الكتب والأمالي والصحف والقصص والمسرحيات والنشرات، لأصبحت عروبة اللسان فيهم ملكة بالسليقة، ولما احتاجوا إلى دراسة للنحو، إلا في مراحل الاختصاص بعلوم العربية أو الشريعة.
وقد رأينا الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأعاجم بملايين الملايين يتقنون العربية، دون استحالة أو عسر أو تعقيد أو تطويل أو غموض أو إبهام مما ذُكر، وصار منهم منظِّرون ومؤلفون بالفصحى لمئات ألوف المصنفات. ففي النحو والبلاغة والمعجمية والعروض وفقه اللغة والأدب والنقد... مئات المئات منهم ألفوا منظِّرين ومحقِّقين ومجتهدين في الأصول والفروع. وهذا ما لم يرد له مثيل في اللغات المعروفة حتى اليوم، إذ تأليف تلك الموضوعات مقصور على أصحاب اللغة نفسها، والمتعلمون لها قد يلخِّصون ما ينقلونه عن أبنائها، دون اجتهاد.
وهذا سيبويه يبدي في المجالس جهلاً بالعربية في شبابه فيخطئه شيخه مراراً، حتى يقسم أن يتعلم علماً لا يخطئه فيه أحد، ثم يتوجه إلى دراسة النحو، فيصنف أعظم كتاب فيه إلى الآن سماه العلماء: قرآن النحو، وهو لم يبلغ الأربعين من العمر، وأبو حيان النحوي يأخذ عن شيخه أبي جعفر بن الزبير علم الصرف في بضعة أشهر، ثم يكون من علمائه المشهورين، وأبو جعفر الطبري يشعر بحاجة إلى معرفة علم العروض، ويعكف عليه ليلة واحدة فيتقنه.
وهذا أخوكم فخر الدين بدأ الدراسة الليلية منذ ستين سنة شاباً جاهلاًً بكل شيء من علوم العربية، وتلقّى ذلك كله في ثمان وأربعين ساعة دراسية من الليالي، بعد متاعب الأعمال النهارية، فأتقنه بفضل الله تعالى، ثم اختص في ذلك، والحمد لله رب العالمين.
وقد عَلَّمْنا الأعاجم في الصين الشعبية، بعون الله، دقائق الإعراب والتصريف والعروض والبلاغة والنقد الأدبي وإتقان القراءة والكتابة بالفصحى، في غضون شهرين ونيف، وكانوا بعيدين عن ذلك، ونجحوا في الاختبار، ثم وضعنا في العام الماضي مع مركز «اقرأ» لتعليم العربية غير الناطقين بها، برنامجاً ومنهجاً وكتيبات لدورة تقتضي ستة أشهر، يكونون في نهايتها متقنين للعربية تفكيراً وحواراً وكتابة وتأليفاً وترجمةً منها وإليها، كما جرى التنفيذ فعلاً في دمشق.
والمركز يعمل اليوم في أبي ظبي من الإمارات العربية، بعون الله وتوفيقه.
وكلنا يعلم أن حفظ القرآن الكريم يتقنه صغار الأطفال قبل العاشرة، في أعدادٍ لا تُحصى من التاريخ الإسلامي، ثم يقرؤونه بيسر ويدرسون علومه كذلك، وقد اختار الله له العربية، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ليتفهمه العرب ومن يتصل بهم في يُسْر وإتقان، واستمر ذلك بضعة عشر قرناً، وهم يحفظونه ويقرؤونه بدقة وإمعان وأكثرهم متعرِّبون ويفسرونه ويستنبطون منه أصول جميع العلوم وتطبيقاتها، مدونة في ملايين المخطوطات العربية، فلو كان بلغة أمة أخرى لتيسر لها وحدها فهمه، كما هو شأن الكتب المتقدمة، إذ قلَّما تُقرأ في العبادة بلغتها الأصلية، والقرآن الكريم لا يتلى إلا بلغته المباركة.
وعلى هذا فإن وصف العربية، بعُسْر قواعدها والتعقيد الشديد والتطويل الممل، والغموض والإبهام اللذين لا مزيد عليهما، هو صادر عمن لم يدرسوا ذلك بتخصص وإمعان، ولم يمارسوا تعليمه ليسبروا أغواره، فامتلأت قلوبهم بما تشيعه أنفاس الحاقدين على عروبة القرآن، وتسلَّطت ألسنتهم وأقلامهم لتهديم صرح علومها المقدسة، وزعزعة أصول الشريعة والحياة الإسلامية، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ونحن نحاورهم لبيان الحقيقة وإرشادهم إلى الصواب بعون الله عزَّ وجل لأنهم إخوتنا الأحباب، أما أصحاب الأنفاس الخبيثة فلا شأن لنا معهم، إذ هيهات هيهات أن يزول الحقد أو يخف الحسد، وهم مكلَّفون بقتالنا حتى يردُّونا عن ديننا، إن استطاعوا ! والحمد له أولاً وأخرا.
وختاماً لكم منا كل تقدير واحترام.
حلب في 16 رجب لعام 1428
فخر الدين قباوة