وقفة مع أهمية كتابة أرقام صفحات الكتاب بما هو اسلامي أصيل لا غربي وافد لأجل هذا؛ فقد أحْبَبْتُ أنْ أقِفَ مَعَ مَا كَتَبَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الفَتَّاحِ أبُو غُدَّةَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُوَاضَعَةِ أرْقَامِ الصَّفَحَاتِ، وهُوَ بَحْثٌ نَفِيسٌ وعَزِيزٌ، وقَدْ ذَكَرَهُ في مُلْحَقَاتِ تَعْلِيقَاتِهِ على كِتَابِ «تَصْحِيحِ الكُتُبِ» لِشَيْخِهِ أحْمَدِ شَاكِرٍ .
قَالَ رَحِمَهُ اللهُ (96) : «بِمُنَاسَبَةِ طَبْعِ رِسَالَةِ «تَصْحِيحِ الكُتُبِ» وكَيْفِيَّةِ ضَبْطِ الكِتَابِ : أذْكُرُ جُمْلَةً مِنَ الاخْتِيَارَاتِ والاسْتِحْسَانَ اتِ في شُؤُونِ طِبَاعَةِ الكِتَابِ، بُغْيَةَ إشَاعَةِ الأُسْلُوبِ الأفْضَلِ، ورَغْبَةً في تَوَحُّدِ أسَالِيْبِ الطِّبَاعَةِ أو تَقَارُبِهَا، فَيُسْعَدَ القَارِئُ العَرَبِيُّ بِزِيَادَةِ اليُسْرِ والسُّهُولَةِ .
1ـ حَوْلَ تَرْقِيمِ الصَّفَحَاتِ : أسْتَحْسِنُ أنْ يَكُونَ التَّرْقِيْمُ لِلصَّفَحَاتِ في أعْلاهَا، ومِنْ طَرَفِهَا الأيْمَنِ والأيْسَرِ، كَمَا كَانَ يَثْبُتُ في الكِتَابِ المَطْبُوعِ قَدِيمًا، لأنَّ النَّاظِرَ في الإحَالَةِ يَنْظُرُ إلى أوَّلِ الصَّفْحَةِ أوَّلًا، ثُمَّ يَنْظُرُ فَاحِصًا عَنْ طَلِبَتِهِ في الصَّفْحَةِ، فَتَبْقَى نَظْرَتُهُ وقِرَاءَتُهُ عَادِيَّةً طَبِيعِيَّةً؛ لَيْسَ فِيهَا قَلْبُ النَّظَرِ مِنْ أسْفَلَ إلى أعْلى؛ إذَا كَانَتِ الأرْقَامُ بِأسْفَلِ الصَّفْحَةِ .
نَعَم قَدْ يَسْتَحْسِنُ أو يَضْطَّرُ المُؤَلِّفُ أو الطَّابِعُ إلى وَضْعِ الأرْقَامِ مِنْ أسِفَلِ الصَّفْحَةِ ـ ويُفَضَّلُ أنْ تَكُوْنَ على طَرَفِهَا الأيْمَنِ والأيْسَرِ ـ إذَا كَانَ في أعْلى الصَّفْحَةِ عَنَاوِينُ زَاحِمَةٌ، أو أرْقَامٌ لِلدِّلالَةِ مُتَرَاكِمَةٌ، أو أمُورٌ أُخْرَى يَضِيقُ رَأسُ الصَّفْحَةِ وأعْلاهَا عَنْ تَقَبُّلِ الأرْقَامِ مَعَهَا، فَحِينَئِذٍ تُوضَعُ الأرْقَامُ مِنْ أسْفَلَ .
2ـ حَوْلَ تَرْقِيمِ الصَّفَحَاتِ أيْضًا؛ جَرَتِ العَادَةُ أنَّ الصَّفْحَةَ الَّتِي في رَأسِهَا عِنْوَانٌ بَارِزٌ لا يُرَقِّمُونَهَا ، ولا بَأسَ بِذَلِكَ، وفي هَذِهِ الحَالِ يُسْتَحْسَنُ وَضْعُ الرَّقَمِ في أسْفَلِ الصَّفْحَةِ، عَنْ يَمِينِهَا أو يَسَارِهَا أو وَسَطَ السَّطْرِ؛ حَتَّى لا تَخْلُوَ الصَّفْحَةُ مِنْ رَقَمٍ، وقَدْ يَكُونُ هُوَ مَوْضِعَ الإحَالَةِ .
3ـ حَوْلَ بَدْءِ السَّطْرِ؛ اعْتَادَ الطَّابِعُونَ أنْ يَجْعَلُوا بَدْأ الكَلامِ في الأصْلِ في أوَّلِ المَقْطَعِ : رَاجِعًا عَنْ أوَّلِ السَّطْرِ بِمِقْدَارِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِيَبْرُزَ ويَظْهَرَ ولِيُفِيدَ عِنْدَ تَعَدُّدِ المَقَاطِعِ في الصَّفْحَةِ، أنَّ كُلَّ مَقْطَعٍ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى مِنَ المَعَانِي فَيَسْتَرِيحُ القَارِئُ لِلكِتَابِ نَظَرًا وذِهْنًا في هَذِهِ الحَالِ، وتَجْمُلَ صَفْحَةُ الكِتَابِ بِتَنَوُّعِ حَالِ سُطُورِهَا، فَهُوَ أُسْلُوبٌ مُفِيْدٌ وتَجْمِيلِيٌّ في آنٍ وَاحِدٍ .
يَجْعَلُونَ هَذَا في «الأصْلِ» لِلكِتَابِ، وإذَا كَانَ لِلكِتَابِ «تَعْلِيقٌ»، جَعَلُوهُ بَعْضُهُم على شَاكِلَةِ الأصْلِ تَمَامًا فَجُعِلَ أوَّلُ المَقْطَعِ مِنَ «التَّعْلِيْقِ» رَاجِعًا كَلِمَةً عَنْ أوَّلِ السَّطْرِ، وبَاقِي أسْطُرِ المَقْطَعِ بَارِزَةً عَنِ السَّطْرِ الأوَّلِ المَبْدُوءِ بِهِ المَقْطَعُ، فَإذَا تَعَدَّدَتِ المَقَاطِعُ في التَّعْلِيقِ بَرَزَتْ أوَائِلُهَا بِرُجُوعِهَا عَنْ أوَّلِ السَّطْرِ، فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ مَقْطَعًا مِنْهَا اهْتَدَى إلَيْهِ بِسُهُولَةٍ وبِسُرْعَةٍ .
وبَعْضُ الطَّابِعِينَ يَجْعَلُونَ «التَّعْلِيقَ» مُخْتَلِفًا عَنْ أُسْلُوبِ «الأصْلِ» فَيَجْعَلُونَ أوَّلَ المَقْطَعِ الَّذِي فِيْهِ رَقَمُ الرَّبْطِ بِالأصْلِ : بَارِزًا أوَّلُهُ بِالرَّقَمِ فَقَطْ، ثُمَّ تَتَسَاوَى أوَائِلُ المَقَاطِعِ الَّتِي تَلِيهِ، وتَكُونَ كُلُّهَا بِبَدْءٍ وَاحِدٍ؛ حَتَّى يَأتِيَ مَقْطَعٌ آخَرُ لَهُ رَقْمُ رَبْطٍ بِالأصْلِ، فَإذَا تَعَدَّدَتِ المَقَاطِعُ الَّتِي لا تَبْدَأُ بِرَقَمٍ تَسَاوَتْ فِيْهِ أوَائِلُهَا مَعَ السُّطُورِ قَبْلَهَا، وبَعْدَهَا تَمَامًا! فَلا يُعْرَفُ بَدْءُ المَقْطَعِ فِيهَا .
وهَذَا الأُسْلُوبُ غَيْرُ جَمِيلٍ في ذَاتِهِ، ومُفَوَّتٌ على القَارِئِ النَّاظِرِ : لِلاهْتِدَاءِ إلى أوَّلِ المَقَاطِعِ مِنَ المَقَاطِعِ الَّتِي لا تَبْدَأُ بِرَقِمٍ، وفِيْهِ تَتَبَدَّى بَشَاعَةُ هَذَا الأُسْلُوبِ، وظَاهِرُهُ تَجْمِيلٌ بِمُسَاوَاةِ أوَائِلِ السُّطُورِ كُلِّهَا وفي بَدْئِهَا، وفي ضِمْنِهِ أيْضًا تَوْفِيرٌ على الطَّابِعِ «الصِّفِيْفِ» بَعْضَ الجُهْدِ إذْ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَنْقُصُ مِنْ كُلِّ سَطْرٍ كَلِمَةٌ، فَإذَا كَانَتْ سُطُورُ الصَّفْحَةِ (25) سَطْرًا مَثَلًا، نَقَصَتْ نَحْوَ سَطْرٍ أو سَطْرَيْنِ .
وفي ذَلِكَ كَسْبٌ لِلطَّابِعِ، وتَوْفِيرٌ لِلوَقْتِ، وسُرْعَةٌ في امْتِلاءِ الصَّفْحَةِ إذْ هِيَ أصْغَرُ مِمَّا لَو كَانَ أُسْلُوبُهَا بِالعَكْسِ، فَتَزِيدُ سَطْرًا أو سَطْرَيْنِ، ولِذَا يَمِيلُ عَامِلُ المَطْبَعَةِ إلى هَذَا الأُسْلُوبِ .
والَّذِي أخْتَارُهُ : هُوَ الأسْلُوْبُ الأوَّلُ» انْتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ .

الشيخ الدكتور
ذياب بن سعد الغامدي
صيانة الكتاب
ص 590